إنّ للنفس الإنسانيّة في جهاد النفس مقامين، مقام الظاهر ومقام الباطن، والجهاد في كلا المقامين مختلف عن الآخر، ولتوضيح ذلك لا بدّ من أن نتعرّف - ولو إجمالاً - على معنى هذين المقامين وما يتميّزان به من بعضهما البعض.
المقام الأوّل "الباطن"
وهو المقام الّذي ينبغي التنبّه له جيّداً، وهو الّذي أشار إليه الإمام الخمينيّ قدس سره في "الأربعون حديثاً" بقوله: "اعلم أنّ للنفس الإنسانيّة مملكة ومقاماً آخر، وهي مملكتها الباطنيّة ونشأتها الملكوتيّة، وفيها تكون جنود النفس أكثر وأهمّ ممّا في مملكة الظاهر، والصراع والنزاع فيها بين الجنود الرحمانية والشيطانية أعظم والغلبة والانتصار فيها أشدّ وأهمّ، بل وإنّ كلّ ما في مملكة الظاهر قد تنزَّل من هناك وتظهّر في عالم المُلك، وإذا تغلّب أيّ من الجند الرحمانيّ أو الشيطانيّ في تلك المملكة، يتغلّب أيضاً في هذه المملكة. وجهاد النفس في هذا المقام مهمّ للغاية عند المشايخ العظام من أهل السلوك والأخلاق، بل ويمكن اعتبار هذا المقام منبع جميع السعادات والتعاسات، والدرجات والدركات"1.
إنّ ظاهر الإنسان يمكن إصلاحه بالتوبة والندم عن سوء العمل، إلا أنّ الباطن وسوء السريرة قد يصلانِ بالإنسان إلى مرحلة تجعله غير قابل لنزول الرحمة الإلهيّة عليه من قبيل الشفاعة أو الصفح الإلهيّ، فيصبح مصداق الآية الشريفة: ﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾2.
فرحمة الله تعالى كالشمس المشرقة على العالم، فبإمكان كلّ من أراد أن يستقبل نورها بقدر ما يزيل من المعوّقات من أمامها، ورحمة الله تعالى كذلك مشرقة على كلّ المخلوقات إلا أنّ كلّ فرد بإمكانه الاستفادة منها بحسبه وبقدر ما يرفع من الموانع، أي الحجب النفسيّة الّتي تخلّفها المعاصي وحبُّ الدنيا وحبُّ الأنا.
وقد تقدّم معنا الحديث في درس سابق عن المعركة الكبرى فإنّ ما أردناه منها هو المعركة الّتي تحصل في مقام الباطن.
المقام الثاني "الظاهر"
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره عن هذا المقام في كتابه الأربعون حديثاً ما ملخّصه:اعلم أنّ مقام النفس الأوّل ومنزلها الأدنى والأسفل، هو منزل الملك والظاهر وعالمهما، فتكون ساحة معركة النفس وجهادها نفس هذا الجسد، وجنودها هي قواه الظاهريّة السبع وهي: "الأذن والعين واللسان والبطن والفرج واليد والرجل". وتكون جميع هذه القوى تحت تصرّف النفس في مقام الوهم، فإذا تحكَّم الوهم بتلك القوى، سواء بذاته مستقلّاً أو بتدخّل الشيطان، جعلها -أي تلك القوى -جنوداً للشيطان، وبذلك يجعل هذه المملكة تحت سلطان الشيطان، وتنهزم عندها جنود الرحمن والعقل، وتتوارى وتخرج من نشأة الملك أي المادّة وعالم الإنسان وتهاجر عنه، وتصبح هذه المملكة خاصّة بالشيطان.
وأمّا إذا خضع الوهم لحكم العقل والشرع، وكانت حركاته وسكناته مقيّدة بنظام العقل والشرع، فقد أصبحت هذه المملكة مملكة روحانيّة وعقلانيّة، ولم يجد الشيطان وجنوده محطّ قدمٍ لهم فيها.
إذاً، يكون جهاد النفس في هذا المقام عبارة عن انتصار الإنسان على قواه الظاهريّة، وجعلها مؤتمرة بأمر الخالق، وعن تطهير المملكة من دنس وجود قوى الشيطان وجنوده.
