
قوله تعالى: (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لَا یَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن یَکُونُوا خَیْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن یَکُنَّ خَیْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَکُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِیمَانِ وَمَن لَّمْ یَتُبْ فَأُولَٰئِکَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (1)
لماذا ذکرت الآیة المبارکة النساء ونهتهن عن السخریة رغم ان عنوان القوم یشمل النساء.
والسؤال الآخر: ما هو سبب نزول هذه الآیة المبارکة؟
الجواب:
یُطلق عنوان القوم بحسب الاصل للغوی والاستعمال العرفی عند العرب على خصوص جماعة الرجال دون النساء، ولذلک قال الشاعر العربی:
وما أدری وسوف أخال أدری *** أقوم آل حصنٍ أم نساء
فالشاعر استعمل عنوان القوم فی الرجال دون النساء, وذلک بقرنیة المقابلة.
ومنشأ إطلاق عنوان القوم على خصوص الرجال هو انَّ القائمین بالمهمات هم الرجال عادةً دون النساء او انَّ الرجال هم القواَّمون على النساء, فهم الذین یقومون بشئون رعایتهن وحیاطتهن.
وعلیه ففی کلِّ مورد استُعمل فیه عنوان القوم فی الأعم من الرجال و النساء, فذلک لقیام قرنیة على إرادة ذلک, ففی مثل قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ) (2) وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ) (3) استُعمل فیها لفظ القوم فی الأعم من الرجال والنساء وذلک لوضوح انّ الرسل لا تُبعث للرجال دون النساء وانَّ اللغة لایختص بها الرجال دون النساء.
ثم إنَّه لامانع من القبول بدعوى انَّ عنوان القوم یُطلق فی الأصل على الأعم من الرجال و النساء فیکون المنصرف من هذا العنوان عند الاطلاق هو الأعم إلا انْ تقوم قرینة على إرادة خصوص جماعة الرجال. وحیث انَّ الآیة اشتملت على قرینة المقابلة لذلک کان عنوان القوم فیها متِّعیناً فی إرادة جماعة الرجال.
وبتعبیر آخر: إنَّ عنوان القوم فی الآیة المبارکة مستعمل فی خصوص جماعة الرجال على أیِّ تقدیر, فسواءً قلنا: إنَّ لفظ القوم مجعول بحسب الوضع اللغوی على خصوص جماعة الرجال أو قلنا: إانه مجعول بحسب الاصل اللغوی فی الأعم من الرجال والنساء, أما بناءً على الاول فواضح إذ ان لفظ القوم استُعمل فی معناه الموضوع له لغة فی مقابل النساء وأما بناء على الثانی فلفظ الرجال وانْ کان بحسب الأصل اللغوی یُطلق على الأعم إلا انَّه استُعمل فی هذه الآیة فی خصوص جماعة الرجال وذلک بقرینة المقابلة.
فالآیة المبارکة قالت: (لَا یَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ) ثم قالت: (وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء) فالمقابلة بین القوم والنساء فی موضعٍ واحد قرینة على انَّ المراد من القوم غیر النساء ولیسوا سوى الرجال, ویتأکد ذلک بتعارف اطلاق لفظ القوم على خصوص الرجال حتى مع القبول بأن الوضع اللغوى کان للأعم.
وعلیه فمعنى قوله تعالى: (لَا یَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ) هو النهى عن انْ یسخر الرجالُ بعضهم ببعض ومعنى قوله: (وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء) هو النهی عن ان تسخر نساءٌ بنساءٍ اُخریات, والتنصیص فی النهى على کلِّ جنس بحدةٍ نشأَ ظاهراً عن ان ذلک أوقع فی الردع، حیث یتم التنُبُّه إلى انَّ کلاً من الجنسین معنیٌ بهذا الردع والنهی المولوی, ولعل المنشأ الآخر للتنصیص على کلا الجنسین هو الإشارة إلى سبب النزول وانَّ رجالاً کانوا قد سخروا من رجال، وانَّ نساءً کن قد سخرن من نساء فیکون التنصیص أبلغ فی ردع هؤلاء وهؤلاء.
وأما سبب نزول الفقرة الاولى من الآیة المبارکة، وهی قوله تعالى: (لَا یَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن یَکُونُوا خَیْرًا مِّنْهُمْ)
فذکر ابن أبی حاتم فی تفسیره عن مقاتل انَّها نزلت فی قوم من بنی تمیم استهزأوا من بلال وسلمان وعمار وخباب وصهیب وابن فهیرة وسالم مولى إبی حذیفة" (4) وحکى مثل ذلک الثعلبی فی تفسیره عن الضحاک قال: نزلت فی وفدٍ من بنى تمیم... استهزأوا بفقراء أصحاب الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) مثل عمار وخباب وبلال وسلمان وسالم مولى أبی حذیفة لما رأوا من رثاثة حالهم (5).
