التوحيد في الربوبيّة هو الاعتقاد بأنّ تدبير الحياة والكون ومنه الإنسان كلّه بيد الله سبحانه وأنّ مصير الإنسان في حياته كلّه إليه سبحانه، ولو كان في عالم الكون أسباب ومدبّرات له، فكلّها جنود له سبحانه يعملون بأمره ويفعلون بمشيئته.
ويقابله الشرك في الربوبية وهو تصوّر أنّ هناك مخلوقات لله سبحانه لكن فوّض إليها أمر تدبير الكون ومصير الإنسان في حياته تكويناً وتشريعاً.
دلائل التوحيد في الربوبيّة
1- التدبير لا ينفكّ عن الخلق:
إنّ النكتة الأساسية في خطأ المشركين تتمثّل في أنّهم قاسوا تدبير عالم الكون بتدبير أُمور عائلة أو مؤسَّسة وتصوّروا أنّهما من نوع واحد، مع أنّهما مختلفان في الغاية، فإنّ تدبير الكون في الحقيقة إدامة الخلق والإيجاد.
توضيح ذلك: أنّ كلّ فرد من النظام الكوني بحكم كونه فقيراً ممكناً فاقد للوجود الذاتي، لكن فقره ليس منحصراً في بدء خلقته وإنّما يستمرّ هذا الفقر معه في جميع الأزمنة والأمكنة وعلى هذا، فتدبير الكون لا ينفكّ عن خلقته وإيجاده بل الخلق تدبير باعتبار، والتدبير خلق باعتبار آخر.
فتدبير الوردة مثلاً ليس إلّا تكوّنها من المواد السُّكرية في الأرض ثمّ توليدها الأوكسجين في الهواء إلى غير ذلك من عشرات الأعمال الفيزيائية والكيميائية في ذاتها وليست كلّ منها إلّا شعبة من الخلق، ومثلها الجنين مذ تكوّنه في رحم الأمّ، فلا يزال يخضع لعمليّات التفاعل والنمو حتى يخرج من بطنها، وليست هذه التفاعلات إلّا شعبة من عمليّة الخلق وفرع منه.
ولأجل وجود الصلة الشديدة بين التدبير والخلق نرى أنّه سبحانه بعدما يذكر مسألة خلق السماوات والأرض يطرح مسألة تسخير الشمس والقمر الذي هو نوع من التدبير، قال تعالى:﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ .
ومن هذا الطريق يوقفنا القرآن الكريم على حقيقة التدبير الذي هو نوع من الخلق وقد عرفت أن لا خالق إلّا الله تعالى.
2- انسجام النظام واتصال التدبير:
إنّ مطالعة كلّ صفحة من الكتاب التكويني العظيم يقودنا إلى وجود نظام موحَّد وارتباط وثيق بين أجزائه، ومن المعلوم أنّ وحدة النظام وانسجامه وتلائمه لا تتحقّق إلّا إذا كان الكون بأجمعه تحت نظر حاكم ومدبِّر واحد، ولو خضع الكون لإرادة مدبِّرين لما كان لاتصال التدبير وانسجام أجزاء الكون أيّ أثر، لأنّ تعدّد المدبّر والمنظِّم ـ بحكم اختلافهما في الذات أو في الصفات والمشخِّصات ـ يستلزم بالضرورة الاختلاف في التدبير والإرادة، وذلك ينافي الانسجام والتلاؤم في أجزاء الكون.
فوحدة النظام وانسجامه وتلاصقه وتلائمه كاشف عن وحدة التدبير والمدبّر وإلى هذا يشير قوله سبحانه:
﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ .
وهذا الاستدلال بعينه موجود في الأحاديث المروية عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام يقول الإمام الصادق عليه السلام: "دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد" .
ثمّ إنّ المراد من حصر الربوبيّة والتدبير بالله سبحانه، هي الربوبيّة على وجه الاستقلال وبالذّات، وذلك لا ينافي وجود مدبِّرات في الكون مسخَّرات لله تعالى، قال سبحانه: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ .
وقال سبحانه: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً﴾ .
فالاعتراف بمثل هذه المدبِّرات لا يمنع من انحصار التدبير الاستقلالي في الله سبحانه.
من شؤون التوحيد في الربوبية
إنّ للتوحيد في الربوبية نطاقاً واسعاً شاملاً لجميع المظاهر الكونية والحقائق الوجودية فلا مدبِّر في صفحة الوجود، بالذّات وعلى وجه الاستقلال، سوى الله تعالى فهو ربُّ العالمين لا ربّ سواه. فهذا إبراهيم الخليل عليه السلام بطل التوحيد يصف التوحيد في الربوبية بقوله: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ .
وينبغي في ختام هذا البحث أن نشير إلى قسمين لهما أهميتهما الخاصة في حياة الإنسان الاجتماعية وهما مما يتفرّع على التوحيد في الخالقية والربوبية وهما:
1- التوحيد في الحاكمية:
الحاكم هو الذي له تسلّط على النفوس والأموال، والتصرف في شؤون المجتمع بالأمر والنهي، والعزل والنصب، والتحديد والتوسيع ونحو ذلك، ومن المعلوم أن هذا يحتاج إلى ولاية له بالنسبة إلى المسلَّط عليه، ولولا ذلك لعدَّ التصرّف عدوانياً، هذا من جانب. ومن جانب آخر الولاية على الغير متفرع على كون الوالي مالكاً للمولّى عليه أو مدبّر أموره في الحياة، وبما أن لا مالكية لأحد على غيره إلا لله تعالى ولا مدبر سواه، فإنه الخالق الموجد للجميع والمدبر للكون بأجمعه، فلا ولاية لأحد على أحد بالذات سوى الله تعالى، فحق الولاية منحصر لله تعالى.
قال سبحانه: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ﴾ .
وقال سبحانه: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ .
ومن جانب ثالث: إنّ وجود الحكومة والحاكم البشري في المجتمع أمر ضروري كما أشار إليه الإمام علي عليه السلام بقوله: "لا بد للناس من أمير برٍّ أو فاجر" . ومن المعلوم أن ممارسة الإمرة وتجسيد الحكومة في الخارج ليس من شأنه سبحانه، بل هو شأن من يماثل المحكوم عليه في النوع ويشافهه ويقابله مقابلة الإنسان للإنسان، وعلى ذلك، فوجه الجمع بين حصر الحاكمية في الله سبحانه ولزوم كون الحاكم والأمير بشراً كالمحكوم عليه، هو لزوم كون من يُمثّل مقام الإمرة مأذوناً من جانبه سبحانه لإدارة الأمور والتصرّف في النفوس والأموال، وأن تكون ولايته مستمدّة من ولايته سبحانه ومنبعثة منها. وعلى هذا فالحكومات القائمة في المجتمعات يجب أن تكون مشروعيتها مستمدّة من ولايته سبحانه وحكمه بوجه من الوجوه، وإذا كانت علاقتها منقطعة غير موصولة به سبحانه فهي حكومات طاغوتية لا مشروعية لها.
2- التوحيد في التشريع:
إنَّ الربوبية على قسمين: تكوينية وتشريعية ودلائل التوحيد في الربوبية التكوينية يثبت التوحيد في الربوبية التشريعية أيضاً، فإن التقنين والتشريع نوع من التدبير، يدبَّر به أمر الإنسان والمجتمع البشري، كما أنّه نوع من الحكومة والولاية على الأموال والنفوس، فبما أنّ التدبير والحكومة منحصرتان في الله تعالى، فكذلك ليس لأحد حقّ التقنين والتشريع إلا له تعالى.
