الفرق بین الهجرة أو هجرات الأنبیاء، وبین الغیبة التی یقوم بها بعض منهم أو هی واقعة فی مسیرة الإمام المهدی (علیه السلام) والتی هی طبعاً بمعنى غیبة خفاء ولیست غیبة وجود، أنَّ هناک فرقاً فیزیائیاً - إن صحّ التعبیر - أو فرقاً حسّیاً مادّیاً بین الهجرة والغیبة، وهو أنَّه فی الهجرة ربَّما یکون ابتعاد فی الوجود، أو ابتعاد بدنی یکون بین النبیّ المهاجر أو الوصیّ والحجّة المهاجر والمجتمع الفاسد، یکون نوع من الابتعاد البدنی أو الابتعاد الجغرافی، وإن لم یکن هو ابتعاد فی التدبیر، وإن لم یکن هو ابتعاد فی التفاعل مع الواقع الفاسد لأجل إصلاحه، ولکنَّه ابتعاد جغرافی، أمَّا فی الغیبة فلیس هناک فی البین ابتعاد جغرافی ولا ابتعاد بدنی، وإنَّما هو عبارة عن اختفاء فی المعرفة واختفاء فی الشعور واختفاء فی علم البشر، یعنی بعبارة أخرى الاختفاء عن إدراک البشر، أو الاختفاء عن انتباه البشر للحجّة، فی حین أنَّه حاضر، ومن ثَمَّ مرَّ بنا مراراً فی منطق القرآن الکریم فی الأنبیاء السابقین، وکذلک فی الإمام المهدی (علیه السلام)، وبضرورة أحادیث المسلمین أیضاً، أنَّ الغیبة مقابل الظهور، والظهور یقابله الخفاء، ولیست الغیبة مقابل حضور أو ابتعاد أو مزایلة کما فی الهجرة.
وفی الغیبة امتیاز إیجابی تتمیَّز به على الهجرة، وهو عدم الابتعاد البدنی، ولیس الابتعاد الحضوری، ولا الابتعاد عن کبد مرکز الحدث، بینما فی الصورة الظاهرة فی الهجرة یبدو هناک ابتعاد عن الساحة الساخنة الملتهبة الملتحمة فی الحدث إلى أن تکون هناک مناورة للانقضاض مرَّةً أخرى، وهذا جانب مهمّ فی الفرق بین الغیبة والهجرة.
وهناک فارق آخر أیضاً بین الغیبة والهجرة فی الأنبیاء، هو أنَّ فی ظلّ الغیبة یتمّ مباشرة وعلاج مواضع ومفاصل الداء والمرض، والانحراف فی نظام المجتمع بشکل مباشر وبشکل عمقی وبشکل من الداخل، بخلاف الهجرة، فالهجرة تتمّ فیها معالجة المرض فی بدن وجسم النظام الاجتماعی من الخارج، ومن الواضح أنَّ المعالجة من الداخل لا ریب أنَّها تکون أکثر تثبیتاً وأکثر تأثیراً عن المعالجة من الخارج، فالمعالجة من أعماق الداخل فی الواقع معالجة تکون أساسیة وبنیویة وجذریة وفیها دوام وثبات، بخلاف المعالجة عندما تکون من الخارج والتی قد تکون معالجة مسکّنة لبعض الوقت، ولکن ما أن یذهب ذلک المسکّن، فقد یحدث انقلاب أو ارتداد، کما حذَّر منه القرآن الکریم فی قوله تعالى: (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِکُمْ وَمَنْ یَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَیْهِ فَلَنْ یَضُرَّ اللَّهَ شَیْئاً وَسَیَجْزِی اللَّهُ الشَّاکِرِینَ) (1)، وإن کانت معالجة النبیّ (صلى الله علیه وآله وسلم) للبشریة لا زالت مستمرّة، ومعاجلة خلفه والثانی عشر من ولده الإمام المهدی هی ید من أیادی نبیّ الرحمة وسیّد الأنبیاء، ولکن القصد هنا بیان الفرق بین معالجة الهجرة فی الواقع وبین معالجة الغیبة، أنَّه فی الغیبة تکون معالجة داخلیة من الأعماق یتمّ بها انتشال البشریة من الانحراف.
