القرآن الكريم يشير بوضوح الى عظمة ليلة القدر قائلاً: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)(القدر/3) بمعنى أنّ هذه الليلة تعادل ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر، فأن يصل الإنسان الى هذا العمر فهذا شيء مهمّ جدّاً، وقد روي أنه (صلى الله عليه وآله) لمّا غزا تبوك ورجع سالماً، استبشر الناس، وقالوا: ما فعل مثل هذا أحد. فقال النبي صلى الله عليه وآله: "كان في بني اسرائيل رجل، يقال له ابن نانين، وكان له ألف ابن، فغزاهم عدوّ، فحاربوه ألف شهر، كلّ ابن شهراً، حتى قتلوا جميعاً، وأبوهم يصلي ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً، ثم قاتل بنفسه حتى قتل" فتمنى المسلمون منـزلته، فأنزل الله: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ يعني لذلك الرجل. (1)
وبهذا حصلت الأمة الإسلامية على موهبة عظيمة تميّزت بها عن سائر الأمم.
ومع ذلك؛ فإنّ الإنسان الخاسر بكلّ ألوان الخسارة، والشقيّ بكلّ أبعاد الشقاء، هو ذلك الذي تمرّ عليه هذه الليلة الشريفة دون أن يستغلّها وينتفع بها. فالتوفيق الإلهيّ في هذه الليلة لا يمكن أن يكون من نصيب الإنسان الغافل الساهي عن فضيلة شهر رمضان. فالذي يبدأ اعتباراً من اليوم الأول من شهر رمضان المبارك بالطاعة والعبادة والتبتّل وقراءة القرآن، فإنّ الله جلّت قدرته سيمنحه درجة من التوفيق، وهكذا الحال بالنسبة الى اليوم الثاني، والثالث... حيث يتدرّج في معارج التوفيق حتّى يصل الى مستوى الاستفادة والانتفاع من ليلة القدر.
وفي المقابل؛ فإنّ الإنسان المسلم الذي لا يحاول استغلال ليالي شهر رمضان، سيفوت بطبيعة الحال ليلة القدر نفسها من دون الاستفادة منها الى درجة أنّه قد لا يعرف متى تصادف هذه الليلة، وحتى إذا عرف ليلة القدر وأراد التعبّد فيها، فإنّه لا يوفّق الى ذلك.
وعلى هذا الأساس؛ فإنّ علينا منذ الآن أن نعدّ أنفسنا لهذه الليلة لكي يكون حظّنا فيها وافراً بإذن الله تعالى، وأن نطلب منه أن يوفّقنا لليلة القدر التي تؤكّد عليها الأدعية منذ بداية شهر رمضان ومن ضمنها الدعاء الذي نقرأه في كل يوم من أيام الشهر المبارك والذي يقول: "... وجعلت فيه ليلة القدر وجعلتها خيراً من ألف شهر". (2)
وما أدراك ما ليلة القدر!
وقد عرفنا من خلال الروايات؛ إنّ ليلة القدر تقع في الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان، والقرآن الكريم يحدّثنا عن هذه الليلة العظيمة متسائلاً ومشيراً إلى خطرها وعظمتهـا: (إِنَّآ انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)؛ أي أنّ علمك يا رسول الله بليلة القدر ضئيل بسيط إلاّ أن يكشف لك الخالق عن حقيقتها. وكلمة (مَآ أَدْرَاكَ) في القرآن تمنحنا مفهوماً عظيماً عن المعنى الذي يريد أن يطرحه الله سبحانه وتعالى. فالبعض يمرّ على بعض المعاني مروراً سريعاً خاطفاً، وينظر إليها نظرة سطحية، في حين أننا لابدّ في مثل هذه الحالات أن نتوجّه إلى العمق، وأن نتصوّر المعنى تصوّراً دقيقاً.فالقرآن الكريم عندما يقول: (وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) أو (وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ) (القارعة/3) أو وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (الطارق/2)، فانه يستهدف أن يفهمنا أنّ جبل الإيمان والرسالة الذي نريد ان نتسلّقه حتّى نصل الى قمته هو جبل عالٍ، صعب العبور، وعر المسالك، مليء بالعقبات، فعلينـا أن نستعدّ منذ الآن له. فالعلم الذي نريد الحصول عليه - وهو علم ليلة القدر- ليس علماً سهلاً أو بسيطاً، فنحن ما الذي فهمناه من هذه الليلة؟ إنّنا نتبادل الكلمات فحسب، أما المعاني؛ فهي بعيدة عن متناولنا. فليلة القدر ليست كلمة تقال، ولا لقلقة لسان، بل هي ليلة عظيمة خير من ألف شهر لا نستطيع أن نتصوّر أبعاد معناها بسهولة..
