بسط علماء الإمامیّة الحدیث عن الانقطاع مطوّلاً فی الکتب المؤلّفة فی غیبة الامام المهدی عجل الله فرجه من الجیل المعاصر للأئمّة السابقین علیهم السلام مروراً بالذین عاصروا غیبته الصغرى، والتقوا بالنوّاب الأربعة، کالکلینی وعلیّ بن بابویه وسعد بن عبد الله الأشعری والنوبختی وغیرهم إلى الجیل الأوّل من الغیبة الکبرى، کالصدوق وابن قولویه والنعمانی ومحمّد بن الحسن الخزّاز وغیرهم، ثمّ المفید والمرتضى والطوسی والکراجکی، وتتابع طبقات العلماء فی کتبهم الکلامیّة والحدیثیّة الروائیّة، وقد أودعوا فی ذلک من طوائف الروایات المرویّة عن رسول الله صلى الله علیه وآله، وعن أمیر المؤمنین علیه السلام إلى بقیّة الأئمّة المعصومین علیهم السلام.
ونشیر إلى جملة من تلک الأدلّة:
الدلیل الأوّل:
التوقیع المبارک الصادر من الناحیة المقدّسة منه عجل الله فرجه على ید النائب الرابع علیّ بن محمّد السمری قبل وفاة النائب بستّة أیام: (یا علیّ بن محمّد السمری، اسمع! أعظم الله أجر إخوانک فیک، فإنّک میّت ما بینک وبین ستّة أیّام، فاجمع أمرک، ولا توص إلى أحد یقوم مقامک بعد وفاتک، فقد وقعت الغیبة التامّة، فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله تعالى ذکره، وذلک بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسیأتی من شیعتی من یدّعی المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفیانی والصیحة فهو کذّاب مفتر، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلیّ العظیم)، قال: فنسخنا هذا التوقیع وخرجنا من عنده، فلمّا کان الیوم السادس عدنا إلیه وهو یجود بنفسه، فقیل له: مَن وصیّک من بعدک؟ فقال: لله أمر هو بالغه وقضى، فهذا آخر کلام سمع منه رضی الله عنه وأرضاه.وقد روى التوقیع کلّ من الصدوق فی إکمال الدین(1) والطوسی فی الغیبة(2) ، والطبرسی فی الاحتجاج(3)، والراوندی فی الخرائج والجرائح(4) رواه عن الصدوق أیضاً.
وقد رواه الشیخ الطوسی، قال: أخبرنا جماعة - یعنی جماعة مشایخه - عن أبی جعفر محمّد بن علیّ بن الحسین بن بابویه: (الصدوق)، قال: حدّثنی أبو محمّد الحسن بن أحمد المکتب.
وقد رواه الصدوق فی إکمال الدین عن أبی محمّد الحسن بن أحمد المکتب، وهو من مشایخ الصدوق، وقد ترحّم علیه فی کتابه إکمال الدین، هذا وقد ذکر الشیخ الطوسی فی (الغیبة) - عند تعرّضه لترجمة وبیان حال النوّاب والنائب الرابع (السمری) - خمس روایات لانقطاع السفارة بخمسة طرق منها: قوله: وأخبرنی محمّد بن محمّد بن النعمان (المفید)، والحسین بن عبید الله (الغضائری)، عن أبی عبد الله محمّد بن أحمد الصفوانی (شیخ الطائفة تلمیذ الکلینی) ومعاصر للنائب الرابع، وذکر حضور الشیعة عند النائب الرابع، وأنّه لم یوص إلى أحد بعده. وهذا الطریق صحیح أعلائی، بل هو قطعی الصدور.
ودلالة التوقیع الشریف على الانقطاع فی موضعین:
الموضع الأوّل: قوله عجل الله فرجه: (فاجمع أمرک، ولا توص إلى أحد یقوم مقامک بعد وفاتک، فقد وقعت الغیبة التامّة، فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله تعالى ذکره) فنهاه عن الوصیّة إلى أحد بعده، فلا یقوم أحد مقام النائب الرابع، وکذلک قوله عجل الله فرجه، فقد وقعت الغیبة التامّة دلالة على أنّ فترة النوّاب الأربعة لم تکن غیبة تامّة، وإنّما هی صغرى لا تامّة کبرى، حیث إنّ النوّاب الأربعة کانوا حلقة وصل بینه وبین شیعته، ممّا یدلّ على أنّ معنى الغیبة التامّة، وهی الکبرى التی وقعت بعد الصغرى، هی أن ینقطع فیها مقام النیابة الخاصّة، وأنها ممتدّة، فلا ظهور حتّى الصیحة وخروج السفیانی.
الموضع الثانی: قوله عجل الله فرجه: (سیأتی من شیعتی مَن یدّعی المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفیانی والصیحة فهو کذّاب مفتر)، والظاهر من ادّعاء المشاهدة هو السفارة والنیابة بقرینة السیاق والصدور على ید النائب الرابع، حیث أمره بعدم الوصیّة لأحد أن یقوم مقامه فی النیابة، ولا سیّما وأنّ ادّعاء ذلک هو وسیلة لأجل ادّعاء الوساطة بین الإمام عجل الله فرجه والناس، والتحایل على الآخرین بإمکانه القیام بحلقة وصل بین الإمام وبینهم، وهو معنى السفارة والنیابة الخاصّة.
