إیجابیة صفة الخوف عند الأنبیاء (ع)

إنَّ هذا الخوف لیس صفة شخصیة أو خوفاً على شخصه، فالنبیّ موسى والأنبیاء (علیهم السلام) إنَّما کانوا یخافون على عدم استتمام المهمّة التی أوکلت إلیهم، ویخافون على التقصیر أو عدم الوصول إلى الغرض فیما اُوعز إلیهم من رسالة وإصلاح وإنجاء، سیّما
Sunday, March 23, 2014
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
إیجابیة صفة الخوف عند الأنبیاء (ع)
 إیجابیة صفة الخوف عند الأنبیاء (ع)

 





 

إنَّ هذا الخوف لیس صفة شخصیة أو خوفاً على شخصه، فالنبیّ موسى والأنبیاء (علیهم السلام) إنَّما کانوا یخافون على عدم استتمام المهمّة التی أوکلت إلیهم، ویخافون على التقصیر أو عدم الوصول إلى الغرض فیما اُوعز إلیهم من رسالة وإصلاح وإنجاء، سیّما فی البرنامج الموسوی الذی اُودع إلیه من قِبل الله تعالى. فهذا الخوف فی الواقع خوف على الهدف، فلم یکن لموسى خوف شخصی على نفسه، (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ یَبْطِشَ بِالَّذِی هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ یا مُوسى أَتُرِیدُ أَنْ تَقْتُلَنِی کَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالأْمْسِ إِنْ تُرِیدُ إِلاَّ أَنْ تَکُونَ جَبَّاراً) (1).
بعد ذلک تواصل الآیات: (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَیَّ فَلَنْ أَکُونَ ظَهِیراً لِلْمُجْرِمِینَ) (2)، فهو ظهیر للمستضعفین، وهو فی حین لم تأتِ ساعة الصفر لظهوره، أو إعلان دعوة إصلاحه وإنجائه لبنی إسرائیل وللمؤمنین من براثن الفراعنة، کان مع ذلک یزاول تدبیر الحدث فی خضم وفی وسط هذا الخفاء وفی وسط هذا الستار، فهو لم یکن معطّلاً قبل ظهوره، بل کان متفاعلاً مع الحدث، (فَأَصْبَحَ فِی الْمَدِینَةِ خائِفاً یَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِی اسْتَنْصَرَهُ بِالأْمْسِ یَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّکَ لَغَوِیٌّ مُبِینٌ) (3)، فهاهنا فی خضم تفاعل النبیّ موسى مع الأحداث وتأثیره فی الحدث العامّ الذی یجری على بنی إسرائیل کان فی حال خوف، وستر وسرّیة لئلاَّ ینکشف.

الغیبة الثانیة لموسى (علیه السلام):

ثمّ قال تعالى: (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِینَةِ یَسْعى قالَ یا مُوسى إِنَّ الْمَلأَ یَأْتَمِرُونَ بِکَ لِیَقْتُلُوکَ فَاخْرُجْ إِنِّی لَکَ مِنَ النَّاصِحِینَ) (4)، وهنا تبدأ الغیبة الثانیة للنبیّ موسى، (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً یَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِی مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِینَ) (5)، فهذا الخوف فی المصلحین هو بسبب ستار الغیبة والخفاء والسرّیة لهم، والحرکة تحت سطح السرّیة، ولیس خوفاً شخصیاً على أنفسهم، وکیف وهم بُسلاء الشهادة وروّاد البشریة اختارهم الله عز وجل وأصفاهم وهم أولیاؤه، وإنَّما هو خوف على عدم إنجاز المهمّة الإلهیة، وعدم إیصال هذه المهمّة إلى نهایتها. فلا ریب حینئذٍ أن یستدعی الأمر منه نوعاً من الغیبة، وأن یکون تحت ستار الخفاء، وما ذلک إلاَّ لأجل المثابرة فی أداء المسؤولیة العظیمة الموکلة إلیه من قِبَل الله تعالى، وکما یحدُّثنا القرآن الکریم فی المصلحین السابقین المبعوثین من قِبَل الله، کان الاقتضاء أن یکونوا فی فترات فی ستار الخفاء والغیبة لیؤمّن لهم حرّیة الحرکة، وحرّیة الانطلاق وحرّیة التفاعل مع الحدث والتأثیر من دون أن تصل أیدی الظالمین إلیهم، لأنَّ طبیعة الأنظمة الظالمة أنَّها إذا شعرت بعنصر الإصلاح ولاسیّما عنصر الإصلاح الإلهی تباغته بالتصفیة والإعدام والإزالة، لا ریب فی ذلک، فلذا یکون الستار الأمنی الحافظ لهم من استئصال وتصفیة وإبادة قوى الظلم وقوى الظلام والشرّ والأنظمة الفاسدة لهم.
فستار الخفاء یعطی کمال الحیویة وکمال الحرّیة فی الحرکة والنشاط والقیام بأتمّ ما یمکن من المسؤولیة، فکما یحدّثنا القرآن الکریم هنا عن ظاهرة النبیّ موسى فی تلک الحقبة، کان یحدّثنا أیضاً أنَّ الخوف کان برنامجه للإیفاء بدوره الفاعل، وکانت السرّیة هی غطاء لتأمین أداء دوره الفاعل وتأثیره فی ذلک الحدث.

