
أنواع التحدّيات التي واجهت الإمام عليه السلام
بنظرة أوّليّة يُمكن تقسيم المعضلات الّتي واجهت الحكم في الإسلام في زمن خلافة الإمام عليّعليه السلام إلى ما يلي:
1 - التشكيك بضرورة وبداهة وجود حكومة في الإسلام. ويتمثّل ذلك بدعوى الخوارج.
2 - التشكيك بأهليّة شخص الإمام عليّ عليه السلام للحكومة والولاية، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
3 - التشكيك بوجود نصّ في كونه هو الوليّ والخليفة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم كذلك.
4 - اعتراض جماعة المتضرّرين من حكمه وإدارته (أهل الجمل).
5 - تركة الخلفاء السابقين من الولاة ذوي الأطماع والوصوليّين من جهة وغير الكفوئين من جهة ثانية، أمثال معاوية وأبي موسى الأشعريّ وكذلك الموظّفين الدنيويّين أمثال شُريح وغيره.
6 - تشويه النظرة العامّة لموقع الخليفة أو الإمام حيث كان أقرب إلى الجاه والدنيا منه إلى الوظيفة والمسؤوليّة والتكليف.
7 - تذبذب بعض الناس واشتباه الأمور عليهم خصوصاً بسبب بعض من يُظنّ بهم القداسة أو الرأي، كما حصل في واقعة الجمل، إذ كان في مقابل الإمام عليّ عليه السلام عائشة والزبير وطلحة.
وسيظهر لك ممّا سيأتي كيف واجه الإمام عليّ عليه السلام كلّ هذه الأمور.
أهمّيّة الحكومة في نهج البلاغة
لقد كانت ضرورة وجود حكومة في الإسلام ووجود وليّ وقيّم يقوم بمهمّة الإدارة والقيادة للدولة الإسلاميّة غير خافية على أحد ممّن عايش الإسلام منذ بداية الدعوة وحتّى زمن الإمام عليّ عليه السلام. وفي التاريخ النبويّ شواهد على ذلك، خصوصاً وقد صرّح الإمام عليّ عليه السلام كثيراً في كلماته في "نهج البلاغة" بوجوب وجود حكومة قويّة، ووقف بشدّة في وجه دعوى الخوارج وكافح لأجل عدم انتشارها وتبنّيها من أبناء الأمّة الإسلاميّة.ولقد كان شعار الخوارج (لا حكم إلّا لله). وقد اقتبسوه من القرآن الكريم حيث يقول تعالى ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلهِ﴾ وبنوا عليها دعواهم بعدم الحاجة إلى حكومة مع وجود القرآن بين المسلمين.
والخوارج الّذين كانوا يؤلّفون فئة سطحيّة العقيدة متلبّسة بالقداسة الكاذبة يسهل خداعهم وتمرير الحيل عليهم. وكان معاوية وابن العاص يعلمان بوجود هكذا نوعيّة في أنصار الإمام عليّ عليه السلام فعمدا إلى حيلة رفع المصاحف في صفّين وألجآ الإمام إلى القبول بالتحكيم، ولمّا فعل أبو موسى الأشعريّ ما فعل مع ما كان من دهاء ابن العاص، وكان الخوارج من فرض على الإمام أصل التحكيم وأن يكون أبو موسى هو ممثّل الإمام وأصحابه، ولمّا رأوا ما آلت إليه هذه المكيدة بَدَلَ أنْ يتراجعوا ويتوبوا رفضوا أصل الحكم البشرّي وقالوا للإمام علي ّعليه السلام: "الحكم لله لا لك ولا لأصحابك يا عليّ".
وقد مضوا في معتقدهم هذا محاربين لأمير المؤمنين عليه السلام وهو إمام الحقّ وترجمان الوحي والقرآن الناطق، حتّى أدّى ذلك إلى سفك الدماء في حرب النهروان.
