إنَّ كتمان السرّ من قضايا الأخلاق العمليّة، التي ينبغي أن لا يُغفل عنها وعن أهميَّتها، من قِبَلِ المؤمنين الذين يهتمُّون بتربية أنفسهم وتزكيتها على مكارم الأخلاق.
إنّ كلّ سرّ يؤدّي إفشاؤه إلى مفسدة، سواء على المستوى الفرديّ، أم الاجتماعيّ، فهذا السرّ يجب كتمانه من باب حرمة الإضرار بالنفس أو الآخرين أو إيذائهم، فلا يعطى هذا السرّ إلى من يمكن أن تترتّب على إعطائه له تلك المحاذير، ولا ريب في كون هذا الأمر سوف يؤدّي إلى المساعدة على نجاح المؤمنين في أعمالهم العامّة الاجتماعيّة والدينيّة، ممّا يؤدّي إلى توفير كثير من الأجواء والإمكانيّات والعوامل التي تساعد الكثيرين على الأخذ بسبيل التديّن، ما يعني التوجّه نحو بناء النفس وتهذيبها والسير في طريق القرب الإلهيّ.
عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "يُحشرُ العبدُ يومَ القيامةِ وما ندى دماً فيُدفعُ إليهِ شبهُ المحجمة أو فوق ذلك. فيُقالُ لهُ: هذا سهمُكَ من دمِ فلان، فيقولُ: يا رب إنك لتعلمُ أنَّك قبضّتني وما سفكتُ دماً، فيقول: بلى سمِعتَ من فلان رواية كذا وكذا، فرويتَها عليه، فَنُقِلتَ حتى صارت إلى فلان الجبَّار فقتلهُ عليها وهذا سهمك من دمه" .
أهميّة الكتمان
أعطى المعصومون عليهم السلام للكتمان اهتماماً خاصّاً، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان" ، وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "سرّك أسيرك، فإن أفشيته صرت أسيره" .وعنه عليه السلام أيضاً: "جمع خير الدنيا والآخرة في كتمان السرّ ومصادقة الأخيار، وجمع الشرّ في الإذاعة ومواخاة الأشرار" .
موارد الكتمان
توجد موارد كثيرة لكتمان السرّ، منها ما يتعلّق بالجانب الشخصيّ والعائليّ، ومنها ما يرتبط بالجانب السياسيّ والاقتصاديّ، ومنها ما يرتبط بالجانب الأمنيّ والعسكريّ، والجانب الدينيّ:أ- الجانب الشخصيّ والعائليّ: ففيما يرجع إلى حياة الإنسان اليوميّة والعائليّة، والتي تبقى على حفظ بعض الأسرار الخاصّة، والخاضعة للتبدّل والتغيّر، فمن كتم سرّه أمكنه تجنب الأخطاء. فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام قوله: "من كتم سرّه كانت الخيرة بيده" .
ب- الجانب السياسيّ والاقتصاديّ: وهو خاصّ بالعاملين في هذا المجال، وعليهم التحرّز من إفشاء أيّ معلومة يمكن لها أن تضرّ بمصالح المسلمين.
ج- الجانب الأمنيّ والعسكريّ: ولعلّه أكثر الموارد أهميّة لكتمان السرّ، لأنّ العدوّ يستفيد من المعلومات المفشاة بسرعة، ويلحق الضرر بالمسلمين.
د- الجانب الدينيّ: وهذا يرتبط بإفشاء بعض أسرار الدين، ممّا قد يستغلّه الأعداء للتشنيع على الدين والمسلمين.
عمَّن نكتمْ السرّ؟
إنَّ كتمان السرّ يجب أن يكون عن:1- الأعداء: ومنهم المنافقون، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "كن من عدوّك على أشدّ الحذر" .
وعنه عليه السلام: "لا تشاور عدوّك واستره خبرك" .
2- الأصدقاء: الذين لا مصلحة ضروريّة في معرفتهم بالسرّ.
فعن الصادق عليه السلام: "لا تطلع صديقك من سرّك إلَّا على ما لو اطَّلع عليه عدوّك لم يضرّك، فإنَّ الصديق قد يكون عدوّاً يوماً ما" .
وعن عليّ عليه السلام: "ليس كلّ مكتوم يسوغ إظهاره لك، ولا كلّ معلوم يجوز أن تعلمه غيرك" .
