المواقف من الصحابة

لقد درج الجمهور على القول بعدالة الصحابة أجمعين، مستدلين على ذلك بمجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وقد لخص ابن حجر هذه النظرية بقوله: اتفق أهل السنّة على أن الجميع عدول، ولم يخالف في
Saturday, April 21, 2018
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
المواقف من الصحابة
 المواقف من الصحابة


لقد درج الجمهور على القول بعدالة الصحابة أجمعين، مستدلين على ذلك بمجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وقد لخص ابن حجر هذه النظرية بقوله: اتفق أهل السنّة على أن الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلاّ شذوذ من المبتدعة، وقد ذكر الخطيب في الكفاية فصلا نفيساً في ذلك، فقال: عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم، فمن ذلك، قوله تعالى: (كُنتُم خَيرَ اُمّة اُخرجَتْ لِلنّاسِ)، وقوله: (كذلِكَ جَعَلناكُمْ اُمّةً وَسطاً)، وقوله: (لَقَدْ رَضيَ اللهُ عَنِ المؤمنينَ إذْ يُبايعُونَكَ تَحتَ الشَّجرةِ فَعلِمَ مَا فِي قُلوبِهِمْ)، وقوله: (والسّابِقونَ الأوَّلونَ مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ وَالذينَ اتَّبعوهُمْ بإحسان رَضيَ اللهُ عَنهُمْ وَرَضْوا عَنهُ) وقوله: (يَا أَيُّها النَّبيُّ حَسبُكَ اللهُ وَمَنْ اتّبَعكَ منَ المؤمنينَ)... في آيات كثيرة يطول ذكرها وأحاديث شهيرة يكثر تعدادها، وجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحد من الخلق..
إن المستشهدين بهذه الآيات قد فاتهم اُمور منها: إن الآيات التي تمتدح الصحابة، يقابلها آيات عديدة وردت في ذم عدد منهم حتى إن بعض الصحابة كانوا يسمون سورة التوبة (الفاضحة) وأنهم كانوا يوجسون خيفة من أن يذكرهم الله بأسمائهم في مقام الذم، كما أن الآيات التي تمتدح الصحابة ليست على إطلاقها، بل معظمها يقيد ذلك الرضوان من الله بالمؤمنين منهم، وهم الذين استمروا على هذا الخط ولم يبدّلوا أو يغيّروا، ومن الآيات التي تثبت ذلك آية طالما يستشهد بها الجمهور على عدالة الصحابة، في قوله تعالى: (مُحمَّدٌ رَسولُ اللهِ وَالَّذينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَينَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللهِ وَرِضواناً سِيماهُمْ في وجُوهِهمْ مِنْ أَثَرِ السُّجودِ ذلكَ مَثلهُم فِي التَّوراةِ وَمَثَلُهمْ فِي الانجيلِ كَزَرْعِ أَخرَجَ شَطأَهُ فَآزرَهُ فاستَغلظَ فاستَوى عَلى سُوقهِ يُعجِبُ الزُّرّاعَ لِيغيظَ بِهِم الكُفّارَ وَعَدَ الذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصّالحاتِ مِنْهُم مَغفِرَةً وَأَجراً عَظيماً)(1).
ومعظم المفسرين يتجاهلون الجزء الأخير من الآية لورود لفظة (منهم) فيها، أو يتصرفون في معناها اللغوي، مع أن اللفظة واضحة تماماً وهي تدل على التبعيض، حيث شرط الله سبحانه وتعالى رضوانه بالمؤمنين الذين يعملون الصالحات من بينهم دون غيرهم، وفي ذلك يقول الرازي: وقوله تعالى (منهم...) لبيان الجنس لا للتبعيض، ويحتمل أن يقال هو للتبعيض!(2).
