إن الکثیر من المشاکل التی یمکن أن تحدث فی المؤسسة العائلیة ترجع فی أساسها إلى تطفّل الأبوین فی الحیاة الخاصة لأبنائهم، وحتى أن الکثیر من الانفصالات وحالات الطلاق یمکن إرجاعها إلى هذا التطفّل أو ذلک التدخل، فی الوقت الذی لا ینبغی أن یتمّ ذلک.إن هذا المرض الاجتماعی "تطفّل الأبوین" لاقى ـ مع الأسف ـ شیوعاً کبیراً بین الکثیر من العوائل فی مجتمعنا المُعاش، فلم یفرّق بین المتدیّن وغیره، وبین المتعلم وغیر المتعلّم، حیث نرى الغالبیة العظمى ـ علمت أم لم تعلم ـ توجّه ضربة قاصمة لحیاة أبنائها المتزوجین من خلال هذا التدخل الممقوت.
إن الحیوانات ترضع صغارها وتهتمّ بها ما دامت تحتاج إلى ذلک، ولکنها تترک لها الشروع بحیاة مستقلّة حینما تراها لا تحتاج إلى عنایة خاصة، حتى إن بعض الطیور لتهیء الحبوب لصغارها أیاماً عدیدة أو بضعة شهور، وعندما تشعر بأن تلک الصغار تستطیع الطیران ـ ولو بصورة غیر جیّدة ـ تمتنع عن قبولها فی أعشاشها.
کلکم شاهدتم العلاقة بین النِعاج وصغارها، وکلکم لاحظتم العلاقة الخاصة التی تبدیها الشاة لصغیرها حیث تمتنع عن الابتعاد کثیراً عن صغیرها مخافة بروز حالة من الغربة بینها وبینه، وهذه الحقیقة موجودة فی جمیع أنواع الحیوانات.
ومن هنا یمکن أن نستفید بأنه یجب علینا أن نحسن تربیة البنت حتى تکبر وتنضج، ولا نحرمها من العطف والحنان المادی والمعنوی وفق ما جاء به الإسلام العظیم، إلى أن تذهب إلى بیت الزوجیة لتمارس حیاة مستقلة، وعندئذ لا ینبغی للأم أو الأب بعد ذلک أن یتدخّلا فی أمورها الخاصة مبررین ذلک بأنهما یحبانها ویخافان علیها من الحیف والغبن.
فإذا ما حدث نزاع بین المرأة وزوجها یجب أن تأخذ أم الزوجة جانب الصهر لا جانب ابنتها، ولو کان صهرها المقصّر، وکذا بالنسبة لوالد الزوجة.إن أحد أضرار مجانبة البنت أو الوقوف إلى جانبها من قبل أبویها هو منعها من اتخاذ قرار مستقل فی کیفیة دیمومة حیاتها الزوجیة، وإن تحریض البنت على مسائل یمکن أن تؤدی بحیاتها الزوجیة إلى ما لا تحمد عقباه جنایة، وخیانة بحق تلک الأسرة، لأن الاحتمال وارد فی أن یؤدی ذلک التحریض إلى الانفصال بین الزوجین، وإذا لم یبلغ الأمر ذلک الحد، فمن المؤکد أن المحبة والود والاحترام ستتبخّر من الجو العائلی للمتزوجین، وسیضحى البیت متأزماً ومتشنجاً بشکل عام.
وکذا الأمر بالنسبة للغلام، فإذا ما بلغ سن الزواج وجب على أبویه تزویجه، فإذا ما حدث ذلک فینبغی لهما أن یمتنعا عن التدخل فی حیاته الخاصة، ولا نقول بعدم إسداء النصح والوعظ طبق ما جاء فی شرعة محمد بن عبد الله صلى الله علیه وآله؛ کلا؛ فهذه المسألة واجبة، ولکن التدخل والتطفل الذی یؤدی إلى برود العلاقات الأسریة مرفوض وممقوت، ویجب علینا جمیعاً أن نقف عند هذا الأمر بکل جدیة کی لا یحدث ما یبعث ما یبعث على تشرذم المجتمع الصغیر أو المؤسسة الأسریة.
