﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ .
إِنَّ مسألتي العدل الإلهي واختيار الإنسان من أهمّ المسائل الاعتقادية, إذ تشكّلان واحدة من أهمّ دعائم عقيدة المسلم، بل من أهمّ ركائز الفكر الإسلامي بشكل عام، وتترتّب على هذه العقيدة آثارٌ مهمّة على المستوى المسلكي، الأخلاقي والاجتماعي. ونظراً لأهمّيتها تعرّض القرآن لها في الكثير من المواضع بين تصريح وتلميح، وظهر ذلك بشكلٍ جليٍّ أيضاً في الأخبار الواردة عن النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.
وسنتناول في هذا الدرس عدّة أمور لها ربط بمطلبي العدل الإلهي والاختيار، انطلاقاً من الآية المباركة المذكورة أعلاه، وذلك ضمن العناوين الآتية:
قانون الاختيار في أفعال البشر
هذه الآية المباركة وقعت في سياق الكلام على محاربة الكفار والمشركين وتكذيبهم للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وكفرهم بآيات الله، ليختم جلّ وعلا هذه الفقرة بقانون عام، وهو قانون الاختيار في أفعال البشر، وأنَّ الله قد بيّن لهم أحكامه عبر إرسال الأنبياء بالكتب السماوية، وبعد كونهم مختارين, فإنّ عملهم هو الذي سيحدّد مصيرهم من سعادة أو شقاء.هذا على مستوى السياق، وأمّا إذا أتينا إِلَى نصّ الآية فنجدها مؤلّفة من جملتين شرطيتين تليهما جملة بمثابة تعليل للشرطيتين.
الشرطية الأولى: وهي قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾، أي إِنَّ الإنسان أوّلاً هو الذي يعمل، فهو مختار، فإنْ كان عمله صالحاً موافقاً لما يحبُّه المولى وما يأمر به، فهو الذي سيستفيد من آثار ونتائج هذا العمل الصالح والحسن في الدنيا والآخرة، وبالتالي هو مَنْ سيرسم طريق سعادته من خلال عمله.
الشرطية الثانية: وهي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا﴾, أيْ إِنَّ الإنسان إذا لم يمتثل أمر مولاه فهو الذي سيتكبّد آثار وتبعات عمله، وبالتالي سيخطّ بذلك مسيره إِلَى جهنم.
وأمّا الجملة التي تلي الشرطيتين فهي قوله عزّ من قائل: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾، وهي بمثابة تعليل للشرطيتين, وذلك لأنّ المولى جلّ وعلا عادلٌ يعطي كلّ ذي حقّ حقَّه، ولا يظلم أحداً، فلا يضيع عنده أجر المحسنين العاملين، ويكون عمل كلّ إنسان هو الذي يحدّد مصيره الأخروي من النعيم أو الجحيم.
وعليه، فلنا القول: إِنَّ الآية دليل على نفي الجبر, إذ إنّه لا يعني إلا أنّ الله قد أجبر الناس على ارتكاب الذنوب ومع ذلك عاقبهم، وهذا معناه أَنَّه ظالمٌ لعبيده، والحال أَنَّ هذه الجملة الأخيرة تنفي ذلك، وتردّ على تلك العقيدة الفاسدة، وتكذّبها.
فالله ـ بحسب الآية ـ قد أعطى القدرة للبشر ليختاروا بين الخير والشرّ، فإن خالفوا واختاروا الشرّ عاقبهم، وإن أطاعوا واختاروا الخير أثابهم. فهو لا يجبرهم على ارتكاب القبائح والذنوب ثمّ يعاقبهم عليها، وإلا لكان ظالماً لهم، وإلى هذا
المعنى أشار الخبر الوارد عن الرضا عليه السلام عندما سُئِل من قِبَل أحد أصحابه: هل يجبر الله عباده على الذنب؟ فأجابه عليه السلام: "لا، بل يخيّرهم ويمهلهم ليتوبوا"، فسأله كذلك فهل يكلّفهم ما لا يطيقونه؟ فأجابه عليه السلام: "كيف يفعل ذلك، وهو يقول: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾" .
وبالاستفادة من هذا الخبر نكون قد أجبنا على السؤال الذي قد يُطرح حول السبب الكامن في تعبيره جلّ وعلا: ﴿بِظَلَّامٍ﴾, إذ لو لم يعطِ الله عباده القدرة والاختيار، ومع ذلك عاقبهم على المعصية، لكان ظلّاماً تعالى عن ذلك علوّاً كبيرا.
وهذه العقيدة القرآنية ممّا يرشد إليها العقل أيضاً, إذ مع كون الإنسان مجبراً غير مختار يكون عقابه ظلماً, إذ هو غير قادر على الفعل أو الترك، وتكليف غير القادر ظلم، وهو قبيح بحكم العقل، والمولى جلّ وعلا لا يفعل القبيح.
وإن شئتَ فقل: إِنَّ الفاعل للظلم لا يخلو عن أربع صور، والله منزهٌ عنها جميعا:
الصورة الأولى: أن يكون الظلم قد صدر منه، وهو جاهلٌ بأنّه ظلم.
الصورة الثانية: أن يصدر منه مع علمه به، ولكنّه مجبورٌ على فعله.
الصورة الثالثة: أن يصدر منه مع علمه به وقدرته على تركه، فيفعله لاحتياجه إليه.
الصورة الرابعة: أن يصدر منه مع علمه به وقدرته على تركه وعدم الحاجة إليه، ولكنّه يفعله عبثاً ولهواً.
وربّنا تبارك وتعالى عالمٌ، وفاعلٌ مختارٌ مقتدر، وغنيٌّ عن العالمين، وحكيمٌ لا يفعلُ ما فيه لهوٌ ولعب.
فلمّا انتفت كلّ أسباب الظلم في حقّه تعالى، وكان إثبات أيٍّ منها له مستلزماً للنقص فيه، مع أنّه محض الكمال، نكون قد أثبتنا بطريق عقلي أنّه تعالى عادل.
ونثبت بعد ذلك اختيار الإنسان بقولنا: بما أَنَّ الله عادلٌ فلا يعقل أن يكون الإنسان مجبوراً, إذ لو عاقبه على معصيته كان ظلماً، والمفروض أَنَّه عادلٌ ليس بظلام للعبيد، وتتناسب هذه العقيدة أيضاً مع وجدان الإنسان القائل بأنّ الإنسان مختار. وهذا ما يدركه كلٌّ منّا بوجدانه. وتشير الروايات الواردة عن أهل بيت العترة عليهم السلام إلى هذا المعنى، وإليك نموذجاً منها:
- ما رواه الشَّيْخ الصدوق بإسناده إِلَى الصَّادِقِ عليه السلام أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَسَاسَ الدِّينِ التَّوْحِيدُ وَالْعَدْلُ وَعَلَمَهُ كَثِيرٌ، وَلَا بُدَّ لِعَاقِلٍ مِنْهُ, فَاذْكُرْ مَا يَسْهُلُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ وَيَتَهَيَّأُ حِفْظُهُ، فَقَالَ: "أَمَّا التَّوْحِيدُ فَأَنْ لَا تُجَوِّزَ عَلَى رَبِّكَ مَا جَازَ عَلَيْكَ، وَأَمَّا الْعَدْلُ فَأَلَّا تَنْسُبَ إِلَى خَالِقِكَ مَا لَامَكَ عَلَيْهِ" .
وما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام عندما سُئِل عن التوحيد والعدل: "التَّوْحِيدُ أَلَّا تَتَوَهَّمَهُ، وَالْعَدْلُ أَلَّا تَتَّهِمَهُ" .