وقد قال عليه السلام لمّا سمع كلام الخوارج "لا حكم إلّا لله":
1 - "كلمة حقّ يراد بها باطل..." بمعنى أنّ هذا المضمون حقّ، ولكنّ المراد منه غير ما ذهبوا إليه. نعم لا حكم إلّا لله أي أنّ أصل وضع الحكم والقانون بيد الله وحده لأنّه لا يُشرِّع القانون إلّا الله.
ويُكمل عليه السلام الردّ قائلاً:
2- "... نعم إنّه لا حكم إلّا لله ولكنّ هؤلاء يقولون لا إمرة إلّا لله"... فهؤلاء يُريدون القول أنْ لا قيادة ولا زعامة إلّا لله وهذا باطل، فالحكم لا بُدَّ من إجرائه على يد بشريّ يسوس الناس على ضوء القانون الإلهيّ. بل إنّ هذه اللابدّية للحكم والحكومة ليست إسلاميّة فقط، بل إنسانيّة يقتضيها الطبع البشريّ في جانبه الاجتماعيّ.
3 - "... وإنّه لا بُدَّ للناس من أمير برّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل ويُجمع به الفيء ويُقاتل به العدوّ وتأمن به السبل ويُؤخذ به للضعيف من القويِّ حتّى يستريح برّ ويُستراح من فاجر"1. ولو أردنا تقطيع كلام الإمام عليه السلام هذا لوجدنا في تعليله أنّه قد بيّن نواحي الاحتياج إلى القيادة والسياسة والحكومة من ضرورات اقتصاديّة وعمرانيّة وأمنيّة وقضائيّة وغيرها.
وهذا النصّ عنه عليه السلام يُبيّن أمراً دقيقاً، وهو أنّ هناك فرقاً بين الحكم والإمارة. فالحكم المطلق من حقّ الله الّذي له تشريع القانون وتعيين من يُنفّذه وله الأمر والنهي ووضع السياسة العامّة للمجتمع. أمّا الإمارة الّتي تعني القيادة والزعامة والإشراف فهي ممّا أعطاه الله للعباد وهي أمرٌ لا يستغني عنه أيّ مجتمع. فأصل الإمارة والزعامة بنظر الإمام عليّ عليه السلام ممّا لا يُمكن لأيّ مجتمع أنْ يبقى بدونه سواء كان القيّم والمُشرِف قانونيّاً وشرعيّاً أم غير قانونيّ للضرورات التالية:
1- توفير حرّيّة العمل للمؤمنين الصالحين "يعمل في إمرته المؤمن".
2- توفير الأمن بكلِّ أشكاله حتّى للكافرين والفاسقين "ويستمتع فيها الكافر".
3- إعمار البلاد من خلال صرف الأموال العامّة فيها "ويُجمع به الفيء".
حماية المجتمع من الفتن الداخليّة والأعداء الخارجيّين "ويُقاتل به العدوّ وتأمن به السبل".
إنصاف المظلومين وحماية الحقوق وضمان عدم التعدّي، وهذا من لوازم وجود سلطة قضائيّة ونظام قضائيّ "ويؤخذ به للضعيف من القويّ حتّى يستريح برّ ويُستراح من فاجر".
وعليه فكلام الإمام عليه السلام لا يعني أنّه لا فرق بين النظام الصالح وغير الصالح، ولكنّه يعني أنّه لا مفرّ لأيّ شعب وأيّ أمّة من وجود حكومة تقوم بتحقيق الأهداف المشتركة ذات الأثر والأهميّة العالية في الحياة، والّتي تُشكِّل حاجات حيويّة ومشتركة وعامّة. بل إنّ وجود الحكومة والقيادة والزعامة من المبادىء الضروريّة والحيويّة الّتي لا يُمكن إنكارها في أيّ منطق أكان إسلاميّاً أو إلحاديّاً.