الليلة الوحيدة في التأريخ
وقبل أن أوضح - قدر مستطاعي- مفهوم (القدر) وما جاء في القرآن الكريم حول هذا المفهوم، أحبّ أن أطرح هنا فكرة لعلّها جديدة بالنسبة لنا... وهي كما هو المفهوم من الرواية التالية أنّ ليلة القدر هي ليلة واحدة عبر التأريخ؛ أي أنّ في تأريخ الكون الذي يبلغ عمره - حسب تقديرات العلم الحديث - خمسة عشر ألف مليون سنة ليلةً واحدة اسمها "ليلة القدر"، وما يتكرّر في كلّ عام هو ذكرى هذه الليلة كما هو الحال في أيّة ذكرى أخرى بالإضافة إلى ان الله سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء في كل ليلة من ليالي القدر المتكررة كل عام.وفي هذه الليلة قدّر الله سبحانه وتعالى كلّ ما كان ويكون الى يوم القيامة. عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، أنه قال: قال: لي رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عليّ؛ أتَدري ما معنى ليلة القدر؟ فقلت: لا يا رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال: "إنَّ الله تبارك وتعالى قدّر فيها ما هو كائن الى يوم القيامة، فكان فيما قدَّر عزَّ وجل ولايتـك وولاية الأئمة من ولدك الى يوم القيامة". (3)
إنّ ليلة القدر هي ليلة التقدير، والليلة التي جرى فيها القلم على اللوح بكلّ شيء؛ بالمنايا والبلايا، بما يحدث وبما حدث، وبما كان وما يكون... وفي كلّ سنة تأتي ليلة تحاكي ليلة القدر الأصليّة وتوازيها وتذكّر بها. وحتى ليلة نـزول القرآن والوحي على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله - ولعلّها ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان – فإنّها حكاية عن الليلة التي كانت عند الله تبارك وتعالى.
ليلة نزول القرآن
وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: إذا كان القرآن قد نزل في ثلاثة وعشرين عاماً فكيف يقول تعالى: (إِنَّآ انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ؟.وللجواب على هذا السؤال نقول: إنّنا نعرف – تأريخياً- أن القرآن الكريم قد نزل منجماً على ثلاثة وعشرين عاماً، فهناك – مثلاً- معارك كثيرة وقعت في غير شهر رمضان ومع ذلك فقد نزلت آيات قرآنية بشأنها.
والفقهاء يجيبون على ذلك قائلين: إنّ القرآن نزل مرّتين؛ مرّة على قلب الرسول صلى الله عليه وآله جملة واحدة وذلك في ليلة القدر، ومن ثم كان جبرئيل عليه السلام ينـزل على النبي صلى الله عليه وآله في كلّ مناسبة ليبلغه أمر ربّ العالمين بقراءة هذه الآية أو تلك.
وهكذا؛ فإنّ القرآن كان موجوداً، ولكن النبيّ صلى الله عليه وآله كان مأموراً بأن لا يقرأه على الناس إلاّ عندما تقتضي الظروف.
وتأسيساً على ما سبق؛ فإنّ ليلة القدر هي ليلة واحدة تأريخياً، وليلـة نزول القرآن بجملته على قلب النبي صلى الله عليه وآله، وبعد ذلك بدأ القرآن ينـزل بصورة تدريجية.
معنى (القَدْر)
و (القدر) يعني – حسب ما أرى – التقدير، وهناك من يقول إنّ القدر يعني العظمة على اعتبار أنّ هذه الليلة عظيمة. وقيل أيضاً إنّ ليلة القدر هي ليلة الضيقة لأنّ الأرض ضاقت بالملائكة عندما نزلت فـي هذه الليلة.
ولكن الأنسب أن نقول إنّ ليلة القدر هي ليلة التقدير، ففي هذه الليلة يفرق كل أمر حكيم كما أشار إلى ذلك جلّ شأنه في سورة الدخان.
