(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُکِ)(1) کیف فهم الصحابة والتابعون رضوان الله علیهم هذه الآیة زمن نزولها؟ وکیف نقل لنا المفسرون رحمهم الله تعالى یقول السید العلامة الطبطبائی فی تفسیره لکلمة (الحُبُک):
( والسماء ذات الحبک ) الحبک بمعنى الحسن والزینة ، وبمعنى الخلق المستوی ، ویأتی جمعا لحبیکة أو حباک بمعنى الطریقة کالطرائق التی تظهر على الماء إذا تثنى وتکسر من مرور الریاح علیه . والمعنى على الاول : أقسم بالسماء ذات الحسن والزینة نظیر قوله تعالى : ( إنا زینا السماء الدنیا بزینة الکواکب ) الصافات : 6 ، وعلى الثانی : اقسم بالسماء ذات الخلق المستوی نظیر قوله : ( والسماء بنیناها بأید ) الایة : 47 من السورة وعلى الثالث اقسم بالسماء ذات الطرائق نظیر قوله : ( ولقد خلقنا فوقکم سبع طرائق ) المؤمنون : 17 . ولعل المعنى الثالث أظهر لمناسبته لجواب القسم الذی هو اختلاف الناس وتشتت طرائقهم .(2)
یقول الإمام ابن کثیر فی تفسیره لهذه الآیة: «وقال الحسن بن أبی الحسن البصری: (ذَاتِ الْحُبُکِ) حُبکت بالنجوم»(3). أما الإمام الزمخشری فقد تناول هذه الآیة وقال فی تفسیرها: «(الحُبُک) الطرائق مثل حُبُک الرمل والماء إذا ضربته الریح، وکذلک حُبُک الشَعر: آثار تثنیه وتکسّره. وإذا أجاد الحائک الحیاکة قالوا: ما أحسن حبکه»(4). ونستطیع أن نتلمس من هذه التفاسیر إشارة إلى النسیج والحَبْک والإحکام. وأن خیوط هذا النسیج هی النجوم، من خلال قول الحسن: «حُبکت بالنجوم».
ولکن ما هی نظرة علماء اللغة العربیة لکلمة (الحُبُک)، وکیف فهموا هذه الکلمة؟ یقول ابن منظور فی معجمه لسان العرب حول معنى قوله تعالى (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُکِ): «قال أبو إسحاق: وأهل اللغة یقولون: ذات الطرائق الحسنة»(5). أما معجم القاموس المحیط فیعطینا معنى هذه الکلمة کما یلی: «الحَبْکُ هو الشدّ والإحکام، وتحسین أثر الصنعة فی الثوب»(6). ولو بحثنا فی المعجم الوسیط والذی وضعه مجمع اللغة العربیة حدیثاً نجد معنى کلمة (حَبَکَ) هو: «حَبَکَ الشیء حَبکاً أحکَمه، ویقال حَبَک الثوبَ: أجادَ نسجه، وحبَک الحبل: شدّ فتله، وحبک العقدة: قوّى عَقدها ووثقها»(7).
وهذا یدل على أن علماء اللغة یربطون هذه الکلمة دائماً بنسج الثوب وإتقانه وإحکامه، وأنهم یتحدثون عن خیوط تُحبک وتُشد وترتبط بعُقد محکمة. والسؤال: هل یمکن أن نجد فی اکتشافات العلماء ما یشیر إلى وجود نسیج حقیقی فی السماء؟ لنتأمل الآن أحدث اکتشاف کونی حول بنیة الکون وشکله، ونتأمل التطابق المذهل بین ما جاء به القرآن قبل أربعة عشر قرناً، وبین ما یراه العلماء الیوم رؤیة یقینیة.
لقد وجد العلماء أن المجرات تنتشر بکمیات ضخمة، فقدروا عددها بمئات البلایین، وقدروا عدد النجوم فی کل مجرة بمئات البلایین أیضاً. وبدأوا بطرح العدید من الأسئلة: ما هو شکل هذا الکون إذا نظرنا إلیه من الخارج؟ وکیف تتوزع المجرات والغاز والغبار الکونی فی الفراغ بین النجوم؟ وهل هنالک من نظام یحکم هذا التوزع؟
الإجابة عن هذه الأسئلة تطلبت تصمیم کمبیوتر عملاق یستطیع رسم صورة مصغرة للکون. حیث قام العلماء بإدخال جمیع البیانات الضروریة فی هذا الکمبیوتر الضخم لإتمام المهمة، وکان هدف هذه العملیة هو معرفة التوزع الدقیق للمجرات فی الکون.
أضخم عملیة حاسوبیة على الإطلاق!
