إنَّ التكاليف الإلهيّة كما قد تتوجّه إلى أفراد المؤمنين، فإنّها قد تتوجه إلى جماعة المؤمنين, فهناك مجموعة من التكاليف تتوجّه إلى مجتمع المؤمنين، كإقامة العدل والدفاع عن الإسلام..
وهنا إذا أراد المؤمنون أن ينجحوا في أعمالهم، ويصلوا إلى أهدافهم، لا بدَّ لهم من مراعاة مجموعة من العوامل والشروط التي تعدّ أساسيّة للنجاح في أعمالهم الإداريّة والاجتماعيّة..
ومن أهمِّ تلك العوامل هو نظم الأمر والانضباط أثناء العمل.
إنَّ الإسلام كما يريد للفرد أن ينجح في أعماله، ويستقيم في أموره، وأن يجهد في تزكية نفسه، ليصل إلى مقام القرب، فإنَّه يؤكّد على الأخذ بتلك الأسباب السياسيّة والإداريّة التي يكون لها نتائج ترتبط بنجاح الأهداف الكبرى والعامّة لمجتمع المؤمنين.
إنَّ نظم الأمر وتنظيم شؤوننا وحسن الإدارة، يجب أن يشمل جميع مجالات حياتنا، سواءٌ منها الفرديّة أم الاجتماعيّة، ولا نستطيع أن ننظّم أمورنا العامّة إذا لم ننجح في تنظيم أمورنا الفرديّة، وقد اعتنى الإسلام بكلّ هذه المجالات
ابتداءً من استغلال الوقت، إلى الاستفادة من كلّ الطاقات التي منحها الله تعالى للإنسان.
التقوى ونظم الأمر
إنَّ التقوى شرط أساس، لكنّها لا تكفي لوحدها حتّى ننجح في أعمالنا العامّة وإداراتنا، بل لا بدّ من مراعاة جملة من الأمور التي ترتبط بالتدبير وحسن الولاية ونظم الأمر. يقول أمير المؤمنين عليه السلام لولديه الحسن والحسين عليهما السلام: "أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم" .
وهنا يجب التأكيد على العلاقة الوثيقة بين التقوى ونظم الأمور، وعلى الحاجة إليهما معاً، لأنَّ الاعتماد على أحدهما دون الآخر لن يوصلنا إلى المطلوب، ولحساسيّة هذا الموضوع وأهميَّته، تصدّى القرآن له، وبيَّن التنظيم الدقيق، سواء في المجال التكوينيّ ﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ أم في المجال التشريعيّ والسياسيّ، يقول أمير المؤمنين عليه السلام في وصفه للقرآن: "ألا إنَّ فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم" .
النظم في سيرة المعصومين عليهم السلام
إنَّ الذي يقرأ السيرة الحياتيّة للمعصومين عليهم السلام، ولعلمائنا الأعلام الذين اقتدوا بهم عليهم السلام، يرى دقّة التنظيم في حياتهم، وحرصهم على الاستفادة من كلّ الإمكانيّات والطاقات للقيام بالواجبات الإلهيّة، إنَّ تنظيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للحياة السياسيّة والاجتماعيّة، حتّى مع اليهود في المدينة، خير شاهد على هذا الأمر، إنَّ التنظيمات الإداريّة الرائعة التي برزت في دولة الحقّ والعدل التي أقامها أمير المؤمنين عليه السلام، مثال واضح أيضاً، ولنرجع إلى عهده عليه السلام إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه) عندما ولَّاه مصر، لنلحظ روعة التنظيم عند الإمام عليه السلام، وكما ينقل عن الإمام الخمينيّ قدس سره دقّة تنظيمه لأوقاته ولأموره، وقد تجلَّى نظم الأمر، الذي اهتمّ به الإمام اهتماماً بالغاً في قيادته للأمّة، في مرحلة الثورة وفي مرحلة الدولة أيضاً.
ويتجلّى نظم الأمر في الموارد الماليّة، كما يتجلّى في صرف الوقت والجهد، حيث دعا الإسلام إلى صرف كلّ قرش في مورده المقرّر شرعاً، وهذا ما فعله أمير المؤمنين عليه السلام عندما أتاه أحد أصحابه وهو في بيت المال، ولمّا أراد أن يسأل الإمام عليه السلام عن بعض الأمور، توجّه إليه الإمام قائلاً: بأنَّ ما تريد أن تسأل عنه هل هو أمر من أمور المسلمين أم هو أمر شخصيّ؟ ولمّا أجابه بأنّه أمر شخصيّ، قام الإمام عليه السلام بإطفاء السرّاج الذي هو ملك لبيت المال.