وحکى الثعلبی أیضاً فی تفسیره عن ابن عباس انَّ هذه الفقرة من الآیة: نزلت فی ثابت بن قیس، وذلک أنه کان فی إُذنه وقر، فکان إذا أتى رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم وقد سبقوه بالمجلس، أوسعوا له حتى یجلس إلى جنبه، فیسمع ما یقول، فأقبل ذات یوم، وقد فاته من صلاة الفجر رکعة مع رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فلما انصرف النبی صلى الله علیه وآله وسلم من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم (منه فربض) کل رجل بمجلسه، فلا یکاد یوسع أحد لأحد، فکان الرجل إذا جاء، فلم یجد مجلسا، قام قائما، کما هو فلما فرغ ثابت من الصلاة، وقام منها أقبل نحو رسول الله فجعل یتخطى رقاب الناس، ویقول: تفسحوا تفسحوا، فجعلوا یتفسحون له حتى انتهى إلى رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وبینه وبینه رجل.فقال له: تفسح فقال له الرجل: قد أصبت مجلساً فاجلس فجلس ثابت من خلفه مغضباً، فلما أبینت الظلمة غمز ثابت الرجل وقال: من هذا؟ قال: أنا فلان فقال له ثابت: ابن فلانة, ذکر أما له کان یعیر بها فی الجاهلیة فنکس الرجل رأسه واستحیى، فأنزل الله عزوجل هذه الآیة(6). وذکر ذلک الواحدی فی کتابه أسباب النزول الا انه لم ینسبه إلى ابن عباس، ولعلَّ النزول نشأ عن کلا الأمرین المذکورین.
وأما الفقرة الثانیة وهی قوله تعالى: (وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن یَکُنَّ خَیْرًا مِّنْهُنَّ) فاُکثر المفسرین من الفریقین ذکروا انَّها نزلت فی عائشة أو فیها وفی حفصة زوجتی النبی الکریم (صلی الله علیه وآله وسلم) فذکروا انَّ عائشة سخرت من أم سلمة زوجة النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) ووصفتها بالقصر فی القامة أو أشارت بیدها إلى قصر قامتها أو انَّها وصفت ثوباً لاُم سلمة کانت قد لبسته فتدلَّى طرفٌ منه خلفها فوصفته عائشة بقولها "مخاطبةً حفصة "انظری ما تجرُّ خلفها کأنه لسان کلب" (7).
وروی عن ابن عباس انَّ الآیة نزلت عند ما شکت صفیة بنت حی بن أخطب زوجة النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) الیه نساءً یُعیرنها بأنها یهودیة بنت یهودیین فقال النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) لها "هلا قلت: انَّ ابی هارون وانَّ عمی موسى وانّ زوجی محمد" فنزلت هذه الآیة.
وأورد النووی فی المجموع عن أنس: "بلغ صفیة أن حفصة قالت بنت یهودی فبکت فدخل علیها النبی (صلی الله علیه وآله وسلم) وهی تبکى وقالت: قالت لی حفصة: أنت ابنة یهودی! فقال النبی (صلی الله علیه وآله وسلم): إنک لابنة نبی وإن عمک لنبی وإنک لتحت نبی، فبم تفتخر علیک؟ ثم قال: إتقی الله یا حفصة» رواه أحمد والترمذی وصححه والنسائی(8).
وأفاد القمی فی تفسیره ان من یعیرنها بذلک هما عائشة وحفصة(9).
وروى الترمذی بسندٍ وصفه القرطبی فی تفسیره بالصحیح عن عائشة قالت: حکیتُ للنبی(صلی الله علیه وآله وسلم) رجلاً فقال: ما یسرنی أنی حکیت رجلاً وأن لی کذا وکذا، قالت فقلت: یا رسول الله إنَّ صفیة امرأة وقالت بیدها هکذا، یعنی أنها قصیرة فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): لقد مزجت بکلمةٍ لو مُزج بها البحر لمُزج (10).
ومعنى "حکیتُ رجلاً "فعلتُ مثل فعله فی مشیه أو جلسته لغرض الانتقاص منه والسخریة به.
المصادر :
1- سورة الحجرات آیة رقم 11.
2- سورة هود آیة رقم 25.
3- سورة إبراهیم آیة رقم 4.
4- تفسیرأبی حاتم ج10 / 3304.
5- تفسیرالثعلبی ج 9/80.
6- تفسیر الثعلبی - الثعلبی - ج 9 ص 80.
7- تفسیر مقاتل بن سلیمان ج3/262, تفسیر السمرقندی لابی اللیث السمرقندی ج3/311, تفسیر الثعلبی ج981, أسباب النزول للواحدی النیسابوری: 263, تفسیر البغوی ج4/214, زاد المعاد لابن الجوزی ج7/182, تفسیر البحر المحیط لابی حیان الاندلسى ج8/112, تنویر المقباس من تفسیر ابن عباس للفیروز آبادی: 436, مجمع البیان للطبرسی ج5/224.
8- المجموع للنووی ج 15/353.
9- تفسیر القمی ج3/321.
10- سنن الترمذی - الترمذی - ج 4 ص 72 / تفسیر القرطبی - القرطبی - ج 16 ص 326.
1- سورة الحجرات آیة رقم 11.
2- سورة هود آیة رقم 25.
3- سورة إبراهیم آیة رقم 4.
4- تفسیرأبی حاتم ج10 / 3304.
5- تفسیرالثعلبی ج 9/80.
6- تفسیر الثعلبی - الثعلبی - ج 9 ص 80.
7- تفسیر مقاتل بن سلیمان ج3/262, تفسیر السمرقندی لابی اللیث السمرقندی ج3/311, تفسیر الثعلبی ج981, أسباب النزول للواحدی النیسابوری: 263, تفسیر البغوی ج4/214, زاد المعاد لابن الجوزی ج7/182, تفسیر البحر المحیط لابی حیان الاندلسى ج8/112, تنویر المقباس من تفسیر ابن عباس للفیروز آبادی: 436, مجمع البیان للطبرسی ج5/224.
8- المجموع للنووی ج 15/353.
9- تفسیر القمی ج3/321.
10- سنن الترمذی - الترمذی - ج 4 ص 72 / تفسیر القرطبی - القرطبی - ج 16 ص 326.
/ج