الآثار العقدية المترتّبة على العدل الإلهي واختيار الإنسان
1- لغوية الوعد والوعيد مع الإجبار:
الوعد هو ما ذكره الله من خيرات تنتظر المطيعين كإدخالهم إلى الجنّة، والوعيد هو ما ذكره الله من عذابات تنتظر العاصين كإدخالهم إلى النار، ولو لم يكن الإنسان مختاراً فلا معنى للوعد والوعيد, لعدم مؤاخذة المجبور على الفعل في فعله.
2- بطلان الثواب والعقاب مع الجبر:
لولم يكن الإنسان مختاراً لما كان معنى للثواب والعقاب, إذ المحسن حينها مجبورٌ على إحسانه والمسيء مجبور على إساءته.
وإلى هذين الأمرين أشار أمير المؤمنين عليه السلام في الخبر المرويّ عنه في الكافي: "كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام جَالِساً بِالْكُوفَةِ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ صِفِّينَ، إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ فَجَثَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرْنَا عَنْ مَسِيرِنَا إِلَى أَهْلِ الشَّامِ، أَبِقَضَاءٍ مِنَ الله وَقَدَرٍ؟ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: أَجَلْ يَا شَيْخُ، مَا عَلَوْتُمْ تَلْعَةً وَلَا هَبَطْتُمْ بَطْنَ وَادٍ إِلَّا بِقَضَاءٍ مِنَ الله وَقَدَرٍ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: عِنْدَ الله أَحْتَسِبُ عَنَائِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ: مَهْ يَا شَيْخُ، فَوَ الله لَقَدْ عَظَّمَ الله الْأَجْرَ فِي مَسِيرِكُمْ وَأَنْتُمْ سَائِرُونَ وَفِي مَقَامِكُمْ وَأَنْتُمْ مُقِيمُونَ وَفِي مُنْصَرَفِكُمْ وَأَنْتُمْ مُنْصَرِفُونَ، وَلَمْ تَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاتِكُمْ مُكْرَهِينَ وَلَا إِلَيْهِ مُضْطَرِّينَ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ وَكَيْفَ لَمْ نَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاتِنَا مُكْرَهِينَ وَلَا إِلَيْهِ مُضْطَرِّينَ وَكَانَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ مَسِيرُنَا وَمُنْقَلَبُنَا وَمُنْصَرَفُنَا؟! فَقَالَ لَهُ: وَتَظُنُّ أَنَّهُ كَانَ قَضَاءً حَتْماً وَقَدَراً لَازِماً؟! إِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالزَّجْرُ مِنَ الله، وَسَقَطَ مَعْنَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَلَمْ تَكُنْ لَائِمَةٌ لِلْمُذْنِبِ وَلَا مَحْمَدَةٌ لِلْمُحْسِنِ، وَلَكَانَ الْمُذْنِبُ أَوْلَى بِالْإِحْسَانِ مِنَ الْمُحْسِنِ وَلَكَانَ الْمُحْسِنُ أَوْلَى بِالْعُقُوبَةِ مِنَ الْمُذْنِبِ، تِلْكَ مَقَالَةُ إِخْوَانِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَخُصَمَاءِ الرَّحْمَنِ وَحِزْبِ الشَّيْطَانِ وَقَدَرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمَجُوسِهَا" .
