
برز فی القرن العشرین مفهوم کلمة "ثقافة" بوصفه مفهوم مرکزى وموحد فی علم الأنسان، حیث أنها تشیر إلى القدرة الإنسانیة بصورة رمزیة وبشکل کبیر والتی بدورها تعبر عن الخبرات الفردیة بشکل رمزى، وفى الوقت ذاته تقوم بربط تلک الخبرات الرمزیة بشکل اجتماعى.فیمکن تقسیم علم الانسان إلى أربعة حقول، کل منها یشارک بدور هام فی البحث عن الثقافة: وهم الأنثروبولوجیا البیولوجیة، واللغویات، والأنثروبولوجیا الثقافیة وعلم الآثار.و قد أثر البحث فی هذه المجالات على علماء الأنثروبولوجیا الذین یعملون فی بلدان أخرى بدرجات مختلفة.
لاحظ جیرالد ویس Gerald Weiss أنه على الرغم من تعریف تایلور التقلیدى لکلمة ثقافة یقتصر على البشر بعینهم، فإن العدید من علماء الأنثربولوجیا قد اتخذوا من هذا أمرا مفروغا منه، وبالتالی عملوا على حذف هذا الشرط الهام من المفاهیم اللاحقة، ، مجرد ثقافة المساواة مع أی سلوک مکتسب. یعد هذا الزلل مشکلة لأنه خلال السنوات التکوینیة لعلم الحیوانات الراقیة المعاصر، قد تلقى بعض علماء الحیوانات الراقیة تدریبا فی علم الأنثروبولوجیا (وبالطبع هم على درایة بأن مفهوم کلمة ثقافة یشیر إلى تعلم السلوک بین البشر)، وبعضها الآخر لیس کذلک. وقد لاحظ بعض العلماء من غیر الأنثربولوجیین، مثل روبرت یرکس Robert Yerkes وجین غودال Jane Goodall أنه طالما أن حیوان الشمبانزی قد تعلم بعض السلوکیات، فبالتالى فلدیهم قدر من ثقافة. فحتى یومنا هذا، ینقسم علماء الحیوانات الراقیة والذین لدیهم خلفیة عن الأنثربولوجیا إلى فریقین، بعض منهم ینادى بأن لدى الحیوانات الراقیة ثقافة، والبعض الآخر ینادى بعدم وجود ذلک(1)
لقد زادت الأمور تعقیدا بشأن هذا البحث العلمی بسبب النواحى الأخلاقیة. تعد فصائل علم الحیوانات الراقیة حیوانات غیر آدمیة، ومهما کانت ثقافة مثل هذه البدائیات فإنها مهددة من قبل النشاط البشری. وبعد استعراض الأبحاث حول ما اکتسبته الحیوانات الراقیة من ثقافة، توصل ماکجرو W.C. McGrew إلى أن، "یحتاج التعلم إلى أجیال متفاهمة مع بعضها البعض لکى تتم عملیة التعلم، ومعظم الأنواع من غیر البشر والقرود مهددة بالانقراض من أبناء عمومتهم من بنى البشر. فی نهایة المطاف، بغض النظر عن الجدارة، یجب أن ترتبط ثقافة الحیوانات الراقیة بفکرة بقاء النوع [أی لبقاء الثقافات المتعلقة بهم].(2)
یرى ماکجرو مفهوما لکلمة ثقافة مبنیا على فکرة وجود الاستفادة العلمیة من دراسة ثقافة الحیوانات الراقیة.ویشیر إلى أن العلماء لا یمکنهم الوصول إلى أیة أفکار موضوعیة أو معارف من تلک الحیوانات. وبالتالی، إذا تم تعریف الثقافة من حیث وجود المعرفة، فإن محاولات العلماء لدراسة ثقافة تلک الحیوانات سوف تنحصر فی نطاق ضیق للغایة. وبناء علیه، بدلا من تعریف الثقافة فی ضوء المعرفة، یرى ماکجرو بأنه یمکننا النظر إلى الثقافة باعتبارها منظومة. وقد أوضح ستة خطوات لتلک المنظومة:
1.لابد من وجود اکتساب سلوک من نوع جدید، أو على الأقل تعدیل لسلوک کان موجودا مسبقا.
2.لابد لهذا الکائن الذی اکتسب سلوکا جدیدا أن ینقله إلى غیره من بنى جنسه.
3.یتسم السلوک الجدید بالترابط فی حد ذاته وفیما بین الکائنات المکتسبة له بعضهم البعض، فی ضوء الخصائص السلوکیة المتعارف علیها.