وكما يبدو لي؛ فإنّ هناك ثلاثة تقديرات للإنسان؛ أي أنّ الله سبحانه وتعالى يقدّر للإنسان أموره في ثلاث مراحل؛ فالتقدير الأول كان في اللوح في بدء الخلق وهذا تقدير كلّي؛ وهناك تقدير آخر في ليلة القدر وهو أنّ أمور السنة تقدّر فيها، ففي خلال كلّ سنة يقدّر ما سيحدث للإنسان، هذا ما ذكره الإمام جعفر الصادق عليه السلام، إذ قال: "ليلة ثلاث وعشرين الليلة التي فيها يفرق كلُّ أمر حكيم، وفيها يكتب وفد الحاج وما يكون من السنة الى السنة". (4)
وفي ليلة القدر يشعر الإنسان بحالة روحانية، إذ الشياطين مغلولة فيها، وفرص السموّ والكمال متوفّرة للإنسان. وعلى هذا فليس من الصحيح أن يغفل الإنسان المؤمن عن هذه الليلة، أو أن يسوّف فيها بأن يقول إنّي سأحييها في العام القادم. فما أدراه أنّه سيعيش في السنة القادمة، وما أدراه أنّه سيكون من الأحياء أم الأموات، وهل يستطيع أحد أن يضمن أنّه سيعيش حتى السنة القادمة؟
وعليه؛ الواجب على الإنسان أن يجتهد في مثل هذه الليلة، فلعلّ اسمه أن يكون في ديوان الأشقياء – لا سمح الله - والفرصة الوحيدة لأن يجعل اسمه في ديوان السعداء هي ليلة القدر.
تغيير النفس أعلى القيم
إن عقد الإنسان العزم على أن يغيّر نفسه، ويعرج بها في مدارج الكمال، هو أعلى قيمة يمتلكها في شهر رمضان، وأفضل زاد فيه. ففي هذا الشهر يرتقي الإنسان مدارج الكمال، ويحصل على درجاته في الآخرة، ووقوده فيه العزم والهمّة على أن يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يوفّقه الى إحداث تغيير حقيقيّ في نفسه، وتحول جذري فيها، وأن يدعو الخالق الى أن ينيله السعادة والفلاح.ومن المهمّ في هذا الشهر أن لا يلهي الإنسان نفسه بالأمور الثانويّة وخصوصاً في ليلة القدر المباركة، بل عليه أن يهتمّ بنفسه اهتماماً جدّياً، ويقرّر أن يجعل من هذا الشهر منعطفاً حقيقياً ومصيريّاً في حياته، خصوصاً وأنّ اعمارنا لا تلبث أن تنتهي وتنفذ، فما أسرع السنين في العمر!!
فلنحاول أن نغيّر أنفسنا، وأن نضيف في كلّ سنة تمرّ علينا إلى إيماننا وقيمنا الروحية، بدلاً من أن نتدهور ونتراجع. فلنقرّر من هذه اللحظة أن نغتنم ليلة القدر، وأن نجعلها نقطة الانطلاق في صعود درجات الإيمان، وتسنّم مدارج الكمال. فإذا ما توفّرت النية الحقيقية الصادقة في التغيير، فإن الله تبارك وتعالى سيوفّقنا – ولا شكّ – إلى هذا التغيير، بل إنّه سيزيدنا هدىً، وتوفيقاً بإذنه تعالى.
فرصة تغيير الذات
لا شك أنّ معرفة الإنسان لذاته هي مفتاح لمعرفة الحقائق العظمى التي تحيط به. فالإنسان – على صغر حجمه – يمثّل عالماً كبيراً وواسعاً، وهو مكلّف بمعرفة نفسه، كما أنّه مكلّف بمعرفة ربّه. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من عرف نفسه فقد عرف ربه".(5)إن أكبر المشاكل تحدث لدى الإنسان عندما يغترب عن ذاته، رغم أنّ ذاته هي أقرب شيء إليه، ولكنّه مع ذلك لا يوليها اهتماماً. فهو يرى كل شيء ولكنّه ينسى نفسه، كما يقول ربنا عز وجل: (نَسُوا اللَّهَ فَاَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ اُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر/19) وهو ينسى نفسه من خلال انجذابه الى ما حولـه من المظاهر المادية مثل المال والشهوات والسلطة، ولكنّه في المقابل يفقد نفسه.
ونحن إذا لم نستفد من الأحاديث التي تلقى في ليالي شهر رمضان وخصوصاً في ليالي القدر، وإذا لم نتـزوّد منها زاداً ينفعنا في يوم المعاد، فإنّنا سنكون خاسرين، لأنّ حالنا سيكون كحال الإنسان الذي يموت عطشاً وهو يقف بمحاذاة نهر عذب زلال.
