إنّ بناء الشخصيّة العقائديّة والثقافيّة والعلميّة للفرد المسلم لا يقتصر على مرحلة معيّنة من العمر، أو في مرحلة محدّدة من مراحل الحياة، بل هو أمر يستمرّ من خلال التعليم والتلقين والتدبّر والتفكّر، فيشمل مراحل العمر كافّة، ويتّخذ مختلف الوسائل والأساليب الموصلة إلى المطلوب.
ولكلّ مرحلة لغتها الخاصّة بها، وإن كان الهدف الحاكم على كافّة المراحل والمهيمن على مسيرتها هو الإجابة عن مختلف الأسئلة الّتي ترِد إلى ذهن الإنسان، والتي تتعلّق بالكون وبالحياة والمصير، وهذه الإجابة كما ينبغي أن تكون منطقيّة، لا بدّ وأن تراعي في أسلوبها المستوى العامّ للطبقة المخاطَبَة بها.
يعيش كلّ إنسان في هذه الدنيا وهو يحمل مجموعةً من الأفكار والآراء والنظريّات الّتي يؤمن بها ويعتقد أنّها صحيحة لا تقبل الشكّ، هذه الأفكار والآراء هي الّتي نسميّها العقيدة، لأنّها تُحكم سيطرتها على هذا الإنسان فتوثقه وتربطه وتشدّه إليها، في أفعاله وفي شعوره. وتتمثّل في الأصول الخمسة وهي: التوحيد، العدل، النبوّة، الإمامة، المعاد.
ترتبط العقيدة بالإنسان من ناحيتين:
الأولى: عقل الإنسان: إنّ ما يعتقد به الإنسان يتحكّم بمجمل رؤيته للكون وللحياة، ولكلّ ما يفكّر به، حيث تكون العقيدة حاضرةً لدى الإنسان في كلّ فعل يقوم به أو قرار يتّخذه.الثانية: قلب الإنسان: يمتاز الإنسان بأنّه يملك الشعور بالحبّ والبغض والإعجاب وغير ذلك، وأنواع الشعور هذه ترتبط أيضاً بما يحمله من عقيدة.قال تعالى:﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾1,فصاحب العقيدة الراسخة لا يخاف بل يزداد إيماناً وصبراً عند الشدائد.
إستنتاج
العقيدة هي: مجموعة من الآراء الّتي يؤمن بها الإنسان لأنّها وصلت إلى درجة اليقين والقطع، الّذي لا شكّ فيه، وتحكم على فعله وشعوره.
في الإسلام تتمثّل هذه العقيدة في أصول الدين، وهي: التوحيد، العدل، النبوّة، الإمامة، المعاد.
ارتباط العمل بالعقيدة:
يَرِدُ السؤال الآتي: هل العمل أهمّ أو العقيدة؟ وما دور العقيدة إذا كان العمل الّذي يؤدّيه الإنسان صالحاً وصحيحاً؟ينظر الإسلام إلى العقيدة على أساس أنّها المعيار في كون العمل مقبولاً، فلا يكفي لكي ينال الإنسان الآثار المطلوبة من العمل أن يأتي به صحيحاً، بل لا بدّ وأن يصدر منه على أساس العقيدة الصحيحة.
ورد في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام:"لا يَنْفَعُ مَعَ الشَّكِّ وَالجُحودِ عَمَلٌ"2.
ونجد أنّ القرآن الكريم دائماً يقرن العمل الصالح بالإيمان:﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾3.
إنّ فائدة العمل الّذي يقوم به الإنسان تكون بمدى ما له من تأثير على تكامل هذا الإنسان، ولا يكون العمل مؤثّراً في تكامل الإنسان، من دون عقيدة تحرّكه. فالإنسان الجاحد للحقّ والمنكر له أو الشاكّ فيه، كيف يمكن أن يكون عمله هذا مقبولاً عند الله ويترتّب عليه الثواب وهو لا يؤمن من الأساس بوجود الله عزّ وجلّ؟!.
والإنسان الّذي يملك إيماناً حقيقيّاً ينعكس ذلك في حياته كلّها فيجعلها في طاعة الله.
لذا فإنّ أوّل سؤال يُسأل عنه هذا الإنسان بعد موته، وعند حضور الملكين إليه هو: من ربّك؟ وما هو دينك؟ ومن هو نبيّك؟
أي، ما هي عقيدتك، وما هي الأفكار الّتي كانت تدفعك لكلّ عمل قمت به في هذه الدنيا؟
ـ يرتبط العمل بالعقيدة، لأنّ فائدة العمل لا تترتـّـب إلا مع العقيدة الصحيحة.
