
على امتداد أيام السنة تبقى عيون المؤمنين ترنو هلال شهر رمضان المبارك، وذلك لما يتميز به من فضل وكرامة وبركة، أوليس شهر رمضان أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات؟؟
لذا صار هذا الشهر موسم الإيمان، ومائدة التقوى، وساحة العرفان..
من هنا ما أن يعبق شذى شهر رمضان بأريجه الفواح إلا والمؤمنون يستعدون للإستزادة منه إيماناً وتقوى، وهداية وصلاحاً، والمسارعة الى الخيرات والمبرات.
بلى؛ إن فضل شهر رمضان لا يمكن أن يُحد بحدود، ولا يُؤطر بنوافذ، وإنما هو آفاق مفتوحة للطالبين، ومناهل مترعة لمن أراد المزيد..
وعلى هذا لا ينبغي أن يقف أحدنا عند حد معين من نعم هذا الشهر، وإنما يجدر بنا أن نضاعف اهتمامنا بأعماله، وأن نزيد من تفاعلنا معه في تربية أنفسنا وخدمة المجتمع.. كل ذلك لكي نحصل على أكثر نصيباً من الخيرات، وأرفع منزلة في الصالحات، وأقرب الى رضوان الرب الجليل.
وما هذه إلا خطوة على طريق الاستزادة من فضل شهر رمضان المبارك،
ليحرز أكبر قدر ممكن من الصبر على العطش والجوع والسهر والابتعاد عن الماء والحمّام وما أشبه ذلك، نظراً لما تتطلبه الحروب أو بعض المصاعب من قدرة خاصة على التحمل، ولما تمتاز به ظروف الحروب من نقص في اللذات المتوفرة في حالة السلم.
وكذلك الأمر بالنسبة لتأريخ الأديان التي كانت تفرض على أتباعها صوراً وأشكالاً من التدريبات الجسدية والروحية؛ فمثلاً كان بنو إسرائيل يؤهلون من يريد التفرغ للعبادة والتبتل والرهبنة عن طريق الصيام مدة طويلة عن الطعام والشراب والكلام أيضاً، ليكون ذا مناعة عن الرجوع.
كما كانت أقوام وديانات أخرى تفرض على نفسها أنواعاً أخرى من الصيام، كالصوم عن اللحم وما يرتبط بالحيوانات، أو الصوم عن النوم، فيسهرون ويسهرون حتى يتأكدوا من هزيمة النوم..
وكان هناك صوم الوصال؛ أي الصوم المتواصل حتى تحقيق أو تحقق الهدف المقصود منه، كأن تمطر السماء، أو يرجع الغائب..
لكن الإسلام جاء برسالة تنظيم لهذه الأنواع من الصيام، والاتجاه به نحو هدف سامٍ ومقدس، وهو إحراز التقوى والتقرب إلى الله تعالى؛ لأن الإسلام هو خاتم الأديان والرسالات، فكان طبيعياً وضرورياً أن يأتي التشريع الأكمل والأنفع للإنسان.
فكان الصوم في بدء الشريعة الإسلامية ممتداً إلى الليل، مصحوباً ببعض التحريمات، لكن الإسلام أهلّ فيما بعد ما حرّم في الليل، وجعل مدة الصوم إلى الليل فقط.
إذن؛ فإن الصوم لم يكن بالأمر الغريب على أذهان الناس عبر التأريخ، وكان يأخذ بين الحين والآخر صورة من الصور، وإنما كان دور الإسلام هو تنظيمه وإضفاء الحالة الهدفية التي يريدها الله عليه، فأصبح التشريع الأيسر والأفضل، حتى اعتُبر من يترك هذه الفريضة مع يسرها وسهولتها التي تمتاز به، اعتبر من الأشقياء بحق، لأنه لا يجد لنفسه عذراً سوى ضعف الإرادة وهجر الخير واستحباب الدنيا بتوافهها على الآخرة بعظمتها وجلالها..
