
تحتلّ الأخلاق الإسلاميّة مكانة خاصّة في مجموع التعاليم الإسلامية، ولذا جعل الله سبحانه الهدف الأساس من بعثة الأنبياء والرسل تربية الإنسان على الأخلاق الحسنة وهذا ما يؤكّده الله سبحانه وتعالى في قوله:﴿لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين﴾1.
وفي قول رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم):"إَنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مكارِمَ الأخْلاقِ".
إنّ الهدف من بعثة الأنبياء هو تربية الناس على الأخلاق الحسنة.
وهذا ما يوجب على الإنسان أن يعمل على مواجهة الرغبات والميول التي تسوّل للنفس، وتزيّن لها بعض الممارسات السيّئة.
كيف نواجه الممارسات السيئة؟
مواجهة الممارسات السيئة تتطلّب اتبّاع خطوات محدّدة تجعل من الإنسان شخصاً قادراً على التحكّم بالميول والرغبات.
وهذه الخطوات تتمثّل بالنقاط التالية:
1ـ التعرّف إلى محاسن الأخلاق ومساوئها: إنّ الكثير من الأمور قد يرتكبها الإنسان، وهو لا يعرف مدى قبحها، ومضارّها على نفسه وعلى الآخرين، وهذا ما يجعله يبتعد عن الكثير من الآداب الأخلاقيّة نتيجة جهله بها، ولذا لا بدّ له كخطوة أولى في تهذيب النفس من أن يسعى للتعرّف على الأخلاق الحسنة والسيّئة.
2ـ التحصـّن بالتقوى: إنّ تقوى الله أي الشعور بالخوف من الله عند الإقدام على أيّ عمل، هو الذي يمنع الإنسان من الوقوع في المعصية ويجعله في موقع حصين.وهذا الشعور بالخوف من الله على الدوام لا يتحقّق إلّا بعد تزكية الإنسان لنفسه والاهتمام بذكر الله دائماً، قال تعالى:﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾3.
3ـ تربية النفس على الإيمان: إنّ العمل على تربية النفس، يستلزم أن يشعر الإنسان بخطورة ما قام به، وما ارتكبه من ذنوب.قال تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾4.إنّ من أعظم المخاطر التي يقع فيها الإنسان وتُحلّ عليه الغضب الإلهيّ وتؤدّي به إلى جهنّم، هو أن يرتكب المعاصي من دون أن يشعر بخطر ما فعله أو يتجاهل ويتناسى ما وقع فيه، تاركاً لحبائل الشيطان ودسائسه التكفّل بمنعه من العودة إلى الله.
استنتاج
تتوقّف تزكية النفس على: التعرّف على محاسن الأخلاق ومساوئها، تقوية ملَكَة التقوى، تربية النفس على الإيمان.
في سبيل تزكية النفس
إذا كنّا نؤمن بضرورة السعي لرضا الله عزّ وجلّ، ونسعى لذلك فعلاً، علينا أن نتّبع بعض الخطوات العمليّة التي تفتح الباب لنا أمام ذلك، منها:
1ـ السعي لمعرفة الفضائل والرذائل: كما يسعى الإنسان لمعرفة ما يحيط به وما يحتاج إليه في ترتيب أموره الدنيويّة وأمر معاشه في هذه الحياة، فإنّ عليه أن يسعى لمعرفة ما يحتاج إليه في ترتيب أمور آخرته وأمور معاده. إن لم نقل إنّ أمور الآخرة قد تفوق بأهميّتها أمور الدنيا.
وطريق ذلك، أن يتعرّف الإنسان على ما أوجبه الله عليه في تنظيم علاقته بربّه وعلاقته بالآخرين، من والديه، وأصدقائه ومجتمعه.فضلاً عن تعرّفه إلى المحرّمات التي نهى الله عنها، فيما يرتبط بعلاقته بربّه أو بالآخرين.