4.یجب أن یتسم السلوک المکتسب بالاستمرار لکى یقوم بممارسة أثره أطول فترة ممکنة بعد فترة الاستجابة.
5.یجب أن ینتشر هذا السلوک فی شکل وحدات اجتماعیة.قد تکون هذه الوحدات الاجتماعیة على شکل عائلات، عشائر، قبائل، أو أقارب.
6.وأخیرا، یجب أن یستمر هذا السلوک عبر عدة أجیال
یعترف ماکجرو بأن الستة عوامل قد تکون دقیقة إلى حد ما، وذلک نظرا لصعوبة مراقبة سلوک الحیوانات الراقیة فی البریة. لکنه یصر أیضا على ضرورة أن یتصف بالشمولیة قدر الإمکان، وذلک لما یراه من ضرورة وضع تعریف لکلمة ثقافة "تخیم بظلالها على أوسع نطاق ":
وتعتبر کلمة ثقافة سلوک یتم تجمیعه من خلال مجموعة عوامل دقیقة، على الأقل مثلا، من التأثیرات الاجتماعیة.هنا، تعتبر هذه المجموعة کیانا مستقل، سواء أکانت، فصیلة، ذریة، مجموعة فرعیة أو غیر ذلک. ولعل دلیل بریما فاشیا Prima facia على وجود ثقافة لدى الکائنات یأتى من خلال دراسة سلوک فصیلة واحدة بعینها، ولکن من خلال عدة عوامل تتمیز بالتباین فی السلوک فیما بینها، کما أنه یوجد لدى مجموعة من الشمبانزى خصائص معینة قد تکون غیر موجودة عند غیرهم فی مجموعة أخرى، أو قد تؤدى أفراد طوائف مختلفة أشکالا مختلفة من نفس السلوک. کما أنه قد یقوى احتمال وجود ثقافة ما فی الحرکات التی یؤدیها الحیوان عندما لا یمکن تفسیر هذا التباین بین الطوائف المختلفة من خلال العوامل البیئیة فحسب . کما أشار إلى ذلک تشارلز فریدریک فوجلین Charles Frederick Voegelin، أنه إذا اقتصرت کلمة "ثقافة" على "السلوک المکتسب " وفقط، عندها إذا یمکننا القول بأن لدى جمیع الحیوانات قدر من الثقافة. ولعل جمیع المتخصصین یجمعون على أن جمیع أنواع الطوائف الراقیة تشترک فی بعض المهارات المعرفیة مثل: القدرة على تحدید عمرالأشیاء، القدرة على معرفة الأماکن، والقدرة على تصنیف الأشیاء، وإیجاد الحلول للمشکلات بطریقة مبتکرة. وعلاوة على ذلک، یرى العلماء بأن جمیع طوائف الحیوانات الراقیة تشترک فی بعض المهارات الاجتماعیة: فمثلا لدیهم القدرة على تحدید أعداد أفراد الجماعة الاجتماعیة التی ینتمون إلیها؛ کما أن لدیهم القدرة على تکوین علاقات مباشرة قائمة على أساس وجود درجة من القرابة والرتبة؛ کما أنهم یعترفون بدرجة قرابة الطرف الثالث، بل ولدیهم القدرة على التنبؤ بالسلوک فی المستقبل، وأخیرا تتعاون فیما بینها لإیجاد وسائل لحل المشکلات.(3)
ومع ذلک، فإن مصطلح "الثقافة" ینطبق على الکائنات غیر البشریة إلا إذا قصدنا أیة ثقافة کانت أو أى سلوک مکتسب کان.وفی ظل الأنثروبولوجیا المادیة السائدة، یمیل العلماء إلى الاعتقاد بضرورة وجود تعریف أکثر تحدیدا.یهتم هؤلاء الباحثین بعلة ارتقاء البشر لیکونوا مختلفى الطباع عن بقیة الفصائل الأخرى. وهناک تعریف أکثر دقة لمفهوم الثقافة، والذی یستثنی السلوک الاجتماعى للحیوانات من غیر البشر، والذی من شأنه أن یسمح لعلماء الأنثروبولوجیا الفیزیائیة بدراسة کیفیة تطور قدرة البشر الفریدة على اکتساب مفهوم "الثقافة".