ومثله ما رواه في الاحتجاج: "فَأَخْبِرْنِي عَنِ الله عَزَّ وَجَلَّ، كَيْفَ لَمْ يَخْلُقِ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مُطِيعِينَ مُوَحِّدِينَ وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ قَادِراً؟ قَالَ عليه السلام: لَوْ خَلَقَهُمْ مُطِيعِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ثَوَابٌ, لِأَنَّ الطَّاعَةَ إِذَا مَا كَانَتْ فِعْلَهُمْ لَمْ يَكُنْ جَنَّةٌ وَلَا نَارٌ، وَلَكِنْ خَلَقَ
خَلْقَهُ فَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِرُسُلِهِ، وَقَطَعَ عُذْرَهُمْ بِكُتُبِهِ, لِيَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ يُطِيعُونَ وَيَعْصُونَ وَيَسْتَوْجِبُونَ بِطَاعَتِهِمْ لَهُ الثَّوَابَ وَبِمَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ الْعِقَابَ" قَالَ: فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مِنَ الْعَبْدِ هُوَ فِعْلُهُ، وَالْعَمَلُ الشَّرُّ مِنَ الْعَبْدِ هُوَ فِعْلُهُ؟ قَالَ: "الْعَمَلُ الصَّالِحُ مِنَ الْعَبْدِ بِفِعْلِهِ وَالله بِهِ أَمَرَهُ، وَالْعَمَلُ الشَّرُّ مِنَ الْعَبْدِ بِفِعْلِهِ وَالله عَنْهُ نَهَاهُ" قَالَ ـ أيْ: الزنديق ـ أَلَيْسَ فِعْلُهُ بِالْآلَةِ الَّتِي رَكَّبَهَا فِيهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَلَكِنْ بِالْآلَةِ الَّتِي عَمِلَ بِهَا الْخَيْرَ قَدَرَ عَلَى الشَّرِّ الَّذِي نَهَاهُ عَنْهُ". قَالَ: فَإِلَى الْعَبْدِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ؟ قَالَ: "مَا نَهَاهُ الله عَنْ شَيْءٍ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يُطِيقُ تَرْكَهُ وَلَا أَمَرَهُ بِشَيْءٍ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ فِعْلَهُ, لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صِفَتِهِ الْجَوْرُ وَالْعَبَثُ وَالظُّلْمُ وَتَكْلِيفُ الْعِبَادِ مَا لَا يُطِيقُونَ". قَالَ: فَمَنْ خَلَقَهُ الله كَافِراً أَيَسْتَطِيعُ الْإِيمَانَ وَلَهُ عَلَيْهِ بِتَرْكِهِ الْإِيمَانَ حُجَّةٌ؟ قَالَ عليه السلام: "إِنَّ الله خَلَقَ خَلْقَهُ جَمِيعاً مُسْلِمِينَ أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ، وَالْكُفْرُ اسْمٌ يَلْحَقُ الْفِعْلَ حِينَ يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ وَلَمْ يَخْلُقِ الله الْعَبْدَ حِينَ خَلَقَهُ كَافِراً، إِنَّهُ إِنَّمَا كَفَرَ مِنْ بَعْدِ أَنْ بَلَغَ وَقْتاً لَزِمَتْهُ الْحُجَّةُ مِنَ الله فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْحَقَّ فَجَحَدَهُ، فَبِإِنْكَارِهِ الْحَقَّ صَارَ كَافِراً" .
3- انتفاء الحاجة لإرسال الأنبياء:
لو لم يكن الإنسان قادراً على اتّباع الأنبياء ومختاراً في ذلك فلا معنى لإرسالهم أصلا.
الإيمان بالاختيار وأثر ذلك على التفاعل مع التكاليف الإلهية
من الواضح أنّه مع الإعتقاد بكون الإنسان غير مختار فلا معنى للتكليف والبعث والزجر وعليه، فالإنسان عندما يكون معتقداً بأنّه مجبرٌ على أفعاله غير قادر على تحديد مصيره فمهما وصل إليه أمرٌ أو زجرٌ من مولاه، فإنّ ذلك لن يحرّكه أبداً, لأنّه يقول مصيري محدّدٌ ونتيجتي محسومة مهما فعلت، وأنا مجرّد أداة لتنفيذ الخطّة المعدّة مسبقاً لي، فلِمَ أُتعب نفسي وأشقّ عليها فهذا لا تأثير له.
