
يحتلّ التوحيد المكانة العليا في الشرائع السماوية، فكان أوّل كلمة في تبليغ الرسل الدعوة إلى التوحيد ورفض الثنوية والشرك، يقول سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ .
ولأجل ذلك يجب على الإلهي التركيز على مسألة التوحيد أكثر من غيرها، واستيفاء الكلام فيه موقوف على البحث حول أهمِّ مراحل التوحيد، وهي:
1- التوحيد في الذات.
2- التوحيد في الصفات.
3- التوحيد في الخالقية.
4- التوحيد في الربوبية.
5- التوحيد في العبادة.
التوحيد في الذات
يعنى بالتوحيد في الذات أمران: الأوّل أنّ ذاته سبحانه بسيط لا جزء له، والثاني أنّ ذاته تعالى متفرِّد ليس له مثل ولا نظير، وقد يُعبَّر عن الأوّل بأحديّة الذات وعن الثاني بوحدانيّته. وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام: "إنّه تعالى واحد أحديّ المعنى" .
البرهان على بساطة ذاته تعالى
اعلم أنّ التركيب على أقسام:
أ- التركيب من الأجزاء العقلية فقط، كالماهية النوعية المركّبة من جنس وفصل.
ب- التركيب منها ومن الأجزاء الخارجية كالمادّة والصورة والأجزاء العنصرية.
ج- التركيب من الأجزاء المقدارية كأجزاء الخط والسطح. والمدّعى أنّ ذاته تعالى بسيط ليس بمركّب من الأجزاء مطلقاً.
والدليل على أنّه ليس مركّباً من الأجزاء الخارجية والمقدارية أنّه سبحانه منزّه عن الجسم والمادّة كما سيوافيك البحث عنه في الصفات السلبية.
والبرهان على عدم كونه مركّباً من الأجزاء العقلية هو أنّ واجب الوجود بالذات لا ماهية له، وما لا ماهية له ليس له أجزاء عقلية الّتي هي الجنس والفصل .
والوجه في انتفاء الماهية عنه تعالى بهذا المعنى هو أنّ الماهيّة من حيث هي هي، مع قطع النظر عن غيرها، متساوية النسبة إلى الوجود والعدم، فكلّ ماهيّة من حيث هي، تكون ممكنة، فما ليس بممكن، لا ماهيّة له واللّه تعالى بما أنّه واجب الوجود بالذات، لا يكون ممكناً بالذات فلا ماهيّة له.
دلائل وحدانيته
1- التعدّد يستلزم التركيب:
لو كان هناك واجب وجود آخر لتشارك الواجبان في كونهما واجبي الوجود، فلا بدّ من تميّز أحدهما عن الآخر بشيء وراء ذلك الأمر المشترك، وذلك يستلزم تركّب كلٍّ منهما من شيئين: أحدهما يرجع إلى ما به الاشتراك، والآخر إلى ما به الامتياز، وقد عرفت أنّ واجب الوجود بالذّات بسيط ليس مركّباً لا من الأجزاء العقلية ولا الخارجية.
2- صرف الوجود لا يتثنّى ولا يتكرّر:
قد تبيّن أنّ واجب الوجود بالذّات لا ماهيّة له، فهو صرف الوجود، ولا يخلط وجوده نقص وفقدان، ومن الواضح أنّ كلّ حقيقة من الحقائق إذا تجرّدت عن أيّ خليط وصارت صرف الشيء، لا يمكن أن تُثنّى وتُعدّد.
وعلى هذا، فإذا كان سبحانه ـ بحكم أنّه لا ماهيّة له ـ وجوداً صرفاً، لا يتطرّق إليه التعدّد، ينتج أنّه تعالى واحد لا ثاني له ولا نظير وهو المطلوب.
التوحيد الذاتي في القرآن والحديث
إنّ القرآن الكريم عندما يصف الله تعالى بالوحدانية، يصفه بـ"القهّاريّة" ويقول: ﴿هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ .
وبهذا المضمون آيات متعدّدة أُخرى في الكتاب المجيد، وما ذلك إلاّ لأنّ الموجود المحدود المتناهي مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه، فإذا كان قاهراً من كلّ الجهات لم تتحكّم فيه الحدود، فاللاّ محدودية تلازم وصف القاهرية.
ومن هنا يتضح أنّ وحدته تعالى ليست وحدة عددية ولا مفهومية، قال العلاّمة الطباطبائي قدس سره: "إنّ كلّاً من الوحدة العددية كالفرد الواحد من النوع، والوحدة النوعية كالإنسان الذي هو نوع واحد في مقابل الأنواع الكثيرة، مقهور بالحدّ الذي يميّز الفرد عن الآخر والنوع عن مثله، فإذا كان تعالى لا يقهره شيء وهو القاهر فوق كلّ شيء، فليس بمحدود في شيء، فهو موجود لا يشوبه عدم، وحقّ لا يعرضه باطل، فللّه من كلّ كمال محضه" .
وقد أشير في سورة التوحيد إلى معنيي التوحيد (الأحدية والواحدية)، فإلى المعنى الأوّل، أُشير بقوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ .
وإلى المعنى الثاني بقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ .
نظرية التثليث عند النصارى
إنّ كلمات المسيحيين في كتبهم الكلامية تحكي عن أنّ الاعتقاد بالتثليث (الأقانيم الثلاثة: الأب، الابن والروح القدس) من المسائل الأساسية التي تبنى عليها عقيدتهم، ولا مناص لأي مسيحي من الاعتقاد به، وفي عين الوقت يعتبرون أنفسهم موحدين غير مشركين، وأنّ الإله في عين كونه واحداً ثلاثة ومع كونه ثلاثة واحد أيضا. وأقصى ما عندهم في تفسير الجمع بين هذين النقيضين هو أنّ عقيدة التثليث عقيدة تعبّدية محضة ولا سبيل إلى نفيها وإثباتها إلا الوحي، فإنها فوق التجريبيات الحسية والإدراكات العقلية المحدودة للإنسان.
تسرّب عقيدة التثليث إلى النصرانية
إنّ التاريخ البشري يرينا أنه لطالما عمد بعض أتباع الأنبياء عليهم السلام - بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم - إلى الشرك والوثنية، تحت تأثير المضلّين. إنّ عبادة بني إسرائيل للعجل في غياب النبي موسى عليه السلام أظهر نموذج لما ذكرناه وهو مما أثبته القرآن والتاريخ، وعلى هذا فلا عجب إذا رأينا تسرّب عقيدة التثليث إلى النصرانية بعد ذهاب السيد المسيح عليه السلام وغيابه عن أتباعه. إنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ التثليث دخل النصرانية بعد رفع المسيح، من العقائد الباطلة السابقة عليها، حيث يقول تعالى: ﴿وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ .
لقد أثبتت الأبحاث التاريخية أنّ هذا التثليث كان في الديانة البرهمانية والهندوكية قبل ميلاد السيد المسيح بمئات السنين، فقد تجلّى الرب الأزلي الأبدي لديهم في ثلاثة مظاهر وآلهة:
1- براهما (الخالق).
2- فيشنوا (الواقي).
3- سيفا (الهادم).
وبذلك يظهر قوة ما ذكره الفيلسوف الفرنسي "غستاف لوبون" قال: "قد واصلت المسيحية تطورها في القرون الخمسة الأولى من حياتها، مع أخذ ما تيسر من المفاهيم الفلسفية والدينية اليونانية والشرقية، وهكذا أصبحت خليطاً من المعتقدات المصرية والإيرانية التي انتشرت في المناطق الأوربية حوالي القرن الأول الميلادي فاعتنق الناس تثليثاً جديداً مكوّناً من الأب والابن وروح القدس، مكان التثليث القديم المكوّن من (نروبى تر) و (وزنون) و (نرو)".