لقد قام بعض العلماء من بریطانیا وألمانیا وکندا والولایات المتحدة الأمریکیة منذ فترة قریبة بأضخم عملیة حاسوبیة لرسم صورة مصغرة للکون، وتم إدخال عشرة آلاف ملیون معلومة فی السوبر کمبیوتر، حول عدد ضخم من المجرات یزید على 20 ملیون مجرة! وعلى الرغم من السرعة الفائقة لهذا الجهاز إلا أنه بقی یعمل فی معالجة هذه البیانات مدة 28 یوماً حتى تمکن من رسم صورة مصغرة للکون!!
لقد تم إدخال معلومات عن توسع الکون، وعن سلوک النجوم والتجمعات المجریة، وعن المادة المظلمة فی الکون، وکذلک تم إدخال معلومات عن الغاز والغبار الکونی، بهدف تقلید الکون فی توسعه، وتحدید الطرق التی تسلکها المجرات والنجوم. وقد قال البروفسور Carlos Frenk من جامعة درهام ببریطانیا ومدیر هذا البرنامج: إنه أعظم شیء قمنا به حتى الآن، ربما یکون الأکبر على الإطلاق فی الفیزیاء الحاسوبیة. إننا وللمرة الأولى نملک نسخة طبق الأصل عن الکون، والتی تبدو تماماً کالکون الحقیقی، ولذلک یمکننا وللمرة الأولى أن نبدأ التجارب على الکون.
وهذا تصریح من عالم ومکتشف کبیر بأنها المرة الأولى فی التاریخ التی یستطیع فیها العلماء رؤیة حقائق یقینیة عن شکل الکون، وتوزع المجرات فیه. وقد کانت الصورة التی رسمها الکمبیوتر للکون تشبه إلى حد کبیر نسیج العنکبوت، ولذلک فقد أطلق علیها العلماء مصطلح «النسیج الکونی». لقد تبین أن کل خیط من خیوط هذا النسیج یتألف من آلاف المجرات، وهذه المجرات قد رصفت بطریقة شدیدة الإحکام، أی أن هذا النسیج محکم إحکاماً شدیداً. ولذلک قال عنه هذا العالم: "هذه المجموعات من آلاف المجرات شدیدة اللمعان قد رُصّت بإحکام شدید".
إذا نظرنا إلى السماء فسوف نرى عدداً ضخماً من المجرات، هذه المجرات لا تنتشر عشوائیاً، إنما هنالک قوى شدیدة تربطها بإحکام، إنها قدرة الله تعالى الذی یمسک هذه المجرات ویمسک السماء أیضاً! المرجع: وکالة ناسا.
إن مصطلح «النسیج الکونی» هو مصطلح حدیث جداً، وقد أطلقه العلماء للتعبیر عن بنیة الکون لأنهم رأوا المجرات تصطف على خیوط دقیقة. فلو تأملنا أی خیط کونی سوف نجده خیطاً دقیقاً جداً بالمقاییس الکونیة، فإذا علمنا بأن النجم الواحد یمتد فی الفضاء لمسافة تساوی عدة ثوان ضوئیة، فإن الخیط الکونی یمتد لعدة بلایین من السنوات الضوئیة!
صورة النسیج الکونی کما رآها العلماء، کل خیط من خیوط هذا النسیج یحوی آلاف المجرات، ویمتد لبلایین السنوات الضوئیة، فسبحان الذی خلق هذا النسیج وأقسم به! ولو قمنا مثلاً بتصغیر خیط کونی حتى یصبح قطره میلیمتراً واحداً فإن طول هذا الخیط سیبلغ عدة مئات من الأمتار!! فتأمل دقة هذا الخیط الکونی، فهو رفیع جداً وطویل جداً، وعلى الرغم من ذلک نجده محکماً ومشدوداً بقوى کونیة عظیمة. والسؤال: ألا یدل هذا على عظمة هذه الخیوط ودقة صنعها وإتقانها؟ ومن هنا ربما ندرک لماذا أقسم الله بها فی کتابه المجید. المرجع: مختبر ماکس بلانک ألمانیا.
العلماء یستخدمون تعابیر القرآن!
إن العلماء الیوم لا یشکّون أبداً فی وجود هذا النسیج، بل إنهم بدأوا یبحثون عن الکیفیة التی تمت بواسطتها نسج هذه الخیوط الکونیة العظمى. ومن أغرب ما صادفته فی هذه الدراسة أننی وجدتُ بأن علماء الفلک الیوم یستخدمون التعبیر القرآنی ذاته فی أبحاثهم! فقد صدر مؤخراً بحث لعدد من کبار الباحثین الغربیین یتساءلون فیه عن الکیفیة التی تم بواسطتها حبک الخیوط فی النسیج الکونی!!! وقد وجدتهم یستعملون کلمة weave وهی تعنی موج او(حبک) ، والسؤال: ماذا یعنی أن نجد علماء الفلک فی القرن الحادی والعشرین یستخدمون الکلمة القرآنیة ذاتها؟ إنه یعنی أن هؤلاء العلماء مهما بحثوا ومهما اکتشفوا من حقائق علمیة فلا بدّ فی النهایة أن یعودوا إلى کتاب الحقائق – القرآن، لأن الله تعالى الذی خلق الکون هو الذی أنزل القرآن وحدثنا فیه عن هذه المخلوقات.