مشكلة الحكم والحكومة
لقد كان ردّ الإمام عليّ عليه السلام على المنكرين لضرورة الحكومة والحاكم في الإسلام بالسيرة والضرورة البشريّة، واستنتجنا أنّ وجود الحكومة والقيادة والزعامة من المبادىء الضروريّة والحيويّة الّتي لا يُمكن إنكارها في أيّ منطق مهما كان منطق الإنسان ومذهبه.ولعلّ المشكلة الأساس في موضوع الحكم والولاية لم تكن من الكفّار والملحدين في مواجهة المشروع الإلهيّ والقادة الإلهيّين، وإنّما كانت بالدرجة الأولى من السطحيّين والسذَّج الّذين يُمكن خداعهم بسهولة، وكذلك مع المتلوّنين المذبذبين الّذين لا يستقرّون على حال ولا يثبتون على رأي، وإنّما هم مع كلّ ناعق ينعقون ومع كلّ ريح يميلون.
وأخطر ما واجهه الإمام عليّ عليه السلام وشكّل مشكلة كبرى له؛ هم المنافقون الّذين اتّخذوا الإسلام رداءً والقرآن شعاراً خداعاً للمؤمنين وكيداً لأولياء الله.
وساعدهم على ذلك أنّ الناس كانوا تحت تأثير ضوضاء الصراعات والحروب الدائرة على خلفيّة الإمارة والولاية، وفي أجواء الانخداع بتجربة السابقين في الحكم والخلافة، وقد ملأت أسماعهم كلمات وخطب مدّعي المكانة والمقام والقداسة في الإسلام فأصبحوا عليه أوصياء، وإلى الحقّ فيه بنظر الناس أدلّاء، حتّى انخدع بعض من كان في صفّ الإمام عليه السلام فتساءل: أيُعقل أنْ يكون هؤلاء وفيهم من فيهم على باطل ليأتي ردّ الإمام عليّ عليه السلام: "لا يُعرف الحقّ بالرجال ولكنْ إعرف الحقّ تعرف أهله".
قيل إنّ الحارث بن حوط أتاه فقال: أتراني أظنّ أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟ فقال عليه السلام: "يا حارث إنّك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فحرت! إنّك لم تعرف الحقّ لتعرف من أتاه ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه"2.
أهداف الإمام عليّ عليه السلام من الحكومة
يُمكن تلخيص أهداف الحكومة بنظر الإمام عليّ عليه السلام كما ذكرها هو في قوله لابن عبّاس عندما دخل عليه بذي قار وهو يخصف نعله فقال له عليه السلام: "ما قيمة هذه النعل؟ فقال: لا قيمة لها! فقال عليه السلام. والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم، إلّا أنْ أُقيم حقّاً، أو أدفع باطلاً"3.فلا هدف عنده إلّا إحقاق الحقّ ودفع الباطل.
وإليك هذه النصوص الّتي تُجمل هذه الأهداف.
يقول عليه السلام: "اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكنْ لنردّ المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتُقام المعطّلة من حدودك"4.
ويقول في موضع آخر:
"وإنّي إلى لقاء الله لمشتاق وحسن ثوابه لمنتظر راج، ولكنّني آسى أنْ يلي أمر هذه الأمّة سفهاؤها وفجّارها، فيتّخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً5والصالحين حرْباً والفاسقين حزباً فإنّ منهم الّذي قد شرب فيكم الحرام وجُلِدَ حدّاً في الإسلام6 وإنّ منهم من لم يُسلم حتّى رضخت له على الإسلام الرضائخ 7فلولا ذلك ما أكثرت تأليبكم وتأنيبكم وجمعكم وتحريضكم ولتركتكم إذ أبيتم وونيتم"8.
فأهدافه هي:
1 - إنّ الحكومة كمنصبٍ وجاهٍ دنيويّ ليست غرضاً ولا تستحقّ أنْ تكون غاية وهدفاً، والنعل البالية أفضل منها ما لم يترتّب عليها إقامة الحقّ وإزهاق الباطل. ولذا نفى أنْ يكون طلب الحكم هو لأجل تحصيل السلطة وطلباً للدنيا "لم يكن الّذي كان منّا منافسة في سلطان ولا التماسَ شيء من فضول الحطام".