والمغزى العظیم الذی تؤکّده هذه الظاهرة المنتشرة بشکل وافر وسیع جدَّاً فی کثیر أو فی أکثر الأنبیاء الذین استعرض لنا القرآن الکریم حیاتهم، وکذلک بقیّة الحجج والأوصیاء هی ظاهرة الهجرة عن المجتمعات الفاسدة والأنظمة الجائرة والعروش الفرعونیة أو النمرودیة أو غیره، أو اللوبی الحبری الیهودی وما شابه ذلک کما فی النبیّ عیسى (علیه السلام)، فهذه الهجرة المنتشرة کظاهرة وسیعة ومتّسعة الأمثولة فی کثیر من الأنبیاء مغزاها أنَّه لیس فی التدبیر الإلهی أو فی سُنّة الله فی الأمر الجاری أن تکون الأمور (کن فیکون)، وإنَّما الأمور تأخذ منحة تدریجیة، فی حین أنَّ هذه المنحة التدریجیة التی تأخذ سیاسة السماء والسیاسة الإلهیة فی الإصلاح فیها نوع من المشاورة، فلیست إذن هی حالة على شاکلة وسیرة واحدة، ولا هی دفعیة، بل تدریجیة تتَّخذ أسالیب وأدواراً وألوان، وإقداماً وإحجام، وکرَّاً وفرَّ، وهذا الفرّ لیس فرار، وإن کان فی صورته وظاهره کذلک، بل هو تحرّف للقتال، لقتال الفساد، ولمواجهته، فهو أسلوب المناورة وأسلوب التدبیر وأسلوب المنهجة والتکیّف.
فلیس حینئذٍ إلاَّ عبطاً، ومن برود من التفکیر أن یظنّ الظانّ أنَّ أسلوب المصلحین فی السنن الإلهیة، المصلحین من قبل السماء أن یتَّخذوا شاکلة واحدة ونمطاً واحداً من البرنامج، ومن نظام الدعوة والإصلاح، بل فی الواقع هناک نظم وبدائل وفصول کثیرة یمرُّ بها مسیر الإصلاح لکی یصل إلى النتیجة والغایة، وهذه نکتة مهمّة أخرى یجب أن نستفیدها من الهجرة، من هجرة الأنبیاء، أنَّ هناک نوعاً من الغروب، ثمّ الطلوع، نوعاً من غشیان لیل الظلمة، ثمّ یسفر الصباح عن نوره وعن ضیائه وعن نفعه، فبالتالی لا یظنّ الظانّ أنَّ السُنّة الإلهیة فی الإصلاح هی دائماً نهار ودائماً صباح، بل قد یکون هناک نوع من الفترة والأوقات التی تمرُّ بها تکویر اللیل والنهار، فإذن هناک نوع من الطلوع والغروب والأفول والظهور وما شابه ذلک.