وأمّا لو كان الإنسان سوياً في اعتقاده، متّبعاً لحكم عقله القطعي بأنّه مختار، وبأنّ الله عادلٌ لا يفعل الظلم، فإنّه لا محالة سيتحرّك وينبعث وينزجر تبعاً لأوامر المولى ونواهيه، بل سيكون لديه حافزٌ أكبر للطاعة، كلّما ازداد معرفةً بعدالة ربّه واستشعر رقابة خالقه أكثر اقترب من الطاعة أكثر، وابتعد عن المعصية أكثر، وقد أشارت الرواية المتقدّمة الواردة عن أمير المؤمنين عليه السلام إِلَى ذلك في قوله: "إِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالزَّجْرُ مِنَ الله".
1- آثار عقيدة الاختيار على المستوى الأخلاقي:
الأخلاق عبارة عن مجموعة من الصفات الحسنة أو السيئة، أو فقل السجايا الذاتية للإنسان. وعلم الأخلاق هو العلم المبحوث فيه عن أسس اكتساب الصفات الحسنة، وطرق محاربة الصفات السيئة. وهذا العلم مبتنٍ على ركيزة أساسية، وهي إمكانية تغيير الصفات السيئة الموجودة في الإنسان أو تنمية الصفات الحسنة، فلو لم تكن قابلة للتغيير والتطوير لأصبحت كلّ تعاليم الأنبياء بلا فائدة. والقول بإمكانية تغيير أخلاق الإنسان أو تطويرها مساوق للقول بأنّه مختارٌ. فالمجبور لا يستحقّ مدحاً ولا ذمّاً من جهة، ويتذرّع دائماً بأنّه لا يستطيع تغيير نفسه وسجاياه, لأنّه غير مختار. فكما أَنَّ عقيدة الاختيار وأنّ الإنسان يحدّد مصيره بعمله خير دافع للسير والسلوك ولتهذيب النفس الإنسانية ونزع الرذائل منها وغرس الفضائل فيها، كذلك فإنّ عقيدة الجبر في المقابل تشكّل ذريعة للفاسدين والمفسدين ليتفلّتوا من تهذيب أنفسهم وتحسين سجاياهم. ولعلّه إِلَى هذا المعنى يشير أمير المؤمنين عليه السلام في قوله المتقدم: "فَلَمْ تَكُنْ لَائِمَةٌ لِلْمُذْنِبِ وَلَا مَحْمَدَةٌ لِلْمُحْسِنِ".
فإذاً، لو لم نعتقد بالاختيار لبطلت المنظومة الأخلاقية من أساسها، ولما كان ثمّة معنى لما ورد عن خير الخلق أجمعين صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ" ، ولما كان معنى للروايات الكثيرة الحاثة على مجاهدة النفس وتحسين الخلق.
2- آثار عقيدة الاختيار على المستوى الاجتماعي:
المجتمع هو تكتّل بشري يجمع أفرادَه انتماءٌ فكريٌّ أو مكانيٌّ، وهو محلٌّ للظواهر والتغيّرات، وقد ألقيت على عاتق المجتمع بما هو كذلك أو على الأفراد بلحاظ انتمائهم إليه كثيرٌ من الوظائف والتكاليف الشرعية، كفريضة الجهاد وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدّت هاتان الفريضتان من أهمّ الأمور التي قام بها الدين، ولكنّ كثيراً من هذه التكاليف لا يجدها الإنسان متوجّهة إليه مالم يكن مؤمناً بأنّه مختار, إذ مَنْ يعتقد بأنّ الله قد أجبر العصاة على فعل المعاصي والمطيعين على فعل الطاعة كيف يستوعب وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فكيف يأمر بالمعروف من قد أُجبر على فعل المنكر؟! وكيف يُنهى عن فعل المنكرات من يفعلها عن غير اختيار؟!
ثمّ كيف ينصر المظلوم من يعتبر الظالم مجبوراً على فعل الظلم؟! وكيف ـ مع توفر الشروط والظروف المناسبة ـ يقوم على الدولة الجائرة من يعتبر الخليفة مجبوراً على الجور وغير مختار في أفعاله.
