نعتقد: أنّ الله تعالى یبعث الناس بعد الموت فی خلق جدید فی الیوم الموعود ، فیثیب المطیعین، ویعذِّب العاصین.
وهذا أمر على جملته وما علیه من البساطة فی العقیدة اتّفقت علیه الشرائع السماویة والفلاسفة، ولا محیص للمسلم من الاعتراف به. عقیدة قرآنیة جاء بها نبینا الأکرم صلى الله علیه وآله وسلم، فإنّ من یعتقد بالله اعتقاداً قاطعاً، ویعتقد کذلک بمحمّد رسولاً منه أرسله بالهدى ودین الحق، لابدّ أن یؤمن بما أخبر به القرآن الکریم من البعث، والثواب والعقاب، والجنة والنعیم، والنار والجحیم، وقد صرّح القرآن بذلک، ولمَّح إلیه بما یقرب من ألف آیة کریمة.
وإذا تطرَّق الشک فی ذلک إلى شخص فلیس إلاّ لشک یخالجه فی صاحب الرسالة، أو وجود خالق الکائنات أو قدرته، بل لیس إلاّ لشک یعتریه فی أصل الادیان کلّها، وفی صحّة الشرائع جمیعها.
عقیدتنا فی المعاد الجسمانی
وبعد هذا، فالمعاد الجسمانی ـ بالخصوص ـ ضرورة من ضروریات الدین الإسلامی، دلَّ صریح القرآن الکریم علیها:
﴿أیَحسَبُ الانسانُ أنْ لَنْ نَجمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادرینَ عَلَى أن نُّسَوِّیَ بَنَانهُ﴾ (1).
﴿وَإن تَعجب فَعَجَبٌ قَولُهُم أءذَا کُنّا تُراباً أءِنّا لَفی خَلق جَدِید﴾ (2).
﴿أَفَعَیینَا بالخَلقِ الاوَّلِ بَل هُم فی لَبس مِن خَلق جَدِید﴾ (3).
وما المعاد الجسمانی ـ على إجماله ـ إلاّ إعادة الإنسان فی یوم البعث والنشور ببدنه بعد الخراب، وإرجاعه إلى هیئته الأولى بعد أن یصبح رمیماً.
ولا یجب الاعتقاد فی تفصیلات المعاد الجسمانی أکثر من هذه العقیدة على بساطتها التی نادى بها القرآن، وأکثر ممّا یتبعها من الحساب والصراط، والمیزان والجنة والنار، والثواب والعقاب، بمقدار ما جاءت به التفصیلات القرآنیة.
(ولا تجب المعرفة على التحقیق التی لا یصلها إلاّ صاحب النظر الدقیق:
کالعلم بأنّ الأبدان هل تعود بذواتها أو إنّما یعود ما یماثلها بهیئات؟
وأنّ الأرواح هل تعدم کالأجساد أو تبقى مستمرّة حتى تتّصل بالأبدان عند المعاد؟
وأنّ المعاد هل یختص بالإنسان أو یجری على کافّة ضروب الحیوان؟
وأنّ عودها بحکم الله دفعی أو تدریجی؟
وإذا لزم الاعتقاد بالجنة والنار لا تلزم معرفة وجودهما الآن، ولا العلم بأنّهما فی السماء أو الأرض، أو یختلفان. وکذا إذا وجبت معرفة المیزان لا تجب معرفة أنّها میزان معنویة، أو لها کفّتان.
ولا تلزم معرفة أنّ الصراط جسم دقیق، أو هو الاستقامة المعنویة.
والغرض أنّه لا یشترط فی تحقیق الإسلام معرفة أنّها من الأجسام...) (4).
نعم، إنّ تلک العقیدة فی البعث والمعاد على بساطتها هی التی جاء بها الدین الإسلامی، فإذا أراد الإنسان أن یتجاوزها إلى تفصیلها بأکثر ممّا جاء فی القرآن لیقنع نفسه دفعاً للشبه ـ التی یثیرها الباحثون والمشککون بالتماس البرهان العقلی أو التجربة الحسیة ـ فانّه إنّما یجنی على نفسه، ویقع فی مشکلات ومنازعات لا نهایة لها.
ولیس فی الدین ما یدعو إلى مثل هذه التفصیلات التی حشدت بها کتب المتکلِّمین والمتفلسفین، ولا ضرورة دینیة ولا اجتماعیة ولا سیاسیة تدعو إلى أمثال هاتیک المشاحنات والمقالات المشحونة بها الکتب عبثاً، والتی استنفدت کثیراً من جهود المجادلین وأوقاتهم وتفکیرهم بلا فائدة.
والشبه والشکوک التی تثار حول تلک التفصیلات یکفی فی ردّها قناعتنا بقصور الإنسان عن إدراک هذه الأمور الغائبة عنّا، والخارجة عن أفقنا ومحیط وجودنا، والمرتفعة فوق مستوانا الأرضی، مع علمنا بأنّ الله تعالى العالم القادر أخبرنا عن تحقیق المعاد ووقوع البعث.