الفترة بین الأنبیاء والحجج:
فی الحقیقة نستطیع أن نضمّ إلى هذه الظاهرة السابعة فقرة أخرى مهمّة جدَّ، ألا وهی فقرة ما عرف بالفترة، وفی اصطلاح الشریعة ولسانها تکون الفترة تقریباً ظاهرة تابعة ومنضمّة إلى ظواهر الأنبیاء، کظاهرة الهجرة، هناک ظاهرة الفترة بین الرسل، وقد ورد هذا التعبیر أیضاً فی القرآن الکریم: (قَدْ جاءَکُمْ رَسُولُنا یُبَیِّنُ لَکُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِیرٍ وَلا نَذِیرٍ فَقَدْ جاءَکُمْ بَشِیرٌ وَنَذِیرٌ) (2)، الفترة فی الواقع فتور، وهو نوع من الغروب فی الظاهر لدعوة السماء، أو البرنامج الإلهی حسب العلن الظاهر، ولکن لیس هو انقطاع، ولیس هو انسداد إلى الأبد، وإنَّما هو أیضاً نوع من التدبیر الإلهی فی سُنّة التدریج فی الإصلاح، فیتبیَّن لنا إذن أنَّ سُنّة الإصلاح فیها لیل ونهار، وفیها طلوع وأفول، وفیها بزوغ وفیها غروب، فلیست إذن هی على شاکلة واحدة؛ حتَّى یصل إلى نهایة المحطّة من الإصلاح الشامل التامّ العامّ فی أرجاء الکرة الأرضیة کافّة، کما وعد به الباری تعالى: (هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَى الدِّینِ کُلِّهِ وَلَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ) (3)، إظهار الدین: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإْنْسَ إِلاَّ لِیَعْبُدُونِ) (4)، ففیه انتظار وفیه ترقّب وفیه توقّع.فالانتظار یحمل معنى البصیرة من النظر، وهذا نستفیده من هذه العناوین بکثرة حول شأن الإمام المهدی (علیه السلام)، وهذه العناوین الثلاثة فی الحقیقة هی کلّها مستقاة أیضاً من السنن التی جرت فی الأنبیاء السابقین، هجراتهم، أو الفترات.
الانتظار یعنی أنَّ ثاقب النظر یرى المستقبل وأمل المستقبل وتغیّر المستقبل، وأنَّ المسیرة لیست على شاکلة واحدة، ولیست سرمدیة اللیل، بل سیبزغ الصبح، (أَلَیْسَ الصُّبْحُ بِقَرِیبٍ) (5).
الانتظار یحمل معنى البصیرة للمستقبل من خلال ما یتَّعظ به المسلم والمؤمن والقارئ للقرآن الکریم فی ظواهر قصص الأنبیاء السابقین وسنن الله فی برنامج الإصلاح والدفع بعجلة مشروع الهدایة والفلاح.
والانتظار أیضاً یعنی التوقّع، ویعنی ما سیقع، وکیفیة مساهمة المؤمن نفسه فی التوقع، (مُنْتَظِرٌ لأمْرکُمْ، مُرْتَقِبٌ لِدَوْلَتِکُمْ) کما ورد فی الزیارة الجامعة(6)، وفی زیارة أمیر المؤمنین (علیه السلام) والدعاء عنده ورد أیضاً: (معتصم بحبلکم، متوقّع لدولتکم)(7)، فالتوقّع من الوقع، وبالتالی الوقوع إذ کان صفة من صفات المؤمن أنَّه متوقّع أی مشارک فیها سیکون من وقوع حدث مهمّ عظیم فی الوعد الإلهی المضمون إنجازه، فلا یکون المنتظر منتظراً بدون أن یکون متوقّع، أی مشارکاً ومساهماً فی وقوع هذه الحدث والوعد الإلهی العظیم، کما یبیّن لنا القرآن الکریم فی هذه الظاهرة السابعة من هجرات الأنبیاء أنَّ المهاجرین من المخلصین ممَّن احتفَّ بالنبیّ (صلى الله علیه وآله وسلم)، المؤمن منهم والذی کانت هجرته لله ولرسوله لا للأثرة والأموال وطمع الدنی، یخصُّ القرآن الکریم المدیح بالصافی النیّة منهم بقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَیَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِی الأْرْضِ کَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَیُمَکِّنَنَّ لَهُمْ دِینَهُمُ الَّذِی ارْتَضى لَهُمْ وَلَیُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً یَعْبُدُونَنِی لا یُشْرِکُونَ بِی شَیْئاً) (8)، فالمؤمن منهم ممَّن کان صحیح النیّة فی برنامج الهجرة هو أیضاً کان مساهماً فی وقوع الإصلاح. فالمتوقِّع إذن صفة للمؤمن تجاه العقیدة بالإمام المهدی نستخلصها من هجرات الأنبیاء ومن کان معهم من المخلصین، المتوقّعین، المنتظرین، والانتظار بلا توقّع یعنی انتظاراً بلا مشارکة وإسهام، وهذا انتظار سلبی، والمترقّب فی الحقیقة هو الذی یکون له نوع من الرقابة، وهو عبارة عن تحمّل المسؤولیة أیضاً، وهو ضمانة وحراسة لمسیرة الإصلاح، وهذا أیضاً بُعد آخر فی سیرة الأنبیاء ومن معهم من المخلصین، أنَّ المؤمن یجب أن یتَّعظ فی هذا الجانب، أن یکون منتظر، ومتوقّعاً مساهماً فی الواقع، ومترقّب، أی یحافظ على حراسة وسلامة واستدامة واستمرار مسیرة الإصلاح، وهذه أیضاً نوع من المساهمة.
