
إن الوقوف أمام النهی القرانی عن وصف الشهداء بالأموات یبرز حقیقة حیاتهم ومجازیة موتهم، لقد قتلوا فی ظاهر الأمر وحسبما ترى العین فی أفقها المحدود لکن حقیقة الموت وحقیقة الحیاة لا تقررهما هذه النظرة السطحیة الظاهرة بل لهما أغوار عمیقة، وأبعاد صعبة المنال، وکیف یموت من هو عند ربه یرزق ﴿أَحْیَاء عِندَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُونَ﴾(1)، بما لا یحد کلمة (عند) مکان ولا زمان ولا أرض ولا سماء طالما أضیفت إلى اللَّه سبحانه، فهم الذین لیس فوق برّهم برّ.
فکما عن رسول اللَّه صلى الله علیه وآله: (فوق کل برّ برّ، حتى یقتل الرجل فی سبیل اللَّه، فإذا قتل فی سبیل اللَّه عزّ وجلّ فلیس فوقه برّ...)(2) وهم أفضل الخلق بعد الأوصیاء حیث یقول أمیر المؤمنین علیه السلام: (ألا وإن أفضل الخلق بعد الأوصیاء الشهداء)(3) والمهم هنا أن نعرف مسؤولیّاتنا اتجاههم ووظیفة المجتمع مع قضایاهم لننعم من خلال أراء حقوقهم بطمأنینة النفس وراحة البال والضمیر وهم ینظرون إلینا من علیائهم کما وصفهم لنا النبی صلى الله علیه وآله: (الشهداء عند اللَّه على منابر من یاقوت فی ظلّ عرش اللَّه یوم لا ظلّ إلا ظلّه وعلى کثیب من مسک، فیقول لهم الرب: ألم أوفِ لکم وأصدقکم؟ فیقولون: بلى وربنا)(4)
الشهادة منزلة وکرامة:
یکشف عن ذلک خطاب النبی صلى الله علیه وآله لسید الشهداء علیه السلام: (إن لک فی الجنة درجات لا تنالها إلا بالشهادة)(5)وقول علی بن الحسین علیه السلام: "وکرامتنا من اللَّه الشهادة" وهو اعتقاد قائم لدى المسلمین عبّر عنه الإمام الخمینی رضوان الله علیه فی تأبینه للشهید مطهری قائلاً: (إحدى ممیّزات الإسلام اعتقاد المسلمین أن الشهادة درجة عظیمة، وفوز کبیر، والمسلم الحقیقی یستقبل الشهادة بقلب منفتح لأنه یعتقد أن ما وراء هذا العالم وهذه الدنیا عالم أفضل وأنور، من هذا العالم)(6).
ثم یطلق أمنیته: (یا لیتنی امتلک أرواحاً عدیدة لأفتدی بها مرات من أجل انتصار الإسلام ومحاربة الکفر)(7)
عطاء الشهداء عند الإمام الخمینی رضوان الله علیه:
یتحدث الإمام الخمینی رضوان الله علیه عن العطاء الخالد، والبرکة الساریة فی کل الأرجاء لهم، منتقداً أولئک الذین یحاولون أن یخضعوهم لموازین ومکاییل لا تتناسب ومکانتهم ولا تساوى بذرة مما قدّموه على المذبح الإلهی عشقاً وشوقاً بوجهه الکریم: (لقد أعطى الشهداء درس المقاومة للعالمین، لیخلد عبر الأجیال القادمة، هذه الشعوب والأجیال الاتیة، هی التی ستقتدی بمسیرة الشهداء، وستخلّد مراقدهم الطاهرة، مزاراً للعاشقین، العارفین والمتحرقین، ودار بلسم للأحرار، طوبى للذین رحلوا شهداء، طوبى لأولئک الذین قدموا أرواحهم فی هذه القافلة النورانیة... اللهم أبق سجل الشهادة مفتوحاً للمشتاقین، اللهم ولا تحرمنا الوصول إلیها...)(8).
