
الأصل الأوّل من أصول الدين هو التوحيد، أي الإيمان بأنّ الله عزّ وجلّ واحد لا شريك له.
وهذا هو أصل كافّة الأصول، والشهادة بتوحيد الله هي المدخل إلى الإسلام.
إنّنا ننطق في كلّ يوم، بكلمة التوحيد، فنقول: لا إله إلّا الله. وهذه الكلمة تشكّل جزءاً أساساً من معتقدنا الّذي نؤمن به بقلوبنا وعقولنا، إنّه نفي لأيّ شريكٍ لله عزّ وجلّ في الألوهيّة، فلا إله غيره وإقرار به عزّ وجلّ.
قال تعالى:﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾1.
ولكن، ما هو معنى التوحيد؟ وهل للتوحيد جهة واحدة؟ أو أنّه يشمل جهات متعدّدة؟ ويرتبط بمعانٍ متعدّدة يجب علينا أن نستحضرها؟
مراتب التوحيد
حتّى نصل إلى تمام التوحيد، ونتيقّن بأنّنا قد أخلصنا عقيدتنا لله عزّ وجلّ، لا بدّ وأن نتعرّف إلى مراتب التوحيد:
أوّلاً: التوحيد في الذات: قد أصف شيئاً ما بأنّه واحد، فأقول: الشّمس واحدة، ولكن لا مانع إطلاقاً، من أن أفترض وجود شمسين أو ثلاثة، ولكنْ في الخارج، لا أجدُ إلّا شمساً واحدة.
وقد أصفُ موجوداً ما بأنّه واحد، فأقول: الله واحدٌ، ومُرادي بذلك أنّه لا يمكن أن افترض وجوداً آخر مثله، فالأمر مستحيلٌ حتّى فرضاً، وهذا هو معنى التوحيد في الذات.
فالله عزّ وجلّ واحدٌ في ذاته، لا يمكن أن تفترض شبيهاً له، ولا نظيراً، ولا عديلاً ولا مثيلاً.
وتختصر الآية الكريمة، التوحيد الذاتيّ، حيث تقول:﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، فلا يمكن، أن تفترض لله عزّ وجلّ شبيهاً في ذاته وألوهيته.
ـ التوحيد الذاتيّ: معناه أنـّه لا يمكن أن أفترض وجود شبيه، أو نظير أو مثيل أو عديل لله عزّ وجلّ.
ـ الدليل على التوحيد الذاتيّ
من الوسائل الّتي تتمكّن من خلالها نفي وجود شيء، أن تنفي وجود أيّ أثر له، متى كان ذلك الأثرملازماً له، لا ينفكّ عنه. أي استدلّ بعدم وجود الأثر، على عدم وجود المؤثّر.
وهذه الطريقة، هي الّتي نستخدمها لإثبات التوحيد الذاتيّ، فلو كان هناك إله غير الله عزّ وجلّ، فلا بدّ وأن يكون له أثر ملازم، وهو بعثة أنبياء ورسل من عنده، لدعوة الناس إلى طاعته وعبادته، ولكن لا نجد أنّ هناك أنبياء دعوا إلى عبادة غير الإله الواحد الأحد، فعدم وجود أنبياء لغير الله، دليل على عدم وجود إله آخر.
وبتعبير آخر: لو كان لله عزّ وجلّ شريك للزم أن يكون الأنبياء فريقين، كلُّ فريق يدعو إلى أحد هذين الإلهين، ولكنّنا نجد أنّ الأنبياء كلّهم يدعون إلى إله واحد، فلو كان هناك إله آخر، فأين هم أنبياؤه الّذين يدعون النّاس إليه؟!