نقد القرآن الكريم لعقيدة التّثليث
لقد رفض القرآن بشكل قاطع عقيدة التّثليث، واعتبرها مخالفة لعقيدة التّوحيد، بل ووصف القائلين بها بالكفر، وقد أشار القرآن بصورة صريحة إلي عقيدة التّثليث في آيتين، الأولي جاءت في سورة النّساء، وهي قوله تعالي: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً﴾ .
والثّانية في قوله تعالي: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ .
وفي الحقيقة إذا نظرنا إلي عبارتي: "ثلاث" و"ثالث ثلاثة" في سياقها في الآيتين المذكورتين نلاحظ أنّهما قد يعنيان: "ثلاثة آلهة"، إذ بعد ذكر كلّ عبارة منهما يقع التّأكيد مباشرة علي أنّ الله واحد، أي: أنّه لا يُوجد ثلاثة آلهة.
وهذا ما يؤكّده المفسّرون من أنّ المقصود بـ (ثلاثة) في الآيتين المذكورتين "ثلاثة آلهة"، ويرون في ذلك جوهر عقيدة النّصاري، وإن كانوا لا يعلنونها صراحة، ويقدّمونها في شكل إله واحد له ثلاثة أقانيم.
إنّ القرآن الكريم إذ يدحض عقيدة التّثليث بشكل عام يهدف أوّلاً إلي اثبات التّوحيد الذّاتي لله سبحانه، وأيضاً دحض العلاقة الّتي يقيمها النّصاري بين عيسي والأُلوهيّة،من خلال القول بأنّ عيسي ابن الله أو هو الله المتجسّد، وأيضاً إبطال الصّيغة اللاهوتية الّتي يعطونها للرّوح القدس أو لمريم بالنّسبة إلي بعض الفرق.
فالقرآن يشدّد علي أنّ هذا القول مؤدّاه إلي الكفر، وقد رفض أيضاً أن يكون لله سبحانه ابن أو ولد، قال تعالي: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ .
وقال أيضاً: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ﴾ ، بل نعت القرآن القول بأنّ المسيح عليه السلام هو الله بالكفر والشّرك، كما في قوله تعالي: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ﴾ .
وأيضاً بالنّسبة إلي كلمة: "روح القدس" فإنّه رغم تعدّد ذكرها في القرآن الكريم، ولكنّها نجدها مفرغة من البعد الإلهي الّذي أعطاه أياها النصاري، فالروح القدس هو المؤيّد والمسدّد للأنبياء عليهم السلام، كما في قوله تعالي: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ وأيضاً قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ ، فهو مخلوق من مخلوقات الله تبارك وتعالي، ولا يمكن لمخلوق أن يكون إلهاً.
بالإضافة إلي كلّ هذا فإنّ العهد الجديد يرفض كون هذه الأقانيم الثّلاثة: (أب، الابن، الروح القدس) متساوية، فإنّ المسيح يصرّح في إنجيل يوحنّا بأنّ الأب أعظم منه، حيث جاء في إنجيل يوحنّا:
"لو كنتم تحبّونني لكنتم تفرحون لأنّي قلت أمضي إلي الأب، لأنّ أبي أعظم منّي" . بل ينفي عن نفسه أيّ قدرة مستقلّة، حيث يقول: "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً، كما أسمع أدين ودينونتي عادلة،لأنّي لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الأب الّذي أرسلني" .
ومن جهة أخرى نجد أنّ النبي عيسي عليه السلام كان كثير العبادة، كما تنقل ذلك آيات العهد الجديد, إذ إنّه صام أربعين يوماً، وكان يخلو للعبادة أحياناً الليل كلّه، فلا يعقل كونه (ابن الله) بمعني أحد الأقانيم الثلاثة إطلاقاً،إذ لا يعقل أن يكون له جوهر وطبيعة الأُلوهية،وهو يصوم ويصلّي ويتعبّد لغيره.