نصوم بين طلوع الفجر وغروب الشمس، فنكفّ منافذَ أجسامنا عما أوجب الله سبحانه وتعالى الاجتناب عنه من الطعام والشراب والشهوة وما أشبه، هذه حدود الصيام الظاهرية..
ولكن؛ هل أن كل صائمٍ تصدق عليه هذه التسمية؟ وهل أن الصائمين كلهم في مستوى واحد؟ وهل أنك ترضى لنفسك أن تكون في المستوى الأدون؟! لا أتصوّر أنك كذلك، ولا أنا، ولا كل صائم، فالجميع يبحثون في حياتهم عن الأفضل والأرقى، سواء في أمور الدنيا أو الآخرة..
غير أنه يبقى من الصائمين من لا حظّ له من صيامه سوى الجوع والعطش، وليس الصوم بالنسبة له إلاّ ساعات من الإمساك عن الأكل والشرب.. في حين أن من الصائمين ثلّة تتقرب بصيامها إلى الله حتى تعتق رقابها من النار ويُغفر لها وتوجب لها الجنة، وبين هذا وذاك درجات من الصائمين..
إن أول درجة من درجات الصيام هي أن تصوم وتصوم معك كل جوارحك وأفعالها. فلا تصوم عينك عن الحرام فقط، بل حتى عن الشبهات، ويصوم لسانك فيكفّ عن الكذب والتهمة والافتراء والغيبة وغيرها.. وقد تواتر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر لإحدى الصائمات بطعام، فتعجبت قائلة: يا رسول الله إني صائمة، فقال لها: كيف تكونين صائمة وقد أكلتِ لحم الناس، في إشارة إلى ذهاب ثوابها لفعلها الغيبة المنكرة..
فالصوم ليس هو الصيام الظاهري فحسب، وإنما هو كما قدّمنا امتناعً عام عن كل المحرمات الظاهرية والباطنية.
إن من الناس من تسوء أخلاقه أثناء الصيام، في حين إن الصوم يدعونا إلى البشاشة والطلاقة والتطور الروحي، لما فيه انعتاق عن المادة..
وهناك درجة أسمى من الصوم العادي، وهو أن يصوم المرء بقلبه، حيث يكون معراجاً للحب، ومهبطاً للملائكة، ومنزلاً للرحمة الإلهية بدلاً من أن يكون مهوىً للشياطين، ومركزاً للوساوس والأحقاد والعصبيات والحميات الجاهلية الباطلة.
بلى، إن الصوم قد يكون مستحباً، وقد يكون واجباً، ولكن صيام شهر رمضان واجب على كل إنسان مكلّف، وإن أفضل الصيام هو صوم المنافذ والجوارح والقلب، وأن تكون النية في ذلك كله منعقدة على العزم على أن يكون الصوم معراجاً إلى بلوغ مرحلة التقوى والورع ، لأن الله تبارك وتعالى لم يكتب علينا الفريضة الشريفة هذه إلا لنكون من المتقين كما صرحت به الآية الكريمة بصورة مباشرة.
إن من نعم الله على الإنسان أنه يمنحه فرص العودة إليه، هذه الفرص تعتبر بمثابة نفحات رحمانية يتوجب عليه كمخلوق أن يتعرض لها. ومما لا شك فيه أن شهر رمضان من أرقى فرص التوبة، وذلك لأسباب عديدة، منها:
إن الله سبحانه وتعالى قد كتب على نفسه بأن يتوب في هذا الشهر الكريم على عباده المسرفين الظالمين لأنفسهم..
ومنها؛ إن لهذا الشهر ميزةٌ على غيره من الشهور، حيث يجد المرء نفسه فيها في ظروف مناسبة تؤهله لخوض تحول معنوي عظيم،، فتراه يعكف على قراءة القرآن والأدعية وحضور مجالس الخير في ضمن الجوّ الإيماني السائد في مجتمع الصائمين.