هذا الدليل، جاء ذكره في نهج البلاغة، في وصية الإمام عليعليه السلام لابنه الحسن عليه السلام حيث يقول:"وَاعْلَمْ يا بُنَيَّ أَنَّهُ لَوْ كَانََ لِرَبِّكَ شَريكٌ لأَتَتْكَ رُسُلُهُ، وَلَرَأَيْتَ آثارَ مُلكِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَلَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وَصِفَاتَهُ، وَلَكِنَّهُ إَلهٌ واحِدٌ، كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ"2.
إستنتاج
ـ الدليل على التوحيد الذاتيّ، اتفاق الأنبياء كافّة في الدّعوة إلى إله واحد، فلو كان هناك إله آخر، فأين هم أنبياؤه ورسله؟!
ثانياً: التوحيد في الخالقيـّـة:الخلق هو فعل من الأفعال مختصّ بالله عزّ وجلّ على نحو الاستقلال، فالله هو وحده الخالق للسّموات والأرض، قال تعالى:﴿قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾3.إذا آمن أحد من الناس، بأنّ الله عزّ وجلّ واحدٌ ذاتاً، ولكنّه آمن بأنّ الخلق يصدر من غير الله، مستقلاً ومن دون أن يرجع هذا الفعل إلى إذنه وينتهي إلى أمره فهو مشركٌ في الخالقيّة.
أ ـ الدليل على التوحيد في الخالقيـّة:
إنّ التأمّل في المخلوقات، يكفي للشهادة على أنّ خالقها واحد، لما بينها من ارتباط وتنسيق وانسجام، ولو كان هناك إله آخر، لكان ينبغي لنا، أن نشهد وجود مخلوقات أخرى ذات نظام مستقلّ.
إنّ وجدان أيّ إنسان يشهد بأنّ الخالق، لا يمكن أن يكون متعدّداً، وهذا لسان المشركين، يجيب بذلك إذا سُئِلُوا:﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾4.
"لَوْ كَانََ لـِرَبـِّكَ شـريكٌ لأَتـَتـْكَ رُسـُلُهُ، وَلَرَأَيـْتَ آثارَ مـُلكـِهِ وَسـُلْطَانِهِ".
إستنتاج
ـ وحدة النظام الكونيّ وعدم تعدّد المخلوق الواحد، دليل على وحدة الخالق، لأنّه لو تعدّد الخالق لكان لا بدّ أن تتعدّد المخلوقات ويتعدّد هذا النظام.
ثالثاً: التوحيد في الربوبيـّة: إنّ"الربّ" هو المدبّر، الَّذي يكون بيده تدبير الأمور مباشرة أو بواسطة، فالأب هو ربّ الأسرة، لأنّه المدبّر لشؤونها، مباشرة، أو بواسطة.
﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ - المؤمنون - الآية - 91﴾
التناسق والانسجام السائد والحاكم على الكون، دليل على وحدة مدبـّر العالم.
لم ينكر المشركون في زمن الرسالة، التوحيد في الذّات أو التوحيد في الخالقيّة، ولكنّهم أنكروا التوحيد في الربوبيّة، حيث اعتقد هؤلاء بأنَّ مدبّراً آخرَ غير الله عزّ وجلّ كالأصنام الّتي كانوا يعبدونها، هي الّتي تقوم بتدبير أمور السموات والأرض، من الرزق، إلى النَّصر في الحرب، والموت وغير ذلك. ومثال ذلك ما ذكره القرآن الكريم في قصّة النبيّ يوسفعليه السلام الّذي ينكر على صاحبيه في السجن إيمانهم بوجود أكثر من رب:﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾5.
ب ـ الدليل على التوحيد في الربوبيـّة:
إنّ أهمّ دليل عَلى توحيد الله في الرّبوبيّة، هو دليل وحدة النظام وهو بالنحو التالي:
ـ يتحرّك النظام الكونيُّ بدقّة متناهية لا خلل فيها. بل كلّما ازدَدْنا تأمّلاً في هذا الكون، ازدَدْنا يقينا بمدى الدقّة، الّتي يسير عليها هذا الكون.