ـ أوّل ما يسأل عنه الإنسان بعد موته هو العقيدة الّتي كان يحملها، وبعد ذلك يسأل عن عمله.
ـ الحسّ هو أوّل أداة للوصول إلى المعارف.
ـ قالوا:"مـَن فقَدَ حسّـاً فقَدَ علماً".
ـ العقل أداة يصل من خلالها الإنسان للإيمان بما لا يدركه بالحسّ.
طرق المعرفة:
لم يطلب الله عزّ وجلّ من الإنسان المعرفة إلا وقد سهّل له طرق الوصول إليها، وهي متعدّدة، سهلة، وفي متناول الجميع، ولذلك وهبه الله سبحانه الأدوات الّتي من طريقها يصل إلى المعرفة الصحيحة، ومنها:
1ـ الحواسّ:
إنّ أوّل طريق يتعرّف الإنسان من خلاله على هذا الكون هو طريق الحواسّ الخمس (السمع ـ البصر ـ الشمّ ـ الذوق ـ اللمس). ويؤدّي فقدان حاسّة من هذه الحواسّ إلى فقدان الإنسان مجموعة من المعارف والعلوم.
2ـ العقل:
وهي الأداة الّتي وهبها الله عزّ وجلّ لهذا الإنسان، وخصّه بها دون غيره من المخلوقات. وامتلاك الإنسان لهذه الأداة جعله يدرك الأشياء الّتي لا تتمكّن سائر المخلوقات من إدراكها.
ومثال ذلك يدور حول التساؤل التالي:
هل رأيت الكهرباء؟ كيف تؤمن بوجودها وأنت لا تعرف حقيقتها؟
الجواب: العقل هو إحدى الطرق الّتي أوصلتك إليها، فمتى رأيت الضوء، علمت أنّ هناك طاقة ما جعلته يبعث النور.
3- راجع سورة الشورى, الآيات: 22,2 و23 وكثير من الآيات القرآنيّة الأخرى.
وهذا إيمان بالعقل لا بالحسّ، لأنّك وصلت إلى يقين واطمئنان بوجود شيءٍ لم تدركه بواحدة من الحواسّ الخمس.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذين الطريقين، قال تعالى:﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾4.
إستنتاج
ـ إنّ أوّل طريق لاكتساب المعارف هو ما يطلق عليه الحسّ، والمتمثل بالحواسّ الخمس.
ـ إنّ من المعارف ما يصل إليه الإنسان عن غير طريق الحواسّ، ويكون على يقين منه وهو طريق العقل.
معرفة الله عزّ وجلّ
تتحدّث الآية الكريمة:﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾5 عن وجود طريقين لمعرفة الله عزّ وجلّ، يصل الإنسان من خلالهما إلى الإيمان بوجود الله، من خلال استخدام أداتي المعرفة لديه أي الحسّ والعقل.
الطّريق الأوّل: التأمـّل في الآفاق
إذا تأمّلت فيما يحيط بك من مخلوقات صغيرة وكبيرة، من شمس وكواكب ونجوم وليل ونهار وسحاب ومطر، فإنّك سوف تجد أنّها قد نُظّمت بشكل دقيق للغاية. بحيث لا تستطيع إلّا أن تعتقد بوجود قوّة عالمة قادرة قاهرة قامت بفعل ذلك كلّه. وهذا هو الله عزّ وجلّ.وقد وردت آيات أخرى في كتاب الله عزّ وجلّ تفصّل هذا الطريق وتشرحه لنا منها قوله تعالى:﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾6.
الطريق الثَّاني: التأمـّل في الأنفس
لو نظر الإنسان إلى نفسه، فإنّه سوف يدرك تماماً أنّه لا بدّ له من خالق أوجده، لأنّه يعلم يقيناً أنّه لم يكن موجوداً ثمّ وجد فهو:
أ ـ إمّا أن يكون قد وجد من دون علّة ودون سبب، وهذا أمر لا يصدّقه عاقل.
ب ـ أن يكون هو الّذي أوجد نفسه، فهذا يعني أنّه لا بدّ وأن يكون موجوداً قبل أن يوجد لكي يخلِق نفسه، وهو مستحيل.
ـ إنّ التأمـّل في الكون المحيط وما عليه من تنظيم يدلّ على أنّ هناك خالقاً أوجده، هذا الدليل يطلق عليه (دليل الآفاق).
﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ -الطور-الآية-36﴾.
ج ـ أن يكون مخلوقاً لخالقٍ أعظم منه منزّه عن كلّ صفات المخلوقين، حيّ، عليم، قدير، وهو الله عزّ وجلّ، وهو الاحتمال الصحيح.