ثمّ إنّ صریح هذا التوقیع الشریف الذی تطابقت علیه الطائفة أنّ انقطاع النیابة الخاصة والسفارة یمتدّ إلى الصیحة من السماء بصوت جبرئیل التی هی من علامات الظهور الحتمیّة الواقعة فی نفس سنة الظهور، وهی: (ألا إنّ الحقّ فی علیّ وشیعته، ثمّ ینادی إبلیس فی آخر النهار: ألا إنّ الحقّ فی عثمان وشیعته، فعند ذلک یرتاب المبطلون)، کما جاء فی الروایات عنهم علیهم السلام(5)، وفی بعضها أنّ النداء هو فی شهر رمضان، وفی بعض الروایات(6) أنّه فی رجب، والظاهر أنّها نداءآت متعدّدة بمضامین متعدّدة.
ومقتضى دلالة هذا التوقیع الشریف هو نفی النیابة الخاصّة والسفارة إلى حدّ سماع الصیحة من السماء فی سنة الظهور، وأی مدّعٍ للنیابة والاتّصال والارتباط مع الحجّة عجل الله فرجه قبل الصیحة فهو کذّاب ومفتر أیّاً کان هذا المدّعی، ولو تقمّص بأی اسم وعنوان، سواء ادّعى أنّه سیظهر من الیمن أو من خراسان أو من غیرهما.
وکذلک وقّت الحدّ والأمد مضافاً إلى الصیحة إلى خروج السفیانی، والمراد من خروجه لیس مجرّد وجوده، بل قیام السفیانی بتأسیس دولته فی الشام، وخوضه فی الحروب لتوسعة دولته.
الدلیل الثانی:
الروایات المتواترة التی رواها الصدوق فی إکمال الدین، والطوسی فی الغیبة، والنعمانی فی الغیبة، والکلینی فی الکافی، والتی مفادها وقوع غیبتین للإمام عجل الله فرجه، وهذه الروایات قد رویت عن الرسول صلى الله علیه وآله، وعن أمیر المؤمنین علیه السلام ، وعن بقیّة الأئمّة علیهم السلام. فقد روى الشیخ الطوسی بسنده عن أبی عبد الله علیه السلام - فی حدیث -: (أما أنّ لصاحب هذا الأمر فیه غیبتین: واحدة قصیرة، والاُخرى طویلة).(7)وروى النعمانی فی الغیبة بسنده عن أبی عبد الله الصادق علیه السلام ، قال: (إنّ لصاحب هذا الأمر غیبتین: إحداهما تطول حتّى یقول بعضهم: مات، وبعضهم یقول: قُتل، وبعضهم یقول: ذهب، فلا یبقى على أمره من أصحابه إلاّ نفر یسیر، لا یطلع على موضعه أحد من ولیّ ولا غیره، إلاّ المولى الذی یلی أمره).(8)
وتقریب دلالة هذه الطائفة على انقطاع السفارة هو ما ذکره النعمانی، قال: (هذه الأحادیث التی یذکر فیها أنّ للقائم علیه السلام غیبتین أحادیث قد صحّت عندنا - بحمد الله - وأوضح الله قول الأئمّة علیهم السلام، وأظهر برهان صدقهم فیها، فأمّا الغیبة الاُولى فهی الغیبة التی کانت السفراء فیها بین الإمام علیه السلام وبین الخلق قیاماً منصوبین ظاهرین موجودی الأشخاص والأعیان، یخرج على أیدیهم غوامض العلم، وعویص الحکم والأجوبة عن کلّ ما کان یسأل عنه من المعضلات والمشکلات، وهی الغیبة القصیرة التی انقضت أیّامها، وتصرّمت مدّتها، والغیبة الثانیة هی التی ارتفع فیها أشخاص السفراء والوسائط للأمر الذی یریده الله تعالى، والتدبیر الذی یمضیه فی الخلق، ولوقوع التمحیص والامتحان والبلیّة والغربلة والتصفیة على مَن یدّعی هذا الأمر، کما قال الله عزّ وجلّ: (ما کانَ اللَّهُ لِیَذَرَ الْمُؤْمِنِینَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَیْهِ حَتَّى یَمِیزَ الْخَبِیثَ مِنَ الطَّیِّبِ وَما کانَ اللَّهُ لِیُطْلِعَکُمْ عَلَى الْغَیْبِ)(9)، وهذا زمان ذلک قد حضر، جعلنا الله فیه من الثابتین على الحقّ، وممّن لا یخرج فی غربال الفتنة، فهذا معنى قولنا: (له غیبتان)، ونحن فی الأخیرة نسأل الله أن یقرّب فرج أولیائه منها).(10)
ودلالة تثنیة الغیبة على اختلاف الغیبتین القصیرة عن الطویلة بیّنة واضحة، وإلاّ لکانت معاً غیبة واحدة لا غیبتان، واختلاف الغیبتین لیس إلاّ بوجود السفراء والنوّاب الأربعة فی الاُولى دون الثانیة.