ـ لو كان للعالم أكثر من مدبّر، لاختلف تدبيرهم، ولحصل الاختلاف بينهم، ولظهرت آثار ذلك في هذا النظام.
وفي النتيجة يمكننا القول: إنّ وحدة النظام الكونيّ دليل على وحدة المنظّم لهذا الكون.
قال تعالى:﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾6.
إستنتاج
لو كان في الكون أكثر من إله، لاختلف تدبيرهم، ولفسدت السموات والأرض، إذاً ليس هناك إلّا إله واحد.
رابعاً: التوحيد في العبادة:
يكرّر المسلم، في كلّ مرّة يقرأ فيها سورة الفاتحة، القولَ مخاطباً الله عزّ وجلّ:﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فما هو المراد من ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾؟ إنّ من يستحقّ أن تتوجّه إليه بالعبادة (من الصّلاة والصوم وغيرهما)، وأن تطيعه ولا تطيع أحداً غيره هو الله عزّ وجلّ.
إنّ معنى توحيده في العبادة، هو أن لا تأتي بأيّ عمل وأنت تريد بذلك الخضوع والخشوع العبادي لغير الله، بل يكون خضوعك وعبادتك لله وحده فقط.
ج ـ الدليل على التوحيد في العبادة:
إذا كنت مؤمناً بمراتب التوحيد السابقة، أي كنت ممّن يعتقد بأنّ الله عزّ وجلّ واحد لا شريك له، ولا خالق غيره، ولا مدبّر إلّا هو، وأنّ بيده أمورك كلّها، فكيف تعبد غيره؟
إنّ النتيجة الطبيعيّة للتوحيد في المراتب السابقة، هي أن يكون الإنسان موحّداً لله عزّ وجلّ في العبادة.
قال تعالى:﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾7.
ويفسّر الإمام الصّادق عليه السلام الآية:"أَمَا وَاللهِ ما دَعَوْهُم إِلى عِبَادةِ أنْفُسِهِمْ، وَلَوْ دَعَوْهُمْ ما أَجابوهُمْ، وَلَكِنْ أَحَلّوا لَهُمْ حَرامَاً، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ حَلالاً فَعَبَدُوهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرونَ"8.
إنّ العبادة عبارة عن خضوع إنسان أمامَ شيء أو شخصٍ باعتقاد أنّ بيده مصير العالم كلّه أو بعضه، أو بيده اختيار الإنسان ومصيره، وأنـّه مالك أمره.
العالم بيتٌ منظّم
ورد في كتاب توحيد المفضّـل أنّ الإمام الصادقعليه السلام قال له:"يا مفضّـل: أوّل العِبَر والدلالة على الباري جلّ قدسه، تَهْيِئة هذا العالم، وتأليف أجزائه ونَظْمُها على ما هي عليه، فإنّك إذا تأمّلت العالم بفكرك، وخَبِرْتَه بعقلك، وجَدّته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه ما يحتاج إليه عباده، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم مضيئة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وكلّ شيء فيه لشأنه معدّ، والإنسان كالمالك لذلك البيت، والمخوّل جميع ما فيه، وضروب النبات مهيّأة لمأربه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه.ففي هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير وحكمة وملاءمة، وأنّ الخالق له واحد، وهو الّذي ألّفه ونظّمه بعضاً إلى بعض، جلّ قدسه وتعالى جَدّه وكَرُم وجهُه، ولا إله غيره تعالى عمّا يقول الجاحدون، وجلّ وعظم عمّا ينتحِله الملحدون"9.
المصادر :
1- النساء: 48.
2- نهج البلاغة، وصيّة الإمام لولده الحسن، الكتاب 31.
3- الرعد: 16.
4-لقمان: 25.
5-يوسف: 39.
6-الأنبياء: 22
7-التوبة: 31.
8-الكافي، الشيخ الكليني، ج1، ص 53.
9- التوحيد، المفضل بن عمر الجعفي، ص 12.