وبالإضافة إلي ما تقدّم فإنّ العقل يرفض هذه العقيدة مطلقاً،لكونها مخالفة للضرورة العقليّة الّتي تأبي أن يكون الإله الخالق البسيط الذّات، مركباً من أقانيم أو شخصيات أو أي نوع آخر من التّركيب، إذ التّركيب يستلزم الاحتياج،والله سبحانه غنّي بذاته عن أيّ شيء آخر.
ولكن مع ذلك فإنّ الكنيسة المسيحيّة بمختلف مذاهبها تُؤمن بأنّ هذه العقيدة أساس المسيحيّة، والمنكر لها خارجٌ عن الدّين المسيحي!!
المفاهيم الرئيسة
- يعتبر التوحيد على رأس الأصول الاعتقاديّة في الأديان الإلهيّة، وله العديد من المراتب منها: التوحيد في الذات.
- معنى التوحيد في الذات أنّه سبحانه يتّصف بالأحديّة والواحدية.
- الله سبحانه وتعالى منزّه عن كلّ أنحاء التركيب سواء الخارجي أو المقداريّ أو العقليّ وبهذا تثبت أحديّته.
- من الأدلّة على وحدانية الله تعالى أنّ التعدّد يستلزم التركيب وتنزّه الله تعالى عن التركيب، ومن جهة أخرى هو صرف الوجود، وصرف الوجود لا يتثنّى ولا يتكرّر.
- تقودنا الأبحاث التاريخيّة إلى الاعتقاد أنّ عقيدة التثليث قد تسرّبت من بعض الديانات الهندية إلى النصرانيّة.
- لقد رفض القرآن الكريم عقيدة التثليث وردّ عليها بمنطق العقل والبرهان، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً﴾.
- مضافاً لما تقدّم نجد أنّ العهد الجديد يرفض فكرة تساوي الأقانيم الثلاثة (الأب، الإبن والروح القدس)، بل نجده ينسب إلى المسيح عليه السلام وفي عدّة مواضع الصفات البشرية المحضة، فكيف يدّعى والحال هذه أنّه إله؟!
المصادر :
راسخون 2018
ولأجل ذلك يجب على الإلهي التركيز على مسألة التوحيد أكثر من غيرها، واستيفاء الكلام فيه موقوف على البحث حول أهمِّ مراحل التوحيد، وهي:
1- التوحيد في الذات.
2- التوحيد في الصفات.
3- التوحيد في الخالقية.
4- التوحيد في الربوبية.
5- التوحيد في العبادة.
التوحيد في الذات
يعنى بالتوحيد في الذات أمران: الأوّل أنّ ذاته سبحانه بسيط لا جزء له، والثاني أنّ ذاته تعالى متفرِّد ليس له مثل ولا نظير، وقد يُعبَّر عن الأوّل بأحديّة الذات وعن الثاني بوحدانيّته. وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام: "إنّه تعالى واحد أحديّ المعنى" .
البرهان على بساطة ذاته تعالى
اعلم أنّ التركيب على أقسام:
أ- التركيب من الأجزاء العقلية فقط، كالماهية النوعية المركّبة من جنس وفصل.
ب- التركيب منها ومن الأجزاء الخارجية كالمادّة والصورة والأجزاء العنصرية.
ج- التركيب من الأجزاء المقدارية كأجزاء الخط والسطح. والمدّعى أنّ ذاته تعالى بسيط ليس بمركّب من الأجزاء مطلقاً.
والدليل على أنّه ليس مركّباً من الأجزاء الخارجية والمقدارية أنّه سبحانه منزّه عن الجسم والمادّة كما سيوافيك البحث عنه في الصفات السلبية.
والبرهان على عدم كونه مركّباً من الأجزاء العقلية هو أنّ واجب الوجود بالذات لا ماهية له، وما لا ماهية له ليس له أجزاء عقلية الّتي هي الجنس والفصل .