ومما يشهد بصحة ذلك، قوله تعالى: (إنَّ الذينَ يُبايعونَكَ إنَّما يُبايعونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوقَ أَيديهِمْ فَمنْ نَكثَ فَإنَّما يَنكثُ عَلى نَفسهِ وَمَنْ أَوفى بِما عاهَدَ عَلَيْه اللهَ فَسْيؤتيهِ أَجراً عَظيماً)(3).
قال إبن كثير: أي إنما يعود وبال ذلك على الناكث..(4)
فالله سبحانه وتعالى قد ذكر إحتمال نكث اُولئك المبايعين بيعتهم وتوعدهم على ذلك ومن ناحية اُخرى فان إطلاق الرضوان غير ممكن بالأخذ بظواهر الآيات، وإلاّ فما نقول في قوله تعالى: (يا بَني إسرائيلَ اذكُروا نِعمتيَ التي أَنعَمتُ عَلَيكُمْ وَأَنّي فَضَّلتُكمْ عَلى العالمينَ)(5). فلو أطلق اللفظ فيها لاستلزم تفضيل بني إسرائيل على العالمين أبد الدهر، وهو أمر لا يقرّه مسلم، وإنما يدعيه اليهود، وذلك يستلزم تفضلهم حتى على الصحابة! إن الجمهور بتبنّيه نظرية عدالة الصحابة قد اصطدم بتكذيب الواقع لها، ومن الغريب أن الصحابة أنفسهم لم يكونوا يرون لأنفسهم هذه القدسية، ولا ادعوا بأنهم جميعاً من أهل الجنة، بل كان معظمهم خائفين مرتقبين، وقد اعترفوا بأنهم قد خالفوا النبي (صلى الله عليه وآله)، فعن العلاء بن المسيب عن أبيه، قال: لقيتُ البراء بن عازب(رضي الله عنه)فقلت: طوبى لك، صحبت النبي (صلى الله عليه وآله) وبايعته تحت الشجرة. فقال: يا ابن أخي، إنك لا تدري ما أحدثنا بعده!(6).
وعن أبي البختري، قال: جاء الأشعث بن قيس وجرير بن عبدالله البجلي إلى سلمان(رضي الله عنه) فدخلا عليه في خُصّ في ناحية المدائن، فأتياه فسلّما عليه وحيّاه ثم قالا: أنت سلمان الفارسي؟ قال: نعم. قالا: أنت صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: لا أدري! فارتابا وقالا: لعله ليس الذي نريد. فقال لهما: أنا صاحبكما الذي تريدان، قد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجالسته، وإنما صاحبه من دخل معه الجنة!(7).
وعن ابن عباس قال: يقول أحدهم: أبي صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولنعلٌ خَلق خير من أبيه!!(8).
فسلمان الفارسي على صحبته وفضله، حتى كرّمه النبي (صلى الله عليه وآله) وقال: "سلمان منّا أهل البيت"، لا يعتقد بقدسية صحبته للنبي ولا يراها كافية للنجاة، أما ابن عباس فيكفي أن يصف أحد الصحابة بأنه لا يساوي نعلا قديماً ممزقاً!
والأحاديث النبوية الواردة في فضل الصحابة، تقابلها أحاديث كثيرة متواترة عن مآل جمع كبير من الصحابة الذين يحدثون بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، كما مر بنا في الكلام على حديث الحوض، وقد شهد النبي (صلى الله عليه وآله) للصحابة الذين مضوا في حياته ولم يحدثوا، فعن معمر قال: أخبرني من سمع الحسن يقول: قال النبي (صلى الله عليه وآله) للشهداء يوم اُحد: "إنّ هؤلاء قد مضوا، وقد شهدتُ عليهم، ولم يأكلوا من اُجورهم شيئاً، ولكنكم تأكلون من اُجوركم، ولا أدري ما تحدثون بعدي"(9).
وفي رواية: فقال أبو بكر: ألسنا إخوانهم، أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا؟! قال: "بلى، ولكن هؤلاء لم يأكلوا من اُجورهم شيئاً، ولا أدري ما تحدثون بعدي"، فبكى أبو بكر وقال: إنّا لكائنون بعدك!(10).