لقاء موسى بشعیب (علیهما السلام):

ومن هنا تواصل الآیات الکریمة وتقصُّ لنا الغیبة الثانیة والخفاء الثانی للنبیّ موسى، (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْیَنَ قالَ عَسى رَبِّی أَنْ یَهْدِیَنِی سَواءَ السَّبِیلِ) (6)، إلى أن تصل إلى لقاء موسى بالنبیّ شعیب (علیه السلام).
وهنا محطّة أخرى، وهی أنَّ هذا المصلح المنجی الموعود یلتقی مع حجج آخرین لله، فهناک نوع من الشبکة المتّصلة بین أولیاء الله، هناک نوع من المجموعات المرتبطة مع بعضها البعض، وکلّ محطّة فی ظاهرة النبیّ موسى والظواهر الأخرى التی سنأتی على استعراضها إن شاء الله فیها وقفات تستدعی الانتباه بإمعان، منها هذه المحطّة التی هی غیبة ثانیة تستعرضها لنا سورة القصص فی ظاهرة النبیّ موسى (علیه السلام).
وهذا الخفاء وهذه الغیبة تأتی بجانب ما أوتی النبیّ موسى من بدء ولادته من الخفاء والسرّیة إلى ترعرعه وبلوغ أشدّه واستوائه، بعد ذلک تأتی مرحلة أخرى امتدَّت أکثر من عشر سنین عندما استأجره النبیّ شعیب، (قالَ إِنِّی أُرِیدُ أَنْ أُنْکِحَکَ إِحْدَى ابْنَتَیَّ هاتَیْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِی ثَمانِیَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِکَ وَما أُرِیدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَیْکَ سَتَجِدُنِی إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِینَ * قالَ ذلِکَ بَیْنِی وَبَیْنَکَ أَیَّمَا الأْجَلَیْنِ قَضَیْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَیَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَکِیلٌ * فَلَمَّا قَضى مُوسَى الأْجَلَ) (7)، حیث إنَّه أتمَّ عشراً کما ورد فی الروایات(8)، فیتَّضح أنَّ هناک غیبة أخرى ثانیة طالت أکثر من عشر سنین، من ذهابه إلى مدین، ثمّ مکثه عشر سنین أو أکثر عند النبیّ شعیب.

تلاؤم حجّیة النبیّ موسى (علیه السلام) نبیّاً مع غیبته:

ولسائلٍ أن یسأل: هل هناک تنافٍ وتقاطع بین نصب الله عز وجل حجّة من حججه مصلحاً ومنجیاً وموعوداً منتظراً فی تلک الحقبة وبین غیبته؟ سیّما أنَّ هذه الغیبة الثانیة بیَّنت ومن خلال سورة القصص أنَّه لمَّا توجَّه تلقاء مدین مکث ما یربو ویزید على العشرة، وکان ذلک أجلاً ثانیاً فی غیبة النبیّ موسى، والتقى فیها مع النبیّ شعیب، وکانت محطّة لقاء حجج الله ومجموعة من أصفیاء الله مع بعضهم البعض فی تدبیر الأمور الإلهیة، النبیّ موسى هو من أولی العزم ورسول مبعوث وصاحب شریعة، وهو أیضاً فی البشارات الإلهیة موعود به المنجی والمنقذ لبنی إسرائیل من براثن أنظمة الفراعنة، فکیف یتلائم هذا مع الغیبة؟! ألیس هناک تقاطع؟ ألیس هناک تدافع؟
هذه الإثارات والتساؤلات ناجمة ومنبعثة من فهم خاطئ لمعنى الغیبة، وقد مرَّ بنا أنَّ معنى الغیبة لیست هی عدم وجود النبیّ موسى فی ساحة الحدث، ولیس معنى الغیبة مزایلة النبیّ موسى عن موقعیته فی التأثیر فی الأحداث، ولا نأیه ولا ابتعاده عن التصدّی لمجمل الأمور، فهذا معنى خاطئ للغیبة، وهکذا معنى الغیبة للإمام المهدی (علیه السلام)، فالبعض - وربَّما من أتباع مدرسة أهل البیت فضلاً عن المدارس الإسلامیّة والملل والنحل الأخرى - ربَّما ینساق إلیهم معنى الغیبة بمعنى النأی والابتعاد عن مجمل المسؤولیة أو التدبیر أو الاضطلاع بکامل البرنامج الإلهی.
فنقول: لیس ذلک هو معنى الغیبة، فتارةً تکون الغیبة فی مقابل الحضور کقولنا: غاب وحضر، وتارةً الغیبة تکون مقابل الظهور، وهی التی تتَّخذ معنى الخفاء والسرّیة والستار، فإنَّ موسى ترعرع فی أحضانهم وبین أیدیهم لکنَّهم لا یشعرون به، فهی إذن غیبة خفاء، غیبة هویة، غیبة ستر وستار، لا غیبة انعدام ومزایلة عن الحضور، فلو فُسّرت الغیبة بمعناها الصحیح کما فی غیبة النبیّ موسى فهو فی مدین یستنبئ أنباءهم، وربَّما یقرب من ذلک کیفیة إیعازه لجملة من البرامج الإلهیة فی المجتمع الفرعونی ومجتمع بنی إسرائیل والأقباط هناک، فإذن لیست هی ابتعاد ومزایلة عن التأثیر فی ساحة الحدث، بالعکس هو نوع من الخفاء والسرّیة فی العمل والنشاط فلا یکون هناک أیّ تقاطع أو أیّ تصادم بین الحجّیة و المسؤولیة التی توکل إلى ذلک الولیّ والحجّة من حجج الله، بل یکون هناک تمام الملائمة وتمام النسق والتأثیر المتبادل، وستکون حینئذٍ مسؤولیة الخفاء هی أفضل فرصة لقیام ذلک الحجّة بما یُعهد إلیه من مسؤولیة ومن برامج إصلاح وما شابه ذلک، وسیکون الخفاء والغیبة أنشط لدوره، وأکثر فاعلیة وتأثیراً، بخلاف ما لو فسَّرناها بأیّ معنى خاطئ، وللأسف أنَّه قد استشرى هذا المعنى الخاطئ فی أذهان الکثیرین، وهو أنَّ معنى الغیبة النأی والمزایلة والابتعاد والجمود وعدم التصدّی للأحداث وتدبیر الأمور، وکیف یلائم هذا المعنى الخاطئ للغیبة الحجّة الفعلیة للنبیّ موسى؟ وهو من أولی العزم، وحجّة لله، وموعود بأنَّه هو المنتظر المصلح المنقذ للبشریة من الأنظمة الفرعونیة، فکیف یکون حینئذٍ معطّلاً؟!
فالتعابیر القرآنیة السابقة تظهر مجمل حرکة النبیّ موسى قبل إعلان دعوته فی العلن، أنَّها کانت دوماً فی حالة خفاء، دخوله، خروجه، ترعرعه، نشوؤه، نموّه، وهذا لیس من الأسطوریات؟! حاشا لأفعال الله تعالى ولرسل الله تعالى عن ذلک، وإنَّما هی فی صلب خضم التدبیر الإلهی الحکیم النافذ البالغ الحکمة، لأجل حیویةٍ أکثر ونشاطٍ أکثر لقیام ذلک المصلح بدوره فی مرحلة الخفاء والسرّیة إلى أن تُستکمل قدراته ونفوذه، وتتهیَّأ الأرضیة له، حینئذٍ تأتی ساعة الصفر وساعة الظهور والإعلان.