وعلوم الإنسان وتجریباته وأبحاثه یستحیل أن تتناول شیئاً لا یعرفه ولا یقع تحت تجربته واختباره إلاّ بعد موته وانتقاله من هذا العالم عالم الحس والتجربة والبحث، فکیف ینتظر منه أن یحکم باستقلال تفکیره وتجربته بنفی هذا الشیء أو إثباته؟ فضلاً عن أن یتناول تفاصیله وخصوصیاته، إلاّ إذا اعتمد على التکهّن والتخمین، أو على الاستبعاد والاستغراب، کما هو من طبیعة خیال الإنسان أن یستغرب کل ما لم یألفه ولم یتناوله علمه وحسّه، کالقائل المندفع بجهله لاستغراب البعث والمعاد ﴿مَن یُحیی العِظامَ وَهَیَ رَمیمٌ﴾ (5).
ولا سند لهذا الاستغراب إلاّ انّه لم یرَ میتاً رمیماً قد أُعیدت له الحیاة من جدید، ولکنّه ینسى هذا المستغرب کیف خلقت ذاته لأول مرة، ولقد کان عدماً، وأجزاء بدنه رمیماً تألّفت من الأرض وما حملت، ومن الفضاء وما حوى، من هنا وهنا، حتى صار بشراً سویاً ذا عقل وبیان، ﴿أو لَم یَرَ الإنسان أنَّا خَلَقنَاهُ مِن نُطفَة فَإذَا هُو خَصِیمٌ مُبینٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسی خَلقهُ﴾ (6).
یقال لمثل هذا القائل الذی نسی خلق نفسه: ﴿یُحییها الَّذی أنشَأَهَا أوّلَ مَرَّة وَهُوَ بِکُلِّ خَلق عَلیمٌ﴾ (7).
یقال له: إنّک بعد أن تعترف بخالق الکائنات وقدرته، وتعترف بالرسول وما أخبر به، مع قصور علمک حتى عن إدراک سرّ خلق ذاتک وسر تکوینک، وکیف کان نموّک وانتقالک من نطفة لا شعور لها ولا إرادة ولا عقل إلى مراحل متصاعدة مؤتلفاً من ذرات متباعدة، لتبلغ بشراً سویاً عاقلاً مدبّراً ذا شعور وإحساس.
یقال له: بعد هذا کیف تستغرب أن تعود لک الحیاة من جدید بعد أن تصبح رمیماً، وأنت بذلک تحاول أن تتطاول إلى معرفة ما لا قِبل لتجاربک وعلومک بکشفه؟
یقال له: لا سبیل حینئذ إلاّ أن تذعن صاغراً للاعتراف بهذه الحقیقة التی أخبر عنها مدبّر الکائنات العالم القدیر، وخالقک من العدم والرمیم.
وکلّ محاولة لکشف ما لا یمکن کشفه ولا یتناوله علمک، فهی محاولة باطلة، وضرب فی التیه، وفتح للعیون فی الظلام الحالک.
إنّ الإنسان مع ما بلغ من معرفة فی هذه السنین الأخیرة، فاکتشف الکهرباء والرادار واستخدم الذرّة، إلى أمثال هذه الاکتشافات التی لو حدِّث عنها فی السنین الخوالی لعدَّها من أوّل المستحیلات، ومن مواضع التندّر والسخریة.
إنّه مع کل ذلک لم یستطع کشف حقیقة الکهرباء ولا سر الذرّة، بل حتى حقیقة إحدى خواصهما وأحد أوصافهما، فکیف یطمع أن یعرف سر الخلقة والتکوین، ثم یترقّى فیرید أن یعرف سرَّ المعاد والبعث؟!.
نعم، ینبغی للإنسان بعد الإیمان بالإسلام أن یتجنَّب عن متابعة الهوى، وأن یشتغل فیما یصلح أمر آخرته ودنیاه، وفیما یرفع قدره عند الله، وأن یتفکّر فیما یستعین به على نفسه، وفیما یستقبله بعد الموت من شدائد القبر والحساب بعد الحضور بین یدی الملک العلاّم، وأن یتّقی ﴿یوماً لا تَجزی نَفسٌ عَن نَفس شَیئاً وَلا یُقبَلُ مِنها شَفَاعَةٌ وَلا یُؤخَذُ مِنها عَدلٌ ولا هُم یُنصَرونَ﴾8.
المصادر : بتصرف عن عقائد الامامیة ،الشیخ محمد رضا المظفر، ص: 166- 171.
1- القیامة: 3 ـ 4.
2- الرعد: 5.
3- ق: 15.
4- مقتبس من کتاب کشف الغطاء: للشیخ الکبیر کاشف الغطاء.
5- یس: 78.
6- یس: 77 ـ 78.
7- یس: 79.
8- البقرة: 48.
/ج