وأمّا الفقهاء والمجتهدون فليسوا بمشّرعين، بل هم متخصّصون في معرفة تشريعه سبحانه، ووظيفتهم الكشف عن الأحكام بعد الرجوع إلى مصادرها وجعلها في متناول الناس.
وأمّا ما تعورف في القرون الأخيرة من إقامة مجالس النواب أو الشورى في البلاد الإسلامية، فليست لها وظيفة سوى التخطيط لإعطاء البرنامج للمسؤولين في الحكومات في ضوء القوانين الإلهية لتنفيذها، والتخطيط غير التشريع كما هو واضح. وهناك آيات من الذكر الحكيم تدل بوضوح على اختصاص التشريع بالله سبحانه نشير إلى بعضها:
قال سبحانه:
1- ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ .
2- ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ .
3- ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ .
التوحيد في العبادة
التوحيد في العبادة ممّا اتّفق على اختصاصه بالله سبحانه جميع المسلمين بل الإلهيين، وهو الهدف والغاية الأسنى من بعث الأنبياء والمرسلين، قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ .
وناهيك في أهميّة ذلك أنّ الإسلام قرّره شعاراً للمسلمين يؤكِّدون عليه في صلواتهم الواجبة والمندوبة بقولهم: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ .
كما أنّ مكافحة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بل وسائر الأنبياء للوثنيين تتركّز على هذه النقطة غالباً كما هو ظاهر لمن راجع القرآن الكريم.
وبالجملة لا تجد مسلماً ينكر هذا الأصل أو يشكّ فيه وإنّما الكلام في تشخيص مصاديق العبادة وجزئياتها عن غيرها، فترى أنّ أتباع الوهّابيّة يرمون غيرهم بالشرك في العبادة بالتبرّك بآثار الأنبياء والتوسّل بهم إلى الله سبحانه ونحو ذلك، فتمييز العبادة عن غيرها هي المشكلة الوحيدة في هذا المجال، فيجب قبل كلّ شيء دراسة واقعية عن حقيقة العبادة على ضوء العقل والكتاب والسنّة فنقول:
حقيقة العبادة؟
قد تُعرّف العبادة بـ "الخضوع والتذلّل" أو "نهاية الخضوع" ولكنّهما تعريفان ناقصان لا يساعدهما القرآن الكريم.
توضيح ذلك: أنّ القرآن الكريم أمر الإنسان بالتذلّل لوالديه فيقول: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ .
فلو كان الخضوع والتذلّل عبادة لمن يتذلّل له لكان أمره تعالى بذلك أمراً باتّخاذ الشريك له تعالى في العبادة ! كما أنّه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم فيقول: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ .
مع أنّ السجود نهاية التذلّل والخضوع للمسجود له، فهل ترى أنّ الله سبحانه يأمر الملائكة بالشّرك في العبادة؟!
إنّ إخوة يوسف ووالديه سجدوا جميعاً ليوسف بعد استوائه على عرش الملك والسلطنة، كما يقول سبحانه: ﴿وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا﴾ .
إذاً ليس معنى العبادة التي تختصّ بالله سبحانه ولا تجوز لغيره تعالى هو الخضوع والتذلّل، أو نهاية الخضوع، فما هي حقيقة العبادة؟
حقيقة العبادة على ما يستفاد من القرآن الكريم هي "الخضوع والتذلّل، لفظاً أو عملاً مع الاعتقاد بأُلوهية المخضوع له" فما لم ينشأ الخضوع من هذا الاعتقاد، لا يكون عبادة، ويدلّ على ذلك الآيات الّتي تأمر بعبادة الله وتنهى عن عبادة غيره، معلّلة ذلك بأنّه لا إله إلّا الله، كقوله سبحانه: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ .
وقد ورد هذا المضمون في عشر موارد أو أكثر في القرآن الكريم .