لأنّه بنظر الإمام - النابع من عمق الإسلام - الحاكم أمين على إجراء الحكم والعدل وليس مالكاً له فهو يوصي بعض ولاته فيقول: "وإنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه في عنقك أمانة وأنت مسترعى من فوقك، ليس لك أن تفتات9 في رعيّة، ولا تُخاطر إلّا بوثيقة"10.
2 - نصرة المظلومين واستنقاذهم من أيدي الظالمين وعدم السكوت على ظلم الظالمين "وما أخذ الله على العلماء أنْ لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم".
3 - حراسة أمن الناس: "فيأمن المظلومون من عبادك".
4 - إقامة الحدود على الظالمين: "وتُقام المعطَّلة من حدودك".
5 - حراسة حدود الدين ومواجهة أهل البدع: "ولكنْ لنردّ المعالم من دينك... فأقام سنّة معلومة وأمات بدعة مجهولة".
6- والهداية: "فاعلم أنّ أفضل عباد الله عند الله إمامٌ عادلٌ، هُدي وهَدى".
7 - الإصلاح لما قد تراكم من اعوجاج وتأصّل من انحراف: "ونُظهر الإصلاح في بلادك...".
8 - عدم إخلاء الساحة لذوي المطامع والفسّاق والوصوليّين لخطورتهم على الدين والأمّة، "ولكنّي آسى أنْ يلي أمر هذه الأمّة سفهاؤها وفجّارها...".
ويُمكن تلخيص هذا كلِّه بالقول إنّ الهدف هو إقامة العدل ومحق الباطل ومحو الظلم بكافّة أشكاله.
صفات الحاكم في نهج البلاغة
1- التقوىقال عليه السلام في صفة التقيّ: "قد ألزم نفسه العدل فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه"11.
2- العدالة وترك الظلم:
وقد وصف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "سيرته القصد وسنّته الرشد وكلامه الفصل وحكمه العدل"12.
وقال عليه السلام: "وإنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور مودّة الرعيّة".
وقال عليه السلام: "بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد"13.
3- عدم الاستئثار والاستبداد
من كتابه إلى عامله على آذربيجان:
"وليس لك أنْ تفتات14 في رعيّة ولا تُخاطر إلّا بوثيقة".
4- الرحمة والمحبّة للرعيّة
وكتب إلى مالك الأشتر: "وأشعر قلبك الرحمة للرعيّة والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق".
5- عدم التبجّح بالمناصب
"ولا تقولنّ إنّي مؤمّر فأُطاع، فإنّ ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين وتقرّب من الغير"15.
صفات من لا يصلح للولاية
يقول عليه السلام:"وقد علمتم أنّه لا ينبغي أنْ يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين:
أ - البخيل فتكون في أموالهم نهمته.
ب - ولا الجاهل فيضلّهم بجهله.
ج - ولا الجافي فيقطعهم بجفائه.
د - ولا الحائف للدول فيتّخذ قوماً دون قوم.
هــ - ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع.
و - ولا المعطّل للسُنّة فيُهلك الأمّة"16.
المصادر :
1- نهج البلاغة, الخطبة 240.
2- نهج البلاغة، ج4، ص 63.
3- م. ن، ج 1، ص 80، خ 33.
4- م. ن، ج2، ص 14.
5- عبيداً.
6- ذكر العلامة المجلسيّ أنّه الوليد بن عقبة، وقيل عتبة بن أبي سفيان.
7- أي العطايا، وقيل إنّه عمرو بن العاص.
8- نهج البلاغة، ج3، ص120، كتاب رقم 62.
9- أي تستبدّ.
10- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج14، ص 33.
11- نهج البلاغة، الخطبة 87.
12- م. ن، الخطبة 94.
13- م. ن، من عهده للأشتر، ج3، ص 93.
14- أي تستبدّ.
15- نهج البلاغة، من عهده لمالك الأشتر، ج3، ص 15.
16- نهج البلاغة، ج2، ص 14.