نستطیع أن نلخّص العوامل التی أوجبت نشوء هذا العلم وتطوُّر البحث فی ذلک بما یلی: -
1- فضل القرآن وقدسیته فی نفوس المسلمین، فهو الثقل الأکبر والکتاب الذی أوصى به النبی المصطفى (صلى الله علیه وآله وسلّم) أمّته، فضلاً عن النصوص الکثیرة الواردة فی ضرورة تقدیسه وتنزیهه عن کل ما لا یلیق بشأنه، وکذلک الحث الأکید على قراءته وفهمه والتدبّر فیه وحفظه.
2- عمق القرآن الکریم وتنوع أبحاثه، ممّا أوجب اهتمام العلماء بدراسته دراسة معمّقة ومفصّلة سواء ما یرتبط بألفاظه وأسلوبه أم ما یرتبط بمدلولاته ومضمونه (ظاهره أنیق وباطنه عمیق) - کما جاء فی الحدیث -.
3- کونه معجزة الإسلام الخالدة ممّا أوجب اعتزاز المسلمین به وانشدادهم نحوه، وبالمقابل صار هدفاً لشبهات أعداء الإسلام الذین یرومون الطعن بالإسلام، هذا الصراع حوله أوجب أن یکون محطّ أنظار العلماء والباحثین وتوجّههم إلیه مما ساهم فی توسّع الأبحاث المرتبطة به کالتفسیر وعلوم القرآن.
4 - تضمّنه لأهم معالم الدین الإسلامی وأُسسه وتشریعاته، فهو یتحدث عن اصول العقیدة التی نادى بها الإسلام، کما یتضمّن معالم الأطروحة الإسلامیة لرقی الإنسان وتهذیب نفسه وإصلاح مجتمعه، بالإضافة الى جملة وافیة من التشریعات الإسلامیة المتنوعة.. الى غیر ذلک من المواضیع الهامة التی تهم المسلم.
فهو کتاب حیوی مقدس لدى المسلمین، ولذلک ورد الحث على قراءته والتدبر فیه، بل اعتبره الرسول (صلى الله علیه وآله وسلّم) الثقل الأکبر الذی خلّفه ویطالب به أمّته، کما جاء فی حدیث الثقلین.
5- عدم اشتماله على أسماء أو مواقف محدّدة صریحة، ولذلک ورد عن الإمام علی (علیه السلام): "هذا القرآن إنّما هو خط مستور بین الدفتین لا ینطق بلسان ولابدّ له من ترجمان، وإنّما ینطق عنه الرجال"( 1). وفی وصیته لابن عباس لمّا بعثه للاحتجاج على الخوارج: "لا تخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه، تقول ویقولون"( 2).
هذه المیزة فی القرآن جعلته فی مأمن من کید السلطات الجائرة المتعاقبة، فلم یقفوا أمام اندفاع المسلمین نحوه والباحثین به، ولم یواجهوه بما واجهوا به أهل البیت(علیهم السلام) - الثقل الآخر - وشیعتهم من العنف والقسوة.
خصائص القرآن
الخاصة الأولى: الشمولیة
عندما نتحدث عن شمولیة القرآن لا نعنی انّه فهرسة للعلوم المختلفة، وإلاّ لأوجب ذلک إماتة روح الإبداع فی الإنسان فی هذه الحیاة الدنیا التی ابتنت على الکدح وبذل الجهد والإبداع.بل نقصد أنّه یتناول کل جوانب الحیاة التی تحیط بالفرد والمجتمع، ولا یقتصر دوره على جانب معیَّن منها فهو کتاب شامل فی تعالیمه ومحتواه أو فلنقل لیعزز جهود الرسول الکریم (صلى الله علیه وآله وسلّم) فی أدائه لهذا الدور، بتوجیه الأمّة وارشادهم الى ما یضمن لهم السعادة فی الدنیا والآخرة.
ولذلک فمن الطبیعی أن یشتمل على مختلف الأمور التی تکون فاعلة فی إصلاح الأفراد والمجتمع، ولم یقتصر على جانب واحد منها.﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ یِهْدِی لِلَّتِی هِیَ أَقْوَمُ﴾( 3) فالقرآن قد احتوى على کل ما یهم المسلم بإطاره العام وهو:
1- أصول العقیدة الإسلامیة من التوحید والنبوة والمعاد والإمامة والولایة، وغیرها من المسائل الاعتقادیة الأخرى، کالقضاء والقدر والعرش وغیر ذلک...
2- الجانب التربوی وما یرتبط به من سمو الاخلاق وتهذیب النفوس.
3- مجموعة من الأحکام الشرعیة والقوانین التی تنظم سلوک المسلم وعلاقاته کفرد، والمسلمین کمجتمع، کما أشار الى اتّباع الرسول (صلى الله علیه وآله وسلّم) وولاة الأمر الذین یحدّدون باقی التفاصیل.
وهذا هو مانعنیه من شمولیة القرآن.
إضافةً لذلک نرى أنّ القرآن قد تصدّى لمهمة أخرى وهی جذب الناس وترغیبهم فیما یصلحهم، ولم یقتصر دوره على سرد مقوّمات الإصلاح ضمن مواد قانونیة جافة ومحدودة التأثیر بل تضمن أرقى الأسالیب البلاغیة وأکثرها تأثیراً فی النفس، ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَیْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْیَةِ اللَّهِ﴾( 4).
المصادر :
1- نهج البلاغة، الخطبة: 125.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 316.
3- سورة الإسراء: 9.
4- سورة الحشر: 21.
/ج