مسؤولیاتنا اتجاه الشهداء:
إن لهم حقوقاً علینا، لیس من الصحیح إغفالها، بل من أدنى درجات الوفاء للدماء أداؤها والحفاظ علیها، والاحساس بالتقصیر والخجل الدائم أمام تلک التقوى الزکیّة کما کان حال الإمام الخمینی رضوان الله علیه حیث یقول: (أحسّ بالخجل حینما أرى نفسی أمام هؤلاء الأعزة الطافحین بالعشق والإیمان، لقد تعشقوا اللَّه العظیم، والتحقوا بمعشوقهم، ونحن لا زلنا نراوح فی مکانن)(9)المسؤولیة الأولى: الحفاظ على نهجهم.
لیس خافیاً على أحدٍ أن أولئک العظماء، إنما بذلوا دماءهم وارتقوا إلى الملکوت الأعلى، استناداً إلى مبادىء لا یحق لأی کان التنازل عنها ولا الاستخفاف بحدودها، والتزاماً بنهج أصیل تمتد جذور أصالته إلى الروح النبویة مروراً بعوامل بقائه وخلوده من خلال الفداء الحسینی الذی کانت به صیانة الدین عن الانحراف، والرکب الولائی الساری عقیدة وجهاداً عبر جیل بعد جیل وصولاً إلى الالتزام الدائم بطاعة ولیّ الأمر على أساس مسالمة من سالم ومعاداة من عادى، فهم على هذه الجادة ساروا وعلینا المسیر علیها، فلا یحق لنا التخلف عنها، بل الواجب تعزیز المسیرة التی من أجلها کانت عطاءاتهم وتوالت تضحیاتهم لذلک کان من وصایاهم: "الوصیة الأساس حفظ المقاومة الإسلامیة" وهکذا مئات الوصایا المخزونة فی الضمائر والقلوب لشهدائنا الأبرار.المسؤولیة الثانیة: تکفّل أیتامهم.
فقد ورد الحث على ذلک واعتباره مسؤولیة اجتماعیة کبرى یعاقب المجتمع بکامله على مخالفتها وهی موضع اقتحام الأنبیاء والأوصیاء فی أنفاسهم الأخیرة قبل مغادرة هذه الدنیا الفانیة ألا ترى أمیر المؤمنین علیه السلام یوصی: (اللَّه اللَّه فی الأیتام فلا تغبّوا أفواههم ولا یضیّعوا بحضرتکم فقد سمعت رسول اللَّه صلى الله علیه وآله یقول: من عال یتیماً حتى یستغنی أوجب اللَّه عزّ وجلّ له الجنة کما أوجب لأکل مال الیتیم النار)(10).وهم أمانة من ضحى بأغلى ما لدیه، فالواجب رعایتهم وتعهدهم فی سائر أمور معاشهم إلى حد لا یشعر الیتیم بالتراجع عما کان علیه فی زمن أبیه، من خلال مودته وبذل ما ینبغی بذله له من الحنان والرأفة والرحمة وعدم حرمانه مما توفر لسائر أبناء الناس من المسکن والملبس والمأکل والمشرب والمدرسة وسائر الأمور. وبذلک یستحق کافله المکانة التی أخبرنا عنها النبی الأعظم صلى الله علیه وآله: (أنا وکافل الیتیم کهاتین فی الجنة إذا اتقى اللَّه عزّ وجلّ، وأشار بالسبابة والوسطى)(11).
المسؤولیة الثالثة: قضاء دیونهم.
