لکلمة " المولى " دور کبیر فی بحوث " الامامة والخلافة " لورودها فی واحد من أهم ما استدل الشیعة به على إمامة أهل البیت علیهم السلام و حدیث الغدیر .
وأهمیة حدیث الغدیر ینبع من التسالم على قبول وروده ، وصحة روایته ، وتواتر نقله ، بما لا مجال للبحث والجدل فیه من حیث الاسناد .
فهو حدیث مجمع على نسبته إلى کلام الرسول صلى الله علیه وآله وسلم وهو قوله : " من کنت مولاه فعلی مولاه " .
واستندت الشیعة منذ القدم إلى مدلوله المحتوى على کلمة " مولى " على عقیدتها ، وأشبع علماؤها ومتکلموها البحث والاستدلال على صحة ما تعتقده ، ومنهم الشیخ المفید فی کثیر من کتبه ، إلا أنه خصص للبحث عن هذه الکلمة رسالتین :
احداهما : أقسام المولى فی اللسان : بحث فیها لغویا ، وسلک مسالک علمیة متقنة لاثبات أن المعنى المراد فی الحدیث هو الامامة .
الثانیة : رسالة فی معنى المولى ، وهی هذه الرسالة التی نقدم لها ، وقد املاها الشیخ على أثر نقاش حصل له مع متکلم معتزلی من جماعة ( البهشمیة ) المنسوبة إلى ابی هاشم الجنائی ، حیث أنکر دلالة لفظ " المولى " على الامامة ، لانکاره کون الامامة من معانیها أصلا لغة .
وقد رده الشیخ المفید ، بإثبات أن الامامة من المعانی اللغویة للکلمة ، بل هی الاصل ، والمعنى الموضوع له ، والحقیقی للکلمة ، بنفس الطریقة التی اتبعها فی الرسالة الاولى " أقسام المولى فی اللسان " .
فاستشهد بأشعار کبار الشعراء من الصحابة وغیرهم ، ممن یحتج بکلامهم فی معرفة اللغة ودلالاتها .
وأضاف هنا الاستدلال بالفهم اللغوى المعاصر ، مستندا إلى اتصال هذا الفهم إلى زمان الرسول صلى الله علیه وآله ، وذلک حیث تروی الشیعة بأجمعها عن أسلافها - ولیس یمکن دفع اکثرهم عن الفصاحة - إلى أن ینتهی إلى عصر رسول الله صلى الله علیه وآله ، أن الذی جعله الرسول لعلی علیه السلام فی یوم الغدیر هو الامامة ، وأن الذی ضمنته لفظة " المولى " هو : الرئاسة .
ویمکن أن یعتبر هذا الاستدلال ، تمشیا مع الرأی الذی یشکک فی کفایة الاستناد إلى الفهم المعاصر من ألفاظ اللغة ، لاستناده إلى المعصوم علیه السلام ، مع بعد الزمان ، وتقلب المفاهیم اللغویة على الدوام . فان اتصال هذا الفهم من عصرنا ، إلى عصر الرسول صلى الله علیه وآله یکفی دلیلا على عدم تغیر وضع الکلمة . مع أن هذا الرأی باطل أساسا ، لانه یؤدی إلى سد باب اللغة وتعطل النصوص ، لعدم الدلیل على اتصال کل معنى ومفسدة بدیهیة کهذه تکفی للرد على تلک الشبهة . مع أن أصالة عدم النقل تکفی للرد علیها کما هو موضح فی محله .
وأضاف الشیخ المفید فی هذه الرسالة استدلالا آخر هو الاحتجاج بکلام أهل بیت النبی صلى الله علیه وآله وسلم واجماعهم على دلالة " المولى " على الامامة ، فقال : " أهل بیت رسول الله علیهم السلام جمیعا یدعون ذلک و یصححونه ، ویعتمدون علیه فی إمامة أبیهم أمیر المؤمنین علیه السلام ، ولیس یمکن عاقلا دفع أحد منهم عن العلم بالعربیة والاضطلاع باللغة ، إذ کانوا أهلها ، وعنهم أخذ أکثرها .
ولقد کان أهل البیت علیهم السلام فی طلیعة الذین اهتموا ، فبذلوا " اهتماما عدیم المثیل بواقعة الغدیر ، وحدیثه ودلالته ، ویومه ، فاعتبروه شارة الحق ومیقاته ، فکان الغدیر من أقوى الادلة على إمامة علی والائمة من آل محمد علیهم السلام ، به یستدلون ، وإلیه یرشدون ، یشیدون به باعتبار أنه من أکبر الاعیاد الاسلامیة حیث تمت فیه نعمة الله ، وکمل دینه ، واصبح الاسلام دینا مرضیا .
وهم یتناقلون خبره ، فکانت روایتهم لحدیث الغدیر من أضبط نصوصه وأقوى طرقه ، وأوثق أسانیده . وأوضحوا معالم دلالته ، بإیراد نصه الکامل ، المحفوف بقرائن تبین مراداته وتکشف ابعاد معانیه " . ( 1 )
ثم إن ذلک المناظر اعتمد على عدم ذکر بعض أهل اللغة لمعنى " الاولى بالتصرف " فی معانی " المولى " .
فرده الشیخ المفید :
أولا ، بأن انفراد بعض أهل اللغة بشئ لا یکفی دلیلا على اللغة ، إلا إذا اتفق الکل على ذلک فیکون حجة .