فوائد كتمان السرّ
لكتمان السرّ فوائد عديدة تربويّة وعملانيّة نشير إلى بعضها:أ- إنَّه عامل مهمّ في تحقيق النصر: فعن عليّ عليه السلام: "الظفر بالحزم، والحزم بإجالة الرأي، والرأي بتحصين الأسرار" . كما أنَّ انتشار السرّ فيه مخاطر عديدة، فقد جاء عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله
تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ أنَّه قال: "أما والله ما قتلوهم بأسيافهم ولكن أذاعوا عليهم وأفشوا سرّهم فقُتلوا" .
ب- الحفاظ على التوازن المعنويّ للمجتمع: لأنَّ إفشاء الأسرار قد يؤدّي إلى إيجاد حالات من البلبلة في المجتمع، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ .
دوافع إفشاء السرّ
توجد دوافع كثيرة لإفشاء السرّ منها:1- الجهل، وعدم الوعي بعواقب الأمور، والثقة العمياء بالآخرين، أو الضعف في تقوى الله عزّ وجلّ، فقد ذكرنا أنَّ إفشاء السرّ قد يترتّب عليه أمور عديدة هي في واقعها حرام كالإضرار بالآخرين، والإيذاء وهتك الحرمات. وهذه الأمور فيما لو حصلت والعياذ بالله، سيكون من نتائجها الابتعاد عن ساحة القرب الإلهيّ، وملء صحيفة الأعمال بأشدّ الذنوب التي تسوّد القلب وتسخط الربّ.
من هنا كان على الإنسان المؤمن الذي يهتمّ بتربية نفسه، وبناء شخصيّته، أن يراعي مسألة حفظ اللسان عن المحرّمات، والتي من أبوابها عدم مراعاة كتمان السرّ، وقد أشار الإمام الصادق عليه السلام إلى بعض موارده حيث قال: "لا ترموا المؤمنين ولا تتبّعوا عثراتهم، فإنَّ من يتّبع عثرة مؤمن يتّبع الله عزّ وجلّ عثرته، ومن يتّبع الله عزّ وجلّ عثرته يفضحه في بيته" .
2- زلة اللسان، وهناك سبب آخر لإفشاء الأسرار لا بد من الإشارة إليه وهو زلّة اللسان: فلا يكون المتكلّم قاصداً لأن يفضح أمراً ما، أو سرّاً من الأسرار، ولكن هذه الزلّة تكون قاتلة في كثير من الأحيان، ولذا بيّن أمير المؤمنين علي عليه السلام الخطر الكبير لزلّات اللسان بقوله: "المرءُ يعثر برجلهِ فيبرأ (يشفى)، ويعثر بلسانه فيُقطعُ رأسُهُ. احفظ لسانك فإنَّ الكلمة أسيرة في وثاق الرجل، فإن أطلقها صار أسيراً في وثاقها" .
عواقب إفشاء السرّ
يلجأ البعض منّا في كثير من الأحيلان إلى إفشاء الأسرار نتيجة عوامل نفسية وتربوية نذكر منها:1- الثرثرة: وهي كثرة الكلام بغير فائدة، وكثيراً ما تؤدّي إلى كشف الأسرار وفضح ما هو مستور، فعن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: "إياك وفضول الكلام فإنه يظهر من عيوبك ما بطن، ويحرّك عليك من أعدائك ما سكن"، وعنه: "الإكثار (إكثار الكلام) يذّل الحكيم" . 2- حب الظهور: قد يلجأ البعض ورغبة منه في إظهار نفسه إلى الكشف عن معلومات سرّية إن لم نقل خطيرة، ليقول أصدقائه عنه أنّه يعرف أسراراً لا يعرفها غيره ولكي يُشار إليه بالبنان، وبهذا يحقق رضا نفسه ويشبع غروره ويشعر بمكانته وخصوصيته بينهم.
3- التساهل والاستهتار: اللذين يؤدّيان إلى الافصاح عن معلومات نظنّ أنّها متداولة بين الناس ومعروفة للعدو، وبالتالي لا ضرر من التحدّث بها واذاعتها في أي مكان.
4- الحقد والحسد: أحياناً يلجأ شخص ما وبسبب كرهه لشخص آخر وحقده عليه إلى الكشف عن تفاصيل تتعلق بعمله وحياته طمعاً في النيل منه وإلحاق الضرر به.
5- الاستفزاز: كثير من الأشخاص وخاصّة البسطاء منهم لا يحتاجون سوى لاستفزاز بسيط حتى يسردوا الكثير من الوقائع والمعلومات لتأكيد فكرتهم وصوابهم وعلمهم بالأمور. ويكفي أن نقول لأحدهم "إنك لا تعرف شيئاً"، حتى يقول كل ما عنده من الألف إلى الياء.