ومن هذا القبیل ما فی صحیح عبد الله بن سنان، قال: دخلت أنا وأبی على أبی عبد الله علیه السلام ، فقال: (کیف أنتم إذا صرتم فی حال لا ترون فیها إمام هدى ولا علماً یرى، فلا ینجو من تلک الحیرة إلاّ من دعا بدعاء الغریق)، فقال أبی: هذا والله البلاء، فکیف نصنع جعلت فداک حینئذٍ؟ قال: (إذا کان ذلک - ولن تدرکه - فتمسّکوا بما فی أیدیکم حتّى یتّضح لکم الأمر).(11)
وقال النعمانی فی ذیل الفصل الذی أورد الحدیث فیه (وفی قوله فی الحدیث الرابع من هذا الفصل - حدیث عبد الله بن سنان -: (کیف أنتم إذا صرتم فی حال لا ترون فیها إمام هدى ولا علماً یرى) دلالة على ما جرى، وشهادة بما حدث من أمر السفراء الذین کانوا بین الإمام علیه السلام وبین الشیعة من ارتفاع أعیانهم، وانقطاع نظامهم؛ لأنّ السفیر بین الإمام فی حال غیبته وبین شیعته هو العلم، فلمّا تمّت المحنة على الخلق ارتفعت الأعلام، ولا ترى حتّى یظهر صاحب الحقّ علیه السلام ، ووقعت الحیرة التی ذکرت وآذننا بها أولیاء الله، وصحّ أمر الغیبة الثانیة التی یأتی شرحها وتأویلها فیما یأتی من الأحادیث بعد هذا الفصل).(12)
الدلیل الثالث:
الروایات المستفیضة الآمرة بالانتظار وبالصبر والمرابطة، وعدم الانزلاق مع کلّ منادٍ لشعار إقامة الحقّ والعدل، وکذلک بروایات التمحیص والامتحان، ومقتضاها انقطاع السفارة والاتّصال، کما سنبیّن.مثل: ما رواه النعمانی فی کتابه (الغیبة) بسنده عن عبد الرحمن بن کثیر، قال: کنت عند أبی عبد الله علیه السلام یوماً وعنده مهزم الأسدی فقال: جعلنی الله فداک، متى هذا الأمر الذی تنتظرونه، فقد طال علینا؟ فقال: (یا مهزم، کذّب المتمنّون، وهلک المستعجلون، ونجا المسلِّمون، وإلینا یصیرون).(13)
وروى عن أبی المرهف أیضاً قال: قال أبو عبد الله علیه السلام: (هلکت المحاضیر)، قال: قلت: وما المحاضیر؟ قال: (المستعجلون، ونجا المقرّون)(14)، ومفادها ظاهراً وقوع المستعجلین لأمر ظهوره علیه السلام فی الهلکة والضلال، وکذلک الذین یعیشون عالم التمنّی لتوقیت ظهوره ممّا یحدو بهم إلى العفویّة فی الانسیاق وراء کلّ ناعق. وهذه الحیرة والاضطراب لیست إلاّ للانقطاع وفقد الاتّصال، وهو مقتضى الصبر والانتظار والترقّب؛ لأنّه فی مورد فقد الاتّصال وانقطاع الخبر وعدم وسیلة للارتباط. وکذلک مفاد روایات التمحیص والامتحان بسبب شدّة المحنة فی غیبته بفقد واسطة الارتباط، فتزداد الریبة بوجوده حتّى یرجع أکثر القائلین بإمامته عن هذا الاعتقاد، لا سیّما مع کثرة الفتن والمحن والبلاء.
فقد روى النعمانی بسنده عن أبی بصیر، قال: قال أبو جعفر محمّد بن علیّ الباقر علیه السلام: (إنّما مثل شیعتنا مثل أندر - یعنی: بیدراً - فیه طعام فأصابه آکِل - أی السوس - فَنُقّی، ثمّ أصابه آکِل - أی السوس - فَنُقِّی حتّى بقی منه ما لا یضرّه الآکِل، وکذلک شیعتنا یمیزون ویمحّصون حتّى تبقى منهم عصابة لا تضرّها الفتنة).(15)
وفی روایة اُخرى عن منصور الصیقل، قال: دخلت على أبی جعفر الباقر علیه السلام وعنده جماعة، فبینا نحن نتحدّث وهو على بعض أصحابه مقبل؛ إذ التفت إلینا وقال: (فی أی شیء أنتم، هیهات هیهات، لا یکون الذی تمدّون إلیه أعناقکم حتّى تمحّصوا. هیهات، ولا یکون الذی تمدّون إلیه أعناقکم حتّى تمیّزوا، ولا یکون الذی تمدّون إلیه أعناقکم حتّى تغربلوا، ولا یکون الذی تمدّون إلیه أعناقکم إلاّ بعد إیاس، ولا یکون الذی تمدّون إلیه أعناقکم حتّى یشقى من شقى، ویسعد من سعد)(16)، ویستفاد منها الحذر من الخفّة والانجرار وراء کلّ مدّعی وذلک بسبب قلّة الصبر والضعف عن الثبات فی الفتن لقلّة البصیرة.
الدلیل الرابع:
قیام الضرورة لدى الطائفة الإمامیّة وتسالمهم على انقطاع النیابة الخاصّة والسفارة، فهو من ضرورة المذهب، حتّى إنّ علماء الطائفة حکموا بضلال المدّعین للسفارة ولعنهم والتبرّی منهم، والطرد لهم عن الطائفة، وهذا الموقف تبعاً لما صدر من التوقیعات من الناحیة المقدّسة حول بعضهم. وإلیک بعض أقوالهم:الأوّل: قال الشیخ سعد بن عبد الله الأشعری القمّی - وقد کان معاصراً للإمام العسکری، وکان شیخ الطائفة وفقیهها - فی کتابه المقالات والفِرق بعد أنّ بیّن لزوم الاعتقاد بغیبة الإمام عجل الله فرجه، وانقطاع الارتباط به: (فهذه سبیل الإمامة، وهذا المنهج الواضح، والغرض الواجب اللازم الذی لم یزل علیه الإجماع من الشیعة الإمامیّة المهتدیة رحمة الله علیها، وعلى ذلک إجماعنا إلى یوم مضى الحسن بن علیّ رضوان الله علیه).(17)
وقریب من هذه العبارة ذکر متکلّم الطائفة وفیلسوفها الحسن بن موسى النوبختی.(18)
الثانی: وحکى الشیخ الطوسی فی کتاب الغیبة عن الشیخ أبی القاسم بن محمّد بن قولویه - صاحب کتاب کامل الزیارات، وهو اُستاذ الشیخ المفید، وکان زعیم الطائفة فی وقته معاصراً للصدوق فی أوائل الغیبة الکبرى - قال: (إنّ عندنا أنّ کلّ من ادّعى الأمر بعد السمری - وهو النائب الرابع - فهو کافر منمس، ضالّ مضلّ).(19)
الثالث: الشیخ الصدوق فی کتابه (إکمال الدین) فی الباب الثانی والأربعین - ما روی فی میلاد القائم - وبعد ما ذکر نوّابه الأربعة، قال (فالغیبة التامّة هی التی وقعت بعد مضیّ السمری رضی الله عنه).(20)
ثمّ روى فی الباب اللاحق توقیع الناحیة بانقطاع السفارة والنیابة الخاصّة. وقد صرّح فی أوّل کتابه أنّ الذی دعاه إلى تألیف الکتاب هو حیرة بعض الشیعة بسبب الغیبة، ووجدهم قد عدلوا عن طریق التسلیم والتمسّک بالأخبار الواردة إلى الآراء والمقاییس.