العلماء یؤکدون رؤیتهم لخیوط هذا النسیج
یرفض بعض القراء فکرة الإعجاز العلمی بحجّة أن العلم هو عبارة عن فرضیات تتغیر مع تطور المعرفة البشریة، أما القرآن فهو الحقیقة الثابتة، ولذلک هم یعترضون على تفسیر القرآن المطلق والثابت بنظریات متغیرة وقد تکون خاطئة. والسؤال الذی نود إثارته: هل یمکن أن یکتشف العلماء فی المستقبل شیئاً یخالف ما کشفوه الیوم؟ یمکن القول إن هنالک حقائق علمیة یراها الإنسان ویلمسها مثل حقیقة وجود المجرات وحقیقة کرویة الأرض وحقیقة وجود الشمس والقمر، وهذه حقائق یراها کل إنسان. وهنالک نظریات مثل نهایة الکون وعمر الکون وکیفیة نشوء الکون لم یستطع العلماء التأکد منها.
ومما لا شک فیه أن المجرات تتوضع فی هذا الکون بنظام محکم وبناء نسیجی وهذا ما یقره جمیع العلماء ولا ینکره أحد، وقد تکشف الأبحاث العلمیة القادمة تفاصیل جدیدة عن هذا النسیج، ولکن لا یمکن أن نکتشف مثلاً أن الکون عشوائی أو غیر منظم، لأن ذلک سیؤدی إلى انهیار الکون.
بما أن هذه الحقیقة العلمیة تطابقت مع النص القرآنی فلا یمکن أبداً أن یکتشف العلم مستقبلاً أشیاء تناقض هذا النص الکریم، ولکن العلم قد یکشف أشیاء جدیدة فی هذا النسیج کأن یکتشفوا صورة أفضل عنه أو یستطیعون أن یروه بتفاصیل أکثر دقة. إذن کما نرى ونلمس أن الأرض کرویة، کذلک العلماء یرون بأعینهم خیوطاً من المجرات تتشابک وتترابط بنظام محکم، ولا یمکن أن یکون هذا المشهد وهماً.
إن العلماء الیوم یرون طرقاً وجسوراً کونیة تربط هذه الخیوط وتشدَها بإحکام، ومن هؤلاء العلماء الدکتور «بول میلر» الذی یؤکد أن هنالک طرقاً للنجوم تسیر علیها وتتدفق وتلتقی وتجتمع لتشکل المجرات، کما أنه یتحدث عن خیوط filaments وعن عقد nodes وعن نسیج web ، ألیست کلمة (الحُبُک) تتضمن هذه المعانی جمیعاً .
نتائج البحث ووجوه الإعجاز
- من جمال هذه الآیة وعظمة إعجازها أنه لا یوجد أی تناقض فی فهمها على مر العصور، فمن خلال تفسیر الآیة نستنتج أن النص القرآنی واضح فی دلالاته، فمنذ نزوله فهم منه العرب أن السماء التی أقسم الله بها هی ذات نسیج محکم، ومع أنهم لم یروا هذا النسیج إلا أنهم آمنوا به!! وهذا یعنی أنه لم تکن هنالک مشکلة فی فهم هذه الآیة عند أجدادنا رحمهم الله تعالى، فهم فهموا من هذه الآیة على قدر معلومات عصرهم، ونحن نفهم من هذه الآیة على قدر معلومات عصرنا، وقد یأتی غداً من یکتشف أشیاء کونیة جدیدة فی هذا النسیج، وسوف یفهمون هذه الآیة بشکل أوسع. وهذا وجه من وجوه الإعجاز العلمی یمکن أن أسمیه إعجاز فهم النص القرآنی على مر العصور والأجیال.
