أصالة فطرة الإنسان

العادات والتقاليد والمذاهب والمدارس والتعليم والأفكار والآراء المتلاطمة والمتعارضة والبيئة والمجتمع والبلاد والأهواء والوراثة و...
Saturday, June 16, 2018
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
أصالة فطرة الإنسان
أصالة فطرة الإنسان


قال الله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ .
العناصر المؤثّرة في الشخصية
العادات والتقاليد والمذاهب والمدارس والتعليم والأفكار والآراء المتلاطمة والمتعارضة والبيئة والمجتمع والبلاد والأهواء والوراثة و...
كلّ هذه الأمور والمفردات والعناصر تشكّل مجموعة من العوامل التي تتسلّل تدريجاً إلى نفس الإنسان، فتؤثّر فيها، ويبلغ تأثيرها في نفسه حدّاً بالغاً، إلى درجة أنّها تكوّن طبعاً ثانويّاً يستطيع في كثيرٍ من الأحيان أن يغلب على شخصيّته الحقيقيّة وعلى طبعه الأوّليّ الكامن في ذاته في أصل الخلقة والتكوين، والمسمّى ـ هذا الطبع الأوّليّ ـ "فطرةً".
فالشخصيّة النهائيّة التي يستقرّ عليها الإنسان لا تكون وليدة فطرته فحسب، وإنّما هي نتاج الفطرة منضمّاً إليها مجموعة تلك العوامل، والتي قد تكون متناقضةً فيما بينها على مستوى النتائج والتأثيرات، فضلاً عن أنّها قد تكون مناقضةً لأحكام الفطرة نفسها. الأمر الذي يجعل من الإنسان كائناً غامضاً مليئاً بالتعقيدات والتناقضات.
ولكن مع ذلك، فإنّ هذا الطبع الثانويّ الذي يتشكّل في حياة الإنسان يبقى ثانويّاً, أي إنّه لا يخرج عن كونه طبعاً طارئاً، وليس هو الأساس العميق الذي تقوم عليه الشخصيّة الإنسانيّة، ولا هو الحالة الأصيلة التي يصعب أو يتعذّر زوالها، بل هي حالة قابلة للتبدّل والتعديل والإصلاح والمعالجة والتغيير والتطوير.
أصالة فطرة الإنسان
وتبقى الأصالة للفطرة وللطبع الأوّلي، هو الذي يمكن البناء والتأسيس عليه، وهو المرجع الذي إليه تؤول النفس عندما تحتدم لديها التناقضات الطارئة التي تقذف بها إلى أتون الحيرة والشكّ والاضطراب والتوتّر والانزعاج والضيق النفسيّ، فإذا ما عادت النفس إلى صفاء فطرتها ـ التي هي مستقيمة دائماً، وعلى حقٍّ دائماً ـ ورثت يقيناً، وعاد إليها توازنها وهدوؤها وسكينتها واطمئنانها.
فالفطرة وأحكامها هي الثابت الوحيد في شخصيّة الإنسان، بالرغم من أنّه يعيش في هذا العالم المليء بالمتغيّرات والتناقضات والقوى الضاغطة والمؤثّرة. الفطرة هي العنصر المتين الذي لا يمكن اختراقه، والحصن الذي لا يمكن النفوذ إليه لتخريبه من الداخل، والقطار الذي يسير نحو وجهته الحتميّة دون أن يتمكّن شيء من تعطيله أو حرف مساره عنها، أو إخراجه عن سكّته المرسومة له. قال تعالى: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ .
وفي هذا المجال يقول الإمام الخميني قدس سره: "لا بدّ أن نعرف بأنّ ما هو من أحكام الفطرة لا يمكن أن يختلف فيه اثنان، من ناحية أنّها من لوازم الوجود، وقد تخمّرت في أصل الطبيعة والخلقة. فالجميع، من الجاهل والمتوحّش والمتحضّر والمدنيّ والبدويّ، مجمعون على ذلك. وليس ثمّة منفذ للعادات والمذاهب والطرق المختلفة للتسلّل إليها والإخلال بها. إنّ اختلاف البلاد والأهواء والمأنوسات والآراء والعادات التي توجب وتسبّب الخلاف والاختلاف في كلّ شيء، حتّى في الأحكام العقليّة، ليس لها مثل هذا التأثير أبداً في الأمور الفطريّة" .