وسأل أبو عبيدة: يا رسول الله، أأحد خير منا، أسلمنا معك وجاهدنا معك! قال: "قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني"(11).
وقد أخبرني النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاثة من أصحابه بأن آخرهم موتاً في النار، وكان سمرة بن جندب ذلك الثالث، وقد اخترعوا لموته قصة، فقالوا بأنه سقط في قدر مملوءة ماءً حاراً، فكان ذلك تصديقاً لقول النبي (صلى الله عليه وآله).
قال ابن حجر: وقد جاء في سبب موته غير ما ذُكر!(12).
والحقيقة فان هذا الموقف المتشدد في تعديل الصحابة لم يكن مألوفاً في البداية ولا أقرّه الصحابة، "وقد كان التجريح بالصحابة شيئاً مألوفاً في العصر الأول للهجرة، وقبل أن يتولى الخلافة عمر بن عبد العزيز، وكان فضل هذا الخليفة الصالح أنه منع التجريح بالصحابة، وفرض على أئمة المساجد الدعاء لهم على المنابر، فظهر اجماع على القول بعدالة جميع الصحابة وطهارتهم مستندين إلى آيات القرآن التي مرّ ذكرها، وبالاستناد الى هذه الآيات، أسبغ العلماء والفقهاء على الصحابة طابعاً من القدسية، وصاروا لا يذكرونهم إلاّ بالدعاء لهم والرضوان عليهم من الله تعالى، وظهر منذ بداية القرن الثاني للهجرة رجال دين من أصحاب النوايا الحسنة صاروا يثقون بفضل الصحابة عامة، ويكفرون من يذمهم أو يقدح بأحد منهم... وقد ساهم هذا النفر من أصحاب النوايا الحسنة بوضع الأحاديث الكاذبة عن رسول الله، لتدعيم حججهم في فضل الصحابة"(13).
وهكذا بدأت تفشو المقالة بعدالة الصحابة، لكن الجمهور كان يصطدم بالحقائق التي تثبت عكس ذلك من سيرة الصحابة، وكان ذلك متداولا على الألسن، فقرر أن يتخذ موقفاً صارماً لمنع الخوض في سيرة الصحابة مما لا يرضاه الجمهور ويفنّد نظريته، فصارت أصابع الاتهام بالزندقة والالحاد والكفر والرفض وما إلى ذلك تشير إلى كل من يكشف عن تلك الأسرار، "يقول أبو زرعة: إذا رأيت رجلا ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله، فاعلم أنه زنديق، ولم يقل أبو زرعة هذا القول في اُولئك الذين ظلوا أربعين سنة يشتمون علي بن أبي طالب على المنابر، وبينهم عدد من الصحابة أمثال المغيرة بن شعبة"!(14).
والعجيب أن هذا الموقف من عدالة الصحابة يبدو أكثر تشدّداً تجاه الصحابة الذين سنّوا سبّ الصحابة على المنابر، ففي ترجمة إبراهيم بن الحكم ابن زهير الكوفي: قال أبو حاتم: روى في مثالب معاوية، فمزقنا ما كتبنا عنه!(15).
إلاّ أن الجمهور لم يعدم رجالا يعرفون الحقيقة ويقولونها، ومن بينهم عدد من المحدّثين الكبار، ففي ترجمة ابن أبي دارم المتوفى سنة (352 هـ): كان موصوفاً بالحفظ والمعرفة، إلاّ أنه يترفض، قد ألّف في الحط على بعض الصحابة(16).
قال محمد بن أحمد بن حمّاد الكوفي الحافظ: كان مستقيم الأمر عامة دهره، ثمّ في آخر أيامه كان أكثر ما يُقرأ عليه المثالب، حضرته ورجل يقرأ عليه: إن عمر رفس فاطمة حتى اُسقطت بمحسن!!(17).