ومعنى هذا التعليل أنّ الذي يستحقّ العبادة هو من كان إلهاً، وليس هو إلّا الله، فإذا تحقّق وصف الألوهية في شيء جازت بل وجبت عبادته واتّخاذه معبوداً، وحيث إنّ الوصف لا يوجد إلّا في الله سبحانه وجب عبادته دون سواه.
والمراد من الألوهيّة هو ما يعدّ من شؤون الإله، أعني: الاستقلال في الذّات والصفات والأفعال، فمن اعتقد لشيء نحواً من الاستقلال إمّا في وجوده، أو في صفاته، أو في أفعاله وآثاره فقد اتّخذه إلهاً، والأبحاث المتقدّمة حول التوحيد الذاتي والصفاتي والأفعالي كانت هادفة لحصر الألوهية المطلقة لله سبحانه وإبطال أُلوهيّة غيره تعالى.
ثم إنّ المستفاد من مطالعة عقائد الوثنيّة في كتب الملل والنحل، ويؤيّده القرآن الكريم أيضاً، أنّ معظم الإنحرافات في مسألة التوحيد كان في مجال الربوبية والتدبير. فالمشركون مع اعترافهم بحصر الخالقية بالله تعالى وأنّ جميع من سواه مخلوق لله سبحانه، إلا أنهم كانوا معتقدين بوجود أرباب من دون الله وأنّ لهم الألوهيّة في مجال الربوبيّة والتدبير، وكان الغرض من عبادتهم الاستنصار على الأعداء والعزّة والغلبة، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ﴾ .
ويقول سبحانه: ﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا﴾ .
ومن هنا نرى أنّ قسماً من الآيات تعلّل الأمر بحصر العبادة في الله وحده، بأنّه الربّ فمن ذلك قوله سبحانه: ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ .
وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ .
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ .
وغير ذلك من الآيات التي تجعل العبادة دائرة مدار الربوبية .
زبدة الكلام
خلاصة القول في المقام إنّ أيّ خضوع ينبع من الاعتقاد بأن المخضوع له إله العالم أو ربّه أو فوّض إليه تدبير العالم كلّه أو بعضه، يكون الخضوع بأدنى مراتبه عبادة ويكون صاحبه مشركاً في العبادة إذا أتى به لغير الله.
ويقابل ذلك الخضوع غير النابع من هذا الاعتقاد، فخضوع أحد أمام موجود تكريمه - مبالغاً في ذلك - من دون أن ينبع من الاعتقاد بألوهيّته، لا يكون شركاً ولا عبادة لهذا الموجود، إن كان من الممكن أن يكون حراماً، مثل سجود العاشق للمعشوقة، أو المرأة لزوجها، فإنه وإن كان حراماً في الشريعة الإسلامية لكنّه ليس عبادة بل حراماً لوجه آخر، ولعلّ الوجه في حرمته هو أن السجود حيث إنه وسيلة عامة للعبادة عند جميع الأقوام والملل، صار بحيث لا يراد منه إلا العبادة، لذلك لم يسمح الإسلام بأن يستفاد منها حتى في الموارد التي لا تكون عبادة، والتحريم إنّما هو من خصائص الشريعة الإسلامية.
المفاهيم الرئيسة
- من مراتب التوحيد: التوحيد في الربوبية، والدليل عليه أمّا أوّلاً، فلأنّ التدبير شعبةٌ من شعب الخلق، وما دام الخالق واحداً فالمدبّر واحد كذلك.
- وثانياً: إنّ اتّصال التدبير وانسجام النظام آية المدبّر الواحد.
- من شؤون التوحيد في الربوبيّة التوحيد في الحاكميّة والتوحيد في التشريع.
- من مراتب التوحيد أيضاً: التوحيد في العبادة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾.
- إنّ حقيقة العبادة على ما يستفاد من القرآن الكريم هي "الخضوع والتذلّل، لفظاً أو عملاً مع الاعتقاد بأُلوهية المخضوع له".