وبناء على هذا، فعلى المؤمن السالك إلى الله تعالى، في هذا المقام أي مقام الظاهر، أن يلتفت بكلّ ما أوتي من حكمة ودراية للأحكام الإلهيّة الّتي تتعلّق بقواه الّتي أودعها الله تعالى فيه، وهذا ما يسمّى بأدب الجوارح وسيأتي الحديث عنه.
أدب الجوارح
إنّ وظيفة المرء في هذا المقام تكون بحمل الظاهر على التأدّب بأدب الشريعة من التنزيه لهذه الجوارح عمّا يخالف الأوامر الإلهيّة، وتحليتها بالخصال الحسنة والمحمودة وسنتطرّق في هذا الدرس إلى الجارحة الأولى وما ينبغي أن تنزّه عنه وتحلّى به، وهو اللسان.
اللسان طريقٌ إلى الله
إنّ اللسان، وهو القطعة اللحميّة الصغيرة الحجم، سبب رئيس في دخول جلّ أهل النار إليها وكذا جلّ أهل الجنّة إليها, لأنّ اللسان وإن كان صغير الحجم إلّا أنّه كما قال بعض الحكماء "صغير الحجم كبير الجرم"، وعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ هذا اللسان مفتاح كلّ خير وشرّ، فينبغي للمؤمن أن يختم على لسانه كما يختم على ذهبه وفضّته"3.إنّ اللِّسان من النعم العظيمة الّتي منَّ الله تعالى بها على الإنسان، قال عزَّ وجلَّ: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ﴾4، وفي الحديث عن الإمام عليّ ابن الحسين زين العابدين أنّه سئل عن الكلام والسكوت أيّهما أفضل؟ فقال: "لكلّ واحد منهما آفّات فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت، قيل: وكيف ذاك يا بن رسول الله؟
فقال: لأنّ الله عزَّ وجلَّ ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنّما بعثهم بالكلام، ولا استُحقّت الجنّة بالسكوت، ولا استُوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا وُقيت النار بالسكوت، ولا تُجُنّب سخطُ الله بالسكوت، إنّما ذلك كلّه بالكلام، ما كنت لأعدل القمر بالشمس، إنّك لتصف فضل السكوت بالكلام، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت"5.
ومن وصيّة الإمام عليّ عليه السلام لابنه محمّد بن الحنفيّة:"وما خلق الله عزَّ وجلَّ شيئاً أحسن من الكلام ولا أقبح منه، بالكلام ابيضّت الوجوه، وبالكلام اسودّت الوجوه، واعلم أنّ الكلام في وثاقك ما لم تتكلّم به فإذا تكلّمت به صرت في وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك، فإنّ اللسان كلب عقور فإن أنت خلّيته عقر، وربّ كلمة سلبت نعمة..."6.
خطر اللسان في الروايات
وفي المقابل حذّرت الكثير من الروايات من الخطر الكبير الّذي يسبّبه اللسان لصاحبه إذا لم يجعله مطواعاً لعقله، ففي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "زلّة اللسان أشدّ هلاك"7وفي رواية أخرى عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "إنّ أكثر خطايا ابن آدم في لسانه8"، ولذا نرى الكثير من الروايات الّتي تحبّذ الصمت حين لا يكون هناك أيّ داع للكلام، فكما أنّ الكلام في مورده جميل ومطلوب فإنّ الصمت في مورده جميل ومطلوب أيضاً، بل دعت إليه الروايات الكثيرة منها:ما ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "أمسك لسانك، فإنّها صدقة تصدّق بها على نفسك"9.
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "احبس لسانك قبل أن يُطيلَ حبسك ويردي نفسك، فلا شيء أولى بطول سجن من لسان يعدل عن الصواب ويتسرّع إلى الجواب"10.
وفي رواية أخرى عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله: "لا يعرف عبد حقيقة الإيمان حتّى يخزن من لسانه"11.