إنَّ كلّ هذه المسائل تدخل في مفهوم حسن الولاية الذي أكّدت عليه الروايات، بل وتضمنته الأدعية، لأنَّه مفهوم يمتلك بعداً تربويّاً معنويّاً، فضلاً عن بعده العمليّ، وممّا تضمنته بعض الأدعية، كدعاء مكارم الأخلاق، فقد ورد فيه: "وسمني حسن الولاية" ولخطورته فقد استعاذ الإمام زين العابدين عليه السلام من مقابله إذ يقول: "اللّهمّ إنّي أعوذ بك من سوء الولاية لمن تحت أيدينا.." .
النظم في التشريع الإسلاميّ
وهنا نشير باختصار إلى بعض قوانين الإسلام في عالم النظام والانضباط، تشمل مختلف أبعاد حياة الإنسان:
أ- في العبادة
النظام والانضباط في العبادة, يعني الاعتدال الذي تفيد مراعاته في استمرارها ودوامها.
وهو أيضاً البعد عن الإفراط والتفريط, الذي يؤدّي إلى التعب والنفور وقساوة القلب.
فينبغي أن يرفق الإنسان بنفسه حال الإتيان بالعبادة، فيؤدّيها بحسب قابليّته واستعداده النفسيّ.
عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، ولا تُكرّهوا عبادة الله إلى عباد الله" .
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تكرهوا إلى أنفسكم العبادة" .
فالإتيان بالعبادة ينبغي أن يصاحبه رغبة وميل، لأنَّ إلزام النفس بكثرة التكاليف العباديّة المستحبّة يثقل عليها، ممّا يسبّب حالة من النفور والفرار من العبادة، حتّى يحمل الإنسان نفسه عليها حملاً، قد يؤدّي به الأمر إلى تركها من الأساس، مع ما يصاحبه من إحساس بالتقصير والبعد عن الله عزّ وجلّ.
ب- في الحياة الشخصيّة
يهتمّ الإسلام برعاية النظام والعدالة في حياة الفرد المسلم، بما يشمل مختلف شؤونه الحياتيّة، ومنها:
1- النظافة:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "بئس العبد القاذورة" .
وعن عليّ عليه السلام: "إن الله جميل يحب الجمال ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده" .
وصحيح أنَّ الاهتمام الأكبر ينبغي أن يتوجّه إلى تنظيف القلب الذي هو الأساس: "إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم" . غير أنَّ الإسلام اهتمّ برعاية النظافة والصحّة في الهيئة واللباس، باستعمال المشط والسواك والتطيّب والتزام حسن الظاهر.
2- الترتيب:
أولى الإسلام الترتيب وحسن الهيئة اهتماماً في تعاليمه الأساسيّة، فعن جابر بن عبد الله قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأى رجلاً شعثاً قد تفرَّق شعره، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أَمَا كان يجد ما يسكّن به شَعْرَهُ" .
وكان صلى الله عليه وآله وسلم كلّما أراد الخروج إلى المسجد، أو لزيارة بعض أصحابه، ينظر في المرآة، أو في صفحة من الماء الصافي، فيمشط شعره، ويرتّب ثيابه، ويتعطَّر ثمَّ يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ الله يحبُّ من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيّأ لهم ويتجمَّل" .
فالإسلام يريد للإنسان المؤمن أن يظهر في مجتمعه على أكمل وجه، وأحسن صورة ليعكس، إلى جانب سلوكه العمليّ، حضارة هذا الدين وكماله.
3- الاعتدال في المصرف:
ينبغي مراعاة حدّ الاعتدال والتوازن، وعدم الإفراط والإسراف، في موارد
الطعام والشراب واللباس، وشؤون الحياة وزاد السفر والحضر...
والتنظيم في المصرف يعني وضع برنامج محاسبة دقيقة لموارد الدخل والإنتاج والمصروف، وموارد الإسراف والتبذير، حيث يتمّ اجتناب الفوضى التي تؤدّي إلى الضياع والفقر.
فقد ذمَّ الله سبحانه وتعالى المبذّرين والمسرفين في كتابه العزيز، بقوله: ﴿وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ .
وقال تعالى: ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ .
وفي حديث للإمام العسكريّ عليه السلام يقول فيه: "إيَّاك والإسراف فإنَّه من فعل الشيطنة" .
وهذا التأكيد على التنظيم في المصرف لا يقف عند حدود الحياة الشخصيّة، بل يطال أيضاً موارد الأموال العامّة وبيت مال المسلمين.