إستنتاج
ـ من غير الممكن أن يكون الإنسان قد وجد من غير علّة، أو يكونَ أوجدَ نفسَه، لأنّه مستحيل أيضاً، فلم يبقَ إلا أن يكون هناك خالق أوجده.
إنـّما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ
ينقل العالم الهندي الدكتور عناية الله المشرقي حادثة حصلت معه فيقول: في يوم أحد من أيَّام سنة 1909م، كانت السماء تمطر بغزارة وخرجت من بيتي لحاجة ما، وإذا بي أرى الفلكيّ المشهور (السيّد جيمس جينز) الأستاذ بجامعة كامبردج، ذاهباً إلى الكنيسة، متأبّطاً الإنجيل والمظلّة، فدنوت منه وسلّمت عليه، فلم يردَّ عليَّ، فسلّمت مرّة أخرى، فسألني"ماذا تريد منّي؟" فقلت له: أمرين يا سيّدي.الأوّل: هو أنّ مظلّتك تحت إبطك على الرغم من شدّة المطر!! فابتسم السيّد جيمس وفتح مظلّته فوراً.
فقلت له: والآخر هو استفهامي عن الّذي يدفع رجلاً ـ مثلك ـ ذائع الصيت في العالم أن يتوجّه إلى الكنيسة؟
وأمام هذا السؤال توقّف السيّد جيمس لحظة، ثم قال:"عليك اليوم أن ترتشف شاي المساء عندي".
وعندما وصلت إلى داره في المساء، خَرَجَت (السيّدة جيمس) عند الساعة الرابعة تماماً، وأخبرتني أنّ السيد جيمس ينتظرني.
وعندما دخَلْتُ عليه غرفته، وجدت أمامه منضدة صغيرة موضوعاً عليها عدّة الشاي، وكان السيّد شارداً يتفكّر، وعندما شعر بوجودي سألني:"ماذا كان سؤالك؟" ودون أن ينتظر ردّي بدأ يشرح عن تكوين الأجرام السماويّة، ونظامها المدهش، وأبعادها وفواصلها غير المحدودة، وطرقها، ومداراتها وجاذبيّتها، وطوفان أنوارها المذهلة، حتّى أنّني شعرت أنّ قلبي يهتزُّ بهيبة الله وجلاله، وأمّا السيّد جيمس فوجدت شعر رأسه مقشعِرّاً، والدموع تنهمل من عينيه، ويديه ترتعدان من خشية الله، وصَمَتَ فجأةً، ثم بدأ يقول:"يا عناية الله! عندما ألُقي نظرة على روائع خلق الله يبدأ وجودي يرتعش من الجلال
الإلهيّ، وعندما أركع أمام الله وأقول له:"إنّك عظيم" أجد أنّ كلّ جزء من كياني يستجيب لهذا الدعاء، وأشعر بسكون وسعادة عظيمين. وأحسُّ بسعادة تفوق سعادة الآخرين ألف مرّة، أفهمت، يا عناية الله خان لماذا أذهب إلى الكنيسة؟".
ويضيف العلّامة عناية الله قائلاً: لقد أحدَثَتْ هذه التفاصيل ثورة في أعماقي، فقلت له:"يا سيّدي لقد تأثّرت جدّاً بالتفاصيل العلميّة الّتي ذكرتموها، وذكّرْتني بشيء من آيات كتابي المقدّس ـ القرآن ـ فلو سمحتم لي قرأتها عليكم".7
فهزّ رأسه قائلاً: بكلّ سرور.
فقرأت عليه:﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ *وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾8.
فصرخ السيّد جيمس قائلاً: ماذا قلت؟! إنّما يخشى الله من عباده العلماء!؟ مدهش! غريب، وعجيب جدّاً! إنّ هذا الأمر كشفَت عنه دراسةٌ ومشاهدةٌ استمرّت خمسين سنة! من أنبأ محمّداً به؟! هل ما قرأت عليّ في القرآن حقّاً؟! لو كان الأمر كذلك، فاكتب شهادة منّي أن القرآن كتاب موحىً من عند الله.
ويستطرد السيّد جيمس قائلاً: لقد كان محمّدٌ أميّاً، ولا يمكنه أن يكشف عن هذا السرّ بنفسه، ولكن الله هو الّذي أخبره بهذا السرّ... مدهش...! وغريب، وعجيب جدّاً!.
المصادر :
1- آل عمران: 173.
2-أصول الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 400.
4-النحل, الآية: 78.
5-فصلت، الآية: 53.
6-البقرة، الآية: 164.
7- الإسلام يتحدى، وحيد الدين خان.
8- فاطر: 27-28.