ومنها؛ إن في أحايين معينة يتنور قلب الإنسان بنور الله العلي العظيم، حتى كأنه ثم ومضة من النور الإلهي تنفذ الى أعماقه، فيتفتح القلب ولو للحظات. هذه فرصة -لا تُثمَّن- قد أمر ربنا سبحانه وتعالى رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أن يبلغها الإنسان على الأرض عموماً، وإلى المؤمنين على وجه الخصوص، وهي أنه قد كتب على نفسه الرحمة، وهو دونما أي تأثير خارجي -والعياذ بالله جل جلاله- أراد الرحمة، فكان من أعظم أسمائه الحسنى اسما " الرحمن، الرحيم" وكانت رحمته واسعة، رحمة سبقت كل الغضب، وكل ذنوب العباد.
فتمثلت هذه الرحمة الإلهية بأنه من عمل سوءاً من المؤمنين ثم تاب توبةً ملِؤها الندم والعزم على الخير والصلاح، والإحساس بالحاجة إلى التطهر والنقاء، والعودة إلى الرب الغفور الرحيم، وإلى تلك الحالة المعنوية والفطرة السليمة، وإرادة عدم الاحتجاب عن المناجاة المباشرة مع الله تعالى… تاب الله عليه
فالإنسان إذا ظلم الناس فقد أفسد حياته وضميره بادئ بدء؛ وإن من لا يحترم الآخرين لا يحترم نفسه، لأنه واحد منهم، ولا يمكن أن يتصور انفصاله عمن حوله بحالٍ من الأحوال.. وهو إذا ما أراد أن يصلح، فعليه أن يصلح ما بينه وبينهم، وذلك كأن يدفع بالظلامة عنهم، ويطلب البراءة منهم، وأن يحطم الحواجز النفسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية التي تفصل بينهما.
إذن؛ فالتوبة لا تتحقق لها مصداقية تُذكر ما لم تتبعها خطوات إصلاحية، تستحق بموجبها الرحمة التي كتبها الله على نفسه، فيأخذ بيده الى ممارسة المزيد من أعمال الخير والصلاح، وإذ ذاك يتم التوافق والانسجام بين عمل الإنسان وسيرته، وبين ما يريده الله سبحانه وتعالى من الإنسان وما يحبذه له.
لماذا كتبت علينا فريضة الصيام في شهر رمضان؟ فإن كانت حكمة الصيام هي تحصيل التقوى وتزكية النفس وتعبئة الحالة الروحية في الإنسان، فهذا يقتضي أن يكون الصيام في أي يوم، وفي أي شهر، وفي أي فصل من فصول السنة، فلماذا سُنّ الصيام في شهر رمضان المبارك بالذات؟
وللإجابة على ذلك، أقول: إن الصوم بذاته واجب على الإنسان أن يؤديه في السنة شهراً، ثم تحدد هذا الشهر برمضان، فإن لم يستطع المسلم أن يصومه فعليه أن يقضيه في أيام اُخر؛ أي أن يصوم شهر كاملاً بدلاً عن الصيام في شهر رمضان، هذا أولاً..
وثانياً: إن شهر رمضان قد إختصه الله سبحانه وتعالى بحكمته البالغة، فهو الفعّال لما يريد، وهو الذي يسأل ولا يُسأل عما يفعل. خصّ الله شهر رمضان برحمته، وجعل فيه ليلة القدر، وأنزل في هذه الليلة المقدسة القرآن الكريم، كما جعل في هذا الشهر المناسبات الجميلة واللطيفة، كما خصّه باستجابة الدعاء ومضاعفة الخير ، حتى أن الإنسان ليقرأ الآية الواحدة من الذكر الحكيم فيضاعف الله له الثواب، فيكون كأنما قد قرأ القرآن الكريم كلّه...