ولأنّ الفطرة كذلك، فهي الضمانة الدائمة لعودة الإنسان إلى رشده وصوابه، كلّما حاد عن سواء السبيل. والفطرة وإن لم يكن بالإمكان تبديلها وتغييرها، لكنّ الإنسان قد يحيد عنها، قد يتجاهل أحكامها، ومقتضياتها، انطلاقاً من أنّها ترتّب عليه مسؤوليّات لا تتلاءم وشهواته التي تبعث فيه رغبةً عارمةً في التفلّت من كلّ القيود التي يرى فيها حدّاً لسعادته، أو إنهاءً لها، حتّى لو كانت تلك القيود لصالحه، وحتّى لو كانت تلك السعادة وهميّة.
وهنا تحديداً تبرز واحدة من أخطر نقاط الضعف الإنسانيّ، والتي تتمثّل في سرعة وسهولة استسلام الإنسان لأوهامه، تلك الأوهام التي تؤجّجها وسوسات الشيطان وتلبيساته، وتسويلات نفسه الأمّارة بالسوء، والتي تجد مرعىً خصيباً لها لدى كلّ إنسان استسلم لهواه، وغفل عن ربّه ومولاه، وغيّب عقله، وعطّله، وأغمض عيون بصيرته، لصالح دنيا فانية زائلة مليئةٍ بالمنغّصات والمكدّرات. كما قال عزّ من قائل: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ وقال سبحانه: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ .
لماذا يطغى الإنسان؟
وهنا نعود إلى الآيات الكريمة التي افتتحنا بها كلامنا، والتي هي موضوع هذا البحث، وهي الآيات: 6، 7، 8، من سورة العلق: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾.
مفردات في الآيات:
وقبل أن نرد إلى أجواء هذه الفقرة من الآيات الكريمة ثمّة مفردات ثلاثة بحاجةٍ إلى أن نسلّط الضوء عليها، وهي: "الإنسان"، "الطغيان"، "استغنى".
1- الإنسان: الظاهر - كما ذكره المفسّرون - أنّ "أل" الداخلة على الكلمة هنا هي "أل" التي للجنس والحقيقة، والتي يُقصَد منها الإشارة إلى أنّ الحكم المذكور في خطاب المتكلّم ثابت لنوع وحقيقة ما تدخل عليه، وليس حكماً على الأفراد جميعاً، ولا على فردٍ بعينه. ففي الآية، الحكم، وهو (الطغيان) ثابت للذات وللنوع الإنسانيّ عموماً، لا لإنسانٍ معيّن، من دون أن يقتضي ذلك ثبوت الطغيان لجميع بني البشر. فالمقصود أنّ من نقاط الضعف التي قد يُبتلى بها الإنسان بفعلٍ من طبيعته الإنسانيّة الكامنة فيه: أنّه يطغى أن رآه استغنى.
2- الطغيان: مصدر لـ طغى يطغى، وهو - على ما ذكره أرباب المعاجم - إمّا تجاوز الحدّ المقبول مطلقاً، والاعتداء في حدود الأشياء ومقاديرها، فيكون له معنىً عامّ شامل لكلّ تجاوز وخروج عن الاعتدال، ويكون الظلم والتعدّي على حقوق الناس واحداً من مصاديق هذا المعنى العامّ، لا أنّه نفس مفهومه ومدلوله اللّغويّ، وإمّا بمعنى تجاوز الحدّ في العصيان خاصّةً، وهو الظلم، فيكون لفظ "الظلم" مرادفاً للفظ "الطغيان"، إلّا أن يُلتزم بأنّ الطغيان هو المبالغة في الظلم والاعتداء، فلا ترادف حينئذٍ، بل محض التقارب.