إنّنا الآن بأمسِّ الحاجة الى التزوّد كما يول جل وعلا: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) (البقرة/197).
فهناك أمامنا رحلة بعيدة متطاولة في أرض جرداء لا ماء فيها ولا كلأ، ونحن في مسيس الحاجة فيها الى التـزوّد. ولا شك أن ليلة القدر هي أعظم الليالي التي من الممكن أن نتـزوّد فيها بالتقوى والعلم والمعرفة لتغيير أنفسنا.
وللأسف؛ فإنّ الغالبية العظمى من الناس يعيشون في حالة غياب عن ذواتهم، وعمّا أودعه الله تعالى فيهم من طاقات ومواهب وقدرات. وسأحاول فيما يلي أن أسلّط الأضواء على هذا الجانب الهام، وذلك من خلال فتح نافذة، فلنحاول أن ننظر عبرها لكي نستطيع أن نستوعب ونذهب في آفاق العلم بعيداً.
ضرورة معرفة الإنسان لقدره
وهذه النافذة التي أريد أن أفتحها أمامك - عزيزي القارئ - لكي تعرف نفسك، وتعرف أنّ الله سبحانه وتعالى قد خلق من هو أعظم من ناحية الضخامة الجسديّة كالفيل والحوت وغيرهما، ولكنّ هذه الحيوانات على ضخامتها وهيبتها سوف تتحوّل في يوم القيامة الى تراب دون أن يكون أمامها حساب أو كتاب، ودون أن تدخل جنّة، أو ترد ناراً.أمّا الإنسان؛ فحالته تختلف، فهو يأتي الى هذه الدنيا ليعيش مرارتها، ويعاني من الهموم والمشاكل، كما يقول تعالى: (يَآ أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ) (الانشقاق/6)، وكما يقول: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) (البلد/4) ثم بعد ذلك ينـزل في ساحة الموت الذي يبلغ من العسر والصعوبة بحيث أنّ البعض من الناس يعيشون مرارته، وذكراه المؤلمة الى يوم القيامة.
جوانب من عذاب يوم القيامة
وبعد الموت تأتي مرحلة البرزخ، ويقال انّ بعض الناس يعيشون في هذه المرحلة لملايين السنين إمّا في عذاب أو في نعمة، ثم يعيشون خمسين ألف عام يوم القيامة، ثم يخلدون في نار جهنّم - إن كانوا من المسيئين- هذه النار التي لا يستطيع خيال الإنسان أن يتصوّرها، وقد جاء في بعض الروايات أن السلسلة التي يسلك فيها المجرم في جهنّم يبلغ طولها ذراع الملائكة، وهناك روايات أخرى تصرّح بأنّ الحلقة الواحدة لو وضعت على جبال الأرض لذابت من حرارتها.ولقد قرأتُ في هذا المجال حديثـاً عن قولـه عزّ من قائل: (عَذَاباً صَعَداً) (الجن/17) أنّ العذاب الصعد يعني أنّ في نار جهنّم جبلاً يؤمر الكافر بأن يتسلّقه وهو يرسف في الأغلال، وأنّ هناك تلالاً من العقارب والحيّات والنيران، وعلى الإنسان الكافر أن يصعد هذه التلال، علماً انّ الأوامر لا يمكن تعصى، ويظلّ هذا الكافر يصعد حتّى يستغرق صعوده أربعين سنة لكي يصل الى القمة، وعندما يصل إليها يرمونه الى أسفل الجبل ليصعد من جديد، ويظلّ على هذه الحالة إلى أبد الآبدين!
وبعد فهذا جانب من العذاب في يوم القيامة، ومن الألوان المختلفة منه التي لا يكاد العقل يتصوّرها. وكلّ ذلك يدلّ على انّك -أيها الإنسان- قد خلقت لأمر عظيم، وأنّك ينبغي أن لا تنظر الى نفسك نظرة احتقار واستصغار. فمصيرك أما أن يكون العذاب المقيم، أو النعيم الأبديّ الدائم.