فالحكومة تستطيع أن تخطو في إدارة المجتمع خطوات واسعة إلى الأمام، إذا جعلت لمصارفها برنامجاً وتخطيطاً مدروساً، يقوم على أساس الاحتياجات الضروريّة لأبناء المجتمع.
ج- في العلاقات الاجتماعيّة
1- تنظيم الوقت:
أحد عوامل توفيق الإنسان في علاقاته وأموره الاجتماعيّة هو الاستفادة الصحيحة من الوقت، وتنظيم برنامج الأعمال والمطالعات واللقاءات وغيرها.
وتجنّب الفوضى التي تؤدّي إلى الحرمان من كثير من الفرص والندم عليها.
ففي وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام الأخيرة لولديه يقول: "أوصيكما وجميع أهلي وولدي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم" .
فبقدر ما ينظم المرء أوقاته على الأعمال، بقدر ما يوسّع على نفسه ليجد متّسعاً من الوقت، لم يكن ليحصل عليه لولا هذا الأمر.
وقد قسَّم الإمام الكاظم الأوقات إلى أربعة فقال عليه السلام: "اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان الثقات الذين يعرّفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذّاتكم في غير محرّم، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات" .
2- العهود والعقود:
من مظاهر النظام في الإسلام أيضاً العمل بمقتضى العهود والعقود وتنفيذها بدقّة، حتّى يتمّ قطع طريق الإنكار وبروز الاختلافات فيما بعد. يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ﴾ .
وفي آية أخرى تأكيد على الوفاء بالعهد: ﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾ .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفِ إذا وعد" .
هذا الاهتمام بضرورة الالتزام بالوفاء بالعهد مطلوب، حتّى مع غير المسلمين ولو كان عدوّاً، وفي ذلك يشير أمير المؤمنين عليه السلام في عهده لمالك الأشتر، بقوله: "وإنْ عَقَدْتَ بينَكَ وبينَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً أوأَلبستَهُ منكَ ذِمَّةً فحُط عَهدَكَ بالوفاء وارعَ ذمّتك بالأمانة" .
وإذا كان هذا الحال مع الأعداء، فإنَّ الرعية أولى بالوفاء بالعهد بل والإحسان والعطف، وفي ذلك يتابع أمير المؤمنين عليه السلام قوله لمالك الأشتر: "وَأَشْعِرْ قلبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ والمَحَبَّةَ لهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ، ولَا تكُونَنَّ عليهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغتَنِمُ أَكلَهُمْ، فَإِنَّهُم صِنْفَانِ: إمَّا أخٌ لكَ في الدين، وإمَّا نَظيرٌ لكَ في الخَلقِ" .
د- في الحرب وشؤونها
إنَّ التزام النظام، والانضباط في الحرب، يشكّل عاملاً مهمّاً من عوامل النصر المضافة إلى العوامل الأخرى، كالإيمان بالله، والتوكّل عليه، وتدبير القيادة ووحدتها، والالتزام بالأوامر والنواهي القيادية..
وهذا التنظيم واجب في التدبيرين النظريّ والعمليّ في جهاز الدعم في ساحة الجهاد، وفي ترتيب صفوف الجند والوحدات العسكريّة، وكذلك في توقيت الهجوم والإنسحاب، حتّى فترات الإستراحة، وذلك لئلّا يضيع الكثير من الجهود ويؤدّي ذلك إلى الهزيمة.
وقد كانت سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كذلك في حروبه، فهو صلى الله عليه وآله وسلم قبل دعوته للتعبئة العامّة كان يجمع الأفراد، ويكلّف كلّ شخص بتكليف معيّن لا يتعدّاه لغيره. ومن لوازم النظام التزام العناصر بأوامر القادة، وعدم تخلّفهم أبداً عن ذلك، وبعدهم عن القرارات الذاتيّة، والانفعالات العاطفيّة وغيرها، من الأمور التي قد تؤدّي إلى الهزيمة.
وفيما يتعلّق بالاهتمام بالنظام حتّى في فترات الإستراحة وأخذ الإجازات يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ .
وهكذا ينبغي للمجاهد أن يجعل أمر النظام والانضباط في الحرب بكلّ شؤونها نصب عينيه، وموضع اهتمامه، حتّى يتحقّق النصر والعزّة للإسلام والمسلمين بعون الله تعالى.
الخلاصة
- إنَّ مراعاة نظم الأمر والانضباط ممّا يساعد على نجاحنا في أعمالنا.- ممّا لا شكّ فيه أنَّ نجاح المؤمنين في أمورهم سوف يوجد ظروفاً مناسبة وإمكانيّات جيّدة للعمل، في سبيل تزكية النفس وتهذيبها.