الميزان في التحكّم باللسان
بعد أن عرفنا مخاطر اللسان ومنافعه، لا بدّ من أن نبحث عن الضابطة الّتي تحدّد لنا كيفيّة التحكّم بهذا اللسان، وليس لنا في ذلك إلّا أن نرجع إلى أئمَّة الهدى ومصابيح الدجى الّذين أناروا لنا الدروب المظلمة، ودلّونا على الحيل الّتي ينتهجها الشيطان بغية إزالتنا عن الصراط المستقيم، وقد أشار أهل البيت عليهم السلام في هذا المضمار إلى أمرين أساسين:
1- أن يأتمر اللسان بأوامر العقل الّذي جعله الله تعالى نبيّاً باطنيّاً في الإنسان، فحينما يحكّم الإنسان العقل في هذه الجارحة يكفّ بذاك أذاها ويمنعها من رداها، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "اللسان معيار أرجحه العقل وأطاشه الجهل"12.
2- أن يتأدّب اللسان بما أمر الله تعالى به الإنسان من الأوامر، وينتهي عمّا نهاه الله تعالى من المحرّمات، ولا أفضل من قول الإمام السجاد عليه السلام في رسالة الحقوق: "حقُّ اللسان إكرامه عن الخنا، وتعويده الخير، وترك الفضول الّتي لا فائدة لها، والبِرّ بالناس، وحسن القول فيهم"13. فهذه مفاهيمُ أساس سلَّط الإمام السجّاد عليه السلام عليها الضوء مريداً منها أن يرشدنا إلى حقّ اللسان بأن نؤدّبه بما أمرنا به الله تعالى، وأمّا تفصيل هذه المفاهيم فيأتي في الدرس اللاحق إن شاء الله تعالى، والحمد لله ربّ العالمين.
الغِيبة
الغِيبة هي ذكر عيوب الإنسان في غَيبته للانتقاص منه. وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه واله في خطبة حجّة الوداع: "أيّها الناس إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، إنّ الله حرّم الغِيبة كما حرّم المال والدم"14.
إنّ تأكيد الرسول الأكرم صلى الله عليه واله على حرمة الغِيبة في حجّة الوداع الّتي تضمّنت أهمّ التعاليم الأخلاقيّة، يدلّل بشكل كبير على مدى خطورتها على الأخلاق الإنسانيّة، ولو تأمّلنا ما جاء من الأحاديث الشريفة الّتي تتحدّث عنها لعلمنا مدى خطر هذه السيّئة الكبيرة، ومن هذه الروايات ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الغِيبة آية المنافق"15، وعنه عليه السلام أيضاً: "الغِيبة شرّ الإفك"16، وعنه عليه السلام أيضاً: "من أقبح اللؤم غِيبة الأخيار"17.
وتكون الغِيبة أخطر حينما تحمل فتنة بين المؤمنين، وكما في الرواية الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام: قال رجل لعليّ بن الحسين: إنّ فلانا ينسبك إلى أنّك ضالّ مبتدع، فقال له عليه السلام: "ما رعيت حقّ مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أدّيت حقّي حيث أبلغتني عن أخي ما لست أعلمه!... إيّاك والغيبة فإنّها إدام كلاب النار، واعلم أنّ من أكثر من ذكر عيوب الناس شهد عليه الإكثار أنّه إنّما يطلبها بقدر ما فيه"18.
إنّ وظيفة المرء في هذا المقام تكون بحمل الظاهر على التأدّب بأدب الشريعة من التنزيه لهذه الجوارح عمّا يخالف الأوامر الإلهيّة، وتحليتها بالخصال الحسنة والمحمودة.
- حذّرت الكثير من الروايات من الخطر الكبير الّذي يسبّبه اللسان لصاحبه إذا لم يجعله مطواعاً لعقله.
- لقد أشار أهل البيت عليهم السلام إلى كيفيّة التحكّم باللسان من خلال أمرين أساسين:
1- أن يأتمر اللسان بأوامر العقل الّذي جعله الله تعالى نبيّاً باطنيّاً في الإنسان.
2- أن يتأدّب اللسان بما أمر الله تعالى به الإنسان من الأوامر وينتهي عمّا نهاه الله تعالى من المحرّمات.
- لا بدّ للمؤمن من أن ينزّه لسانه عن الغيبة لحرمتها ولما تشكّله من خطر على الحياة الإنسانيّة.