وقد قال الله تعالى كما جاء في الحديث القدسي:" الصوم لي وأنا أجزي به" بمعنى أن الله هو الوحيد القادر على إحصاء ثواب الصيام المكتوب للصائم، دون الملائكة واللوح والقلم والعادّين عموماً. ومن هنا جعل الصوم باعتباره عملاً شريفاً عظيماً وجُنةً من النار، كما جعل هذا الصوم أيضاً في هذا الشهر باعتبار عظمة هذا الشهر.
ولمّا كان شهر رمضان شهر الرحمة والجذب إلى الله سبحانه وتعالى وهو مصدر الرحمة، تجد الناس مطمئنين النفس والوجدان، فيمرّ عليهم هذا الشهر مروراً سريعاً يفاجئون بانتهائه.
ولهذا ولغيره من الأسباب الاضطرارية فقد خفّف الله عن عباده الصيام في شهر رمضان وأرجأه الى أيام اُخر، ولم يأمر المسافر -مثلاً- بأداء فريضة الصيام، بل حتى قال بعض الفقهاء بعدم جواز الصيام فيه، فضلاً عن عدم وجوبه، لأن الرخصة في هذا الإطار بمثابة الهدية الإلهية، ولا يصح ردّ هدية الله. كذلك الأمر بالنسبة الى حالة المرض التي لا تتطلب أن يجهد المرء نفسه لتجاوزها، فالله رؤوف بعباده، ولا يريد لهم التعب.
وعلى هذا الأساس حدّد الله تبارك وتعالى شهر رمضان شهراً للصيام، ليتقرب الى بارئه أكثر من أي وقت آخر، فيستفيد من هذه الفريضة الإلهية أكثر الاستفادة، حيث يصل به إلى التقوى والرضوان.
المصادر :
1- البقرة/183
2- الانعام/54
3- البقرة/ 183-184
لذا صار هذا الشهر موسم الإيمان، ومائدة التقوى، وساحة العرفان..
من هنا ما أن يعبق شذى شهر رمضان بأريجه الفواح إلا والمؤمنون يستعدون للإستزادة منه إيماناً وتقوى، وهداية وصلاحاً، والمسارعة الى الخيرات والمبرات.
بلى؛ إن فضل شهر رمضان لا يمكن أن يُحد بحدود، ولا يُؤطر بنوافذ، وإنما هو آفاق مفتوحة للطالبين، ومناهل مترعة لمن أراد المزيد..
وعلى هذا لا ينبغي أن يقف أحدنا عند حد معين من نعم هذا الشهر، وإنما يجدر بنا أن نضاعف اهتمامنا بأعماله، وأن نزيد من تفاعلنا معه في تربية أنفسنا وخدمة المجتمع.. كل ذلك لكي نحصل على أكثر نصيباً من الخيرات، وأرفع منزلة في الصالحات، وأقرب الى رضوان الرب الجليل.
وما هذه إلا خطوة على طريق الاستزادة من فضل شهر رمضان المبارك،
الصوم عبر التاريخ
كان الإنسان عبر التاريخ بحاجة ماسة إلى أن يمرّن نفسه ويربيها لمواجهة الصعاب والمشاكل. ففي أنظمة الحكم المتفاوتة وعبر القرون المديدة، كان الناس يهتمون بتربية رجال أفذاذ، مهمتهم مواجهة الأعداء في المعارك، فكانوا يدربونه جسدياً وينمونه معنوياً، وذلك عبر منعه وإبعاده عن الذات العاجلة، وفرض الصيام عليه لفترات معيّنة.ليحرز أكبر قدر ممكن من الصبر على العطش والجوع والسهر والابتعاد عن الماء والحمّام وما أشبه ذلك، نظراً لما تتطلبه الحروب أو بعض المصاعب من قدرة خاصة على التحمل، ولما تمتاز به ظروف الحروب من نقص في اللذات المتوفرة في حالة السلم.