وثانیا ، عدم ذکر البعض للمعنى ، لا یدل على إنتقاء المعنى حتى عنده ، فاولئک لم یذکروا معنى " الاولى " ولکن لم ینفوه ، ولم ینکروا على من أثبته ، بینما غیرهم من أصحاب اللغة والشعراء الفصحاء أثبتوه . " ولا خلاف " کما قال الشیخ " بین أهل العلم : أن المثبت فی هذا الباب وأشکاله أولى من النافی " لان من یعلم حجة على من لا یعلم .
ثم دخل الشیخ فی نقاش حول حجیة کلام الکمیت فی مثل هذا ، وذکر هنا نفس ما اورده فی الرسالة الاولى حول ذلک ، ومما قال : ولیس یجوز على الکمیت مع جلالته فی اللغة العربیة - وضع عبارة على معنى لم توضع علیه قط فی اللغة ، ولا استعملها قبله فیه أحد من أهل العربیة ، . ، لانه لو جاز ذلک علیه جاز على غیره ممن هو مثله وفوقه ودونه ، حتى تفسد اللغة بأسرها ، ولا یکون لنا طریق إلى معرفة لغة العرب على الحقیقة ، وینغلق الباب فی ذلک .
وقال أیضا : وهذا هو الذی قدمناه من غلق باب اللغة ، والحیلة من إفساد الشریعة . ثم عقد الشیخ فصولا :
تحدث فی الاول منها عن احتمال الجهل ، أو العناد ، أو التأول حسب الاعتقاد ، فی اصحاب اللغة والشعراء المعتمد علیهم . وقد دفعه الشیخ بأن هذا یؤدی إلى سد باب العلم باللغة ، ویؤدی إلى إهمالها ، وقد کرر الشیخ هذا المعنى .
وفی الثانی : ذکر الشیخ شاهدا من کتاب " غریب اللغة " لابی عبیدة حیث فسر قوله تعالى " هی مولاکم " بقوله : أی أولى بکم ، واستشهد بشعر لبید ، فقال الشیخ : لولا أن أبا عبیدة لم یخطر بباله - عند تفسیر هذه اللفظة بهذا - ما للشیعة من التعلق فی إمامة أمیر المؤمنین علیه السلام ، لما صرح به ، ولکتمه کسلفه وإخوانه ، ومضى على سنتهم .
وفی الثالث : ذکر اعتراضا فی الاستشهاد بکلام الکمیت حاصله : أن من المحتمل أن یکون الکمیت إنما استفاد معنى الولایة لعلی علیه السلام من تسلیم الناص علیه بإسرة المؤمنین ، لا من قوله صلى الله علیه وآله : " من کنت مولاه " فلم یتم الاستدلال على أن " المولى " بمعنى " الاولى " .
فأجاب الشیخ عن ذلک :
اولا : إن هذا یدل على بطلان ما یزعمه العامة من أن أول من قال بالوصیة بالنص ، هو ابن الراوندی ، وأن الشیعة تبعته فی دعوى النص . وهذا الزعم یلتزم به العامة قاطبة ، ویستغرون الجهال به ، لاسیما شیخهم أبو علی الجبائی ، فانه یعتمد علیه
وثانیا : ان حدیث التسلیم على أمیر المؤمنین علیه السلام بالامرة والولایة إنما هی واردة فی ذیل حدیث الغدیر ، وانها عقیب قوله صلى الله علیه وآله " من کنت مولاه فعلی مولاه " أمر الامة - حینئذ - أن تقر له بمعنى ما جعله له بلفظ " المولى " فقال : سلموا علیه بإمرة المؤمنین . فکان ذلک کشفا عن معنى لفظ " المولى ، وتفسیرا له ، وتأکیدا على مقصوده منه .
وثالثا : إن حدیث الغدیر متواتر مذکور ، والاستدلال به معروف مشهور ، ولیست سائر الادلة على الامامة بمنزلته فی الشهرة ، فلا یمکن لشاعر مثل الکمیت أن یترک الاستناد إلى المعروف ، ویستند إلى غیره ، فان هذا غیر متعارف بل لا یقدم علیه احد ، فضلا عن مثل الکمیت فی ذکائه ومعرفته .
وفی خلال الرسالة فوائد عدیدة :
1 - منها : أن الراوندیة من الفرق جعلوا التفضیل علامة للامامة ، واعتقدوا إمامة أمیر المؤمنین علیه السلام من جهة فضله - فیما زعموا - على الکل ، لا من جهة النص .
2 - ومنها : الاعتماد على القرینة الحالیة - الخارجیة - فی فهم معانی الالفاظ ، مثل ما صنعه فی معرفة مراد الکمیت ، وأنه إنما استدل بحدیث الغدیر دون غیره ، لما ذکره من أن شاعرا نابها مثله لا یترک المشهور المعروف ویستدل بغیره . فلیلاحظ
المصادر :
1- انظر تفصیل هذا البحث فی مجلة " تراثنا " العدد ( 21 ) الخاص بیوم الغدیر سنة 1410 بمناسبة مرور ( 14 ) قرنا على ذکرى عید الغدیر الاغر : ص 10 و 60 - 80 من مقال : الغدیر فی حدیث العترة الطاهرة ، وراجع الغدیر للامینی ( 1 / 197 - 200 )
/ج