إنَّ من أهمّ الطرق لتربية النفس والسير والسلوك ونيل مقام القرب، تربية الفضائل ومكارم الأخلاق في نفوسنا، وللفضائل الأخلاقيّة آثار جليلة في الدنيا والآخرة، ولذا أكَّدت عليها الآيات والروايات، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما يوضع في ميزان امرىءٍ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق" .
وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ أحبَّكم إليّ وأقربكم منّي يوم القيامة مجلساً، أحسنُكم خُلُقاً وأشدُّكم تواضعاً" .
وقد فصَّل المعصومون عليهم السلام الحديث عن حسن الخلق، فقد سُئل الصادق عليه السلام: ما هو حدّ حسن الخلق؟ قال عليه السلام: "تلين جانبك، وتطيّب كلامك، وتلقى أخاك ببِشْرٍ حَسَنٍ" .
من الأخلاق الاجتماعيّة
إنَّ الأخلاق الحسنة كثيرة وعديدة، وينبغي للسالك أن يهتمّ بها كلّها، لأنَّ لكلّ منها أثره وثماره، وعدم الاهتمام بها سيؤدّي إلى الحرمان من فوائدها،وسنبيّن بعض تلك الأمور الأخلاقيّة التي تعدّ ضروريّة في حياتنا الاجتماعيّة، لأنَّ العبادة لا تقتصر في الإسلام على الصلاة، والصيام، والحجّ، والزيارة، والذكر، والدعاء، ولا تنحصر بالمساجد والمعابد والمزارات، بل يعتبر القيام بالمسؤوليّات الاجتماعيّة والإحسان وخدمة عباد الله، إذا كان مع قصد القربة من أفضل العبادات، حيث يمكن أن يكون وسيلة لبناء وإكمال النفس والتقرّب من الله. فالسير والسلوك في الإسلام لا يستلزم الانزواء، بل يمكن أن يكون من خلال قبول المسؤوليّات الاجتماعيّة في وسط المجتمع، والتعاون في الخير والإحسان، والسعيّ في حوائج المؤمنين، وإدخال السرّور إلى قلوبهم، والدفاع عن المحرومين والمستضعفين، والاهتمام بأمور المسلمين، وقضاء حاجاتهم، وحلّ مشاكلهم، ومساعدة عباد الله, وكلّ هذه الأمور تعتبر في الإسلام من العبادات الكبيرة، وثوابها أكبر من عشرات الحجج المقبولة المبرورة.
1- لين الجانب:
إنَّ هذه الصفة عظيمة، وهي تعبّر عن وصول الرحمة إلى قلب الإنسان، وهي التواضع والرفق بالناس، فهي الخاصيّة التي ميّزت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ ، و﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ ، وقد وصف الله تعالى بها رسوله الكريم: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ .
2- إدخال السرّور على المؤمن:
وهو من الأهميَّة بحيث أنَّ أهل البيت عليهم السلام قرنوا بين إدخال السرّور إلى قلب المؤمن وبين سرورهم، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يرى أحدكم إذا أدخل على مؤمن سروراً أنَّه أدخله عليه فقط بل والله علينا، بل والله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" .
ومن أروع ما نجده في هذا المجال، وصيّة الإمام الصادق عليه السلام للنجاشيّ حيث يقول فيها: "يا عبد الله إيّاك أن تخيف مؤمناً، فإنَّ أبي حدَّثني عن أبيه عن جدّه، من نظر إلى مؤمن نظرة ليخيفه بها أخافه الله، يا عبد الله وحدّثني أبي عن آبائه عن عليّ عليه السلام عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال:"نزل جبرئيل عليه السلام، فقال: من أدخل على أخيه المؤمن سروراً فقد أدخل على أهل بيت نبيّه عليهم السلام سروراً، ومن أدخل على أهل بيته سروراً فقد أدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سروراً، ومن أدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سروراً فقد سرّ الله، ومن سرَّ الله فحقيق على الله أن يدخله مدخله..." .
ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ إدخال السرور إلى قلب المؤمن لا بدّ أن يكون بأمور محلّلة، فلا أكذب عليه لأفرحه مثلاً.
3- الرفق والمداراة:
وقد وردت الروايات في الحثّ عليها، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مداراة الناس نصف الإيمان، والرفق بهم نصف العيش" .
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "رأس العقل بعد الإيمان بالله عزّ وجلّ التحبّب إلى الناس" .
وعن الصادق عليه السلام: "جاء جبرئيل عليه السلام إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمّد ربُّك يقرئك السلام ويقول لك: دارِ خلقي" .
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنَّكم لن تَسَعُوا الناس بأموالكم، فسَعُوهم بطلاقة الوجه وحسن اللقاء" .
وعنه عليه السلام: "دَارِ الناس تستمتع بإخائهم، والقهم بالبشر تُمِت أضغانهم" .
عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "تبسُّم الرجل في وجه أخيه حسنة، وصرف الأذى عنه حسنة، وما عبد الله بشيء أحبّ إلى الله من إدخال السرّور على المؤمن" .
وقال الصادق عليه السلام: "مَن سرّ مؤمناً فقد سرَّني، ومَن سرَّني فقد سرَّ رسول الله، ومَن سرَّ رسول الله فقد سرَّ الله، ومَن سرَّ الله أدخله جنّته" .
4- الكلام الطيِّب:
إنَّ الكلام اللطيف مع الآخرين هو من مكارم الأخلاق، حتّى أنَّ الروايات قد فسّرت حسن الخلق به، كما مرَّ معنا في حديث الصادق عليه السلام.
5- الصفح عن الآخرين:
وهو من أعظم المكارم، فقد خاطب الإمام الصادق عليه السلام أحد أصحابه بقوله: "ألا أحدّثك بمكارم الأخلاق؟: الصفح عن الناس، ومواساة الرجل أخاه في ماله، وذكر الله كثيراً" .
وحثّ الله سبحانه المؤمنين على هذه الخصلة في القرآن في عدد في الآيات، وعلى لسان المعصومين عليهم السلام وبأفعالهم فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي بينما هو ساجدٌ وإذا بمشركي قريش يلقون على رأسه الشريف القاذورات فينهي صلاته ويرفع يده بالدعاء "اللهم اغفر لقومي".
6- قضاء حاجة المؤمن:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الخلق عيال الله، فأحبّ الخلق إلى الله مَن نفع عيال الله، وأدخل على أهل بيت سروراً" .
وعنه عليه السلام: "لَقَضاء حاجة امرىء مؤمن أحبّ إلى الله من عشرين حجّة، كلّ حجّة ينفق فيها صاحبها مائة ألف" .
وعنه عليه السلام: "مشي المسلم في حاجة المسلم خير من سبعين طوافاً بالبيت الحرام" .
وعنه عليه السلام: "إنَّ لله عباداً من خلقه يفزع العباد إليهم من حوائجهم، أولئك هم الآمنون يوم القيامة" .
وقد وصفتها الروايات بالرحمة، وأنَّها تفرّج الهمّ يوم القيامة، وتيسّر الحوائج في الدنيا، وعن الصادق عليه السلام: "إنَّ العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكِّل الله عزَّ وجلَّ به ملكين، واحداً عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربَّه ويدعوان بقضاء حاجته.." .
وعنه عليه السلام: "أيُّما مؤمن قصده أخوه في حاجة، أو مستجيراً به في بعض أحواله، فلم يعنه ولم يجره، وهو يقدر على ذلك، فقد قطع ولاية الله، وأيُّما مؤمن منع مؤمناً شيئاً ممّا يحتاج إليه، وهو يقدر عليه من عنده أو من عند
غيره، أقامه الله يوم القيامة مسودّاً وجهه، مزرقّة عيناه، مغلولة يداه إلى عنقه، ويقال له: هذا الخائن الذي خان الله ورسوله، ثمَّ يؤمر به إلى النار" .
وقد وردت في هذا الخصوص مئات الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمَّة الأطهار عليهم السلام: منها ما عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال الله عزّ وجلّ: الخلق عيالي فأحبّهم إليّ ألطفهم بهم وأسعاهم في حوائجهم" .
الإمام الخمينيّ قدس سره وخدمة الناس
يعتبر الإمام الخمينيّ قدس سره أنَّ خدمة الناس والسعي في قضاء حاجاتهم، والعمل على رفع الحرمان عنهم، أحد أهمّ الوظائف التي ينبغي للمؤمنين أن يقوموا بها، بل إنَّه يعتبر خدمتهم خدمة للحقّ المطلق سبحانه وتعالى.وحيث إنَّ النفس الإنسانيّة تنزع إلى الشعور بالفضل والامتياز حينما تقوم بالإحسان وخدمة الناس، أو قد تنطلق في هذا العمل بهدف الحصول على مكاسب ذاتيَّة، كالشهرة، والسمعة، وكسب ودّ الناس، فإنَّه قدس سره يحذّر بشدّة من هذا وذاك، ويعتبر أنَّ الناس هم الذين ينبغي أن يكونوا في موقع المنَّة، لأنَّهم وفَّروا للآخرين وسيلة للتقرُّب إلى الله ونيل رضاه سبحانه.
يقول قدس سره في رسالته لابنه:
"ما دمنا عاجزين عن شكره تعالى ونعمائه التي لا نهاية لها، فحبّذا أن لا نغفل عن خدمة عباده، فخدمتهم خدمة للحقِّ تعالى، ولو أنَّ الجميع منه.