فإذا ما رأى الأبوان حدوث نزاع بین الزوجین، یتطلّب تدخلهما لحلّه وفق الأسس الإسلامیة، عرضا خدماتهما علیهما بدون الانحیاز إلى أحد الطرفین، فإن لم یستطیعا حل ذلک النزاع عُرضت المشکلة على مختار المحلّة أو عالمها المعروف بتقواه.
قد نرى فی بعض الأحیان أن إحدى الأمهات تطلب من ابنها المتزوج أن یمتثل لما تقول فی حق زوجته، ولو أدّى ذلک إلى طلاق الزوجة، وهذا خطأ فاحش یرفظه الإسلام العظیم، ویحاسب علیه بشدة، وقد نرى أحد الآباء یرغب فی أن یکون أبنه عبداً تابعاً له وعلیه أن یستشیره حتى فی أقل أموره المنزلیة، مما یؤدی إلى أن تحتقر الزوجة زوجها الذی لا یفکر إلا من خلال رأس أبیه، وحینما تبرز النزاعات، وتطفو الخلافات على السطح ویبدأ أطراف النزاع بممارسة الغیبة والنمیمة والتهمة:(إن الذین فتنوا المؤمنین والمؤمنات ثم لم یتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عدابُ الحریق)(1). أیتها السیدة! إنّ القرآن یقول لک: إیاک إیاک أن تفتنی ابنتک، وأعنی هنا بالفتنة: بلبلة أفکارها، والمساهمة فی إیجاد حالة من القلق والاضطراب تؤدی بها إلى تخریب بیتها، وهی ما وصفها القرآن بأنها أشدّ من القتل:
(والفتنةِ أشدّ من القتل) (2).
ومن فعل ذلک یکون قد قتل الناس جمیعاً:(من قتل نفساً بغیر نفسٍ أو فسادٍ فی الأرض فکأنما قتل الناس جمیعاً) (3).
فمن ساهم فی إیجاد فتنة بین زوجین عُدّت معصیته أشدّ من معصیة الذی یقتل نفساً بغیر نفس:(وما یعلّمان من أحدٍ حتى یقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تکفر فیتعلّمون منهما ما یفرّقون به بین المرءِ وزوجه..) (4).
جاء فی الخبر أن أحد المسنّین ـ کان قد فرق بین ابن له وزوجته ـ حضر فی مجلسٍ کان فیه الإمام الحسین"علیه السلام"، فاعترف بما فعل فقال الإمام له: هل تعلم ما سیترتب على ذلک من ذنوب؟ لو إنک فصدت أوردة أعناقهما لکان أقل معصیة مما فعلت.فإنّ تکدیر العلاقة بین زوجین مستأنسین ببعضهما أشدّ معصیة عند الله مما لو عّذِّبا حتى الموت، وهذا ما تفعله بعض الأمهات أو بعض الآباء وهم لا یشعرون.
فالزوجة عندما تسقط من عین زوجها بسبب النمیمة، أو التهمة التی یمکن أن تحیکها أم الزوج تبعث على انحطاط معنویات الأبناء وتعقدیهم إلى آخر أعمارهم، وستکون تلک الأم مبتلاة بتلک المصیبة بالإضافة إلى مصیبة جهنم التی لا بدّ لها من تحمّلها بالإکراه فی تلک الحیاة الآخرة.
إن التجریح اللسانی، أو الانتقاص من زوجة ابنک سیؤدی بک إلى تهیئة عقربٍ یلسعک فی قبرک ما دمت فیه، وسیکون رفیقاً لک حتى قیام الساعة، فلِمَ تقحمین نفسک فی مثل هذه المآزق التی لا یمکن الخروج منها؟ ولم ترتبین لنفسک أوضاعاً لا تنمّ إلاّ عن حماقة فی الرأی؟.وأنت أیها الأب! لا تحاول إیذاء زوج ابنتک من خلال تجریحک له، أو إکراهه على شراء بعض المستلزمات المنزلیة، ولا تسعى للانتقاض منه أمام الآخرین، فإن فعلت ذلک فقد خلقت لابنتک مشاکل ومشاکل عظاماً قد تؤدی بصهرک إلى تطلیق ابنتک تلک التی تدّعی بأنک تحبّها وترجو لها السعادة.
أیها الزوج! إن من العار علیکم معاداة أمّ زوجتک بلا سبب بیِّن، فهی کأمک، فعاملها على مستوى ما لدیها من عقل، وإن کنت فطناً ذکیاً کسبتها إلى جانبک فی جمیع الأمور وبذلک تفوز برضاها ورضا الله جلّت أسماؤه.