- الدليل على التوحيد في العبادة أنّ الذي يستحقّها هو من كان إلهاً، وليس هو إلّا الله تعالى، وحيث إنّ الوصف لا يوجد إلّا في الله سبحانه وجب عبادته دون سواه.
المصادر :
راسخون 2018
ويقابله الشرك في الربوبية وهو تصوّر أنّ هناك مخلوقات لله سبحانه لكن فوّض إليها أمر تدبير الكون ومصير الإنسان في حياته تكويناً وتشريعاً.
دلائل التوحيد في الربوبيّة
1- التدبير لا ينفكّ عن الخلق:
إنّ النكتة الأساسية في خطأ المشركين تتمثّل في أنّهم قاسوا تدبير عالم الكون بتدبير أُمور عائلة أو مؤسَّسة وتصوّروا أنّهما من نوع واحد، مع أنّهما مختلفان في الغاية، فإنّ تدبير الكون في الحقيقة إدامة الخلق والإيجاد.
توضيح ذلك: أنّ كلّ فرد من النظام الكوني بحكم كونه فقيراً ممكناً فاقد للوجود الذاتي، لكن فقره ليس منحصراً في بدء خلقته وإنّما يستمرّ هذا الفقر معه في جميع الأزمنة والأمكنة وعلى هذا، فتدبير الكون لا ينفكّ عن خلقته وإيجاده بل الخلق تدبير باعتبار، والتدبير خلق باعتبار آخر.
فتدبير الوردة مثلاً ليس إلّا تكوّنها من المواد السُّكرية في الأرض ثمّ توليدها الأوكسجين في الهواء إلى غير ذلك من عشرات الأعمال الفيزيائية والكيميائية في ذاتها وليست كلّ منها إلّا شعبة من الخلق، ومثلها الجنين مذ تكوّنه في رحم الأمّ، فلا يزال يخضع لعمليّات التفاعل والنمو حتى يخرج من بطنها، وليست هذه التفاعلات إلّا شعبة من عمليّة الخلق وفرع منه.
ولأجل وجود الصلة الشديدة بين التدبير والخلق نرى أنّه سبحانه بعدما يذكر مسألة خلق السماوات والأرض يطرح مسألة تسخير الشمس والقمر الذي هو نوع من التدبير، قال تعالى:﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ .
ومن هذا الطريق يوقفنا القرآن الكريم على حقيقة التدبير الذي هو نوع من الخلق وقد عرفت أن لا خالق إلّا الله تعالى.
2- انسجام النظام واتصال التدبير:
إنّ مطالعة كلّ صفحة من الكتاب التكويني العظيم يقودنا إلى وجود نظام موحَّد وارتباط وثيق بين أجزائه، ومن المعلوم أنّ وحدة النظام وانسجامه وتلائمه لا تتحقّق إلّا إذا كان الكون بأجمعه تحت نظر حاكم ومدبِّر واحد، ولو خضع الكون لإرادة مدبِّرين لما كان لاتصال التدبير وانسجام أجزاء الكون أيّ أثر، لأنّ تعدّد المدبّر والمنظِّم ـ بحكم اختلافهما في الذات أو في الصفات والمشخِّصات ـ يستلزم بالضرورة الاختلاف في التدبير والإرادة، وذلك ينافي الانسجام والتلاؤم في أجزاء الكون.
فوحدة النظام وانسجامه وتلاصقه وتلائمه كاشف عن وحدة التدبير والمدبّر وإلى هذا يشير قوله سبحانه:
﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ .
وهذا الاستدلال بعينه موجود في الأحاديث المروية عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام يقول الإمام الصادق عليه السلام: "دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد" .
ثمّ إنّ المراد من حصر الربوبيّة والتدبير بالله سبحانه، هي الربوبيّة على وجه الاستقلال وبالذّات، وذلك لا ينافي وجود مدبِّرات في الكون مسخَّرات لله تعالى، قال سبحانه: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾ .
وقال سبحانه: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً﴾ .