العتق من النار
وعلنيا أن نسأل الله جل شأنه أن يجعلنا من السعداء في ليلة القدر، ومن عتقائه من النار، ومن الفائزين بالجنّة، فنحن في الليلة المذكورة نحلّ ضيوفاً على خالقنا وبارئنا، فلنطلب منه أن يقرّبنا ويكرّمنا. فلكل ضيف قرىً، فنلدعوه تعالـى أن يجعل قرانا الجنّة، والله كريم بالتأكيد، فلعلّـه - بدعوة واحدة - يحث في نفسك تغييراً جذرياً، وانقلابـاً شاملاً. فلنطلب ذلك من الله جل وعلا جميعاً، ولندعُ لأنفسنا ولإخواننا ولكافّة المؤمنين والمؤمنات، بحسن العاقبة والخلاص من النار؛ هذه النار التي وصفتها بعض الروايات بأنّ قعرها بعيد الى درجة أنّ البعض يرمون فيها فيستغرق سقوطهم فيها حتّى يصلوا الى قعرها سبعين خريفاً!الجنة نعم لا تحصى
ونحن إذا أمعنّا النظر في نعم الله تعالى التي هيّأها للإنسان في الجنّـة مـن زاوية معرفة الإنسان ومدى تكريم الله لـه، وسبب خلقه، فإنّنـا سنكتشف أنّ نعـم الجنة كثيرة لا يحدّها حصر. ومن أهمّ هذه النعـم (الخلود). فالإنسان لا يعتريه في الجنّة الخوف من الفناء بسبب انعدام وجود عوامل الفناء من مثل المرض والمصائب.. كذلك في الجنة نعـم خالدة لا تحصى.إنّ الإنسان المؤمن سيمتلك في الجنّة استعدادات وطاقات هائلة فهـو يمتلك أرضـاً خاصّة به، وداراً للضيافـة واسعاً يستطيع أن يضيف على مائـدة أهل الجنة كلّهم في يوم واحد.
الإرادة تحدّد مصيرنا
فمن خلال هذه النافذة علينا أن نعرف قيمتنا، فهذه الجنة وتلك النار لا ندخل إحداهما إلاّ بارادتنا، فالله سبحانه وتعالى أعطانا مفتاح الجنّة، كما أعطانا مفتاح النار، ومن السهل على الإنسان – إذا أراد – أن يوقع نفسه في النيران عندما يترك نفسه. فالنار بابها مفتوح للإنسان الكافـر كمـا يقول عـزّ مـن قائـل: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَـا لِجَهَنَّمَ كَثِيـراً مِـنَ الْجِـنِّ وَالإِنْـسِ) (الاعراف/179).ومن هنا يعرف الإنسان قيمته، وهذه القيمة تكمن في ارادته، ومشيئته. فبهما يختار الجنّة بما فيها من نعم أبدية، أو النار بما تمتلئ به من أنواع العذاب. ومن خلال هذه النافذة علينا التعرف إلى أنفسنا، والإنسان إنّما يعرف نفسه عبر نهايتها، وبالمصير الذي ستؤول إليه.
وهنا نصل إلى الموضوع الأساسي؛ وهو الإجابة على التساؤل القائل: ما هو الإنسان؟ فاذا أنت لم تعرف نفسك فإنك سوف تصبح هلوعاً وإذا مسّك الشر جزوعاً، وإذا مسّك الخير منوعاً كما أشار إلى ذلك سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم.
أي أنّ الإنسان يتحوّل إلى كائن بسيط ساذج لا يهتمّ إلا بإشباع غرائزه الجسدية. وهذه الحياة التي يعيشها، فينسى أساساً قضاياه الكبرى ومستقبله البعيد، لأنّه في هذه الحالة سيحجّم نفسه ويصغّرها، أضف الى ذلك أن الشيطان أيضاً يسعى من أجل أن يدفعه إلى ذلك فيلهيه ويجعل تفكيره منصباً على الأمور الجزئية التافهة الهامشيّة التي لا تمتلك أية قيمة.
هذا في حين أنّ الله جل وعلا يريد من الإنسان أن ينظر بعيداً إلى الآفاق، ويصل إلى مستوى الإنسانية، والاختيار بيد الإنسان في الوصول إلى هذه القمة السامقة، أو السقوط في ذلك الحضيض.