وقد صرّح الشیخ النعمانی صاحب کتاب الغیبة - وهو معاصر للصدوق وتلمیذ الکلینی - فی عدّة مواضع منه بانقطاع السفارة فی الغیبة الکبرى، وقد تقدّم نبذة من کلماته واستدلاله بالروایات).(21)
الرابع: وقال الشیخ المفید فی کتاب الإرشاد فی باب ذکر القائم عجل الله فرجه: (وله قبل قیامه غیبتان: إحداهما أطول من الاُخرى، کما جاءت بذلک الأخبار، فأمّا القصرى منهما منذ وقت مولده إلى انقطاع السفارة بینه وبین شیعته وعدم السفراء بالوفاة. وأمّا الطولى فهی بعد الاُولى وفی آخرها یقوم بالسیف)،(22) ونظیر هذا التعبیر صرّح به الطوسی فی الغیبة.(23)
وقد تظافرت کلمات علماء الإمامیّة فی کتبهم ممّا یجدها المتتبّع فی مظانّها.
بل إنّ علماء سنة الخلافة وجماعة السلطان قد اشتهر بینهم عن الإمامیّة ذلک، وأخذوا یصیغون الإشکالات بإنعدام الإمام عجل الله فرجه مع انقطاعه عن شیعته فی أکثر کتبهم الکلامیّة والمؤلّفة فی الملل والمذاهب.
وهذه الضرورة القائمة عند الطائفة الإمامیّة توالت علیها أجیالها قرناً بعد قرن، ودأبت الطائفة فی إقصاء وطرد جماعات الانحراف أدعیاء السفارة کلّما ظهر لهم رایة.
هذا ومقتضى الأدلّة السابقة هو بطلان مدّعی النیابة الخاصّة وأدعیاء السفارة، ومن یزعم أی صفة رسمیّة خاصّة للتمثیل عن الإمام المنتظر علیه السلام إلى سماع النداء والصیحة من السماء، واستیلاء السفیانی على الشام، فیقع الکلام حینئذٍ فیما یتوهّم أنّه ینافی إبطال السفارة فی خصوص بعض الأسماء الواردة فی الروایات لسنة الظهور:
الأوّل والثانی:
الیمانی والحسنیفقد ورد فی جملة من الروایات منها: ما رواه النعمانی بسنده عن أبی بصیر عن أبی جعفر محمّد بن علیّ علیهما السلام أنّه قال فی حدیث یذکر علیه السلام فیه علامات الظهور الحتمیّة، کالصیحة لجبرئیل فی شهر رمضان، ثمّ صوت إبلیس اللعین، وخروج السفیانی والخراسانی کفرسی رهان یستبقان إلى الکوفة، ثمّ قال: (خروج السفیانی والیمانی والخراسانی فی سنة واحدة، فی شهر واحد، فی یوم واحد، نظام کنظام الخرز یتبع بعضه بعضاً، فیکون البأس من کلّ وجه، ویل لمن ناواهم، ولیس فی الرایات أهدى من رایة الیمانی، هی رایة هدى؛ لأنّه یدعو إلى صاحبکم، فإذا خرج الیمانی حرم بیع السلاح على النّاس وکلّ مسلم، وإذا خرج الیمانی فانهض إلیه، فإنّ رایته رایة هدى، ولا یحلّ لمسلم أن یلتوی علیه، فمن فعل ذلک فهو من أهل النّار؛ لأنّه یدعو إلى الحقّ وإلى صراط مستقیم).(24)
ورواه الراوندی فی الخرائج.(25)
وفی الروایة جملة نقاط:
الأولى: أنّها تحدّد علامة الیمانی بعلامة الظهور الحتمیّة، وهی الصیحة السماویة، وقد ذکر فی أوصاف تلک الصیحة، والتی هی نداء جبرئیل من السماء أنّه یسمعه أهل الأرض، کلّ أهل لغة بلغتهم(26)، واستیلاء السفیانی على الشام، وهکذا التحدید للخراسانی الذی قد یعبّر عنه فی روایات اُخرى بالحسنی.
وهذا التحدید یقطع الطریق على أدعیاء هذین الاسمین قبل الصیحة والنداء من السماء، وقبل استیلاء السفیانی على الشام.
وبعبارة اُخرى: التحدید لهما هو بسنة الظهور وعلاماتها من الصیحة والخسف بالبیداء وخروج السفیانی.
الثانیة: أنّ مقتضى تعلیل الروایة لرایة الیمانی بأنّها رایة هدى؛ لأنّه یدعو إلى صاحبکم، هو إبداء التحفّظ على رایة الحسنی، وعدم خلوص دعوته إلى المهدی عجل الله فرجه، ویظهر من روایات اُخرى أنّ ذلک لتضمّن جیشه جماعة تقول إنّ الإمام والإمامة هی لمن یتصدّى علناً بقیادة اُمور المسلمین وإصلاحها لا أنّها بالنصّ الإلهی، وقد اصطلحت الروایات علیهم بالزیدیّة، والمراد باللفظة المعنى النعتی والإشارة إلى ذلک المقال والمعتقد لا المسمّین بالزیدیّة کاسم علم.