إذن ما نستخلصه من هذه الظاهرة السابعة ظاهرة الهجرة المنتشرة فی الأنبیاء، وظاهرة الفترات هو جملة من النقاط والفوائد الاعتقادیة والعقدیة مرتبطة ومتَّصلة بالعقیدة بالإمام المهدی وغیبته، من أنَّها سُنّة جاریة لله عز وجل فی أنبیائه وحججه، من حالة المناورة، وحالة التدبیر، وحال الأفول ثمّ الطلوع، مع فارق إیجابی کثیر فی الغیبة عن الهجرة، کما مرَّ، کأسلوب وبرنامج وأداة وآلیة للإصلاح، مضافاً إلى ما نستثمره من مسؤولیة اتّباع أولئک المصلحین الإلهیین ووظیفتهم.
هذا ما نستطیع على أیّة حال فی هذه العجالة أن نستخلصه من هذه الظاهرة السابعة، وهی ظاهرة هجرة الأنبیاء والفترات التی تخلَّلت بینهم، ونبدأ الحدیث بعون الله تعالى عن الظاهرة الثامنة وهی ظاهرة إبطاء الإصلاح فی سیرة النبیّ نوح (علیه السلام).
تأخّر إنجاز الوعد الإلهی:
هناک أوجه تشابه متماثلة کثیرة من زوایا متعدّدة ومتنوّعة بین الظاهرة القرآنیة وهی ما سرده وقصَّه واستعرضه القرآن الکریم من سیرة النبیّ نوح وسُنّة الله فیه وبین العقیدة بالإمام المهدی (علیه السلام) وغیبته، ونحن بقدر جهدنا نستعرض بعض الأمور منه، فمن تلک الأوجه المماثلة هو طول الطریق للوصول إلى فترة إنجاز الوعد الإلهی فی الإصلاح، أو قد یعبَّر عنه کما ورد فی جملة من الروایات فی بیان هذه الظاهرة القرآنیة إبطاء الوعد الإلهی لإنجاز الإصلاح، هذا الإبطاء کما یخبرنا القرآن الکریم: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِیهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِینَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ * فَأَنْجَیْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِینَةِ وَجَعَلْناها آیَةً لِلْعالَمِینَ) (9)، فالملفت أوّلاً فی ظاهرة النبیّ نوح طول مدّة إنجاز الوعد الإلهی ما یقارب من عشرة قرون إلاَّ نصف قرن، هذه المدّة الممتدّة الطویلة البعیدة الأمد، إذن وجه المماثلة واضح بین ظاهرة النبیّ نوح القرآنیة والعقیدة بحیاة الإمام المهدی، وسوف یختم نجاح هذا الدین القویم على أرجاء الأرض کافّة بأهل البیت (علیهم السلام) الذین بهم یختم الله هذه الخاتمة المشرفة النیّرة الشامخة العظیمة، فکما بدأ وانتشر دین الإسلام بأهل البیت وهم النبیّ وأهل بیته (علیهم السلام) فإنَّ الله عز وجل سیختم بهم العاقبة الحسنة والمضیئة المشرقة لهذا الدین، هذا لا یختلف فیه اثنان من المسلمین، وإن اختلفوا فی الاعتقاد بحیاة الإمام المهدی الآن وطول مدّة غیبته وحیاته، فإذن هذه عظة من القرآن الکریم لهذه الأمّة بأن سیقع فی هذه الأمّة أیضاً إبطاء فی إنجاز الوعد الإلهی العظیم، هذا الإنجاز وهذا الحدث الهائل الکبیر الذی تستعدّ البشریة لوقوعه، برغم هذا الإبطاء إلاَّ أنَّه لا یؤدّی إلى الیأس من روح الله، (إِنَّهُ لا یَیْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْکافِرُونَ) (10)، کیف وقد استعرض وبیَّن