فالاعتراف بمثل هذه المدبِّرات لا يمنع من انحصار التدبير الاستقلالي في الله سبحانه.
من شؤون التوحيد في الربوبية
إنّ للتوحيد في الربوبية نطاقاً واسعاً شاملاً لجميع المظاهر الكونية والحقائق الوجودية فلا مدبِّر في صفحة الوجود، بالذّات وعلى وجه الاستقلال، سوى الله تعالى فهو ربُّ العالمين لا ربّ سواه. فهذا إبراهيم الخليل عليه السلام بطل التوحيد يصف التوحيد في الربوبية بقوله: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ .
وينبغي في ختام هذا البحث أن نشير إلى قسمين لهما أهميتهما الخاصة في حياة الإنسان الاجتماعية وهما مما يتفرّع على التوحيد في الخالقية والربوبية وهما:
1- التوحيد في الحاكمية:
الحاكم هو الذي له تسلّط على النفوس والأموال، والتصرف في شؤون المجتمع بالأمر والنهي، والعزل والنصب، والتحديد والتوسيع ونحو ذلك، ومن المعلوم أن هذا يحتاج إلى ولاية له بالنسبة إلى المسلَّط عليه، ولولا ذلك لعدَّ التصرّف عدوانياً، هذا من جانب. ومن جانب آخر الولاية على الغير متفرع على كون الوالي مالكاً للمولّى عليه أو مدبّر أموره في الحياة، وبما أن لا مالكية لأحد على غيره إلا لله تعالى ولا مدبر سواه، فإنه الخالق الموجد للجميع والمدبر للكون بأجمعه، فلا ولاية لأحد على أحد بالذات سوى الله تعالى، فحق الولاية منحصر لله تعالى.
قال سبحانه: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ﴾ .
وقال سبحانه: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ .
ومن جانب ثالث: إنّ وجود الحكومة والحاكم البشري في المجتمع أمر ضروري كما أشار إليه الإمام علي عليه السلام بقوله: "لا بد للناس من أمير برٍّ أو فاجر" . ومن المعلوم أن ممارسة الإمرة وتجسيد الحكومة في الخارج ليس من شأنه سبحانه، بل هو شأن من يماثل المحكوم عليه في النوع ويشافهه ويقابله مقابلة الإنسان للإنسان، وعلى ذلك، فوجه الجمع بين حصر الحاكمية في الله سبحانه ولزوم كون الحاكم والأمير بشراً كالمحكوم عليه، هو لزوم كون من يُمثّل مقام الإمرة مأذوناً من جانبه سبحانه لإدارة الأمور والتصرّف في النفوس والأموال، وأن تكون ولايته مستمدّة من ولايته سبحانه ومنبعثة منها. وعلى هذا فالحكومات القائمة في المجتمعات يجب أن تكون مشروعيتها مستمدّة من ولايته سبحانه وحكمه بوجه من الوجوه، وإذا كانت علاقتها منقطعة غير موصولة به سبحانه فهي حكومات طاغوتية لا مشروعية لها.
2- التوحيد في التشريع:
إنَّ الربوبية على قسمين: تكوينية وتشريعية ودلائل التوحيد في الربوبية التكوينية يثبت التوحيد في الربوبية التشريعية أيضاً، فإن التقنين والتشريع نوع من التدبير، يدبَّر به أمر الإنسان والمجتمع البشري، كما أنّه نوع من الحكومة والولاية على الأموال والنفوس، فبما أنّ التدبير والحكومة منحصرتان في الله تعالى، فكذلك ليس لأحد حقّ التقنين والتشريع إلا له تعالى.
وأمّا الفقهاء والمجتهدون فليسوا بمشّرعين، بل هم متخصّصون في معرفة تشريعه سبحانه، ووظيفتهم الكشف عن الأحكام بعد الرجوع إلى مصادرها وجعلها في متناول الناس.