یرى توماسیلو -فی ضوء نتائج البحث الأساسی والذی یضم دراسة حول الإنسان والحیوانات الراقیة وما اکتسبت من مهارات التعامل مع الأخرىن واستخدام الأدوات وآلیات التعلم - بأن سر تقدم الإنسان على تلک المخلوقات یتمثل فی (اللغة، والتکنولوجیات المعقدة، التنظیم الاجتماعی المتشعب) وتعتبر کلها عوامل تمخضت عن کم الموارد المعرفیة الهائلة لدى البشر. وهذا ما یسمى "بالتأثیر التدریجى" أى:" مشارکة مجموعة من الأشخاص أفکارا مبتکرة یعملون على نشرها فیما بینهم وفى الوقت ذاته یتم اختیار زعماء لتلک المجموعة من الشباب فی مقتبل العمر حتى تساعدهم لأن یظلوا کوحدة متضامنة فی نموذج متجدد إلى أن تأتى بارقة أمل على الطریق".ویتسم الأطفال حدیثى الولادة بالمهارة فی تعلم سلوک اجتماعى من نوع خاص بالفطرة.لعل من أهم ما ترتب على ذلک خلق بیئة محببة للابتکار الإجتماعى لدیهم، مما جعلهم أکثر قدرة على التکیف لیس هذا فحسب بل والتواصل مع الأجیال الجدیدة على عکس ما هو الحال فی الابتکار الفردى. وکما یرى توماسیلو ینقسم التعلم الإجتماعى -هذا الذی یمیزالإنسان عن غیره من الحیوانات الراقیة والذی یمثل دورا محوریا فی عملیة التطور الإنسانى -إلى عنصرین:أما الأول، فهو ما یسمی"التعلم عن طریق المحاکاة، " (فی مقابل "التعلم عن طریق المنافسة" والذی تتصف به فصیلة القرود الأخرى)، وأما الثانی، ففى الواقع یعبر البشر عن تجاربهم بطریقة رمزیة (بدلا من طریقة التماثیل، کما هو الحال بالنسبة للحیوانات الأخرى). لذلک یمکن کلا من هذین العنصرین البشر من الوصول إلى درجة من الإبداع والحفاظ على المخترعات المفیدة فی نفس الوقت. وعلى هذا النحو ینتبلور ما یسمى بالتأثیر التدریجى.(4)
الأم والطفل
یستخدم الأطفال طریقة التعلم بالمحاکاة ونقصد بها "اصدار استجابة مقصودة متوازنة مبنیة على وعى تام مسبق لدى الطفل." فیبدأ الأطفال حدیثى الولادة فی ادراک بعض الأدلة من هذا النمط من التعلم فی عمر یتراوح ما بین التاسعة والثانیة عشر، وذلک عندما یرکز الطفل انتباهه لیس على الشئ وإنما على طریقة النظر للکبار والتی تمکنه من الاستفادة منهم باعتبارهم أدلة یهدونه السبیل فی وقت لاحق " وبنفس الطریقة یتصرف الطفل مع الأشیاء بنفس الطریقة التی یتصرف بها الکبار." وتعتبر هذه العلاقة موثقة جیدا واصطلح على تسمیتها "الصلة المشترکة" أو "الاهتمام المشترک." کما یعرف التنامی فی قدرة الأطفال على التعرف على الأخرین عن طریق "العوامل المتعمدة:"حیث یکون لدى بعض "الناس " القدرة على السیطرة على تصرفاتهم العفویة" والذین "لدیهم أیضا أهداف بحیاتهم ویقومون بإتخاذ قرارات مصیریة من خلال وسائل سلوکیة معینة لتحقیق غایاتهم الذین یسعون من أجلها."(5)
ادراک الطفل
تمد عملیة نمو المهارات المشترکة بحلول نهایة العام الأول من حیاة الطفل بأساس قوى للتعلم بطریقة المحاکاة یظهر بطبیعة الحال فی العام الثانی.حیث قلد مجموعة أطفال یناهزوا ال18 شهرا من العمر طریقة معقدة نسبیا لشخص بالغ فی إضاءة مفتاح الکهرباء، وإن کان لدى تلک المجموعة من الأطفال طرق أکثر سهولة وأکثر طبیعیة لتحقیق نفس الهدف. وفی دراسة أخرى، تعامل فیها مجموعة أخرى من الأطفال فی عمر ال 16 شهرا مع البالغین الذین استخدموا سلسلة معقدة من الحرکات بدت مقصودة بعض الشئ، ومجموعة مماثلة من الحرکات بدت عرضیة نوعا ما، بدأ الأطفال فی محاکاة تلک الحرکات التی تبدو متعمدة. وکشفت دراسة