وكذلك الأمر بالنسبة لتأريخ الأديان التي كانت تفرض على أتباعها صوراً وأشكالاً من التدريبات الجسدية والروحية؛ فمثلاً كان بنو إسرائيل يؤهلون من يريد التفرغ للعبادة والتبتل والرهبنة عن طريق الصيام مدة طويلة عن الطعام والشراب والكلام أيضاً، ليكون ذا مناعة عن الرجوع.
كما كانت أقوام وديانات أخرى تفرض على نفسها أنواعاً أخرى من الصيام، كالصوم عن اللحم وما يرتبط بالحيوانات، أو الصوم عن النوم، فيسهرون ويسهرون حتى يتأكدوا من هزيمة النوم..
وكان هناك صوم الوصال؛ أي الصوم المتواصل حتى تحقيق أو تحقق الهدف المقصود منه، كأن تمطر السماء، أو يرجع الغائب..
لكن الإسلام جاء برسالة تنظيم لهذه الأنواع من الصيام، والاتجاه به نحو هدف سامٍ ومقدس، وهو إحراز التقوى والتقرب إلى الله تعالى؛ لأن الإسلام هو خاتم الأديان والرسالات، فكان طبيعياً وضرورياً أن يأتي التشريع الأكمل والأنفع للإنسان.
فكان الصوم في بدء الشريعة الإسلامية ممتداً إلى الليل، مصحوباً ببعض التحريمات، لكن الإسلام أهلّ فيما بعد ما حرّم في الليل، وجعل مدة الصوم إلى الليل فقط.
إذن؛ فإن الصوم لم يكن بالأمر الغريب على أذهان الناس عبر التأريخ، وكان يأخذ بين الحين والآخر صورة من الصور، وإنما كان دور الإسلام هو تنظيمه وإضفاء الحالة الهدفية التي يريدها الله عليه، فأصبح التشريع الأيسر والأفضل، حتى اعتُبر من يترك هذه الفريضة مع يسرها وسهولتها التي تمتاز به، اعتبر من الأشقياء بحق، لأنه لا يجد لنفسه عذراً سوى ضعف الإرادة وهجر الخير واستحباب الدنيا بتوافهها على الآخرة بعظمتها وجلالها..
من أجل التقوى
{ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (1)نصوم بين طلوع الفجر وغروب الشمس، فنكفّ منافذَ أجسامنا عما أوجب الله سبحانه وتعالى الاجتناب عنه من الطعام والشراب والشهوة وما أشبه، هذه حدود الصيام الظاهرية..
ولكن؛ هل أن كل صائمٍ تصدق عليه هذه التسمية؟ وهل أن الصائمين كلهم في مستوى واحد؟ وهل أنك ترضى لنفسك أن تكون في المستوى الأدون؟! لا أتصوّر أنك كذلك، ولا أنا، ولا كل صائم، فالجميع يبحثون في حياتهم عن الأفضل والأرقى، سواء في أمور الدنيا أو الآخرة..
غير أنه يبقى من الصائمين من لا حظّ له من صيامه سوى الجوع والعطش، وليس الصوم بالنسبة له إلاّ ساعات من الإمساك عن الأكل والشرب.. في حين أن من الصائمين ثلّة تتقرب بصيامها إلى الله حتى تعتق رقابها من النار ويُغفر لها وتوجب لها الجنة، وبين هذا وذاك درجات من الصائمين..
إن أول درجة من درجات الصيام هي أن تصوم وتصوم معك كل جوارحك وأفعالها. فلا تصوم عينك عن الحرام فقط، بل حتى عن الشبهات، ويصوم لسانك فيكفّ عن الكذب والتهمة والافتراء والغيبة وغيرها.. وقد تواتر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر لإحدى الصائمات بطعام، فتعجبت قائلة: يا رسول الله إني صائمة، فقال لها: كيف تكونين صائمة وقد أكلتِ لحم الناس، في إشارة إلى ذهاب ثوابها لفعلها الغيبة المنكرة..
فالصوم ليس هو الصيام الظاهري فحسب، وإنما هو كما قدّمنا امتناعً عام عن كل المحرمات الظاهرية والباطنية.