لنا القرآن الکریم أنَّ سُنّة الله تجری فی أدوار من الإصلاح أنَّه قد یمتدّ ویطول به الزمن، کی تتهیَّأ البشریة وتمرّ فی حالة إعداد لوقوع هذا الإصلاح العظیم، وقد کان طوفان النبیّ نوح حدثاً مجلجلاً للبشریة، لذلک یعبّر القرآن الکریم عنه بالقول: (وَجَعَلْناها)، یعنی هذا الطوفان العظیم: (وَجَعَلْناها آیَةً لِلْعالَمِینَ)، فهذا الطوفان مضرب مثل واضح، لأنَّ فیه هزَّة للبشریة والکرة الأرضیة بشکل عارم شامل عامّ، وهذا ما یدلّل على أنَّ الباری تعالى فی سُنّته فی الإصلاح المجلجل الذی یأخذ أبعاداً فی أرجاء الأرض کافّة أنَّه یبطئ وقوعه ویتمادى طولاً وامتداداً وأجلاً فی الکتاب المحتوم لوقوعه، وهذا أوّل وجه شبه بین ظاهرة النبیّ نوح وظاهرة الإمام المهدی (علیه السلام)، فقد وردت فی الأحادیث إشارة إلى مثل هذه الزاویة من الشبه بین ظاهرة الإصلاح الموعود به النبیّ نوح وظاهرة الإصلاح الموعود به فی الدین الإسلامی لإنجازه على ید المهدی من ذرّیة الرسول (صلى الله علیه وآله وسلم) الثانی عشر من خلفاء النبیّ (صلى الله علیه وآله وسلم)، ومن هذا الوجه کان على المؤمنین أن لا ییأسوا من روح الله ولا یخفق إیمانهم ولا ینقطع ولا یزول، ولا ینعدم والعیاذ بالله إیمانهم عن هذه العقیدة العظیمة بالوعد الإلهی بالإصلاح فی أرجاء الأرض کافّة بسبب تطاول وتأخّر هذا الإصلاح وإنجاز هذا الوعد الکبیر العظیم، بل یجب علیهم أن یزیدهم ذلک من الوثوق ومن الإیمان بوقوع هذا الإصلاح، فهو نوع من الاختبار العظیم، کی یصدق الله وعده بأن یستخلف الله فی الأرض الذین أخلصوا التوحید والإیمان واعتصموا بحبل ولایة الله ورسله وأوصیائه وحججه ویمکّن لهم ویبدّلهم من بعد خوفهم أمن، ولکی تخلص العبادة له، إذ کیف یکون التمکین فی الدین وانتشار الأمن فی المؤمنین مع إثارة الفتن وإیقاع الحروب بین المخلصین من المؤمنین، وبین من أسرَّ منهم النفاق فیکاشفونهم بالعداوة والحرب. فلن یکون هناک صفاء فی البشریة إلاَّ عندما یزداد تسلیط نار المحنة ونار الامتحان والفتن ،کالمعدن یفتن بالنار إلى أن یصفو، ومن الواضح أنَّ الصفاء الذی لا شوب فیه یحتاج إلى طول مدّة. إذن هذا وجه شبه أوّل عظیم بین ظاهرة النبی نوح وظاهرة الإمام المهدی (علیه السلام) وهو إبطاء إنجاز الوعد الإلهی واتّعاظ المؤمنین، ومغزى ذلک هو نوع من الإصلاح الجذری العمقی الداخلی فی الجسم والطبیعة إلى أن یبقى الخالص لیتمّ به الإصلاح التامّ، هذا أوّل وجه شبه بین الظاهرتین.وجه الشبه الثانی الذی یمکن أن نستخلصه أیضاً هو طول عمر النبیّ نوح، فإنَّه لیس ذلک على الله بعزیز، فقد ورد فی الروایات عنهم (علیهم السلام) وهذه الروایات التی وردت فی الواقع معتضدة بمحکم الکتاب الذی ورد فی طول فترة عهد دعوة النبیّ نوح، فقد ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنَّ مدّة طول عمر نوح کانت ألفی وثلاثمائة سنة، کان قد عاش ثمانمائة وخمسین سنة