أخرى تم اجراؤها على مجموعة من الأطفال یناهزون ال 18شهرا عن أنهم یحاکون البالغین فی حرکاتهم المتعمدة، والتی لا تشترط أن ینجحوا فی تنفیذها بدرجة صحیحة فی کل الأحایین. رکز توماسیلو على أن هذا النوع من التعلم بالمحاکاة " یعتمد أساسا على قدرة الرضع على تمییز البالغین، وعلى قابلیتهم على التعرف على تصرفات الآخرین والهدف من ورائها والوسائل المختلفة التی یمکن استخدامها لتحقیق ذلک." یسمى ماسیلو هذا النوع من التعلم ب"التعلم الثقافی لأن تعلم الطفل لیس مجرد تعلم مجموعة أشیاء من الأشخاص الآخرین، وإنما یعتبر أیضا تعلم أشیاء من خلالهم—بمعنى أنه یجب أن یعرف شیئا عن وجهة نظر الکبار إبان موقف معین للاستفادة من حدوث موقف مماثل فی المستقبل. " ویخلص إلى أن المیزة الرئیسیة للتعلم الثقافی هو أنه لا یحدث إلا عندما یقوم الفرد "بتفهم تصرفات الآخرین المتعمدة، کما هو الحال مع شخص ما، حینما تکون لدیه وجهة نظر ما حیال العالم من حوله والتی یمکن اتباعها وتطبیقها والاستفادة منها بشکل عام.(6)
یعد کلا من التعلم بالمنافسة أو بالمحاکاة طریقتین مختلفتین لا یمکن تفسیرهما إلا فی ظل کلا من الظروف البیئیة المحیطة أو ملابسات عملیة التطور على حد سواء. ففى إحدى التجارب، تم تقدیم اثنین من صغار الشمبانزى یناهزوا الثانیة من العمر کل على حدة بأداة للغرف وشئ یبعد عنهم نسبیا.کما قدم الأشخاص البالغون طریقتین للوصول إلى الشئ باستخدام الأداة إحداهما فعالة والأخرى أقل فعالیة.استخدم الشمبانزى الطریقة الأکثر فعالیة ذاتها أکثر من مرة.وبنفس الطریقة، یقلد الأطفال أی أسلوب یتبناه البالغین ویرونه سلیما. فربما یعتقد البعض بأن الشمبانزى أکثر ذکاء إذا ما وضع فی کفة مقارنة بنفس تلک المعاییر مع البشر فی آن واحد. لدى کلا الطرفین نسبة ذکاء متساویة من منطلق الناحیة التطوریة لکن مع مراعاة اختلاف نوع الذکاء المرتبط باختلاف البیئات. ترتبط آلیات تعلم الشمبانزی مع البیئة المادیة المحیطة بهم والتی لا تتطلب سوى القلیل من التعاون الاجتماعی فیما بینهم(وذلک بالمقارنة مع البشر). فتتناغم آلیات تعلم الإنسان والبیئة الاجتماعیة المتشعبة المحیطة به حیث نجد أن تفهم وجهات نظر الأخرین أهم بکثیر من النجاح فی أدء مهمة معینة.من وجهة نظر توماسیلو، مکنت تلک الآلیة من تحقیق "التأثیر التدریجى " والذی ساعد بدوره البشریة فی تطور أنظمتها الاجتماعیة المتشعبة والتی خلقت نوعا من التکیف الفعال مع البیئات المادیة المختلفة على سطح البسیطة.(7)
المصادر :
1- آلان بریان 1963 "القاعدة الأساسیة لعلم تشکیل الثقافة الإنسانیة" الأنثروبولوجیا الحالیة 4: 297
2- دابلیو سى مکجرو "الثقافة فی الرئیسیات من غیر البشر؟" الاستعراض السنوی للأنثروبولوجیا 27: 323
3- سى إف فوجلین 1951 "الثقافة، اللغة والکائن الحى" مجلة ساوثویسترن فی الأنثروبولوجیا 7: 370
4- مایکل توماسیلو 1999 "التکیف الإنسانى للثقافة" فی مجلدالاستعراض السنوی للأنثروبولوجیا. 28: 512
5- مایکل توماسیلو 1999 "التکیف الإنسانى للثقافة" فی مجلد الاستعراض السنوی للأنثروبولوجیا. 28: 513
6- إم. کاربنتر، إن أختار، إم توماسیلو 1998 "تقلید لرضع فی السادسة عشر شهرا من العمر لحرکات متعمدة بشکل تفاضلی " ' فی التنمیة السلوکیة للرضع 21: 315-330
7- مایکل توماسیلو 1999 "التکیف الإنسانى للثقافة" فی مجلد الاستعراض السنوی للأنثروبولوجیا. 28: 520-521
/ج