وبعبارة اُخرى: أنّ الحسنی والخراسانی یتبنّى الإمامة بالتصدّی للاُمور والإصلاح العلنی، بینما یتبنّى الیمانی أنّ الإمامة بالنصّ الإلهی على الاثنی عشر آخرهم المهدی عجل الله فرجه.
الثالثة: أنّ الروایة تعلّل حرمة الالتواء على الیمانی بأنّه یدعو إلى الحق والصراط المستقیم وإلى المهدی عجل الله فرجه، فالمدار فی مناصرته على توفّر المیزان والحدود الشرعیّة.
وبعبارة أدقّ: الروایة تدلّ على حرمة العمل المضادّ لحرکته لإفشالها، ففرق بین التعبیر بالإلتواء علیه والالتواء عنه، فکلمة (علیه) تفید السعی المضاد لحرکته لا صرف المتارکة لحرکته بخلاف کلمة (عنه)، فإنّها تفید الانصراف والابتعاد عن حرکته. نعم الأمر بالنهوض إلیه یفید المناصرة، والظاهر أنّ مورده لمن کان فی معرض اللقاء به والمصادفة لمسیره؛ إذ سیأتی استعراض طوائف من الروایات تحثّ على النهوض والتوجّه إلى مکّة المکرّمة للانخراط فی الإعداد لبیعة الحجّة فی المسجد الحرام.
وبعبارة اُخرى: أنّ الروایة کما تحدّد استعلام علامته بأنّه یدعو إلى المهدی عجل الله فرجه بنحو واضح وشفّاف، أی أنّ برنامجه الذی یدعو إلیه متمحّض فی إعلاء ذکر الإمام المنتظر والنداء باسمه والدعوة إلى ولایة المهدی علیه السلام ، والالتزام بمنهاج أهل البیت علیهم السلام، کما أنّ هناک علامة اُخرى تشیر إلیها الروایة، وهی کون خروجه من بلاد الیمن، وهو وجه تسمیته بالیمانی، کما أنّ استعمال الروایات للیمن بنحو یشمل کلّ تهامة من بلاد الحجاز، أی بنحو شامل لمکّة دون المدینة المنوّرة، لکن فی بعض الروایات الإشارة إلى خروجه من صنعاء، کما سیأتی. ویتحصّل أنّ الروایة لا یستفاد منها أنّ الیمانی من النوّاب الخاصّین والسفراء للإمام المنتظر عجل الله فرجه، ولا تشیر إلى ذلک من قریب ولا بعید، ولا دلالة لها على وجود ارتباط واتّصال له مع الحجّة علیه السلام ، وإنّما تجعل المدار على کون البرنامج الذی یدعو هو على المیزان الحقّ لأهل البیت علیهم السلام، وأنّه لا ینادی إلى تشکیل دولة هو یترأّسها، بل یواکب خروجه زمان الصیحة والنداء من السماء الذی یدعو إلى نصرة المهدی عجل الله فرجه، فیکون خروج الیمانی على ضوء برنامج الصیحة السماویّة ونداء جبرئیل.
کما أنّ ظاهر الروایة دالّ على کون خروج الخراسانی من خراسان، وهو وجه تسمیته تارة بالخراسانی، واُخرى بالحسنی، کما فی هذه الروایة قبیل القطعة التی نقلناها: (حتّى یخرج علیهم الخراسانی والسفیانی، هذا من المشرق وهذا من الغرب، یستبقان إلى الکوفة کفرسی رهان: هذا من هنا وهذا من هنا حتّى یکون هلاک بنی فلان على أیدیهما).(27)
وروى الشیخ فی الغیبة بسنده عن جابر عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: (تنـزل الرایات السود التی تخرج من خراسان إلى الکوفة، فإذا ظهر المهدی بعث إلیه بالبیعة).(28)
وقد روى الصدوق فی إکمال الدین بسنده عن محمّد بن مسلم، عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث عن القائم عجل الله فرجه، وأنّه منصور بالرعب، وعلامات ظهوره القریبة: (وخرج السفیانی من الشام والیمانی من الیمن، وخسف بالبیداء، وقتل غلام من آل محمّد صلى الله علیه وآله بین الرکن والمقام... )،(29) وهی صریحة فی خروج الیمانی من الیمن.
وروى الشیخ الطوسی فی أمالیه بإسناده عن هشام، عن أبی عبد الله علیه السلام ، قال: (لمّا خرج طالب الحقّ قیل لأبی عبد الله علیه السلام: ترجو أن یکون هذا الیمانی؟ فقال: (لا، الیمانی یوالی علیّاً، وهذا یبرأ منه)(30)، ومفاد الروایة هو ما سبق من التزام الیمانی ولایة أهل البیت علیهم السلام، ومنهاجهم. کما قد یظهر منها أنّ فی زمنهم علیهم السلام حصلت حرکات قام بها أدعیاء بأسماء مسرح الظهور، کتقمّص اسم الیمانی، کما حفل التاریخ الإسلامی بالمنتحلین للمهدویّة.