2ـ تعويد النفس على محاسن الأخلاق: إنّ التعرف إلى محاسن الأخلاق ومساوئها، لا يكفي بنفسه لكي يتحلّى الإنسان فعلاً بهذه المحاسن، ويتجنّب هذه المساوئ، بل إنّ عليه العمل على تعويد هذه النفس وترويضها شيئاً فشيئاً على ذلك، فإذا ما اعتاد على فعل الطاعات واجتناب المحرّمات، فإنّ ذلك سوف يسهّل له الطريق أمام تزكية النفس.
وقد ورد عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام):"إِنّما هِيَ نَفْسي أُرَوِّضُها بِالتّقوى لِتَأْتِيَ آَمِنَةً يَوْمَ الخَوْفِ الأَكْبَرِ، وَتَثْبُتَ عَلىَ جَوانِبِ المَزْلَقِ"5.التفكير في العمل قبل القيام به، يمنع من الوقوع في المعصية.
3ـ التروّي والتفكير: على الإنسان أن يتروّى ويفكّر في كلّ أمر قبل أن يُقدم عليه. فقد يقدم على عملٍ قبيح نتيجة عدم التفكّر والتروّي والعجلة، فيقع في المعصية، وقد ورد عن الإمام عليّ(عليه السلام):"التأنّي في الفِعْلِ يُؤَمِّن الخَطَلَ، التَرَوِّي في القولِ يُؤَمِّنُ الزَّلَل"6.
4ـ مصاحبة الأخيار ومجانبة الأشرار: إنّ من العقبات الأساسيّة التي تقف عائقاً أمام النفس وتزكيتها هي رفقة السوء، كما أنّ من أعظم الأسباب المساعدة على التربية والتزكية هي صحبة الأخيار. ولذا ورد في الروايات، النهي عن صحبة الأشرار. فعن الإمام عليّ(عليه السلام):"اِحْذَرْ مُجالَسَةَ قَرينِ السّوءِ، فَإِنَّهُ يُهْلِكُ مُقارِنَهَ، وَيُرْدي مُصاحِبَهُ" 7.كما ورد عنه(عليه السلام) الحثّ على مصاحبة العلماء قال:"عَجِبْتُ لِمَنْ يَرْغَبُ في التَّكَثُّر مِنَ الأَصْحابِ كَيْفَ لا يَصْحَبُ الْعلَمَاء الأَلْبَاءَ الأَتْقِياءَ الَّذينَ يَغْنَمُ فَضائِلَهُمْ، وتُهديهِ عُلُومُهَمْ، وَتُزَيِّنُهُ صُحْبَتُهُمْ"8.
5ـ الابتعاد عن موجبات المعاصي: يقع الإنسان في المعصية بعد إغراء الشيطان للنفس الأمّارة، وهذا ما يوجب على الإنسان الذي يعمل على تربية نفسه وتزكيتها أن يسعى إلى كبح جماح ميوله ورغباته في هذه النفس، لأنّه إذا فتح المجال أمامها، ولو بشكل محدودٍ طلبت المزيد ورغبت في الازدياد، ففي الرواية عن الإمام الصادق(عليه السلام)، أنه قال:"مَثَلُ الدُّنْيا كَمَثَلِ ماءِ الْبَحْرِ كُلَّما شَرِبَ مِنْهُ الْعَطْشانُ ازْدادَ عَطَشاً حَتَّى يَقْتُلَهُ"9. فعلى الإنسان أن يبتعد عن المواطن التي توجب القرب من المعاصي.
6ـ اليقظة التامـّة: إنّ ساعة الغفلة هي الساعة التي تجعل الإنسان يقع في المعصية، فالنفس الأمّارة بالسّوء تستغلّ تلك الساعة التي يغفل فيها الإنسان عن الله عزّ وجلّ فتسوّل له ارتكاب المعصية، ففي الرواية عن الإمام عليّ(عليه السلام):"وَيْلٌ لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الغَفْلةُ، فَنَسيَ الرِّحْلَةَ ولَمْ يَسْتَعِدَّ"10.ولذا على الإنسان أن يستعدَّ تماماً للآخرة، ولا ينسى أنّ مصيره الموت والانتقال من هذه الدنيا إلى الآخرة، ففي الرواية:"كم من غافلٍ ينسجُ ثوباً ليلبسه وإنّما هو كفنه، ويبني بيتاً ليسكنه وإنّما هو موضع قبره"11.