والوجه في انتفاء الماهية عنه تعالى بهذا المعنى هو أنّ الماهيّة من حيث هي هي، مع قطع النظر عن غيرها، متساوية النسبة إلى الوجود والعدم، فكلّ ماهيّة من حيث هي، تكون ممكنة، فما ليس بممكن، لا ماهيّة له واللّه تعالى بما أنّه واجب الوجود بالذات، لا يكون ممكناً بالذات فلا ماهيّة له.
دلائل وحدانيته
1- التعدّد يستلزم التركيب:
لو كان هناك واجب وجود آخر لتشارك الواجبان في كونهما واجبي الوجود، فلا بدّ من تميّز أحدهما عن الآخر بشيء وراء ذلك الأمر المشترك، وذلك يستلزم تركّب كلٍّ منهما من شيئين: أحدهما يرجع إلى ما به الاشتراك، والآخر إلى ما به الامتياز، وقد عرفت أنّ واجب الوجود بالذّات بسيط ليس مركّباً لا من الأجزاء العقلية ولا الخارجية.
2- صرف الوجود لا يتثنّى ولا يتكرّر:
قد تبيّن أنّ واجب الوجود بالذّات لا ماهيّة له، فهو صرف الوجود، ولا يخلط وجوده نقص وفقدان، ومن الواضح أنّ كلّ حقيقة من الحقائق إذا تجرّدت عن أيّ خليط وصارت صرف الشيء، لا يمكن أن تُثنّى وتُعدّد.
وعلى هذا، فإذا كان سبحانه ـ بحكم أنّه لا ماهيّة له ـ وجوداً صرفاً، لا يتطرّق إليه التعدّد، ينتج أنّه تعالى واحد لا ثاني له ولا نظير وهو المطلوب.
التوحيد الذاتي في القرآن والحديث
إنّ القرآن الكريم عندما يصف الله تعالى بالوحدانية، يصفه بـ"القهّاريّة" ويقول: ﴿هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ .
وبهذا المضمون آيات متعدّدة أُخرى في الكتاب المجيد، وما ذلك إلاّ لأنّ الموجود المحدود المتناهي مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه، فإذا كان قاهراً من كلّ الجهات لم تتحكّم فيه الحدود، فاللاّ محدودية تلازم وصف القاهرية.
ومن هنا يتضح أنّ وحدته تعالى ليست وحدة عددية ولا مفهومية، قال العلاّمة الطباطبائي قدس سره: "إنّ كلّاً من الوحدة العددية كالفرد الواحد من النوع، والوحدة النوعية كالإنسان الذي هو نوع واحد في مقابل الأنواع الكثيرة، مقهور بالحدّ الذي يميّز الفرد عن الآخر والنوع عن مثله، فإذا كان تعالى لا يقهره شيء وهو القاهر فوق كلّ شيء، فليس بمحدود في شيء، فهو موجود لا يشوبه عدم، وحقّ لا يعرضه باطل، فللّه من كلّ كمال محضه" .
وقد أشير في سورة التوحيد إلى معنيي التوحيد (الأحدية والواحدية)، فإلى المعنى الأوّل، أُشير بقوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ .
وإلى المعنى الثاني بقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ .
نظرية التثليث عند النصارى
إنّ كلمات المسيحيين في كتبهم الكلامية تحكي عن أنّ الاعتقاد بالتثليث (الأقانيم الثلاثة: الأب، الابن والروح القدس) من المسائل الأساسية التي تبنى عليها عقيدتهم، ولا مناص لأي مسيحي من الاعتقاد به، وفي عين الوقت يعتبرون أنفسهم موحدين غير مشركين، وأنّ الإله في عين كونه واحداً ثلاثة ومع كونه ثلاثة واحد أيضا. وأقصى ما عندهم في تفسير الجمع بين هذين النقيضين هو أنّ عقيدة التثليث عقيدة تعبّدية محضة ولا سبيل إلى نفيها وإثباتها إلا الوحي، فإنها فوق التجريبيات الحسية والإدراكات العقلية المحدودة للإنسان.