ومنها: ما أخرجه فی بحار الأنوار عن بعض مؤلّفات الإمامیّة بسنده عن المفضّل بن عمر، عن أبی عبد الله علیه السلام - فی حدیث الظهور - (ثمّ یخرج الحسنی الفتى الصبیح الذی نحو الدیلم! یصیح بصوت له فصیح: یا آل أحمد، أجیبوا الملهوف والمنادی من حول الضریح، فتجیبه کنوز الله بالطالقان، کنوز وأی کنوز، لیست من فضّة ولا ذهب، بل هی رجال کزبر الحدید، على البراذین الشهب، بأیدیهم الحراب، ولم یزل یقتل الظلمة حَتّى یرد الکوفة وقد صفا أکثر الأرض، فیجعلها له معقلاً، فیتّصل به وبأصحابه خبر المهدی علیه السلام، ویقولون: یا بن رسول الله، مَن هذا الذی قد نزل بساحتنا؟ فیقول: اخرجوا بنا إلیه حتّى ننظر مَن هو؟ وما یرید؟ وهو والله یعلم أنّه المهدی، وأنّه لیعرفه، ولم یرد بذلک الأمر إلاّ لیعرّف أصحابه من هو، فیخرج الحسنی فیقول: إن کنت مهدی آل محمّد فأین هراوة جدّک رسول الله صلى الله علیه وآله، وخاتمه، وبردته، ودرعه الفاضل، وعمامته السحاب، وفرسه الیربوع، وناقته العضباء، وبغلته الدلدل، وحماره الیعفور، ونجیبه البراق، ومصحف أمیر المؤمنین؟ فیخرج له ذلک، ثمّ یأخذ الهراوة فیغرسها فی الحجر الصلد وتورق، ولم یرد ذلک إلاّ أن یرى أصحابه فضل المهدی علیه السلام حتّى یبایعوه. فیقول الحسنی: الله أکبر، مدّ یدک یا بن رسول الله حتّى نبایعک فیمدّ یده فیبایعه ویبایعه سائر العسکر الذی مع الحسنی إلاّ أربعین ألفاً أصحاب المصاحف المعروفون بالزیدیّة، فإنّهم یقولون: ما هذا إلاّ سحر عظیم. فیختلط العسکر فیقبل المهدی علیه السلام على الطائفة المنحرفة، فیعظهم ویدعوهم ثلاثة أیّام، فلا یزدادون إلاّ طغیاناً وکفراً، فیأمر بقتلهم فیقتلون جمیعاً، ثمّ یقول لأصحابه: (لا تأخذوا المصاحف ودعوها تکون علیهم حسرة کما بدّلوها وغیّروها وحرّفوها ولم یعملوا بما فیها).(31)
ویظهر من هذه الروایة جملة من النقاط تعزّز ما تقدّم:
الاُولى: أنّ ظاهر دعوة الحسنی لیس متمحّضة فی الدعوة إلى المهدی عجل الله فرجه، بل شعاره عامّ فی رفع الظلم، ومن ثمّ یشاهد جملة من قاعدته وأتباعه من الزیدیّة، والمراد منهم - کما مرّ - المعنى النعتی الوصفی لا العلمی، أی من یرى أنّ الإمامة هی بالتصدّی العلنی لتدبیر الاُمور السیاسیّة الاجتماعیّة وتغییرها.
الثانیة: أنّه مع کون الشعار والمنهاج المعلن للحسنی لیس بتلک الدرجة من الاستقامة، إلاّ أنّ ذلک بسبب الأجواء والوسط الذی یقوم فیه، ومع ذلک فلا تغیب البصیرة بتمامها عن الحسنی فی الانقیاد والاتّباع للإمام عجل الله فرجه.
وإلى ذلک تشیر روایة النعمانی فی الغیبة، بإسناده عن أبی خالد الکابلی، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال: (کأنّی بقوم قد خرجوا بالمشرق یطلبون الحقّ فلا یعطونه، ثمّ یطلبونه فلا یعطونه، فإذا رأوا ذلک وضعوا سیوفهم على عواتقهم فیعطون ما سألوا فلا یقبلونه حتّى یقوموا، ولا یدفعونها إلاّ إلى صاحبکم، قتلاهم شهداء، أما أنّی لو أدرکت ذلک لأبقیت نفسی لصاحب هذا الأمر).(32)
فإرشاده إلى التحفّظ على النفس حتّى یظهر الحجّة عجل الله فرجه، وادّخار النفس لنصرته مؤشّر عامّ على اتّخاذ الحیطة فی التیارات والرایات التی تظهر قبیل المهدی عجل الله فرجه فی سنة ظهوره، وعدم خلوص تلک الجماعات عن شوب الاختلاط فی الأوراق والبصیرة، کما أنّه دالّ على أرجحیّة ادّخار النفس والنصرة إلى خروج المهدی عجل الله فرجه من مکّة على الالتحاق برایة الیمانی، فضلاً عن غیرها من الرایات.
والحاصل: أنّ أهمّ ما ورد فی الیمانی لا یرقى إلى إثبات نیابته الخاصّة عن الحجّة، وکونه سفیراً لناحیته المقدّسة، بل غایة الأمر کون دعوته هی إلى الحقّ، وهو منهاج أهل البیت علیهم السلام وولایتهم وولایة المهدی عجل الله فرجه، ولا یدعو إلى برنامج إصلاحی یترأّس هو فیه، ویعیّن فیه نفسه للقیادة. هذا مع کون علامات خروجه هو فی سنة ظهور الحجّة علیه السلام ، أی مواکباً للصیحة السماویة، واستیلاء السفیانی على الشام، والخسف لجیش السفیانی بالبیداء حوالی المدینة المنوّرة فی الطریق باتّجاه مکّة المکرّمة. وأنّ خروجه من الیمن باتّجاه الکوفة، وأنّ من کان فی معرض لقیاه ومسیره فلا یسعى لمعارضته وإضعافه بعد التحقّق من العلامات الآنفة، والتأکّد من توفّر العلامات فیه، ووضوح برنامج دعوته إلى ولایة أهل البیت علیهم السلام، والبراءة من أعدائهم، والولایة لإمامة المهدی عجل الله فرجه، وأمّا مناصرته والالتحاق به فهو وإن کان بلحاظ انطباق میزان وضابطة الحقّ والصواب فی دعوته من منهاج أهل البیت علیهم السلام وولایتهم وولایة الإمام المنتظر.