وأمّا ما تعورف في القرون الأخيرة من إقامة مجالس النواب أو الشورى في البلاد الإسلامية، فليست لها وظيفة سوى التخطيط لإعطاء البرنامج للمسؤولين في الحكومات في ضوء القوانين الإلهية لتنفيذها، والتخطيط غير التشريع كما هو واضح. وهناك آيات من الذكر الحكيم تدل بوضوح على اختصاص التشريع بالله سبحانه نشير إلى بعضها:
قال سبحانه:
1- ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ .
2- ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ .
3- ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ .
التوحيد في العبادة
التوحيد في العبادة ممّا اتّفق على اختصاصه بالله سبحانه جميع المسلمين بل الإلهيين، وهو الهدف والغاية الأسنى من بعث الأنبياء والمرسلين، قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ .
وناهيك في أهميّة ذلك أنّ الإسلام قرّره شعاراً للمسلمين يؤكِّدون عليه في صلواتهم الواجبة والمندوبة بقولهم: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ .
كما أنّ مكافحة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بل وسائر الأنبياء للوثنيين تتركّز على هذه النقطة غالباً كما هو ظاهر لمن راجع القرآن الكريم.
وبالجملة لا تجد مسلماً ينكر هذا الأصل أو يشكّ فيه وإنّما الكلام في تشخيص مصاديق العبادة وجزئياتها عن غيرها، فترى أنّ أتباع الوهّابيّة يرمون غيرهم بالشرك في العبادة بالتبرّك بآثار الأنبياء والتوسّل بهم إلى الله سبحانه ونحو ذلك، فتمييز العبادة عن غيرها هي المشكلة الوحيدة في هذا المجال، فيجب قبل كلّ شيء دراسة واقعية عن حقيقة العبادة على ضوء العقل والكتاب والسنّة فنقول:
حقيقة العبادة؟
قد تُعرّف العبادة بـ "الخضوع والتذلّل" أو "نهاية الخضوع" ولكنّهما تعريفان ناقصان لا يساعدهما القرآن الكريم.
توضيح ذلك: أنّ القرآن الكريم أمر الإنسان بالتذلّل لوالديه فيقول: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ .
فلو كان الخضوع والتذلّل عبادة لمن يتذلّل له لكان أمره تعالى بذلك أمراً باتّخاذ الشريك له تعالى في العبادة ! كما أنّه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم فيقول: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ .
مع أنّ السجود نهاية التذلّل والخضوع للمسجود له، فهل ترى أنّ الله سبحانه يأمر الملائكة بالشّرك في العبادة؟!
إنّ إخوة يوسف ووالديه سجدوا جميعاً ليوسف بعد استوائه على عرش الملك والسلطنة، كما يقول سبحانه: ﴿وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا﴾ .
إذاً ليس معنى العبادة التي تختصّ بالله سبحانه ولا تجوز لغيره تعالى هو الخضوع والتذلّل، أو نهاية الخضوع، فما هي حقيقة العبادة؟
حقيقة العبادة على ما يستفاد من القرآن الكريم هي "الخضوع والتذلّل، لفظاً أو عملاً مع الاعتقاد بأُلوهية المخضوع له" فما لم ينشأ الخضوع من هذا الاعتقاد، لا يكون عبادة، ويدلّ على ذلك الآيات الّتي تأمر بعبادة الله وتنهى عن عبادة غيره، معلّلة ذلك بأنّه لا إله إلّا الله، كقوله سبحانه: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ .
وقد ورد هذا المضمون في عشر موارد أو أكثر في القرآن الكريم .
ومعنى هذا التعليل أنّ الذي يستحقّ العبادة هو من كان إلهاً، وليس هو إلّا الله، فإذا تحقّق وصف الألوهية في شيء جازت بل وجبت عبادته واتّخاذه معبوداً، وحيث إنّ الوصف لا يوجد إلّا في الله سبحانه وجب عبادته دون سواه.