إن من الناس من تسوء أخلاقه أثناء الصيام، في حين إن الصوم يدعونا إلى البشاشة والطلاقة والتطور الروحي، لما فيه انعتاق عن المادة..
وهناك درجة أسمى من الصوم العادي، وهو أن يصوم المرء بقلبه، حيث يكون معراجاً للحب، ومهبطاً للملائكة، ومنزلاً للرحمة الإلهية بدلاً من أن يكون مهوىً للشياطين، ومركزاً للوساوس والأحقاد والعصبيات والحميات الجاهلية الباطلة.
بلى، إن الصوم قد يكون مستحباً، وقد يكون واجباً، ولكن صيام شهر رمضان واجب على كل إنسان مكلّف، وإن أفضل الصيام هو صوم المنافذ والجوارح والقلب، وأن تكون النية في ذلك كله منعقدة على العزم على أن يكون الصوم معراجاً إلى بلوغ مرحلة التقوى والورع ، لأن الله تبارك وتعالى لم يكتب علينا الفريضة الشريفة هذه إلا لنكون من المتقين كما صرحت به الآية الكريمة بصورة مباشرة.
لقاءٌ بين التوبة والرحمة..
{ وإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاَيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَاَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (2)إن من نعم الله على الإنسان أنه يمنحه فرص العودة إليه، هذه الفرص تعتبر بمثابة نفحات رحمانية يتوجب عليه كمخلوق أن يتعرض لها. ومما لا شك فيه أن شهر رمضان من أرقى فرص التوبة، وذلك لأسباب عديدة، منها:
إن الله سبحانه وتعالى قد كتب على نفسه بأن يتوب في هذا الشهر الكريم على عباده المسرفين الظالمين لأنفسهم..
ومنها؛ إن لهذا الشهر ميزةٌ على غيره من الشهور، حيث يجد المرء نفسه فيها في ظروف مناسبة تؤهله لخوض تحول معنوي عظيم،، فتراه يعكف على قراءة القرآن والأدعية وحضور مجالس الخير في ضمن الجوّ الإيماني السائد في مجتمع الصائمين.
ومنها؛ إن في أحايين معينة يتنور قلب الإنسان بنور الله العلي العظيم، حتى كأنه ثم ومضة من النور الإلهي تنفذ الى أعماقه، فيتفتح القلب ولو للحظات. هذه فرصة -لا تُثمَّن- قد أمر ربنا سبحانه وتعالى رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أن يبلغها الإنسان على الأرض عموماً، وإلى المؤمنين على وجه الخصوص، وهي أنه قد كتب على نفسه الرحمة، وهو دونما أي تأثير خارجي -والعياذ بالله جل جلاله- أراد الرحمة، فكان من أعظم أسمائه الحسنى اسما " الرحمن، الرحيم" وكانت رحمته واسعة، رحمة سبقت كل الغضب، وكل ذنوب العباد.
فتمثلت هذه الرحمة الإلهية بأنه من عمل سوءاً من المؤمنين ثم تاب توبةً ملِؤها الندم والعزم على الخير والصلاح، والإحساس بالحاجة إلى التطهر والنقاء، والعودة إلى الرب الغفور الرحيم، وإلى تلك الحالة المعنوية والفطرة السليمة، وإرادة عدم الاحتجاب عن المناجاة المباشرة مع الله تعالى… تاب الله عليه
فالإنسان إذا ظلم الناس فقد أفسد حياته وضميره بادئ بدء؛ وإن من لا يحترم الآخرين لا يحترم نفسه، لأنه واحد منهم، ولا يمكن أن يتصور انفصاله عمن حوله بحالٍ من الأحوال.. وهو إذا ما أراد أن يصلح، فعليه أن يصلح ما بينه وبينهم، وذلك كأن يدفع بالظلامة عنهم، ويطلب البراءة منهم، وأن يحطم الحواجز النفسية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية التي تفصل بينهما.