لا تَرَ لنفسك أبداً فضلاً على خلق الله حين تخدمهم، فهم الذين يمنُّون علينا حقَّاً بفضل كونهم وسيلة إلى الله جلّ وعلا، ولا تَسْعَ لكسب الشهرة والمحبوبيَّة عن طريق الخدمة، فهذا بحدِّ ذاته حيلة من حبائل الشيطان الذي يوقعنا في شباكه.
واختر في خدمة عباد الله ما هو أكثر نفعاً لهم لا لك، ولا لأصدقائك، فهذا الاختيار علامة الصدق في الحضرة المقدَّسة لله جلَ وعلا".
ويقول قدس سره في موضع آخر: "أيُّها المستضعفون، نحن مرتهنون لإحسانكم وإذا كنّا نليق فنحن خدَّامكم".
الخلاصة
- من أهمّ ما يساعد على نيل مقام القرب، تربية النفس على مكارم الأخلاق.
- لحسن الخلق ثمار كثيرة، منها أنَّها تثقل الميزان يوم القيامة.
- على السالك أن يهتمّ بكلّ الأمور الأخلاقيّة، وخصوصاً ما يرتبط منها بمعاملة الآخرين.
- ركَّزت الآيات والروايات على مفاهيم أخلاقيَّة عديدة، مثل لين الجانب، والمداراة وقضاء حاجات الناس والعفو عنهم.
- ركز الإمام الخمينيّ قدس سره في وصاياه على قضاء حوائج الناس، وأنّها تعتبر خدمة للحقّ سبحانه، وتكون المنّة لهم لا لنا.
أخلاق الآخوند الخراساني
كان الآخوند الشيخ محمّد كاظم الخراسانيّ رحمه الله، إلى جانب نبوغه الباهر ومواهبه العظيمة، يتحلَّى بسجايا أخلاقيَّة وصفات نبيلة متميّزة، كان مخالفاً لهواه، يتجنّب الترويج لنفسه، وكان يحبّ الحقيقة ويعشقها، وكان يقول: إنَّ تديّن أبنائي إنَّما يثبت لديّ إذا قلَّدوا غيري، لأنَّهم ما داموا يقلّدونني لا يمكنني أن أميّز هل دفعهم إلى تقليدي تشخيصهم غير المتحيّز للواجب والوظيفة الدينيّة، أم أنَّ أهواءهم هي التي دفعتهم إلى ترويج أمر والدهم.
كان هناك شخص يهاجمه في المحاضرات وعلى المنابر، فاحتاج ذات مرَّة إلى مال لتردّي أحواله الاقتصاديّة، فحضر عند الآخوند مع جماعة من مقلّديه قدس سره ومعهم مبلغ كبير من الحقوق الشرعيّة، فطلبوا منه بأن يسمح لهم بإعطاء المبلغ المذكور لذلك الشخص، فالتفت إليهم وقال: "إنِّي لأعجب منكم كيف أتيتم إليَّ ولديكم مثل هذا الشيخ الفاضل، ألا تعلمون أن يده بمنزلة يدي، وأنَّ ما تعطونه من سهم الإمام عليه السلام مهما كان مقداره موضع قبول من قبلي... قوموا وقدّموا له هذا المبلغ، وأنا أعطيكم إيصالاً به". ثمَّ كتب الشيخ الآخوند أعلى الله مقامه الإيصال المتعارف ووشّحه بتوقيعه وسلَّمه إليهم.
وحاول أحدُ الحضور من أصحاب الآخوند أن ينبّهه على ماهيَّة ذلك الشخص، ظنّاً منه بأنّ الآخوند لا يعرفه، فأتى باسم شخصيّة علمية كان يعارض الآخوند في بعض تفاصيل حركته السياسيّة، وسأل ذلك الرجل عن حاله، وقد كان من أتباع تلك الشخصيّة، فبادر الآخوند وقال: "لا حاجة إلى هذا السؤال فأنا
التقيت بتلك الشخصيّة العلميَّة اليوم في أثناء الطريق وتعرَّفت على صحَّته، فهي ولله الحمد على ما يرام".
ثمَّ لمَّا قام الرجل المذكور مع مرافقيه ليخرج من منزل الآخوند، نهض الآخوند رحمه الله وودَّعه إلى الباب احتراماً وتأدبّاً.
وفي اليوم الآخر حضرَ الرجل المذكور إلى منزل الآخوند وقال: مولاي أنا ممَّن أعارضكم، وبقيت أهاجمكم في محاضراتي وعلى المنابر، وأنتمّ مع ذلك تحسنون إليَّ!! فقال الآخوند قدس سره: "أنا لم أجد في الكتب الفقهية أنَّ استحقاق شخص لأخذ الحقوق الشرعيّة مشروط بممالأة الآخوند الخراسانيّ ومودّته".
المصادر :
راسخون 2018