بين التفويض والجبر
ولقد ذهب الإنسان في هذا المجال مذهبين متناقضين في الظاهر، ولكنّهما يؤدّيان به إلى استصغار نفسه وتحقيرها؛ المذاهب الأول هو مذهب التفويض الذي يقول إنّ الله تبارك وتعالى ليست له أيّة إرادة على الإنسان، فقد تركه وشأنه، وخلقه عبثاً وسدىً، فلا يجازيه ولا يحاسبه ولا يعاقبه. فالله تعالى عمّا يصفون محايد في معركة الخير والشر، وقد ترك الدنيا تحكمها شريعة الغاب. وهذه هي نظرية التفويض التي تحتقر الإنسان، وتحطّ من شأنه، ذلك لأنّ الإنسان في هذه الحالة سوف لا يجد من يتوكل عليه، أو يلجأ إليه عندما يواجه الضعوط الاجتماعية والثقافية والإعلامية ومشاكل الحياة المختلفة. ومن المعلوم أنّ من لم يتوكّل على الله سبحانه وتعالى فإنّه سرعان ما ينهار.أمّا النظرية الثانية، فتقول إنّ الإنسان ليس بيده من الأمر شيء، فكلّ شيءٍ مرتبط بالله، فالإنسان لا يقدّر لنفسه. ومن العجيب أنّ بعض المفسّرين يفسّرون القرآن على ضوء هذه النظرية (نظرية الجبر)، ونحن نسأل مثل هؤلاء: إذا كان الإنسان مسلوب الإرادة فلماذا يقرّر ولماذا يشاء ولماذا يسعى ويتحرّك؟
اعتدال وتوازن بين الخير والشر
وهذا الإنسان عندما يفقد الإحساس بتسلّطه على نفسه، وامتلاكـه لزمامها فإنّه سوف يفقد في الحقيقة كلّ شيء.وقد أكّدت الروايات على أن هناك ثلاثة وثلاثين ملكاً، ونفس العدو من الشياطين يحيطون بقلب الإنسان، وبينهما إرادة الإنسان. فهناك -اذن- اعتدال وتوازن بين القوّتين، والإرادة تقوم بدور اختيار أحد الجانبين.
فالشيطان يقبل عليك ليبرّر لك الاستسلام والاسترسال والاستمرار في طريق المعاصي، وهو يبرّر لك واقعك، ويوحي لك بأنّه أفضل واقع، فيمنعك من استغلال شهر رمضان المبارك، فتدخل فيه وتخرج منه دون أن تضيف سلوكاً حسناً الى سلوكك، ودون أن تعمد الى تغيير واقعك الفاسد.
إنّ علينا - على الأقل – أن نقلع من ذنب من ذنوبنا، أو نغيّر عادة سيئة من العادات التي ألفناها، ونبدلها بعادة حسنة، ولنحاول في هذا الشهر الكريم أن نزرع في أنفسنا حبّ القرآن، والصلاة، والتبتّل..
صلاة مفروضة
وقد روي في هذا المجال أنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله في السنين العشر الأوائل من نزول الوحي كانوا يقومون الليل تطبيقاً لقولـه تعالى: يَآ أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً (المزمل/1-4)، فكانوا يقومون الليل، وينهمكون في التعبّد وهم يشعرون أنّ هذه الصلاة مفروضة عليهم. ولصعوبة الصلاة وغلبة النعاس، فقد كانوا رضي الله عنهم يشدّون أنفسهم بالحبال على الاشجار أو جدران بيوتهم لكي لا يسقطوا أرضاً من فرط التعب والنعاس ويظلّون على هذه الحالة حتّى الصباح.فلنحاول العودة أنفسنا في هذا الشهر الفضيل على أداء صلاة الليل، وقراءة القرآن الكريم، وحبّه، ولنحذر من أن يحلّ علينا شهر رمضان المبارك ثم ينقضي عنّا دون أن يتغيّر شيء من نفوسنا. فالشيطان يسوّل لنا الإستمرار في الواقع الذي نعيش فيه، في حين أنّ على الإنسان أن يتجاوز هذه العقبة، فبمجرّد أن يعترف في داخلك أنه قادر على التغيير، وعلى الوصول الى الكمال، فإنّ هذا الاعتراف سوف يغيّر حياته رأساً على عقب، ويضعه في طريق العروج الى الكمال. فآفاق الكمال لا نهاية لها، وليلة القدر تكرّس هذه الناحية في النفوس، فهي ليلة سلام كمال قال تعالى: سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ، والسلام يعني أنّ الشيطان مغلول في هذه الليلة، وأنّ إرادتك حرّة، وقلبك نظيف طاهر.
المصادر :
1- مستدرك الوسائل، ج7، ص458.
2- مفاتيح الجنان، اعمال شهر رمضان العامة.
3- بحار الأنوار، ج94، ص18.
4- بحار الأنوار، ج94، ص9.
5- بحار الأنوار، ج2، ص32.