ربما یتوهم بعضنا حینما یسمع حدیث النبی صلى الله علیه وآله: (إن أول ما یهراق من دم الشهید یغفر له ذنوبه)(12)إن ذلک یشمل الدَیْن وسائر الحقوق المادیة من أمانات وغیرها، لکن الواقع غیره، إذ لا یمکننا قصر النظر على ما تقدم دون الأخذ بغیره من الأحادیث الشریفة التی استثنت الدَیْن ومنها ما قاله النبی نفسه صلى الله علیه وآله: (سبحان اللَّه ماذا أنزل من التشدید فی الدَیْن، والذی نفسی بیده، لو أن رجلاً قتل فی سبیل اللَّه، ثم أحیی، ثم قتل ثم أحیی، ثم قتل وعلیه دَیْن، ما دخل الجنة حتى یقضی عنه دینه)(13) .
فیکون الحدیث الأول غیر شامل للدَیْن والأمانة. والسبب فی ذلک أنها من الحقوق المختصة بالناس ولیس باللَّه سبحانه، فما لم یسبق من صاحب الدین إبراء لذمة المدین قبل الشهادة أو یلحق بعدها کان الوجب قضاؤه وإیصاله وإراحة الشهید من ثقله، یروى أن النبی صلى الله علیه وآله صلى بأصحابه ذات یوم فقال: (ما ها هنا من بنی النجار أحد وصاحبهم محتبس على باب الجنة بثلاثة دراهم لفلان الیهودی وکان شهید)(14). وفی حدیثه صلى الله علیه وآله عن الأمانة قال: (القتل فی سبیل اللَّه یکفّر الذنوب کلّها إلا الأمانة)(15).
المسؤولیة الرابعة: زیارة قبورهم.
التی هی من جملة الاداب والسّنن بما تتضمنه من اثار فی تربیة النفس وتهذیبها وعود الفائدة لها لأنها تذکّر بالاخرة یقول النبی الأعظم صلى الله علیه وآله: (زوروا القبور فإنها تذکرکم بالاخرة)(16)وهکذا کان یفعل صلى الله علیه وآله زائراً قبور الشهداء فی البقیع: (السلام علیکم دار قوم مؤمنین وإنّا وإیاکم متواعدون غداً ومواکلون، وإنّا إن شاء اللَّه بکم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقیع الغرقد)(17)
وقد دأبت الصدیقة الطاهرة فاطمة الزهراء علیها السلام على زیارة قبر عمها الحمزة أسد اللَّه ورسوله کل جمعة ومن ترابه اتخذت سبحتها بعد أن علّمها أبوها صلى الله علیه وآله التسبیح المعروف باسمها علیها السلام وهی عارفة بأنه على قائمة العرش مکتوب حمزة أسد اللَّه وأسد رسوله وسید الشهداء(18).
وإن مراقد الشهداء دار بلسم للأحرار کما یصفها الإمام الخمینی رضوان الله علیه ستخلّد مراقدهم الطاهرة، مزاراً للعاشقین، والعارفین، والمتحرقین، ودار بلسم للأحرار طوبى للذین رحلوا شهداء...)(19)
المصادر :
1- آل عمران:169.
2- فروع الکافی، ج5، ص53.
3- تفسیر نور الثقلین، ج1، ص513.
4- کنز العمال، ح00111.
5- الأمالی للشیخ الطوسی، ص712.
6- جریدة العهد، العدد 54، سنة 5041ه.
7- صحیفة لواء الصدر، العدد 032.
8- من کلامه رضوان الله علیه بمناسبة قبول قرار مجلس الأمن رقم 895 کیهان العربی العدد 9141.
9- اندفاع نحو الشهادة، ص35.
10- میزان الحکمة، ح77522.
11- میزان الحکمة ، ح18522.
12- المستدرک، ج2، ص119.
13- جامع الأحادیث، ج4، ص282.
14- کنز العمال، ح21111.
15- مستدرک الوسائل، ج13، ص393.
16- صحیح ابن ماجه ج1، ص113.
17- السنن للنسائی ج4، ص77 - 76.
18- میزان الحکمة ، ح3189.
19- کیهان العدد، 9141.
/ج