وإذا نظرنا إلى التاريخ فإنّنا نجد أَنَّ حكومة معاوية ويزيد وغيرهم من حكام بني أمية وبني العباس يعملون ليل نهار للترويج لعقيدة الجبر, ليبررِّوا أفعالهم الشنيعة، ولتخضع الرعية لهم, إذ لا يرونهم ـ حينئذٍ ـ مقصّرين فيما يفعلون.
وأمّا الإنسان المعتقد بالاختيار فيرى نفسه مسؤولاً في الأمور الاجتماعية والسياسية، فيسعى ليرفع الظلم بقدر استطاعته، ولتطبيق حكم الله على الأرض بحسب مقدوره.
الاختيار وعلاقته بقدرة الله المطلقة
ينبغي الالتفات إلى أنّنا حينما كنّا نقول بأنّنا نعتقد بكون الإنسان مختاراً لم يكن القصد عزله عن خالقه كلياً، وتفويض الأمر إليه من دون أن يكون لله دخل في خلقه، بل المقصود من قولنا بأنّا نؤمن بالاختيار: أَنَّ الله منحهم الاختيار، وهو المالك لما
ملّكهم والقادر على ما أقدرهم عليه، من دون أن يكون قد أجبرهم. فأفعالنا من جهة هي أفعالنا الحقيقية ونحن أسبابها الطبيعية، وهي تحت قدرتنا واختيارنا، ومن جهة أخرى هي مقدورة لله جل وعلا, لأنّه معطي الوجود، فنحن لم نجبر على أفعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي, إذ لنا القدرة والاختيار فيما نفعل، ولم يفوّض خلق أفعالنا حتى تكون قد خرجت عن سلطانه بالكلية. وقد ورد هذا عن أئمّة الهدى عليهم السلام، وأكتفي بذكر نموذجين من ذلك:
أحدهما: الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ فَقُلْتُ: الله فَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَى الْعِبَادِ؟ قَالَ: "اللهُ أَعَزُّ مِنْ ذَلِكَ" قُلْتُ: فَجَبَرَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي؟ قَالَ: "اللهُ أَعْدَلُ وَأَحْكَمُ مِنْ ذَلِكَ"، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: "قَالَ الله: يَا ابْنَ آدَمَ، أَنَا أَوْلَى بِحَسَنَاتِكَ مِنْكَ، وَأَنْتَ أَوْلَى بِسَيِّئَاتِكَ مِنِّي، عَمِلْتَ الْمَعَاصِيَ بِقُوَّتِيَ الَّتِي جَعَلْتُهَا فِيكَ" .
ثانيهما: ما روي عن الإمام الرضا عليه السلام: "أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ الْجَبْرُ وَالتَّفْوِيضُ, فَقَالَ إِنَّ الله لَمْ يُطَعْ بِإِكْرَاهٍ وَلَمْ يُعْصَ بِغَلَبَةٍ وَلَمْ يُهْمِلِ الْعِبَادَ فِي مُلْكِهِ، هُوَ الْمَالِكُ لِمَا مَلَّكَهُمْ، وَالْقَادِرُ عَلَى مَا أَقْدَرَهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنِ ائْتَمَرَ الْعِبَادُ بِطَاعَةٍ لَمْ يَكُنِ الله عَنْهَا صَادّاً وَلَا مِنْهَا مَانِعاً، وَإِنِ ائْتَمَرُوا بِمَعْصِيَةٍ فَشَاءَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يَحُلْ وَفَعَلُوهُ فَلَيْسَ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُمْ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ عليه السلام: مَنْ يَضْبِطْ حُدُودَ هَذَا الْكَلَامِ فَقَدْ خَصَمَ مَنْ خَالَفَهُ" .
المصادر :
راسخون 2018