- إنَّ نظم الأمر ممّا أكّدت عليه الوصايا والروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام.
- من يقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمَّة عليهم السلام والإمام الخمينيّ قدس سره يرى بوضوح أروع آيات النظم والانضباط.
- إنَّ حسن الولاية الذي أكّدت عليه الروايات والأدعية يقتضي نظم أمورنا، في العبادة وفي الحياة الشخصيّة وفي العلاقات الاجتماعيّة وفي مجالات الحرب وشؤونها.
مخالفة التكليف
كان في "جبل أُحُد" شِعب (ثغرة) وقد كلَّف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسين رجلاً من الرماة بمراقبة ذلك الشِعب، وحماية ظهر الجيش الإسلاميّ، وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير، وكان قد أمر قائدهم بأن ينضحوا الخيل ويدفعوها عن المسلمين بالنبل، ويمنعوا عناصر العدوّ من التسلل من خلالها، ولا يغادروا ذلك المكان، سواء انتصر المسلمون أم انهزموا، غَلَبوا أم غُلبُوا.وفعل الرماة ذلك، فقد كانوا في أثناء المعركة يحمون ظهور المسلمين، ويرشقون خيل المشركين بالنبل فتولِّي هاربة، حتّى إذا ظفر النبيّ وأصحابه، وانكشف المشركون منهزمين، لا يلوون على شيء، وقد تركوا على أرض المعركة غنائم وأموالاً كثيرة، وقد تبعهم بعض رجال المسلمين ممّن بايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بذل النفس في سبيل الله، ومضوا يضعون السلاح فيهم حتّى أجهضوهم عن العسكر، أمَّا أكثر المسلمين فقد وقعوا ينتهبون العسكر ويجمعون الغنائم، تاركين ملاحقة العدوّ وقد أغمدوا السيوف، ونزلوا عن الخيول ظنّاً بأنَّ الأمر قد انتهى.
فلما رأى الرماة المسؤولون عن مراقبة الشِعب ذلك قالوا لأنفسهم: ولِمَ نقيمُ هنا من غير شيء وقد هزَم الله العدوّ فلنذهب ونغنم مع إخواننا.
فقال لهم أميرهم عبد الله بن جبير: ألم تعلموا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لكم: احموا ظهورَنا فلا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا غنِمنا فلا تشركونا، احموا ظهورنا؟
ولكن أكثر الرماة خالفوا أمر قائدهم هذا وقالوا: لم يرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
هذا، وقد أذلَّ الله المشركين وهزمهم. ولهذا نزل أربعون رجلاً من الرماة من الجبل، ودخلوا في عسكر المشركين ينتهبون مع غيرهم من المسلمين الأموال، وقد تركوا موضعهم الاستراتيجيّ في الجبل، ولم يبقَ مع عبد الله بن جبير إلّا عشرة رجال!
وهنا استغل خالد بن الوليد، قلَّة الرماة في ثغرة الجبل، وكان قد حاول مراراً أن يتسلّل منها، ولكنّه كان يقابلُ في كلّ مرّة بنبال الرماة، فحمل بمن معه من الرجال على الرماة في حملة التفافيَّة، وبعد أن قاتل من بقي عند الثغرة وقتلهم بأجمعهم، انحدر من الجبل وهاجم المسلمين الذين كانوا منشغلين بجمع الغنائم، وغافلين عما جرى فوق الجبل، وأوقعوا في المسلمين ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح، ورمياً بالنبال، ورضخاً بالحجارة، وهم يصيحون تقويةً لجنود المشركين.
فتفرقت جموع المسلمين، وعادت فلول قريش تساعد خالداً وجماعته، وأحاطوا جميعاً بالمسلمين من الأمام والخلف، وجعل المسلمون يقاتلون حتّى قُتل منهم سبعون رجلاً.
إنَّ هذه النكسة تعود إلى مخالفة الرماة لأوامر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وعدم انضباطهم تحت تأثير المطامع الماديّة، وتركهم ذلك المكان الاستراتيجيّ عسكريّاً، والذي اهتمَّ به القائد الأعلى صلى الله عليه وآله وسلم، وأكّد بشدَّة على المحافظة عليه، ودفع أيّ هجوم من قِبَل العدوّ عليه. وبذلك فتحوا الطريق من حيث لا يشعرون للعدوّ، بحيث هاجمتهم الخيل بقيادة خالد بن الوليد، فدخل إلى أرض المعركة من ظهر الجيش الإسلامي، ووجّه إلى المسلمين تلك الضربة النكراء!
المصدر :
ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 14، ص 240 (بتصرّف)