هذا کلّه فی الیمانی فضلاً عمّا ورد فی الحسنی الخراسانی الذی یخرج من خراسان، فإنّه قد مرّ ورود التعریض برایته من حیث شعارها وبرنامجها ووسط القاعدة الشعبیّة الذی یتشکّل منه جیشه، وإن انضمّ ذلک إلى مدیح لبعض الفئات المشارکة فی نهضته ولشخصه عندما یسلّم الأمر إلى المهدی عجل الله فرجه، وباعتبار مقاومته للظالمین، ولکن لیس فیها إعطاء أیّة صفة رسمیّة للحسنی لا کنائب خاصّ، ولا کسفیر للناحیة المقدّسة.
هذا مع تحدید الروایات لخروجه بنفس سنة الظهور وعلاماتها الحتمیّة من الصیحة السماویّة، واستیلاء السفیانی على بلاد الشام، وخسف فرقة من جیشه ببیداء المدینة المنوّرة.
الثالث والرابع والخامس:
ذو النفس الزکیّة، وشعیب بن صالح وغیرهماورد التعبیر به عن شخصیّتین: إحداهما - وهی الأقلّ وروداً فی الروایات - على شخصیّة یقتل بظهر الکوفة، وثانیها: الذی یُقتل بین الرکن والمقام، بل فی بعض روایات الأدعیة(33) الواردة عنهم إطلاق النفس الزکیّة على المهدی عجل الله فرجه.
وقد روى الشیخ المفید فی الإرشاد فی علامات الظهور ممّا قد جاءت به الآثار: (وقتل نفس زکیّة بظهر الکوفة فی سبعین من الصالحین، وذبح رجل هاشمی بین الرکن والمقام).(34)
فذکر کلّ منهما، ولکنّ الثانی أکثر وروداً فی الروایات، وفی جملة منها أنّ قتله بین الرکن والمقام من العلامات الحتمیّة، وانّ اسمه محمّد بن الحسن، وأنّه من ذرّیّة الحسین علیه السلام ، وأنّه من خواص أصحاب المهدی عجل الله فرجه، لکنّ خروجه فی مکّة مرتبط بفاصل أیّام وبینه وبین ظهور الحجّة عجل الله فرجه للبیعة عند الرکن خمسة عشرة لیلة، ففی صحیح عمر بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: (خمس علامات قبل قیام القائم: الصیحة، والسفیانی، والخسف، وقتل النفس الزکیّة، والیمانی)، فقلت: جعلت فداک، إن خرج أحد من أهل بیتک قبل هذه العلامات أنخرج معه؟ قال: (لا)، فلمّا کان من الغد تلوت هذه الآیة: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَیْهِمْ مِنَ السَّماءِ آیَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِینَ)(35)، فقلت له: أهی الصیحة؟ فقال: (أما لو کانت خضعت أعناق أعداء الله عزّ وجلّ)(36)، فیظهر من الصیحة أنّ قتل النفس الزکیة، والمراد به الذی یقتل فی الکعبة بین الرکن والمقام، من العلامات الحتمیّة للظهور، کما أنّ فی الصیحة تحذیراً أکیداً، وتنبیهاً بالغاً على عدم الانخداع وراء أدعیاء أسماء الظهور قبل تحقّق العلامات الحتمیّة من الصیحة والسفیانی والخسف لجیشه فی صحراء المدینة المنوّرة، وإنّ من أهمّ علامات الظهور الصیحة والنداء من السماء.
وروى النعمانی بإسناده عن أبی بصیر، عن أبی عبد الله علیه السلام ، قال: قلت له: جعلت فداک، متى خروج القائم علیه السلام ؟ فقال: (یا أبا محمّد، إنّا أهل البیت لا نوقّت، وقد قال محمّد علیه السلام: کذب الوقّاتون یا أبا محمّد، إنّ قدّام هذا الأمر خمس علامات، أوّلهنّ: النداء فی شهر رمضان، وخروج السفیانی، وخروج الخراسانی، وقتل النفس الزکیّة، وخسف بالبیداء) الحدیث.(37)
وروى الصدوق فی إکمال الدین بإسناده عن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول: (القائم منصور بالرعب، مؤیّد بالنصر، تطوى له الأرض...)، فقلت له: یا بن رسول الله، متى یخرج قائمکم؟ قال: (إذا... وخرج السفیانی من الشام، والیمانی من الیمن، وخسف بالبیداء، وقتل غلام من آل محمّد صلى الله علیه وآله بین الرکن والمقام، اسمه محمّد بن الحسن النفس الزکیّة، وجاءت الصیحة من السماء بان الحقّ فیه وفی شیعته، فعند ذلک خروج قائمنا)(38) .
وروى الصدوق أیضاً فی إکمال الدین، بإسناده عن صالح مولى بنی العذارء، قال: سمعت أبا عبد الله الصادق علیه السلام یقول: (لیس بین قیام آل محمّد وبین قتل النفس الزکیّة إلاّ خمس عشرة لیلة).(39)
ورواه الشیخ فی الغیبة، والمفید فی الإرشاد.