لیس من العار أن تکون إحدى الزوجات کالابنة بالنسبة لأم زوجها تُبدی لها المحبة والود، وتترفق لها فی الحدیث، لأن تلک الأم تعبت وسهرت اللیالی من أجل إیصال ابنها إلى هذا الحد من العمر، ومن العار أن تحاول الزوجة تجریح أم زوجها، وإلقاء بعض العبارات النابیة لأن ذلک سیؤدی بها قبل تلک الأم إلى ما لا تحمد عقباه فی الدنیا والآخرة.
جاء فی بعض الأمثال بأن جملاً ـ وحینما کان الجو بارداً ـ طلب من بعض الدجاج أن یدخل رأسه فی بیتهن احتماءً من البرد، وبعد ن وافقت على ذلک، أدخل کلّ جسمه لیخرب بیت الدجاج، وبذلک لم یهنأ هو بالدفء ولا الدجاج.
وإن البعض من العرائس على مثل ذلک الجمل، فبعدا تدخل الدار وتطمئن إلى زوجها، ترید التسلّط على کل شیء فی تلک الدار، فهی لا ترید أمّه ولا أباه وهذا ما یتناقض مع الإنسانیة، بالإضافة إلى أن فیه معصیة لله تبارک وتعالى.
وبناء على ذلک، لا بد لی من أن أوصی الأزواج والزوجات والأمهات بضرورة إفشاء المحبّة والألفة بین الأسرة الواحدة، لأن مکان تلک الأسرة هو محل رحمة الله العزیز المتعال، وأن الجمیع سیجلسون سویة فی جنات الله فیطری بعضهم على البعض الآخر فی جوًّ تسوده رحمة الباری ولطفه.أما أولئک الذین یتحین الواحد منهم الفرص بصاحبه، فلیس لهم من الآخرة إلا أن یلعن بعضهم البعض، ویلقى الواحد منهم باللائمة على البقیة لذا قال المولى تعالى فیهم:
(کُلَّما دخلت أمةٌ لعنت أختُها) (5).
وعلیه لم ترغبون فی دخول جهنم؟ وإذا قلتم بأنکم لا ترغبون بذلک، فما هو الوازع الذی یحدوکم لفعل تلک الأفعال المشینة التی لا تؤدی بکم إلاَّ لجهنم؟.إذا کنتم ترغبون فی سعادة الدارین فما علیکم إلا أن تکونوا أحراراً فی دنیاکم مستقلین، وکذا ینبغی أن یکون ابناؤکم، فالزوجة الوفیة لا تتمکن أمها من تدمیر حیاتها الزوجیة، والرجل الوفی لا یستطیع أبواه من إیجاد الفرقة بینه وبین زوجته؛ وإن العقلاء لا یتأثرون بما یقول هذا وذاک، بل یعملون وفق ما جاء فی کتاب الله وسنّة المعصومین سلام الله علیهم أجمعین، وإلاَّ فإنهم الخاسرون ولا أحد سواهم.
لو تحرّینا مجمل النزاعات التی تحدث بین الأزواج لشاهدنا آثار أصابع الآباء والأمهات واضحة على صفحات تلک النزاعات، فهذا ینحاز إلى ابنته، وتلک تنحاز إلى ولدها فی مشکلة لا تحتاج إلى نزاع ولا إلى خصومة، وبدل أن یحل الآباء والأمهات مشکلات ابنائهم ترى البعض منهم یزیدون النار حطباً، وهذا عین الخطأ.
إن أحد الأعمال القبیحة الشائعة هذه الأیام هو ترک الزوجة لدارها فی حالة حدوث سوء تفاهم بینها وبین زوجها.