- إن النسیج العادی یتألف من خیوط مشدودة بإحکام، وهنالک قوى شدّ بین هذه الخیوط، والنسیج الکونی یتألف من خیوط دقیقة أیضاً یسمیها العلماءFilaments ، ولکن مادة هذه الخیوط هی المجرات، وهنالک قوى تجاذب کونی عظیمة تربط بین هذه الخیوط، بل إن العلماء یتحدثون عن "عقد knots" تلتقی فیها خیوط النسیج الکونی حیث تشکل تجمعات ضخمة من المجرات وتظهر فی الصور على شکل نقاط شدیدة الإضاءة. ولکن ماذا یعنی ذلک؟
إنه یعنی أن القرآن دقیق جداً فی کلماته، فکلمة (الحُبُک) هی أفضل کلمة من الناحیة العلمیة لوصف البنیة النسیجیة للکون. حیث إن العلماء یستخدمون عدة کلمات مثل "نسیج، خیوط، عقد، بنیة محکمة، قِوى عظیمة" ولکن القرآن اختصر کل هذه التعابیر بکلمة واحدة جامعة هی (الحُبُک)، ألیس هذا إعجازاً بیانیاً یُضاف لرصید الآیة الإعجازی؟؟
- من خلال المعلومات التی قدمها هذا البحث عن تاریخ تطور المعرفة الإنسانیة بالکون، وتأکید علماء الفلک بأنها المرة الأولى التی یتعرفون فیها إلى النسیج الکونی، یتبین لنا أن مفهوم النسیج الکونی والحُبُک لم یکن معروفاً زمن نزول القرآن. والتفسیر الوحید لحدیث القرآن عن هذا النسیج هو أن الذی أنزل القرآن هو الله القائل: (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِی یَعْلَمُ السِّرَّ فِی السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ کَانَ غَفُورًا رَحِیمًا)(8).
- فی هذا البحث ردّ على أولئک الذین یروّجون لفکرة یسمونها «أکذوبة الإعجاز العلمی»، وحجَّتهم فی ذلک أننا نقفز فوق المعنى اللغوی للآیة الکریمة، ونأتی بتفسیرات لا توافق أقوال المفسرین. ونقول لهؤلاء: ألیست معاجم اللغة العربیة تؤکد بأن معنى کلمة (حَبَکَ) هو أجاد نسج الثوب؟ ألیس المفسرون رحمهم الله تعالى قد تحدثوا فی تفاسیرهم لهذه الآیة عن «النسیج المحکم»؟
وعندما یأتی العلماء فی القرن الحادی والعشرین لیثبتوا لنا بالصور وجود نسیج حقیقی فی السماء، ویتحدثون عن خیوط لهذا النسیج ویتحدثون عن طریقة حبک هذه الخیوط!! ألیس هذا تطابقاً تاماً بین ما جاء به القرآن قبل أربعة عشر قرناً وبین ما نراه وندرکه الیوم من حقائق علمیة یقینیة؟؟
ینبغی أن نعلم أن هذه المعجزة هی وسیلة لزیادة التثبیت الیقینی ومزید من الإیمان بالله تعالى، فنحن فی هذا العصر بأمس الحاجة إلى معجزات مبهرة تثبتنا على الحق وتزیدنا تمسکاً بهذا القرآن. ولو توجهنا الیوم بسؤال لهؤلاء العلماء الذین اکتشفوا هذا النسیج المعقد، وصرفوا بلایین الدولارات فی سبیل رسم هذه الصورة الکونیة، وقلنا لهم: ما رأیکم أن الشیء الذی تکتشفونه فی القرن الحادی والعشرین، قد تحدث عنه کتاب موجود منذ القرن السابع المیلادی .
إنهم سیسارعون للقول بأن ذلک سیکون مستحیلاً، والسبب هو أن التنبؤ بوجود بنیة نسیجیة للکون یحتاج إلى عدسات مکبرة ومراصد تتوضع فی مختلف أنحاء العالم، ویحتاج لآلاف الباحثین لرسم خرائط لملایین المجرات، وتحدید أماکنها وتحلیل أطیافها. وسوف یتطلَّب ذلک وجود أجهزة کومبیوتر عملاقة، وإلى تکالیف باهظة. وهذه الإمکانیات لم تتوافر إلا فی نهایة القرن العشرین، فأنى لبشرٍ أن یتنبَّأ بنسیج کهذا .
المصادر :
1- الذاریات /7
2- تفسیر المیزان ج18 ص366
3- تفسیر القرآن العظیم للإمام ابن کثیر، دار المعرفة، بیروت 2004.
4- تفسیر الکشاف للزمخشری، دار الکتب العلمیة، ط3 ، 2003.
5- معجم لسان العرب لابن منظور الأفریقی المصری، دار صادر، بیروت الطبعة الأولى الجزء الرابع صفحة 19 حرف الحاء.
6- معجم القاموس المحیط للفیروز آبادی، ص 259، دارالمعرفة 2005.
7- المعجم الوسیط، مجمع اللغة العربیة، ص 153 دار الدعوة، استنبول 1989.
8- الفرقان: 6
/ج