تسرّب عقيدة التثليث إلى النصرانية
إنّ التاريخ البشري يرينا أنه لطالما عمد بعض أتباع الأنبياء عليهم السلام - بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم - إلى الشرك والوثنية، تحت تأثير المضلّين. إنّ عبادة بني إسرائيل للعجل في غياب النبي موسى عليه السلام أظهر نموذج لما ذكرناه وهو مما أثبته القرآن والتاريخ، وعلى هذا فلا عجب إذا رأينا تسرّب عقيدة التثليث إلى النصرانية بعد ذهاب السيد المسيح عليه السلام وغيابه عن أتباعه. إنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ التثليث دخل النصرانية بعد رفع المسيح، من العقائد الباطلة السابقة عليها، حيث يقول تعالى: ﴿وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ .
لقد أثبتت الأبحاث التاريخية أنّ هذا التثليث كان في الديانة البرهمانية والهندوكية قبل ميلاد السيد المسيح بمئات السنين، فقد تجلّى الرب الأزلي الأبدي لديهم في ثلاثة مظاهر وآلهة:
1- براهما (الخالق).
2- فيشنوا (الواقي).
3- سيفا (الهادم).
وبذلك يظهر قوة ما ذكره الفيلسوف الفرنسي "غستاف لوبون" قال: "قد واصلت المسيحية تطورها في القرون الخمسة الأولى من حياتها، مع أخذ ما تيسر من المفاهيم الفلسفية والدينية اليونانية والشرقية، وهكذا أصبحت خليطاً من المعتقدات المصرية والإيرانية التي انتشرت في المناطق الأوربية حوالي القرن الأول الميلادي فاعتنق الناس تثليثاً جديداً مكوّناً من الأب والابن وروح القدس، مكان التثليث القديم المكوّن من (نروبى تر) و (وزنون) و (نرو)".
نقد القرآن الكريم لعقيدة التّثليث
لقد رفض القرآن بشكل قاطع عقيدة التّثليث، واعتبرها مخالفة لعقيدة التّوحيد، بل ووصف القائلين بها بالكفر، وقد أشار القرآن بصورة صريحة إلي عقيدة التّثليث في آيتين، الأولي جاءت في سورة النّساء، وهي قوله تعالي: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً﴾ .
والثّانية في قوله تعالي: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ .
وفي الحقيقة إذا نظرنا إلي عبارتي: "ثلاث" و"ثالث ثلاثة" في سياقها في الآيتين المذكورتين نلاحظ أنّهما قد يعنيان: "ثلاثة آلهة"، إذ بعد ذكر كلّ عبارة منهما يقع التّأكيد مباشرة علي أنّ الله واحد، أي: أنّه لا يُوجد ثلاثة آلهة.
وهذا ما يؤكّده المفسّرون من أنّ المقصود بـ (ثلاثة) في الآيتين المذكورتين "ثلاثة آلهة"، ويرون في ذلك جوهر عقيدة النّصاري، وإن كانوا لا يعلنونها صراحة، ويقدّمونها في شكل إله واحد له ثلاثة أقانيم.
إنّ القرآن الكريم إذ يدحض عقيدة التّثليث بشكل عام يهدف أوّلاً إلي اثبات التّوحيد الذّاتي لله سبحانه، وأيضاً دحض العلاقة الّتي يقيمها النّصاري بين عيسي والأُلوهيّة،من خلال القول بأنّ عيسي ابن الله أو هو الله المتجسّد، وأيضاً إبطال الصّيغة اللاهوتية الّتي يعطونها للرّوح القدس أو لمريم بالنّسبة إلي بعض الفرق.
فالقرآن يشدّد علي أنّ هذا القول مؤدّاه إلي الكفر، وقد رفض أيضاً أن يكون لله سبحانه ابن أو ولد، قال تعالي: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ .
وقال أيضاً: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ﴾ ، بل نعت القرآن القول بأنّ المسيح عليه السلام هو الله بالكفر والشّرك، كما في قوله تعالي: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ﴾ .