7ـ اللجوء إلى الله: على الإنسان أن يطلب من الله عزّ وجلّ أن يعينه على تربية نفسه، فيلجأ إلى الدعاء والتضرّع بأن يمكّنه من التغلّب على النفس الأمّارة، وعلى ما اعتاد ممارسته من المساوئ، ففي دعاء الإمام زين العابدين(عليه السلام) في المناجاة:"إلهي إليكَ أشكو نفساً بالسوءِ أمّارةً، وإلى الخطيئة مبادرةً، وبمعاصيكَ مولعةً،... كثيرةَ العلَلِ، طويلةَ الأمَلِ، إِنْ مَسَّها الشَّرُّ تَجْزَع، وإِنْ مَسَّها الخيرُ تمنعْ، ميّالةً إلى اللّعبِ واللهوِ، مملوءةً بالغفلةِ والسَّهْوِ، تُسْرِعُ بي إلى الحَوْبَةِ، وَتُسَوِّفُني بِالتّوبَةِ"12.
من طرق الاحتراز عن المعاصي. الابتعاد عن المواطن التي يكون الإنسان فيها أقرب إلى المعصية.
ساعة الغفلة، هي الساعة التي يستغلّها الشيطان لكي يغري الإنسان بالمعصية.
ثمار تزكية النفس
إنّ لتربية النفس وتزكيتها آثاراً تنعكس على حياة الإنسان في الدنيا وفي الآخرة، ومن هذه الآثار:
1ـ النجاة والفلاح في الآخرة: ورد في الآية المباركة﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾13، ولا شكّ في أنّ الفلاح في الآخرة يفوق بكثير أيّ نجاح قد يصل إليه الإنسان في هذه الدنيا.
2ـ اكتساب محبة الناس: وهي من ثمار حسن الخلق الذي ينتج عن تزكية النفس، لأنّ الناس ترغب في لقاء من يتعامل معها بخلق حسن، وفي الرواية عن الإمام عليّ(عليه السلام):"ثلاثُ يوجِبْنَ المحبَّةَ: حُسْنُ الخُلقِ، وحُسْنُ الرفْقِ، والتَّواضُع"14.
3ـ رضا الله والقرب منه: وهو أعظم ما يناله من يسعى لتزكية نفسه، وهذا لا يحصل إلّا بعد مجاهدة النفس، فكلّما ارتقى الإنسان في مجاهدة نفسه وتزكيتها كلّما ارتقى درجة في القرب من الله حتّى يصل إلى أعلى مراتب القرب وهي جنّة الرضوان، كما في قوله تعالى:﴿رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾15.
استنتاج
من ثمار تزكية النفس: النجاة في الآخرة، وكسب محبّة الناس ورضا الله تعالى.
ميزان السلوك
لا بدّ لمن يسعى لتهذيب نفسه وتربيتها من أن يحذر عند العمل من خطر الانحراف عن الطريق القويم في تربية النفس؛ وذلك من خلال اتباع خطوتين:
1ـ الرجوع إلى المصادر الأساس لتهذيب النفس والتي تتمثل بالقرآن الكريم، فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفة القرآن:"جعله الله ريّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء"16. ثمّ سنّة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، وما روي من سيرته وحياته، ثمّ الرجوع إلى أهل بيت العصمة والطهارة، فإنَّهم المعين الصافي والمورد العذب الذي يوصل إلى التربية الصحيحة.
2 ـ الحذر من ارتكاب ما يخالف الشريعة، فإنَّ الكثير من الناس يتَّبع أساليب غير شرعيّة ظنّاً منه أنّ ذلك سيوصله إلى تربية نفسه وتهذيبها، ولذا على من يسعى لتربية نفسه أن يتأمّل في كلِّ عملٍ يقوم به فلا يُرهق جسده أو يعذِّب نفسه باعتقاد أنَّه بذلك يتمكَّن من الوصول إلى تربيتها، ولا يسعى للسقوط من أعين الناس متوهّماً أنّه بذلك يقهر نفسه أو يحطِّم الغرور فيها فإنَّ الله لا يرضى لعبده المؤمن أن يكون ذليلاً.