وقال أحمد (بن حنبل): كان أبو عوانة وضع كتاباً فيه معايب أصحاب رسول الله، وفيه بلايا! فجاء سلاّم بن أبي مطيع، فقال: يا أبا عوانة، أعطني ذلك الكتاب، فأعطاه، فأخذه سلاّم فأحرقه!(18).
وروى أحمد بن حنبل عن عبد الرحمان بن مهدي قال: فنظرت في كتاب أبي عوانة وأنا استغفر الله!(19).
وفي ترجمة عبد الرحمان بن يوسف بن خراش: سمعت عبدان يقول: وحمل ابن خراش إلى بندار جزأين صنّفهما في مثالب الشيخين (يعني أبو بكر وعمر)، فأجازه بألفي درهم، فأما الحديث، فأرجو أنه لا يتعمد الكذب(20).
وفي ترجمة عبد الرزاق بن همّام الصنعاني -صاحب المصنف- قال ابن عدي: لعبد الرزاق بن همام أصناف حديث كثير، وقد رحل إليه ثقات المسلمين وأئمتهم وكتبوا عنه، ولم يروا بحديثه بأساً، إلاّ أنهم نسبوه الى التشيّع، وقد روى أحاديث في الفضائل مما لا يوافقه عليها أحد من الثقات، فهذا أعظم ما رموه به من روايته لهذه الأحاديث، ولما رواه في مثالب غيرهم مما لم أذكره في كتابي هذا! وأما في باب الصدق، فأرجو أنه لا بأس به، إلاّ أنه قد سبق عنه أحاديث في فضائل أهل البيت، ومثالب آخرين مناكير!(21).
وفي ترجمة الحسين بن الحسن الاشقر: أن أحمد بن حنبل حدّث عنه وقال: لم يكن عندي ممن يكذب. فقيل له: إنه يحدّث في أبي بكر وعمر، وأنه صنّف باباً في معايبهما! فقال: ليس هذا بأهل أن يُحدِّث عنه!(22).

لماذا عدالة الصحابة

بعد أن استعرضنا الآراء حول موضوع الوصية، وأوردنا الأدلة النقلية على ثبوتها، وتبيّن منها وجود نص جلي من النبي (صلى الله عليه وآله) على علي بن أبي طالب، ومحاولة الجمهور ردّ هذه الأدلة لكونها تناقض عقيدة الجمهور في مسألة الخلافة، وهو معذور في ردّها إذ أن تصديقها يستلزم إعادة النظر في كل المتبنيات التي قامت عليها نظرية الجمهور.
لقد أثبت النبي (صلى الله عليه وآله) الولاية لأهل بيته وعميدهم علي بن أبي طالب على المسلمين، وأكد أن طريق الاُمة الذي يتكفل بعصمتها من الضلال هو التمسك بالثقلين، وهما: كتاب الله وعترته أهل بيته، وأكّد على استحالة تفرّقهما حتى يوم الورود على الحوض، وبما أن الكتاب هو المصدر الأول للتشريع -وهو الثقل الأكبر كما في بعض ألفاظ الحديث- والسنّة النبوية الشريفة هي المصدر الثاني لها، وهي الموضّحة والمبيّنة له، كما في قوله تعالى: (وَأَنزلنَا إليكَ الذّكرَ لتبيّنَ للناسِ ما نزلَ إليهِمْ)(23)، فإن ربط النبي (صلى الله عليه وآله) بين الكتاب وأهل بيته، يعني بالضرورة ربط سنّته بأهل بيته، فهم القيّمون عليها، والحافظون لها في كل الأحوال.