وأيضاً بالنّسبة إلي كلمة: "روح القدس" فإنّه رغم تعدّد ذكرها في القرآن الكريم، ولكنّها نجدها مفرغة من البعد الإلهي الّذي أعطاه أياها النصاري، فالروح القدس هو المؤيّد والمسدّد للأنبياء عليهم السلام، كما في قوله تعالي: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ وأيضاً قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ ، فهو مخلوق من مخلوقات الله تبارك وتعالي، ولا يمكن لمخلوق أن يكون إلهاً.
بالإضافة إلي كلّ هذا فإنّ العهد الجديد يرفض كون هذه الأقانيم الثّلاثة: (أب، الابن، الروح القدس) متساوية، فإنّ المسيح يصرّح في إنجيل يوحنّا بأنّ الأب أعظم منه، حيث جاء في إنجيل يوحنّا:
"لو كنتم تحبّونني لكنتم تفرحون لأنّي قلت أمضي إلي الأب، لأنّ أبي أعظم منّي" . بل ينفي عن نفسه أيّ قدرة مستقلّة، حيث يقول: "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً، كما أسمع أدين ودينونتي عادلة،لأنّي لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الأب الّذي أرسلني" .
ومن جهة أخرى نجد أنّ النبي عيسي عليه السلام كان كثير العبادة، كما تنقل ذلك آيات العهد الجديد, إذ إنّه صام أربعين يوماً، وكان يخلو للعبادة أحياناً الليل كلّه، فلا يعقل كونه (ابن الله) بمعني أحد الأقانيم الثلاثة إطلاقاً،إذ لا يعقل أن يكون له جوهر وطبيعة الأُلوهية،وهو يصوم ويصلّي ويتعبّد لغيره.
وبالإضافة إلي ما تقدّم فإنّ العقل يرفض هذه العقيدة مطلقاً،لكونها مخالفة للضرورة العقليّة الّتي تأبي أن يكون الإله الخالق البسيط الذّات، مركباً من أقانيم أو شخصيات أو أي نوع آخر من التّركيب، إذ التّركيب يستلزم الاحتياج،والله سبحانه غنّي بذاته عن أيّ شيء آخر.
ولكن مع ذلك فإنّ الكنيسة المسيحيّة بمختلف مذاهبها تُؤمن بأنّ هذه العقيدة أساس المسيحيّة، والمنكر لها خارجٌ عن الدّين المسيحي!!
المفاهيم الرئيسة
- يعتبر التوحيد على رأس الأصول الاعتقاديّة في الأديان الإلهيّة، وله العديد من المراتب منها: التوحيد في الذات.
- معنى التوحيد في الذات أنّه سبحانه يتّصف بالأحديّة والواحدية.
- الله سبحانه وتعالى منزّه عن كلّ أنحاء التركيب سواء الخارجي أو المقداريّ أو العقليّ وبهذا تثبت أحديّته.
- من الأدلّة على وحدانية الله تعالى أنّ التعدّد يستلزم التركيب وتنزّه الله تعالى عن التركيب، ومن جهة أخرى هو صرف الوجود، وصرف الوجود لا يتثنّى ولا يتكرّر.
- تقودنا الأبحاث التاريخيّة إلى الاعتقاد أنّ عقيدة التثليث قد تسرّبت من بعض الديانات الهندية إلى النصرانيّة.
- لقد رفض القرآن الكريم عقيدة التثليث وردّ عليها بمنطق العقل والبرهان، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً﴾.
- مضافاً لما تقدّم نجد أنّ العهد الجديد يرفض فكرة تساوي الأقانيم الثلاثة (الأب، الإبن والروح القدس)، بل نجده ينسب إلى المسيح عليه السلام وفي عدّة مواضع الصفات البشرية المحضة، فكيف يدّعى والحال هذه أنّه إله؟!
المصادر :
راسخون 2018