یقول القرآن فی سورة الشورى: ﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَکُم مِّنْ أَنفُسِکُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا یَذْرَؤُکُمْ فِیهِ لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْءٌ وَهُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ ﴾ ( 1) وهو یعنى ان الله سبحانه لا مثیل له، لیس کمثله إیُّ شیء.. ثم یقول عن الله فی سورة النور: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ کَمِشْکَاةٍ فِیهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِی زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ کَأَنَّهَا کَوْکَبٌ دُرِّیٌّ یُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَکَةٍ زَیْتُونَةٍ لَّا شَرْقِیَّةٍ وَلَا غَرْبِیَّةٍ یَکَادُ زَیْتُهَا یُضِیءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ یَهْدِی اللَّهُ لِنُورِهِ مَن یَشَاءُ وَیَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ ﴾ ( 2)
لا ریب فی ظهور قوله تعالى: ﴿مَثَلُ نُورِهِ کَمِشْکَاةٍ فِیهَا مِصْبَاحٌ﴾ أنَّ المشبَّه هو نور الله تعالى ولیس ذاته جلَّ وعلا، فنورُ الله مثَلُه کمثل المشکاة ولیس ذات الله تعالى، والآیة صریحة فی ذلک حیث قالت: ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ ولم تقل مثل ذاته.
وأما انَّه تعالى وصف نفسه فی صدر الآیة بأنَّه نور السماوات والأرض فهو لا یعنی أنَّ ذات الله عزَّوجل هی نور السماوات والأرض أو انَّها کمثل السماوات والأرض بل المراد من قوله: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ هو انَّ الله عزَّوجل منوِّر السماوات والأرض بمثل الشمس والقمر لو کان المراد من النور هو النور المادِّی، وهو الهادی لمَن فی السماوات والأرض لو کان المراد من النور هو النور المعنوی.
فالتنویر -على أیِّ تقدیر- للسماوات والأرض هو فعل الله تعالى، ولیس هو ذاته جل وعلا، وإسناد النور إلى الله تعالى هو من إسناد الفعل إلى فاعله، ومساق قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ هو مساق قوله فی مثل سورة فاطر: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ( 3) إذ انَّ إسناد إسم فاطر إلى الله تعالى هو من إسناد الفعل -فطَرَ- إلى فاعله، وکذلک هو إسناد إسم الخالق إلى الله تعالى فإنَّه من إسناد الفعل إلى فاعله، ولذلک یُعبَّر عن مثل إسم الفاطر والخالق والرازق والبارئ والمصوِّر وشبهها، یُعبَّر عن مثل هذه الأسماء بالصفات الفعلیَّة لله جلَّ وعلا، والصفاتُ الفعلیَّة لیست من صفات الذات وإنَّما هی من صفات أفعاله جلَّ وعلا.
والذی یُؤکِّد انَّ النور هو من فعل الله تعالى ولیس عیناً لذاته ولا هو وصف لها قوله تعالى فی سورة الأنعام: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِینَ کَفَرُوا بِرَبِّهِمْ یَعْدِلُونَ ﴾ ( 4) فالنور فی صریح الآیة من جعل الله تعالى، والجعل یعنی الخَلْق والإیجاد من العدم والذی هو من الفعل.
وعلیه فالنور شأنُه فی ذلک شأن الإنسان وغیره من سائر المخلوقات، فکما عبَّر القرآن عن خلق الإنسان وإیجاده بالجعل فکذلک عبَّر فی هذه الآیة عن خلق النور وإیجاده بالجعل قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّکَ لِلْمَلَائِکَةِ إِنِّی جَاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً ﴾ ( 5) فالنور کالإنسان مجعولان لله تعالى، وذلک یقتضی المباینة التامَّة بین ذات الله تعالى وبین النور لوضوح انَّ الجاعل غیر المجعول والخالق غیر المخلوق.
هذا لو کان المراد من النور هو الضیاء، وأما لو کان المراد من النور هو الهدایة کما هو مستعملٌ کثیراً فی القرآن الکریم فإنَّ معنى قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ هو انَّه الهادی للسماوات والأرض أی انَّه الذی بعث الهدایة فی السماوات والأرض وما فیها ومَن فیها( 6) کما فی قوله تعالى: ﴿رَبُّنَا الَّذِی أَعْطَى کُلَّ شَیْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ ( 7).
فالنور لو کان بهذا المعنى فهو فعلٌ أیضاً من أفعال الله تعالى، کما هو واضحٌ جداً ویُّؤکِّده مقتضى التعبیر فی آیات کثیرة من القرآن انَّ الله تعالى یهدی وانَّه هدى، وعبَّر عن النور بمعنى الهدایة انَّه جاء من عند الله کما فی قوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَکُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَکِتَابٌ مُبِینٌ﴾ ( 8)، وعلیه فلیست الهدایة هی عینُ ذات الله تعالى ولا هی وصفٌ لذاته جلَّ وعلا وإنَّما هی وصفٌ لفعله عزَّ جل، فیکون شأنُها شأن سائر الصفات الفعلیَّة لله سبحانه.