إذن؛ فالتوبة لا تتحقق لها مصداقية تُذكر ما لم تتبعها خطوات إصلاحية، تستحق بموجبها الرحمة التي كتبها الله على نفسه، فيأخذ بيده الى ممارسة المزيد من أعمال الخير والصلاح، وإذ ذاك يتم التوافق والانسجام بين عمل الإنسان وسيرته، وبين ما يريده الله سبحانه وتعالى من الإنسان وما يحبذه له.
لقاء الرحمة والعبادة
{ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنْكُم مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ اُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (3)لماذا كتبت علينا فريضة الصيام في شهر رمضان؟ فإن كانت حكمة الصيام هي تحصيل التقوى وتزكية النفس وتعبئة الحالة الروحية في الإنسان، فهذا يقتضي أن يكون الصيام في أي يوم، وفي أي شهر، وفي أي فصل من فصول السنة، فلماذا سُنّ الصيام في شهر رمضان المبارك بالذات؟
وللإجابة على ذلك، أقول: إن الصوم بذاته واجب على الإنسان أن يؤديه في السنة شهراً، ثم تحدد هذا الشهر برمضان، فإن لم يستطع المسلم أن يصومه فعليه أن يقضيه في أيام اُخر؛ أي أن يصوم شهر كاملاً بدلاً عن الصيام في شهر رمضان، هذا أولاً..
وثانياً: إن شهر رمضان قد إختصه الله سبحانه وتعالى بحكمته البالغة، فهو الفعّال لما يريد، وهو الذي يسأل ولا يُسأل عما يفعل. خصّ الله شهر رمضان برحمته، وجعل فيه ليلة القدر، وأنزل في هذه الليلة المقدسة القرآن الكريم، كما جعل في هذا الشهر المناسبات الجميلة واللطيفة، كما خصّه باستجابة الدعاء ومضاعفة الخير ، حتى أن الإنسان ليقرأ الآية الواحدة من الذكر الحكيم فيضاعف الله له الثواب، فيكون كأنما قد قرأ القرآن الكريم كلّه...
وقد قال الله تعالى كما جاء في الحديث القدسي:" الصوم لي وأنا أجزي به" بمعنى أن الله هو الوحيد القادر على إحصاء ثواب الصيام المكتوب للصائم، دون الملائكة واللوح والقلم والعادّين عموماً. ومن هنا جعل الصوم باعتباره عملاً شريفاً عظيماً وجُنةً من النار، كما جعل هذا الصوم أيضاً في هذا الشهر باعتبار عظمة هذا الشهر.
ولمّا كان شهر رمضان شهر الرحمة والجذب إلى الله سبحانه وتعالى وهو مصدر الرحمة، تجد الناس مطمئنين النفس والوجدان، فيمرّ عليهم هذا الشهر مروراً سريعاً يفاجئون بانتهائه.
ولهذا ولغيره من الأسباب الاضطرارية فقد خفّف الله عن عباده الصيام في شهر رمضان وأرجأه الى أيام اُخر، ولم يأمر المسافر -مثلاً- بأداء فريضة الصيام، بل حتى قال بعض الفقهاء بعدم جواز الصيام فيه، فضلاً عن عدم وجوبه، لأن الرخصة في هذا الإطار بمثابة الهدية الإلهية، ولا يصح ردّ هدية الله. كذلك الأمر بالنسبة الى حالة المرض التي لا تتطلب أن يجهد المرء نفسه لتجاوزها، فالله رؤوف بعباده، ولا يريد لهم التعب.
وعلى هذا الأساس حدّد الله تبارك وتعالى شهر رمضان شهراً للصيام، ليتقرب الى بارئه أكثر من أي وقت آخر، فيستفيد من هذه الفريضة الإلهية أكثر الاستفادة، حيث يصل به إلى التقوى والرضوان.
المصادر :
1- البقرة/183
2- الانعام/54
3- البقرة/ 183-184