قبل بعثته رسولاً إلى قومه لیدعوهم إلى توحید الله وشریعته، ثمّ مکث فی قومه یدعوهم ألف سنة إلاَّ خمسین عام، یعنی تسعمائة وخمسین سنة، هذه هی فترة الدعوة إلى أن أنجز الوعد الإلهی، وبعد ذلک عاش قرابة الخمسمائة سنة بعد الدعوة، أی بعد أن اُنجز له الوعد الإلهی لیقیم مجتمع الإصلاح والصلاح، بأن مصَّر الأمصار وأسکن ولده البلدان(11)، یعنی أنَّ العمران الذی حدث فی المجتمع البشری بعد الطوفان الذی اجتاح وجه الکرة الأرضیة کافّة واجتاح المجتمعات البشریة وقضى علیه، فأنشأ بعد ذلک المجتمعات والبلدان هو من الید الشریفة للنبیّ نوح فی إقامة هذا العمران عمران الصلاح والإصلاح، فإذن هذه الحقبة الطویلة من عمر النبیّ نوح عِظة أخرى عظیمة فی المثل بین طول عمره وطول عمر الإمام المهدی (علیه السلام). بعبارة أخرى هذا برهان بیّن من القرآن الکریم فی أنَّ من حججه من یطول عمره وتبطئ خاتمة الإصلاح على یدیه فی الإنجاز للوعد الإلهی، وبالتالی هذه سُنّة من الله عز وجل فی إطالة عمر ذلک المصلح المعدّ للإصلاح الکبیر والمدوی فی الکرة الأرضیة، فی الإصلاح الجذری الشامل سُنّة من الله وهی إطالة عمر ذلک المصلح، وبالتالی إبطاء إنجاز الوعد؛ لأنَّه احتاج إلى نوع من الإعداد العظیم الطویل الأمد، هذا وجه شبه ثانٍ أیضاً بین النبیّ نوح والإمام المهدی.
وهناک أیضاً وجه آخر من المماثلة فی الواقع تحقّق ومرَّ حدوثه فی النبیّ نوح (علیه السلام)، وأیضاً فی الإمام المهدی، وهو أنَّ النبیّ نوحاً بعد أن وقع هذا الزلزال المدوی فی الأرض وهو الطوفان، وکان فی الواقع إنجازاً للوعد الإلهی للإصلاح أوعد القوم به، بعد ذلک قام النبیّ نوح بتمصیر الأمصار وأسکن ولده البلدان، ففی الحقیقة هی بدایة حیاة بشریة ذات طابع متکامل إصلاحی لما خلَّفته البشریة قبل الطوفان، ومن ثَمَّ عُرف أنَّ الطوفان کان محطّة مهمّة بشریة تعتبر خاتمة لحقبة، وفاتحة لحقبة جدیدة، فاتحة لحقبة عمرانیة متمدّنة متطوّرة فی مسار النهج الإلهی والنهج المعیشی فی سکن الأرض، وهی محطّة تاریخیة مهمّة فی عمر البشریة وحیاة البشر على وجه الأرض، ما یدلّل على أنَّ هناک نقلة مدنیة ونقلة تکاملیة واضحة بعد إنجاز الوعد الإلهی على ید نوح، وهذا فی الواقع ما تشیر إلیه الآیات الکریمة وبشکل خطوط عامّة عریضة من أنَّ إظهار الدین على أرجاء الأرض کافّة: (هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَى الدِّینِ کُلِّهِ) (12)، وسوف یکون هو حقبة المتّقین: (إِنَّ الأْرْضَ لِلَّهِ یُورِثُها مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ) (13)، وهی عاقبة الإصلاح فی الأرض لیستخلف الله عز وجل الذین استضعفوا: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَیَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِی الأْرْضِ کَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَیُمَکِّنَنَّ لَهُمْ دِینَهُمُ الَّذِی ارْتَضى