وأما انَّه تعالى الهادی لمَن فی السماوات والأرض وما فیها فمعنى ذلک انَّه تعالى أودعَ فی جِبلَّة کلِّ واحدٍ من خلقه ما یقتضی قیامه بوظیفته التی أُنیطت به تکویناً، فلیس شیئٌ من خلق الله تعالى إلا وقد جُبل بالنحو المناسب لخلقه على العمل بوظیفته التکوینیَّة المُناطة به من قِبَل الله تعالى فتعاقبُ اللیل والنهار ودورانُ الشمس والقمر والنجوم والکواکب کلٌ فی فلکٍ یسبحون وما یترتَّب على ذلک من شوؤن مُنتظِمة، ومراحلُ النمو التی تتدرَّج فیها النباتات والحیوانات وما تفعله الریاح والأمطار، و الشوؤن التی تکون علیها الجبال والأحجار والبحار وما یترتَّب عنها من آثار، کلُّ ذلک یسیر وفقَ قوانینَ مُتقنة ومنضبِطة، فهذه القوانین التکوینیَّة المُودَعة فی جِبلَّة هذه الخلائق هی المُعبَّر عنها بالهدایة التکوینیَّة لله جلَّ وعلا لذلک فهو نور السماوات والأرض أی هو الهادی لها والمُودِع فی مکنون خلقها ما یقتضی إنضباطها فی إطار نظامٍ مُتقن إقتضته عنایتُه وحکمته وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿رَبُّنَا الَّذِی أَعْطَى کُلَّ شَیْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾. فالهدایة فی الآیة المبارکة هی الهدایة التکوینیة، وثمة هدایة تشریعیة أُعطیت لمن منحه الله تعالى إدرکاً وعقلاً، وهذه هی الهدایة التی أُشیر إلیها فی مثل قوله تعالى: ﴿وَهَدَیْنَاهُ النَّجْدَیْنِ﴾ ( 9) وقوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَیْنَاهُ السَّبِیلَ إِمَّا شَاکِرًا وَإِمَّا کَفُورًا﴾ ( 10) وقوله تعالى على لسان الجن: ﴿ قُلْ أُوحِیَ إِلَیَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * یَهْدِی إلى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِکَ بِرَبِّنَا أَحَدًا﴾ ( 11).
والمتحصَّل مما ذکرناه انَّ النور فی آیة النور سواءً کان بمعنى الضیاء أو کان بمعنى الهدایة فإنَّه فعلٌ من أفعال الله سبحانه، وإسناده إلى الله تعالى فی الآیة هو من إسناد الفعل إلى فاعله عیناً کما هو إسناد الفاطر والخالق إلى الله تعالى.
وأما التعبیر فی الآیة بالمصدر "اللهُ نور" بدلاً من إسم الفاعل منوِّر أو انَّه صاحب نور السماوات فمنشؤه أنَّ ذلک أبلغ فی التأکید على عموم نوره وإستیعابه وسعته وشدَّته، ومثل ذلک مستعملٌ لهذا الغرض کثیراً فی العرف وکلام العرب، فیقال "زیدٌ عدل" بدلاً من القول "زید عادل"، فإنَّ العدول فی المثال من إسم الفاعل إلى المصدر کان لغرض التعبیر عن إتصاف زید بکمال العدل وإستیعاب العدل لتمام أفعاله.
وبذلک یتبیَّن فساد دعوى التنافی بین قوله تعالى: ﴿لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْءٌ وَهُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ﴾ وبین قوله تعلى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ کَمِشْکَاةٍ فِیهَا مِصْبَاحٌ﴾ فمعنى: ﴿لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْءٌ﴾ هو انَّه سبحانه لا مثیل له إطلاقاً، وأما قوله تعالى: ﴿مَثَلُ نُورِهِ کَمِشْکَاةٍ﴾ فهو تشبیه لنوره والذی هو فعلٌ من أفعاله ولیس تشبیهاً لذاته جلَّ وعلا، وأما انَّه تعالى نور السماوات فمعناه أنَّه الهادی للسماوات أی المُعطی للهدایة التکوینیَّة والتشریعیَّة أو هو المنوِّر للسماوات والأرض بمثل الشمس والقمر، والتنویر و کذلک الهدایة کلٌّ منهما فعلٌ من أفعال الله جلَّ وعلا، فلیس هو عین ذاته ولا هو شیئ شبیهٌ بذاته سبحانه وتعالى.
المصدر :
بتصرف من الشیخ محمد صنقور
1- سورة الشورى الآیة 11.
2- سورة النور الآیة 35.
3- سورة فاطر الآیة 1.
4- سورة الانعام الآیة 1.
5- سورة البقرة الآیة 30.
6- روى الصدوق فی کتاب التوحید ص 155، بسنده عن العباس بن هلال، قال: سألت الرضا علیه السلام عن قول الله عز وجل : ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فقال : هادٍ لأهل السماء وهادٍ لأهل الأرض. وفی روایة البرقی: هدى مَن فی السماوات وهدى مَن فی الأرض.
7- سورة طه الآیة 50.
8- سورة المائدة الآیة 15.
9- سورة البلد الآیة 10.
10- سورة الإنسان الآیة 3.
11- سورة الجن الآیتان 1-2.
/ج