كتمان الأسرار وإفشاؤها في أحاديث المعصومين عليهم السلام
لقد ركّز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام على مسألة حفظ الأسرار وعدم إفشائها، وذلك حفظاً لدماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم من جهة، ولحسن سير عملهم وتنظيم أمورهم من جهة أخرى. لذلك نرى في الأحاديث شدّة وقسوة مع من يكشف سراً لأحد من شيعة علي عليه السلام، وترغيباً بحفظ الأسرار وكتمانها لنجاح الأعمال وقضاء الحوائج.
وقد وردت عدّة عواقب لمن يفشي أسرار الشيعة، نذكر منها:
أ- الذّلة من الله: فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "أن أمرنا مستورٌ مُقنَّعٌ بالميثاق، فمن هَتَكَ علينا أذلَّهُ اللهُ" .
ب- اعتباره قاتلاً عامداً: فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "ما قتلنا من أذاع حديثنا قَتلَ خطأ، ولكن قَتَلَنا قَتلَ عَمدِ" .
ج- اعتباره خائناً: فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "افشاء سر أخيك خيانة" .
وفي مقابل هذه العواقب حثّ المعصومين عليهم السلام على كتمان الأسرار وعدم إفشائها.
فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "كتمان سرّنا جهاد في سبيل الله" .
وعن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "واللهِ، إنّ أحبَّ أصحابي إليّ أورعُهُم وأفقَهُهُم وأكتمُهُم لحديثِنا" .
وورد عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: "طوبى لكُلِّ عبدِ نُومَةِ (الذي لا يدري الناس ما في قلبه) لا يُؤبَهُ لَهُ، يعرِفُ الناس ولا يعرِفُهُ الناسُ، يعرفُه اللهُ منه برضوانِ، أولئك مصابيح الهُدى" .
الخلاصة
- يجب كتمان السرّ عن كلّ من يؤدّي إفشاؤه أمامه إلى مفسدة.- كتمان السرّ من أهمّ مواصفات الإنسان المتّقي.
- أكّدت الآيات والروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام كثيراً على ضرورة كتمان الأسرار العسكريّة والأمنيّة وغيرها.
- لكتمان السرّّ فوائد كثيرة, منها أنَّه يساعد على تحقيق النصر وعلى حفظ التوازن المعنويّ في المجتمع.
- توجد دوافع عديدة لعدم مراعاة كتمان السرّ أهمّها ضعف الجانب التقوائيّ في الشخصيّة.
فتح مكّة
عن محمّد بن جبير بن مطعم في قصّة فتح مكّة قال: لمَّا ولَّى أبو سفيان راجعاً، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة: جهّزينا وأخفي أمرك! وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اللّهم خذ على قريش الأخبار والعيون حتّى نأتيهم بغتة".ويقال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: "اللّهم خذ على قريش أبصارهم فلا يروني إلَّا بغتة، ولا يسمعون بي إلَّا فجأة".
قالوا: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأنقاب، فكان عمر بن الخطاب يطوف على الأنقاب قيّماً بهم فيقول: لا تدعوا أحداً يمرّ بكم تنكرونه إلَّا رددتّموه، وكانت الأنقاب مسلمة، إلَّا من سلك إلى مكّة فإنَّه يتحفّظ به ويسأل عنه أو ناحية مكّة.
قالوا: فدخل أبو بكر على عائشة وهي تجهّز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تعمل قمحاً سويقاً ودقيقاً وتمراً، فقال: يا عائشة، أهمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغزو؟ قالت: ما أدري.
قال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم همَّ بسفر فأذنينا نتهيّأ له.
قالت: ما أدري. لعلَّه يريد بني سليم، لعلّه يريد ثقيفاً. لعلّه يريد هوازن! فاستعجمت عليه حتّى دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له أبو بكر: يا رسول الله، أردتَ سفراً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم. قال: أفأتجهز؟ قال: نعم. قال أبو بكر: وأين تريد يا رسول الله؟ قال: قريشاً، وأخفِ ذلك يا أبا بكر! وأمر رسول الله بالجهاز، قال: أوليس بيننا وبينهم مدَّة؟ قال: إنّهم غدروا ونقضوا العهد، فأنا غازيهم. وقال لأبي بكر: أطوِ ما ذكرتُ لك! فظانٌّ يظنّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد الشام. وظانٌّ يظنّ ثقيفاً، وظانٌّ يظنُّ هوازن.
المصادر :
ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج17، ص265.