لكن ما حدث هو أن قريشاً اختارت ثقلا واحداً هو كتاب الله، ورفضت الثقل الثاني الذي هو في الحقيقة مستودع العلم النبوي وحافظ سنّته، فكانت النتيجة أن الأجيال التي جاءت بعد جيل الصحابة قد وجدت نفسها مقطوعة عن السنّة النبوية الحقيقية المتمثلة بأهل البيت، وبما أن الثقل الأول ليس فيه تفصيل التشريع بكل دقائقه، بل هو مُجمل، فقد وجدت هذه الأجيال نفسها محتاجة إلى المصدر الثاني للتشريع، لكن هذا المصدر كان قد تمّ إقصاؤه عن الساحة، فراحت هذه الأجيال تبحث عن البديل، فلجأت إلى الصحابة على اعتبار أنهم كانوا على إتصال بالنبي (صلى الله عليه وآله)، فهم ينبغي أن يكونوا مطّلعين على هذا المصدر الثاني المكمّل للمصدر الأول، فراحوا يلتمسون ضالتهم عندهم، وكان ذلك بداية السير في الطريق الخاطئ!
يقول الشيخ أبو زهرة: كان عمل الصحابة على قسمين: احدهما، ما يتفقون عليه... وهذا يكون إجماعاً، وهو حجة في ذاته، وبهذا قال جمهور الفقهاء... وإذا لم يجتمعوا، فإن التابعين كانوا لا يخرجون عن أقوال الصحابة، وإن كان كل تابعي يختار رأي شيخه غالباً، أو يختار رأي غيره من الصحابة نادراً... وأن التابعين كانوا يأخذون رأي الصحابي - سواء كان مجمعاً عليه أم كان غير مجمع عليه- على أنه سنّة، لا على أنه مجرد رأي، فأقوال الصحابة سنّة عندهم يجب اتباعها ولو كان أساسها الظاهري الاستنباط المجرد، وكذلك جاء من بعدهم الفقهاء المجتهدون، فاعتبر أكثرهم رأي الصحابي حجة يجب الأخذ بها..(24)
إن الخطأ الذي وقع فيه التابعون ومن بعدهم الفقهاء المذهبيون هو اعتبار قول الصحابي حجّة أو سنّة، لأن الصحابة كانوا يتفاوتون في علومهم، و "كانوا يغيبون عن مجلس النبي (صلى الله عليه وآله)، فكانوا يجتهدون فيما لم يحضروه من الأحكام، ولعدم تساوي هؤلاء المجتهدين في العلوم والادراكات وسائر القوى والملكات، فتختلف الآراء والاجتهادات، ثم تزايدت تلك الاختلافات بعد عصر الصحابة"(25).
ولكن الجمهور وجد نفسه مضطراً إلى القول بعدالة الصحابة جميعاً، لأنهم أصبحوا المصدر الذي يستقي منه الجمهور عقيدته، فإذا وقع الشك في عدالتهم، فعند ذلك يصبح المصدر الذي يأخذ منه الجمهور عقيدته وشريعته في محل اتهام، وبذلك يمكن التشكيك في صحة اعتقادات الجمهور، وقد اعترف علماء الجمهور بذلك، فقال أبو زرعة: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنّة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة(26).
ولكن أبا زرعة قد فاته أن مصدر أخذ الكتاب والسنّة هم الثقل الثاني المتمثل بأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، كما أخبر بذلك النبي في حديث الثقلين المتواتر.
والخلاف بين الصحابة في الفتوى كثير جداً، فأبو هريرة هو أكثر الصحابة المحدّثين عن النبي (صلى الله عليه وآله)، فقد صحب رسول الله نحواً من ثلاث سنين، وأكثر الرواية عنه وعُمّر بعده نحواً من خمسين سنة، فلما أتى من الرواية عنه ما لم يأت بمثله من صحبه من جلة أصحابه السابقين الأولين، اتهموه وأنكروا عليه وقالوا: كيف سمعت هذا وحدك! ومن سمعه معك؟ وكانت عائشة أشدهم إنكاراً عليه(27).