ممن غضبت أیتها السیدة المحترمة؟ من زوجک؟ إن الزوجة لا تغضب من زوجها، ولا تترک منزلها لأتفه المسائل، وإذا کنت تریدین الذهاب إلى منزل أمّک، فهذا عارٌ علیکِ، وإذا کانت أمک إنسانة متدینة وملتزمة فما علیها إلا أن ترفضک، أو تنصحک بالرجوع إلى بیتک الذی هو بیت زوجک، ولو فعلت غیر ذلک لکانت بفعلتها تلک قد قلعت جذور المحبة من تلک الدار.یرجع الرجل فی بعض الأوقات متعباً بعد جهد جهید إلى منزله الذی عدّه القرآن المجید مکاناً للراحة والهدوء، ولکنه بدل أن یحظى بقسطٍ من الراحة تشرع زوجته قبل تهیئة طعامه باغتیاب أُمه الی مرّت علیها فی الصباح لعمل ما، وإذا ما رأى أمه لوحدها فی المنزل، تبدأ هی الأخرى باغتیاب زوجته، وإنها غیر ملائمة له، ولا تناسبه بالمرة، وما أشبه ذلک من الکلام الذی ینمّ عن انحطاط وتسافل فی المستوى الفکری والثقافی.
قال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم:
(درهم ربا أعظم عند الله من سبعین زنیة بذات محرم فی بیت الله الحرام)(6).
ولا یظن أحدکم أن جزاء الزنا شیء یسیر، إذا ذهب صاحبه من الدنیا بدون توبة: لقد قال رسول الله فیه:"من فجر بامرأة ولها بعل، انفجر من فرجها من صدید واد مسیرة خمسمائة عام یتأذى أهل النار من نتن ریحهما، وکانا أشد الناس عذاباً"(7).
أما بالنسبة للغیة والتهمة، وإسقاط فرد مؤمن من أعین الناس فهو أکبر معصیة من الربا الذی یعد درهماً منه بسبعین زنیة بذات محرم، فتصوّر جزاء الغیبة والتهمة.
قال رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم:
(الغیبة أسرعُ فی دین الرجل المسلم من الأکلة فی جوفه)(8).
وعن جابر الأنصاری أنه قال: کنا عند النبیّ صلى الله علیه وآله، فهبّت ریح منتنة فقال الرسول الأکرم صلى الله علیه وآله:
"أتدرون ما هذه الریح؟ هذه ریح الذین یغتابون المؤمنین(9).
إن بعض النساء الوضیعات لا یکتفین بالغیبة والنمیمة والتهمة فحسب بل یتعدین تلک الحدود إلى مسائل أخرى فترى إحداهن تبحث فی حقیبة زوجة أبنها حینما تکون غائبة عن الدار، وهذا ما یدلل على وضاعة وصفاقة هکذا نساء، کونها لا تستطیع فعل ذلک أمامها، وتفعله فی غیابها، وهذا لیس من الإنسانیة فی شیء، ولیس من الأخلاق فی شیء.المسألة الأخرى هی التجسس، فقد یکون أحد الأزواج ممارساً لعملیة التجسس على زوجته، وهذا ما ینمّ على ضعف فی شخصیته، ودلیل على عدم الوثوق بها، فتراه یبحث تارة فی حقیبة یدها، وأخرى فی جیوب ثوبها وهذا عمل قبیح، وغیر مقبول أخلاقیا ولا إنسانیاً، ولا عرفیاً.
وقد تفعل ذلک المرأة نفسها مع زوجها، فتحاول أن تتبعه إلى أول الحارة لترى کیف یتعامل أو یتصرف مع الآخرین وعندما یأتی إلى الدار تفتش جیوبه بدقّة، وقد تساعدها أمها فی ذلک العمل المشین ظناً منها أنها تحب ابنتها، لذلک تعمل على مراقبة زوجها علّها تعثر على شیء یمکن أن تخلق من خلاله نزاعاً قد یجرّ إلى الطلاق، والانفصال، وبعثرة المؤسسة الأسریة.
وفی الختام أقول أیها الآباء! أیتها الأمهات! اتقوا الله الذی هو بین ظهرانیکم، وفکّروا فی أمر آخرتکم، ولا تثیروا النزاعات هنا وهناک بسبب ما تمتلکون من فراغ أو أمراض نفسیة، أو نفسیات عدوانیة.
المصادر :
1- البروج / 10
2- البقرة/191
3- المائدة/32
4- البقرة/102
5- الأعراف/38
6- تفسیر علی بن إبراهیم/ ج77، ص58، مکارم الأخلاق/ ص119.
7- بحار الأنوار/ ج6، ص366.
8- أصول الکافی/ ج4، ص59.
9- الحلال والحرام فی الإسلام/ ص477.
/ج