لَهُمْ وَلَیُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) ، وأنَّه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَیْهِمْ بَرَکاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأْرْضِ) (14)، والتعبیر بالقرویة هو فی مقابل التمدّن فی اصطلاح القرآن الکریم فی الاستعمال الظاهری لا التأویلی، بل فی مقابل الإیمان وفی مقابل انتهاج نهج الإیمان ونظام الإیمان ومسار الإیمان والالتزام ببرنامج الإیمان یطلق علیه القرآن الکریم القرویة، فإذا آمنوا وانتهجوا رؤیة الإیمان فسیرسل الله عز وجل حینئذٍ علیهم خیرات وکنوز، وهذا هو المفاد الحقیقی من الآیة الکریمة، أو من الروایات التی رواها الفریقان.
من الواضح أنَّ قصص الأنبیاء عقیدة وإیمان ومعرفة ربّانیة ودینیة أصیلة، کذلک هی أیضاً عِظة وعبرة، کما یحدّثنا القرآن الکریم مثلاً فی سورة یوسف: (لَقَدْ کانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأِولِی الأْلْبابِ)، إذن لیست قصصهم هی مجرَّد سرد قصصی، وإنَّما هی معرفة عقدیة واعتقادیة بهم وإیمان بهم، وهو أیضاً عبور وعبرة لنعبر منها إلى عقیدة أخرى مماثلة؛ لأنَّ العبور من شیء إلى شیء إنَّما یکون من المماثل إلى المماثل، وإلاَّ إذا لم یکن هناک وجه صلة ولا نسبة مماثلة فکیف یکون العبور من الشیء إلى شیء أجنبی عنه لا صلة له به، فالعبرة أخذت من العبور. إذن ما استعرضه لنا القرآن الکریم من قصص الأنبیاء وأمثالهم فی الوقت الذی هو معرفة وإیمان بکتب الله ورسله وملائکته، أیضاً هو عبرة وعبور للانتقال إلى محاور وأرکان اعتقادیة أخرى.
فما هی الأرکان الاعتقادیة الأخرى؟
هی ما افترض علینا القرآن الکریم الاعتقاد بهم: (إِنَّما یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً) (15)، وهؤلاء فی هذه الأمّة هم الذین باهل بهم النبیّ الأکرم والذین خصَّهم القرآن الکریم بخصائص ومقامات، (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ * فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) (16)، فالمطهَّرون هم أهل آیة التطهیر، وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ عَلَیْکَ الْکِتابَ مِنْهُ آیاتٌ مُحْکَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْکِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ...)، إلى أن تقول الآیة: (وَما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ) (17)، وهم أهل البیت (علیهم السلام) ودورهم فی إنجاز وعد الله وإصلاح البشریة.المصادر :
1- آل عمران: 144
2- المائدة: 19
3- التوبة: 33
4- الذارایات: 56
5- هود: 81
6- المزار لابن المشهدی: 530.
7- المزار لابن المشهدی: 250.
8- النور: 55
9- العنکبوت: 14 و15
10- یوسف: 87
11- الکلینی فی الکافی 8: 284 و285* ح 329 و430
12- التوبة: 33
13- الأعراف: 128
14- الأعراف: 96
15- الأحزاب: 33
16- الواقعة: 77 – 79
17- آل عمران: 7
/ج