وأفتى ابن مسعود رجلا في الكوفة بجواز أن يتزوج اُم زوجته التي طلقها قبل الدخول، ففعل ذلك، وبعد أن ولدت له اُم زوجته ثلاثة أولاد، وأتى ابن مسعود الى المدينة وسأل عن هذه المسألة، فأخبروه بعدم جواز ذلك، فعاد الى الكوفة وأمر الرجل بفراق تلك المرأة!(28).
كما أن ابن مسعود لم يكن يدري أن صرف الفضة بالفضة لا يصلح إلاّ مثلا بمثل(29).
ولم يعرف ابن عمر كيفية تطليق زوجته، إذ طلقها وهي حائض، فأتى النبي (صلى الله عليه وآله) فسأله، فأمره النبي أن يراجعها ثم يطلقها فتستقبل عدتها(30).
وأفتى ابن عمر وعبد الله بن عمرو وأبو هريرة، وتابعهم سعيد بن المسيب بأن ماء البحر لا يجزئ من وضوء ولا جنابة(31).
ولما وقع الطاعون بالشام، خطب عمرو بن العاص فقال: إن هذا الطاعون رجس فتفرّقوا عنه في هذه الشعاب وفي هذه الأودية، فبلغ ذلك شرحبيل بن حسنة، فغضب، فجاء وهو يجرّ ثوبه معلّق نعله بيده فقال: صحبت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعمرو أضل من حمار أهله...(32)
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، وبذلك يتبين أن الصحابة لم يكونوا هم المصدر الذي أراده الله ونبيه لحمل أعباء تبليغ الشريعة، بل هم أهل البيت.
المصادر :
1- سورة الفتح: 29.
2- التفسير الكبير 28: 109.
3- سورة الفتح: 10.
4- تفسير القرآن العظيم 4: 199.
5- البقرة: 47.
6- صحيح البخاري 5: 159.
7- حلية الأولياء 1: 201، تهذيب تاريخ دمشق 6: 209.
8- مجمع الزوائد 1: 113 وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.
9- مصنف عبد الرزاق 3: 541، 5: 273 باب الصلاة على الشهيد وغسله.
10- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 38.
11- مسند أحمد 4: 106، سنن الدارمي 2: 308، المعجم الكبير للطبراني 4: 22، الاستيعاب 1: 8.
12- تهذيب التهذيب 4: 207 ترجمة سمرة بن جندب، والصحابيان الآخران هما: أبو هريرة وأبو محذورة، وانظر الاصابة 2: 78، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 78، الاستيعاب 2: 213.
13- إبراهيم فوزي. تدوين السنة: 95.
14- المصدر السابق: 209، والصحيح أن الشتم استمر ستين سنة!
15- ميزان الاعتدال 1: 27.
16- سير اعلام النبلاء 15: 576
17- ميزان الاعتدال 1: 139.
18- كتاب العلل والرجال 1: 60.
19- المصدر السابق 3: 92.
20- الكامل في ضعفاء الرجال: 519.
21- المصدر السابق 6: 545.
22- تهذيب التهذيب 2: 291.
23- النحل: 44.
24- تاريخ المذاهب الإسلامية: 262.
25- تاريخ حصر الاجتهاد: 90، 92، الخطط 2: 332.
26- مقدمة كتاب الاصابة لابن حجر: 10.
27- تأويل مختلف الحديث: 41.
28- مصنف عبد الرزاق 6: 273، البيهقي 7: 159.
29- مصنف عبد الرزاق 8: 123، البيهقي 5: 282، مجمع الزوائد 4: 116.
30- صحيح البخاري كتاب العدّة: مراجعة الحائض، صحيح مسلم، مسند أحمد 2: 51، 61، 64، 74، 80، 128، 145، فتح الباري 7: 54.
31- تحفة الاحوذي 1: 231، نيل الاوطار 1: 20، المحلى لابن حزم 1: 221.
32- مسند أحمد 4: 195 - 196.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.