فقال(صلى الله عليه واله وسلم):"فليأتِ كلّ بما يقدِرُ عليه". فشرعَ الصحابةُ يجمعونَ ما يشاهدونَ من أشواكٍ ونباتاتِ يابسةٍ صغيرةٍ. ثمّ جاءوا به إلى الرسول(صلى الله عليه واله وسلم) فتجمّع من الحطب مقدار كبير. فقال النبيّ(صلى الله عليه واله وسلم):"هَكَذا تجتمعُ الذنوبُ الصغيرةُ، مِثْلَما اجتمعَ هذا الحطبُ"، ثمّ أردف قائلاً: إيّاكُمْ والمحقّراتِ من الذنوبِ فإنّ لكلِّ شيءٍ طالباً ألا وَإنَّ طالِبَها يكتبُ﴿مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾17
المصادر :
1-ال عمران:164
2-يوسف:53
3-الشمس:7-10
4-الاعراف:201
5- نهج البلاغة، ج3، ص71.
6- ميزان الحكمة، محمّد الريشهري، ج3، ص1834.
7- م. ن، ج2، ص1583.
8- م. ن، ج2، ص1584.
9- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص136.
10- ميزان الحكمة، محمّد الريشهري، ج3، ص2282.
11- الأمالي، الصدوق، ص172.
12- الصحيفة السجّاديّة، الدعاء 9.
13- الشمس: 9.
14- ميزان الحكمة، محمّد الريشهري، ج1، ص496.
15-المجادلة:22.
16-نهج البلاغة، ج2، ص178.
17- يس: 12. / أنظر: الكافي ج2، ص 288.
وفي قول رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم):"إَنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مكارِمَ الأخْلاقِ".
إنّ الهدف من بعثة الأنبياء هو تربية الناس على الأخلاق الحسنة.
لماذا تزكية النفس؟
وردت كلمة النفس في القرآن الكريم بصيغ ثلاث: النفس المطمئنّة، والنفس اللوّامة، والنفس الأمّارة بالسوء، ولكنّنا سنقتصر في حديثنا على النفس الأمّارة بالسوء، وهي النفس التي تحوي في داخلها مجموعة من الغرائز والميول والرغبات، التي تؤدّي بصاحبها إلى ارتكاب بعض الذنوب والآثام، ويقع في المعصية.قال تعالى:﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ﴾2، وهي النفس التي تأمر على الدوام بالمعاصي والذنوب.وهذا ما يوجب على الإنسان أن يعمل على مواجهة الرغبات والميول التي تسوّل للنفس، وتزيّن لها بعض الممارسات السيّئة.
كيف نواجه الممارسات السيئة؟
مواجهة الممارسات السيئة تتطلّب اتبّاع خطوات محدّدة تجعل من الإنسان شخصاً قادراً على التحكّم بالميول والرغبات.
وهذه الخطوات تتمثّل بالنقاط التالية:
1ـ التعرّف إلى محاسن الأخلاق ومساوئها: إنّ الكثير من الأمور قد يرتكبها الإنسان، وهو لا يعرف مدى قبحها، ومضارّها على نفسه وعلى الآخرين، وهذا ما يجعله يبتعد عن الكثير من الآداب الأخلاقيّة نتيجة جهله بها، ولذا لا بدّ له كخطوة أولى في تهذيب النفس من أن يسعى للتعرّف على الأخلاق الحسنة والسيّئة.
2ـ التحصـّن بالتقوى: إنّ تقوى الله أي الشعور بالخوف من الله عند الإقدام على أيّ عمل، هو الذي يمنع الإنسان من الوقوع في المعصية ويجعله في موقع حصين.وهذا الشعور بالخوف من الله على الدوام لا يتحقّق إلّا بعد تزكية الإنسان لنفسه والاهتمام بذكر الله دائماً، قال تعالى:﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾3.