3- استغنى: هو استفعال من "الغنى"، والاستفعال - كما ذُكر في محلّه - يأتي على معانٍ، لعلّ الأنسب منها في المقام معنيان:
أ- الصيرورة، فـ "استغنى" بمعنى: صار غنيّاً.
ب- الحدث المجرّد، فـ "استغنى" بمعنى: غَنِيَ. فيكون الفعل قد ورد بلفظ المزيد فيه، لكنّه بنفس معنى الفعل المجرّد.
والمؤدّى لكلا المعنيين واحد، وإن كان الأرجح هو الثاني, لأنّهم مثّلوا للصيرورة بمثل: "استحجر الطين", أي صار حجراً أو كالحجر في صلابته، و"استأسد الجنديّ" أي صار كالأسد في شجاعته وقوّته، ونحو ذلك من الأمثلة التي فيها استحالة الشيء عن حقيقته إلى حقيقةٍ أُخرى، ومن هنا عُبّر عن هذا المعنى في بعض الكتب بـ "الصيرورة الحقيقيّة".
طغيان الإنسان وتكبّره
تتحدّث الآيات عن واحدةٍ من نقاط الضعف الإنسانيّ، وهي تفيد أنّ النوع الإنسانيّ عموماً يطغى، فيتكبّر ويعصي ويذهب بعيداً متجاوزاً الحدود التي لا ينبغي له أن يتجاوزها كإنسانٍ، وعندما تشتعل جذوة التكبّر الخبيثة في نفسه يبدأ ـ تدريجاً ـ بتخطّي تلك الحدود التي تبقيه إنساناً، ويخترقها واحداً تلو الآخر، حتّى لا يبقى حدٌّ يحجزه عن ارتكاب ما لا ينبغي له ارتكابه من الحرمات والقبائح. وهكذا هي عادة الشيطان الرجيم في استنزاف طاقة الإنسان وكرامته، وفي استدراجه خطوةً بعد خطوة نحو مزالق المهالك، كما يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾ ، وكيف لا؟! والشيطان اللّعين هو صاحب الباع الطويل في ارتكاب معصية الطغيان والتجبّر والتكبّر، بل هو من استحدثها وسنّ سنّتها وشيّد أركانها عندما قال ردّا على أمره من قِبِل الله بالسجود لآدم عليه السلام: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ ، وقال أيضاً: ﴿قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ . وبسبب إصراره عليها افتتح مسيرة الضلال والإضلال التي كانت هي المسؤولة عن كلّ شقاءٍ ابتُلِي به مخلوق منذ ابتداء عالم الخليقة.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ .
فكفر إبليس اللّعين بربّه، وإخراجه من الجنّة، وطرده عن الرحمة الإلهيّة، واستحقاقه اللّعنة والخلود في العذاب الأليم، لم يكن إلا بتكبّره وعناده وإعجابه بنفسه. وليس هذا فحسب، بل هل كَفَر من كَفَر وطَغَى من طَغَى إلّا بتكبّرهم على الله تعالى وإعجابهم بما هم عليه من نعمة وصحّة؟!
إنّ التكبّر والاستعلاء والطغيان كان هو المرض الخطير الحاضر بقوّةٍ في كلّ مواجهةٍ بين أهل الحقّ وأهل الباطل، وكان هو أكبر وأخطر تهديدٍ يواجهه الأنبياء والرسل في مسيرة إبلاغ رسالات الله، وقيادتها الإنسانيّة نحو برّ أمانها. كما نلاحظ هذا التأكيد في قصّة موسى عليه السلام مع فرعون، والذي تصفه آيات عديدة بأنّه "طغى"، أو بأنّه "علا في الأرض"، قال تعالى: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ ، ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ . وكذلك قصّته مع قارون ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ .
ويقصّ علينا القرآن في سور عديدة من أنباء الأمم التي خَلَتْ ما يؤكِّد هذه الحقيقة، ويفيد الإطلاق في هذا الحكم الذي يجعل الاستغناء سبباً للطغيان، حيث إنّ المستغنين الذين دفعهم الاستغناء إلى حياة الترف كانوا هم طلائع الجحود وأئمّة الكفر, ولذلك وجدناهم قادة المعارضة للدعوات الدينيّة والمحاولات التي قادها الرسل والأنبياء عليهم السلام، ففي مواجهة نبيّ الله شعيب عليه السلام وقف المترفون ينكرون التوحيد ويتمسّكون بعبادة ما كان آباؤهم، ويستندون في معارضتهم المجحفة تلك إلى ما زعموه وأملته عليه أوهامهم من أنّ لهم الحرّيّة المطلقة في التصرّف بما جمعوا من أموال دونما رقيبٍ ولا حسيب. قال تعالى: ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ ، وقال في موضعٍ آخر متحدّثاً عن هذه الظاهرة عموماً: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ .

آثار الطغيان والتكبّر

هذا المرض الاجتماعيّ، وهذه الخصلة الذميمة التي تفسد المجتمع الإنسانيّ عامّةً، وتورث الحرمان الإلهيّ، وتجلب الشقاء النفسيّ، له أسباب عديدة، لكنّ أسبابه في الجملة ترجع إلى شعور المتكبّر المغرور بالاستعلاء الذاتيّ على أقرانه، والرغبة في الامتياز على الآخرين، والانتفاخ، والتعالي عليهم، أو ما عبّرت عنه الآيات من سورة العلق بـ "الاستغناء": ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾، فالإنسان يطغى ويكفر بأنعم الله عليه، إذا رأى نفسه مستغنياً, أي إذا عدّ نفسه غنيّاً حائزاً على كلّ مقوّمات الغنى والقوّة وأدواتهما، من مالٍ وعلمٍ وقوّةٍ وخبرةٍ وأعوانٍ وأولاد وأراضٍ وعمارات وشركات و... (ولا وجه للاقتصار هنا على خصوص الغنى بالمال والثروة).
وعندما يرى نفسه كذلك، عندما يسمح لهذه الرؤية أن تسيطر على تفكيره، فهذا يعني أنّه غلّب الوهم على العقل، وسمح لهواه أن يسيطر على رشده وصوابه، وعندما يعيش هذه الحالة، يقوده وهمه هذا إلى الخروج عن اعتداله، وعن طبيعته الأوّليّة كإنسان، وعن فطرته التي فطره الله عليها، فيغشى على بصيرته، وتعمى عليه الحقائق، وينسى أنّه فقير في حقيقة ذاته، لا يبارح الافتقار والاحتياج في حالٍ من أحواله، ولئن لم يكن في وقتٍ من الأوقات بحاجةٍ إلى المال والرخاء فهو في حاجةٍ إلى الصحّة والعافية، ولئن لم يكن في حاجةٍ إلى الصحّة والعافية فهو في حاجةٍ إلى الأمن وراحة البال، وهكذا... وهي كلّها أمور يقدّرها الله عزّ وجلّ، ومفاتيحها بيده وحده، كما ينسى أيضاً أنّ كلّ ما يملكه فهو من عند الله، وأنّ الذي أعطاه فأغناه هو الله، كما أنه هو الذي خلقه وأكرمه وعلّمه، وأنّ كلّ ما عنده فما هو سوى أمانات مآلها ومرجعها إلى الله سبحانه، الذي بيده أن يكثّرها وينميها، وبيده أيضاً أن يسلبها إيّاه متى شاء، دون أن يكون ذلك أمراً عسيراً عليه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ .
وفي الخبر عن مولانا الباقر عليه السلام ما يفيد معنى الآية: "إِذَا شَبِعَ الْبَطْنُ طَغَى".
ولو ذكر هذا الإنسان المسكين أنّه وجميع ما يملكه الآن عائد إلى ربّه ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾، لو ذكّر قلبه وعقله بشكلٍ متكرّر بهذه الحقيقة التي هي ماثلة أمامه، لكفى ذلك واعظاً له، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "كفى بالموت واعظاً" .
المصادر :
راسخون 2018
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.