وفی روایة الشیخ الطوسی فی الغیبة بإسناده عن عمّار بن یاسر أنّه قال: (إنّ دولة أهل بیت نبیّکم فی آخر الزمان، ولها أمارات، فإذا رأیتم فالزموا الأرض، وکفّوا حتّى تجیئ أماراتها،... ثمّ یسیر - أی السفیانی بعد استیلاءه على الشام - إلى الکوفة، فیقتل أعوان آل محمّد صلى الله علیه وآله، ویقتل رجلاً من مسمّیهم، ثمّ یخرج المهدی على لوائه شعیب بن صالح، فإذا رأى أهل الشام قد اجتمع أمرها على ابن أبی سفیان التحقوا بمکّة، فعند ذلک یقتل النفس الزکیّة وأخوه بمکّة ضیعة، فینادی منادی من السماء: أیّها النّاس، إنّ أمیرکم فلان، وذلک هو المهدی الذی یملأ الأرض قسطاً وعدلاً کما ملئت ظلماً وجوراً).(40)
ویظهر من هذه الروایة أنّ النفس الزکیّة یقتل مع أخیه، وأنّ شعیب بن صالح من رؤساء وقوّاد جیش المهدی، وعلامته ظهوره فی جیشه معه.
وفی روایة العیّاشی عن جابر، عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث الظهور: (...ثمّ یخرج من مکّة هو ومن معه الثلاثمائة وبضعة عشر یبایعونه بین الرکن والمقام، معه عهد نبیّ الله صلى الله علیه وآله ورایته وسلاحه ووزیره معه، فینادی المنادی بمکّة باسمه وأمره من السماء، حتّى یسمعه أهل الأرض کلّهم، اسمه اسم نبیّ، ما أشکل علیکم فلم یشکل علیکم عهد نبیّ الله صلى الله علیه وآله ورایته وسلاحه، والنفس الزکیّة من ولد الحسین، فإن أشکل علیکم هذا فلا یشکل علیکم الصوت من السماء باسمه وأمره، وإیّاک وشذاذ من آل محمّد علیهم السلام، فإنّ لآل محمّد وعلیّ رایة، ولغیرهم رایات، فالزم الأرض ولا تتّبع منهم رجلاً أبداً، حتّى ترى رجلاً من ولد الحسین معه عهد نبیّ الله ورایته وسلاحه، فإن عهد نبیّ الله صار عند علیّ بن الحسین، ثمّ صار عند محمّد بن علیّ، ویفعل الله ما یشاء، فالزم هؤلاء أبداً. وإیّاک ومن ذکرت لک، فإذا خرج رجل منهم معه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، ومعه رایة رسول الله صلى الله علیه وآله عامداً على المدینة...).(41)
ومفاد الروایة أنّ قتل النفس الزکیّة فی المسجد الحرام من العلامات البارزة الجلیّة الظهور، کما تؤکّد الروایة - کما مرّ فی غیرها -على الحذر الشدید، والیقظة البالغة من الانجرار والانجراف وراء أدعیاء رایات الظهور، وشعارات الإصلاح، وقد جعل العلامات الفاصلة بین الملتبس المشتبه وبین الظهور الحقیقی هو الصیحة السماویّة.
المصادر :
1- إکمال الدین / الصدوق: 2/516
2- الغیبة/ الطوسی: 395.
3- الاحتجاج: 2/478. إعلام الورى/ الطبرسی: 445.
4- الخرائج والجرائح: 3/128 و129.
5- الغیبة/ الطوسی: 435، ح 425، وبحار الأنوار: 52/290.
6- الغیبة/ النعمانی: 181/ ح 28.
7- الغیبة/ الطوسی: 162، ح 123.
8- الغیبة/ النعمانی: 171 و172، الباب العاشر/ ح 5.
9- سورة آل عمران: الآیة 179.
10- الغیبة/ النعمانی: 173 و174/ ح 9.
11- الغیبة/ النعمانی: 159/ ح 4.
12- الغیبة/ النعمانی: 161.
13- الغیبة/ النعمانی: 198/ باب 11/ ح 8.
14- الغیبة/ النعمانی: 196/ باب 11/ ح 5.
15- الغیبة/ النعمانی: 211/ باب 11/ ح 18.
16- الغیبة/ النعمانی: 208/ باب 11/ ح 16.
17- المقالات والفرق/ الأشعری.
18- کتاب فِرق الشیعة: 109.
19- الغیبة/ الطوسی: 412، ح 385.
20- کمال الدین/ الصدوق: 423 – 433.
21- الغیبة/ النعمانی: 158 – 161.
22- الإرشاد/ المفید، ج 2: 340.
23- الغیبة/ الطوسی: 61، ح 60.
24- الغیبة/ النعمانی: 256/ باب 14/ ح 13.
25- الخرائج والجرائح: 3/1163.
26- بحار الأنوار: 52/ 221.
27- بحار الأنوار: 52/192.
28- الغیبة/ الطوسی: 425، ح 457.
29- کمال الدین/ الصدوق: 331، باب 32، ح 16.
30- الغیبة/ النعمانی: 277، باب 14، ح 60، بحار الأنوار: 52/245.
31- بحار الأنوار: 53/15.
32- الغیبة/ النعمانی: 273، باب 14، ح 50، بحار الأنوار: 52/243.
33- الغیبة/ النعمانی: 280، باب 14، ح 67، بحار الأنوار: 52/238.
34- مهج الدعوات: 58. بحار الأنوار: 98/371.
35- سورة الشعراء: الآیة 4.
36- الکافی: 8/310.
37- الغیبة/ النعمانی: 290، باب 16، ح 6، بحار الأنوار: 52/119.
38- کمال الدین/ الصدوق: 331، باب 32، ح 16، بحار الأنوار: 52/191.
39- کمال الدین/ الصدوق: 649، باب 57، ح 2، بحار الأنوار: 52/203.
40- الغیبة/ الطوسی: 463، ح 479، بحار الأنوار: 52/207 و208.
41- تفسیر العیاشی: 1/ 117، بحار الأنوار: 52/222 – 224.
/ج