3ـ تربية النفس على الإيمان: إنّ العمل على تربية النفس، يستلزم أن يشعر الإنسان بخطورة ما قام به، وما ارتكبه من ذنوب.قال تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾4.إنّ من أعظم المخاطر التي يقع فيها الإنسان وتُحلّ عليه الغضب الإلهيّ وتؤدّي به إلى جهنّم، هو أن يرتكب المعاصي من دون أن يشعر بخطر ما فعله أو يتجاهل ويتناسى ما وقع فيه، تاركاً لحبائل الشيطان ودسائسه التكفّل بمنعه من العودة إلى الله.
استنتاج
تتوقّف تزكية النفس على: التعرّف على محاسن الأخلاق ومساوئها، تقوية ملَكَة التقوى، تربية النفس على الإيمان.
في سبيل تزكية النفس
إذا كنّا نؤمن بضرورة السعي لرضا الله عزّ وجلّ، ونسعى لذلك فعلاً، علينا أن نتّبع بعض الخطوات العمليّة التي تفتح الباب لنا أمام ذلك، منها:
1ـ السعي لمعرفة الفضائل والرذائل: كما يسعى الإنسان لمعرفة ما يحيط به وما يحتاج إليه في ترتيب أموره الدنيويّة وأمر معاشه في هذه الحياة، فإنّ عليه أن يسعى لمعرفة ما يحتاج إليه في ترتيب أمور آخرته وأمور معاده. إن لم نقل إنّ أمور الآخرة قد تفوق بأهميّتها أمور الدنيا.
وطريق ذلك، أن يتعرّف الإنسان على ما أوجبه الله عليه في تنظيم علاقته بربّه وعلاقته بالآخرين، من والديه، وأصدقائه ومجتمعه.فضلاً عن تعرّفه إلى المحرّمات التي نهى الله عنها، فيما يرتبط بعلاقته بربّه أو بالآخرين.
2ـ تعويد النفس على محاسن الأخلاق: إنّ التعرف إلى محاسن الأخلاق ومساوئها، لا يكفي بنفسه لكي يتحلّى الإنسان فعلاً بهذه المحاسن، ويتجنّب هذه المساوئ، بل إنّ عليه العمل على تعويد هذه النفس وترويضها شيئاً فشيئاً على ذلك، فإذا ما اعتاد على فعل الطاعات واجتناب المحرّمات، فإنّ ذلك سوف يسهّل له الطريق أمام تزكية النفس.
وقد ورد عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام):"إِنّما هِيَ نَفْسي أُرَوِّضُها بِالتّقوى لِتَأْتِيَ آَمِنَةً يَوْمَ الخَوْفِ الأَكْبَرِ، وَتَثْبُتَ عَلىَ جَوانِبِ المَزْلَقِ"5.التفكير في العمل قبل القيام به، يمنع من الوقوع في المعصية.
3ـ التروّي والتفكير: على الإنسان أن يتروّى ويفكّر في كلّ أمر قبل أن يُقدم عليه. فقد يقدم على عملٍ قبيح نتيجة عدم التفكّر والتروّي والعجلة، فيقع في المعصية، وقد ورد عن الإمام عليّ(عليه السلام):"التأنّي في الفِعْلِ يُؤَمِّن الخَطَلَ، التَرَوِّي في القولِ يُؤَمِّنُ الزَّلَل"6.
4ـ مصاحبة الأخيار ومجانبة الأشرار: إنّ من العقبات الأساسيّة التي تقف عائقاً أمام النفس وتزكيتها هي رفقة السوء، كما أنّ من أعظم الأسباب المساعدة على التربية والتزكية هي صحبة الأخيار. ولذا ورد في الروايات، النهي عن صحبة الأشرار. فعن الإمام عليّ(عليه السلام):"اِحْذَرْ مُجالَسَةَ قَرينِ السّوءِ، فَإِنَّهُ يُهْلِكُ مُقارِنَهَ، وَيُرْدي مُصاحِبَهُ" 7.كما ورد عنه(عليه السلام) الحثّ على مصاحبة العلماء قال:"عَجِبْتُ لِمَنْ يَرْغَبُ في التَّكَثُّر مِنَ الأَصْحابِ كَيْفَ لا يَصْحَبُ الْعلَمَاء الأَلْبَاءَ الأَتْقِياءَ الَّذينَ يَغْنَمُ فَضائِلَهُمْ، وتُهديهِ عُلُومُهَمْ، وَتُزَيِّنُهُ صُحْبَتُهُمْ"8.