مكر الشيطان في الغِيبة
من كلام الشهيد الثاني رضوان الله عليه:"ومن أضرّ أنواع الغِيبة، غِيبة المتّسمين بالفهم والعلم المرائين فإنّهم يفهمون المقصود إلى صفة أهل الصلاح والتقوى ليظهروا من أنفسهم التعفّف عن الغِيبة، ويفهمون المقصود ولا يدرون بجهلهم أنّهم جمعوا بين فاحشتين الرياء والغِيبة، وذلك مثل أن يذكر عنده إنسان فيقول الحمد لله الّذي لم يَبْتَلِنَا بحبّ الريّاسة أو حبّ الدنيا أو بالتكيف بالكيفيّة الفلانيّة، أو يقول نعوذ بالله من قلّة الحياء أو من سوء التوفيق، أو نسأل الله أن يعصمنا من كذا، بل مجرّد الحمد على شيء إذا علم منه اتصاف المحدّث عنه بما ينافيه ونحو ذلك فإنّه يغتابه بلفظ الدعاء وسَمْتِ أهل الصلاح، وإنّما قصده أن يذكر عيبه بضرب من الكلام المشتمل على الغِيبة والرياء، ودعوى الخلاص من الرذائل، وهو عنوان الوقوع فيها، بل في أفحشها، ومن ذلك أنّه قد يُقدّم مدح من يريد غِيبته فيقول ما أحسن أحوال فلان ما كان يقصّر في العبادات، ولكن قد اعتراه فتور وابتُلي بما يُبتلى به كلّنا وهو قلّة الصبر فيذكر نفسه بالذمّ، ومقصوده أن يذمّ غيره، وأن يمدح نفسه بالتشبّه بالصالحين في ذمّ أنفسهم فيكون مغتاباً مرائياً، مزكّياً نفسه، فيجمع بين ثلاث فواحش، وهو يظنّ بجهله أنّه من الصالحين المتعفّفين عن الغِيبة، هكذا يلعب الشيطان بأهل الجهل إذا اشتغلوا بالعلم والعمل من غير أن يتقنوا الطريق فيتبعهم ويحبط بمكائده عملهم ويضحك عليهم ويسخر منهم.ومن ذلك أن يذكر ذاكر عيب إنسان فلا ينتبه له بعض الحاضرين فيقول سبحان الله ما أعجب هذا! حتّى يُصغي الغافل إلى المغتاب ويعلم ما يقوله، فيذكر الله سبحانه، ويستعمل اسمه آلة في تحقيق خبثه وباطله وهو يمنّ على الله بذكره جهلاً وغروراً، ومن ذلك أن يقول جرى من فلان كذا وابتلي بكذا، بل يقول جرى لصاحبنا أو صديقنا كذا، تاب الله عليه وعلينا، يظهر الدعاء له والتألّم والصداقة والصحبة والله مطّلع على خبث سريرته وفساد ضميره، وهو بجهله لا يدري أنّه قد تعرّض لمقت أعظم ممّا يتعرّض له الجهّال إذا جاهروا بالغِيبة.
ومن أقسامها الخفيّة الإصغاء إلى الغِيبة على سبيل التعجّب فإنّه إنّما يُظهر التعجّب ليزيد نشاط المغتاب في الغِيبة، فيزيد فيها، فكأنّه يستخرج منه الغِيبة بهذا الطريق، فيقول عجبت ممّا ذكرته، ما كنت أعلم بذلك، إلى الآن ما كنت أعرف من فلان ذلك، يريد بذلك تصديق المغتاب، واستدعاء الزيادة منه باللطف، والتصديق لها غِيبة، بل الإصغاء إليها، بل السكوت عند سماعها". انتهى كلامه رفع مقامه. المصادر :
1- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني ، جهاد النفس، المقام الثاني.
2- البقرة:81.
3- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج4، ص2777.
4- البلد:8-9.
5- وسائل الشيعة آل البيت ، الحر العاملي، ج12، ص188.
6- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج4، ص387.
7- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج4، ص2779.
8- م.ن، ج4، ص2781.
9- م.ن، ج4، ص2780.
10- م.ن، ج4، ص2780.
11- م.ن، ج4، ص2781.
12- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج4، ص2776.
13- م. ن، ج4، ص2778.
14- م. ن، ج3، ص2328.
15- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج3، ص2328.
16- م. ن.
17- م. ن.
18- م.ن، ص2329.