والمراد من الألوهيّة هو ما يعدّ من شؤون الإله، أعني: الاستقلال في الذّات والصفات والأفعال، فمن اعتقد لشيء نحواً من الاستقلال إمّا في وجوده، أو في صفاته، أو في أفعاله وآثاره فقد اتّخذه إلهاً، والأبحاث المتقدّمة حول التوحيد الذاتي والصفاتي والأفعالي كانت هادفة لحصر الألوهية المطلقة لله سبحانه وإبطال أُلوهيّة غيره تعالى.
ثم إنّ المستفاد من مطالعة عقائد الوثنيّة في كتب الملل والنحل، ويؤيّده القرآن الكريم أيضاً، أنّ معظم الإنحرافات في مسألة التوحيد كان في مجال الربوبية والتدبير. فالمشركون مع اعترافهم بحصر الخالقية بالله تعالى وأنّ جميع من سواه مخلوق لله سبحانه، إلا أنهم كانوا معتقدين بوجود أرباب من دون الله وأنّ لهم الألوهيّة في مجال الربوبيّة والتدبير، وكان الغرض من عبادتهم الاستنصار على الأعداء والعزّة والغلبة، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ﴾ .
ويقول سبحانه: ﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا﴾ .
ومن هنا نرى أنّ قسماً من الآيات تعلّل الأمر بحصر العبادة في الله وحده، بأنّه الربّ فمن ذلك قوله سبحانه: ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ .
وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ .
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ .
وغير ذلك من الآيات التي تجعل العبادة دائرة مدار الربوبية .
زبدة الكلام
خلاصة القول في المقام إنّ أيّ خضوع ينبع من الاعتقاد بأن المخضوع له إله العالم أو ربّه أو فوّض إليه تدبير العالم كلّه أو بعضه، يكون الخضوع بأدنى مراتبه عبادة ويكون صاحبه مشركاً في العبادة إذا أتى به لغير الله.
ويقابل ذلك الخضوع غير النابع من هذا الاعتقاد، فخضوع أحد أمام موجود تكريمه - مبالغاً في ذلك - من دون أن ينبع من الاعتقاد بألوهيّته، لا يكون شركاً ولا عبادة لهذا الموجود، إن كان من الممكن أن يكون حراماً، مثل سجود العاشق للمعشوقة، أو المرأة لزوجها، فإنه وإن كان حراماً في الشريعة الإسلامية لكنّه ليس عبادة بل حراماً لوجه آخر، ولعلّ الوجه في حرمته هو أن السجود حيث إنه وسيلة عامة للعبادة عند جميع الأقوام والملل، صار بحيث لا يراد منه إلا العبادة، لذلك لم يسمح الإسلام بأن يستفاد منها حتى في الموارد التي لا تكون عبادة، والتحريم إنّما هو من خصائص الشريعة الإسلامية.
المفاهيم الرئيسة
- من مراتب التوحيد: التوحيد في الربوبية، والدليل عليه أمّا أوّلاً، فلأنّ التدبير شعبةٌ من شعب الخلق، وما دام الخالق واحداً فالمدبّر واحد كذلك.
- وثانياً: إنّ اتّصال التدبير وانسجام النظام آية المدبّر الواحد.
- من شؤون التوحيد في الربوبيّة التوحيد في الحاكميّة والتوحيد في التشريع.
- من مراتب التوحيد أيضاً: التوحيد في العبادة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾.
- إنّ حقيقة العبادة على ما يستفاد من القرآن الكريم هي "الخضوع والتذلّل، لفظاً أو عملاً مع الاعتقاد بأُلوهية المخضوع له".
- الدليل على التوحيد في العبادة أنّ الذي يستحقّها هو من كان إلهاً، وليس هو إلّا الله تعالى، وحيث إنّ الوصف لا يوجد إلّا في الله سبحانه وجب عبادته دون سواه.
المصادر :
راسخون 2018