5ـ الابتعاد عن موجبات المعاصي: يقع الإنسان في المعصية بعد إغراء الشيطان للنفس الأمّارة، وهذا ما يوجب على الإنسان الذي يعمل على تربية نفسه وتزكيتها أن يسعى إلى كبح جماح ميوله ورغباته في هذه النفس، لأنّه إذا فتح المجال أمامها، ولو بشكل محدودٍ طلبت المزيد ورغبت في الازدياد، ففي الرواية عن الإمام الصادق(عليه السلام)، أنه قال:"مَثَلُ الدُّنْيا كَمَثَلِ ماءِ الْبَحْرِ كُلَّما شَرِبَ مِنْهُ الْعَطْشانُ ازْدادَ عَطَشاً حَتَّى يَقْتُلَهُ"9. فعلى الإنسان أن يبتعد عن المواطن التي توجب القرب من المعاصي.
6ـ اليقظة التامـّة: إنّ ساعة الغفلة هي الساعة التي تجعل الإنسان يقع في المعصية، فالنفس الأمّارة بالسّوء تستغلّ تلك الساعة التي يغفل فيها الإنسان عن الله عزّ وجلّ فتسوّل له ارتكاب المعصية، ففي الرواية عن الإمام عليّ(عليه السلام):"وَيْلٌ لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الغَفْلةُ، فَنَسيَ الرِّحْلَةَ ولَمْ يَسْتَعِدَّ"10.ولذا على الإنسان أن يستعدَّ تماماً للآخرة، ولا ينسى أنّ مصيره الموت والانتقال من هذه الدنيا إلى الآخرة، ففي الرواية:"كم من غافلٍ ينسجُ ثوباً ليلبسه وإنّما هو كفنه، ويبني بيتاً ليسكنه وإنّما هو موضع قبره"11.
7ـ اللجوء إلى الله: على الإنسان أن يطلب من الله عزّ وجلّ أن يعينه على تربية نفسه، فيلجأ إلى الدعاء والتضرّع بأن يمكّنه من التغلّب على النفس الأمّارة، وعلى ما اعتاد ممارسته من المساوئ، ففي دعاء الإمام زين العابدين(عليه السلام) في المناجاة:"إلهي إليكَ أشكو نفساً بالسوءِ أمّارةً، وإلى الخطيئة مبادرةً، وبمعاصيكَ مولعةً،... كثيرةَ العلَلِ، طويلةَ الأمَلِ، إِنْ مَسَّها الشَّرُّ تَجْزَع، وإِنْ مَسَّها الخيرُ تمنعْ، ميّالةً إلى اللّعبِ واللهوِ، مملوءةً بالغفلةِ والسَّهْوِ، تُسْرِعُ بي إلى الحَوْبَةِ، وَتُسَوِّفُني بِالتّوبَةِ"12.
من طرق الاحتراز عن المعاصي. الابتعاد عن المواطن التي يكون الإنسان فيها أقرب إلى المعصية.
ساعة الغفلة، هي الساعة التي يستغلّها الشيطان لكي يغري الإنسان بالمعصية.
ثمار تزكية النفس
إنّ لتربية النفس وتزكيتها آثاراً تنعكس على حياة الإنسان في الدنيا وفي الآخرة، ومن هذه الآثار:
1ـ النجاة والفلاح في الآخرة: ورد في الآية المباركة﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾13، ولا شكّ في أنّ الفلاح في الآخرة يفوق بكثير أيّ نجاح قد يصل إليه الإنسان في هذه الدنيا.
2ـ اكتساب محبة الناس: وهي من ثمار حسن الخلق الذي ينتج عن تزكية النفس، لأنّ الناس ترغب في لقاء من يتعامل معها بخلق حسن، وفي الرواية عن الإمام عليّ(عليه السلام):"ثلاثُ يوجِبْنَ المحبَّةَ: حُسْنُ الخُلقِ، وحُسْنُ الرفْقِ، والتَّواضُع"14.
3ـ رضا الله والقرب منه: وهو أعظم ما يناله من يسعى لتزكية نفسه، وهذا لا يحصل إلّا بعد مجاهدة النفس، فكلّما ارتقى الإنسان في مجاهدة نفسه وتزكيتها كلّما ارتقى درجة في القرب من الله حتّى يصل إلى أعلى مراتب القرب وهي جنّة الرضوان، كما في قوله تعالى:﴿رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾15.
استنتاج
من ثمار تزكية النفس: النجاة في الآخرة، وكسب محبّة الناس ورضا الله تعالى.
ميزان السلوك
لا بدّ لمن يسعى لتهذيب نفسه وتربيتها من أن يحذر عند العمل من خطر الانحراف عن الطريق القويم في تربية النفس؛ وذلك من خلال اتباع خطوتين:
1ـ الرجوع إلى المصادر الأساس لتهذيب النفس والتي تتمثل بالقرآن الكريم، فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفة القرآن:"جعله الله ريّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء"16. ثمّ سنّة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، وما روي من سيرته وحياته، ثمّ الرجوع إلى أهل بيت العصمة والطهارة، فإنَّهم المعين الصافي والمورد العذب الذي يوصل إلى التربية الصحيحة.
2 ـ الحذر من ارتكاب ما يخالف الشريعة، فإنَّ الكثير من الناس يتَّبع أساليب غير شرعيّة ظنّاً منه أنّ ذلك سيوصله إلى تربية نفسه وتهذيبها، ولذا على من يسعى لتربية نفسه أن يتأمّل في كلِّ عملٍ يقوم به فلا يُرهق جسده أو يعذِّب نفسه باعتقاد أنَّه بذلك يتمكَّن من الوصول إلى تربيتها، ولا يسعى للسقوط من أعين الناس متوهّماً أنّه بذلك يقهر نفسه أو يحطِّم الغرور فيها فإنَّ الله لا يرضى لعبده المؤمن أن يكون ذليلاً.
جمع الحطب من الصحراء
كان النبيّ(صلى الله عليه واله وسلم) وأصحابه في إحدى سفراتهم، ولمّا نزلوا بأرض جدباء لا نبت فيها ولا ماء، وكانوا قد احتاجوا إلى الحطب فقال النبيّ(صلى الله عليه واله وسلم) لأصحابه:"اجمعُوا حطباً"، فقالوا: يا رسول الله نحن بأرض جرداء لا حطب فيها.فقال(صلى الله عليه واله وسلم):"فليأتِ كلّ بما يقدِرُ عليه". فشرعَ الصحابةُ يجمعونَ ما يشاهدونَ من أشواكٍ ونباتاتِ يابسةٍ صغيرةٍ. ثمّ جاءوا به إلى الرسول(صلى الله عليه واله وسلم) فتجمّع من الحطب مقدار كبير. فقال النبيّ(صلى الله عليه واله وسلم):"هَكَذا تجتمعُ الذنوبُ الصغيرةُ، مِثْلَما اجتمعَ هذا الحطبُ"، ثمّ أردف قائلاً: إيّاكُمْ والمحقّراتِ من الذنوبِ فإنّ لكلِّ شيءٍ طالباً ألا وَإنَّ طالِبَها يكتبُ﴿مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾17
المصادر :
1-ال عمران:164
2-يوسف:53
3-الشمس:7-10
4-الاعراف:201
5- نهج البلاغة، ج3، ص71.
6- ميزان الحكمة، محمّد الريشهري، ج3، ص1834.
7- م. ن، ج2، ص1583.
8- م. ن، ج2، ص1584.
9- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص136.
10- ميزان الحكمة، محمّد الريشهري، ج3، ص2282.
11- الأمالي، الصدوق، ص172.
12- الصحيفة السجّاديّة، الدعاء 9.
13- الشمس: 9.
14- ميزان الحكمة، محمّد الريشهري، ج1، ص496.
15-المجادلة:22.
16-نهج البلاغة، ج2، ص178.
17- يس: 12. / أنظر: الكافي ج2، ص 288.