إعلان الدعوة الموسویة:

ثمّ تأتی الآیات تزف لنا نهایة المطاف، عندما أعلن النبیّ موسى دعوته وظهر باعتباره مصلحاً ومنجی، وهذا هو المقطع الثالث من حیاة النبیّ موسى (علیه السلام).
کیف بدأ ظهور النبیّ موسى مصلحاً ومنجیاً أمام الفراعنة وأمام الأقباط، وأمام المجتمع من بنی إسرائیل؟ قال تعالى: (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الأْجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لأِهْلِهِ امْکُثُوا إِنِّی آنَسْتُ ناراً لَعَلِّی آتِیکُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّکُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتاها نُودِیَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الأْیْمَنِ فِی الْبُقْعَةِ الْمُبارَکَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ یا مُوسى إِنِّی أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِینَ) (9)، وتواصل الآیات: (اسْلُکْ یَدَکَ فِی جَیْبِکَ تَخْرُجْ بَیْضاءَ مِنْ غَیْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَیْکَ جَناحَکَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِکَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّکَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلاَئِهِ إِنَّهُمْ کانُوا قَوْماً فاسِقِینَ) (10)، هنا بدأ المسؤولیة فی الإعلان والظهور، فی سورة طه: (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) (11)، هذا النظام الجاثم على کبد البشریة فی تلک الحقبة التی تصفها الآیة الکریمة فی سورة القصص: (نَتْلُوا عَلَیْکَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِی الأْرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِیَعاً یَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ یُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَیَسْتَحْیِی نِساءَهُمْ إِنَّهُ کانَ مِنَ الْمُفْسِدِینَ) (12)، ظلم وفساد ملأ أرجاء الأرض من النظام الفرعونی، تأتی هنا حینئذٍ نهایة المطاف، وهی إعلان الظهور وبدء المأموریة، بأمر إلهی بظهور النبیّ موسى للإصلاح، یتلقّى موسى (علیه السلام) الأمر فیقول: (رَبِّ إِنِّی قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ یَقْتُلُونِ) (13)، یعنی ربَّما لن أوفَّق لأداء تمام المسؤولیة، فإنَّه لا خوف شخصی کما مرَّ سابقاً، بل إنَّ الخوف الذی ینتاب المصلحین الإلهیین والمنجین، لیس خوفاً شخصیاً من نزعة ذاتیة وحبّ الذات وحبّ البقاء، کیف وهم روّاد الشهود على البشریة، کنماذج بشریة اصطفاها الله عز وجل للإصلاح، وإنَّما خوف من عدم إتمام وإکمال البرنامج الإلهی، وعدم التوفیق فی الاضطلاع بأداء المهمّة الإلهیة کالإصلاح والإنجاء للمستضعفین والمظلومین فی الأرض، وقلع الفساد الذی یتفشّى فی أرجاء الأرض. نعم (وَأَخِی هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّی لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِی رِدْءاً یُصَدِّقُنِی إِنِّی أَخافُ أَنْ یُکَذِّبُونِ * قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَکَ بِأَخِیکَ وَنَجْعَلُ لَکُما سُلْطاناً فَلا یَصِلُونَ إِلَیْکُما...) (14)، أنظروا قوله تعالى: (وَنَجْعَلُ لَکُما سُلْطاناً)، أی إنَّ الحراسة الإلهیة والضمانة الإلهیة للمصلحین والمُنجین موجودة، فی حین لا تواکل ولا جبر ولا تفویض، وإنَّما أمر بین أمرین، التوکّل یعنی أن یقوم المصلح بأدواره، ومن وراء ذلک الحراسة الإلهیة، والضمانة الإلهیة موجودة.

ظاهرة اختفاء وغیبة الأنبیاء (علیهم السلام) سُنّة إلهیة:

بعد أن استکملنا ظاهرة النبیّ موسى (علیه السلام) باعتباره مصلحاً ومنجیاً إلهیاً وهادماً لعروش الفراعنة والظالمین وما رافق ذلک من خفاء ولادته (علیه السلام) وغیبته فی فترة ترعرعه ونموّه ونشوئه، ثمّ غیبته الثانیة فی بلاد مدین، ثمّ قیامه بالإعلان والظهور للإصلاح وإنقاذ بنی إسرائیل والبشریة من مخالب الظالمین والمفسدین، نواجه هنا هذا السؤال، وهو:
هل ما جرى فی ظاهرة النبیّ موسى (علیه السلام) المصلح المنجی الإلهی هو سُنّة إلهیة دائمة، أم حالة استثنائیة خاصّة بالنبیّ موسى (علیه السلام)؟
والجواب: بعد ما مرَّ بنا باقتضاب من ظاهرة النبیّ موسى (علیه السلام) کمبعوث إلهی مصلح لیُقوّض عروش الظالمین، ویُقوّض براثن الفساد وینجی وینقذ البشریة فی تلک الحقبة، نقول: لیس ما استعرضه لنا القرآن الکریم فی کلّ هذا الخضم هو لإشباع رغبة الخیال، بل إنَّها محطّات عقدیة اعتقادیة، وسنن إلهیة دائمة فی المصلحین والمنجین للبشریة.
هناک طائفة من الآیات القرآنیة تبیّن وتدلّل على أنَّ هذه السنن الإلهیة سنن دائمة ولیست سنناً مؤقّتة، قال تعالى: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِیلاً) (15)، وقوله: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِیلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِیلاً) (16).
فسننه فی الرسل والمصلحین والمنجین والمنقذین المبعوثین من قبله تعالى تتکرّر، سیّما مع طبایع البشر ونظامهم الاجتماعی، ونظام قوى الظلم والشرّ فی قِبال قوى الإصلاح الإلهی.
إذن العبرة فی مجریات الأحداث التی مرَّ بها الأنبیاء والرسل والتوقّف عندها لأنَّها محطّات اعتقادیة معرفیة ولیست محطّات عملیة لأجل عمل جوارح الإنسان.
قال تعالى: (لَقَدْ کانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ)، لیس قصَّة إسحاق ویعقوب ویوسف فقط، ففی ذیل سورة یوسف (قَصَصِهِمْ)، الضمیر یعود إلى کلّ الأنبیاء والمرسلین السابقین والمصلحین المبعوثین من قبل السماء لإنقاذ وإنجاء البشریة، سیّما مثل هذا الإصلاح الذی قام به النبیّ موسى، وما رافق ذلک من خفاء ولادته وغیبته الأولى والثانیة، وهذا نظیر وشبیه ما هو فی مدرسة أهل البیت فی إمامها الإمام المهدی من خفاء الولادة والغیبة الأولى والغیبة الثانیة، هذا عبرة لکم أنتم أیّها المسلمون، أنتم أیّها التالون لکتاب الله، لا تتلوا کتاب الله تلاوة لقلقة لسان من دون أن تتدبّروا معانیه، (وَلَقَدْ یَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّکْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّکِرٍ) ، (أَفَلا یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها).
إذن القرآن مفتوح بابه على مصراعیه للتدبّر وللتذکّر، فقصص الأنبیاء و المرسلین السابقین والأمم السابقة عبرة، عقدیة واعتقادیة، لأنَّ العقیدة کما مرَّ بنا هی واحدة فی کلّ بعثات الأنبیاء، والذی یُنسخ إنَّما هو الشرایع فی الفروع، فی الأحکام التفصیلیة العملیة فی فروع الدین، وأمَّا أصل أرکان الفروع فضلاً عن الأمور العقدیة والاعتقادیة فهذه لا نسخ فیها، وهل یمکن أن یتصوَّر فی توحید الله النسخ بین نبیّ وآخر والعیاذ بالله!، کلاَّ وحاشا!، أو فی الاعتقاد بالمعاد نسخ!، بل (إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللَّهِ الإْسْلامُ) ، من یوم خلق السموات والأرض، دین الإسلام کعقائد بعثت بها جمیع الأنبیاء منذ آدم إلى سیّد الأنبیاء (صلى الله علیه وآله وسلم)، فکلّ هذه الأمور الاعتقادیة هی عبرة (لأُِولِی الأَْلْبابِ ما کانَ حَدِیثاً یُفْتَرى)، إذن لیست هی ثرثرة قصص أو دعابة سمر لیلی یدغدغ الإنسان مشاعر خیاله بها، بل هی فی الواقع عِبَر سطّرها القرآن لنتّعظ بها، وسنن ستقع فی هذه الأمّة، وهذا بنفسه دلیل وبرهان عظیم على أنَّ ما وقع فی الأمم السابقة سیقع فی هذه الأمّة، کما فی روایات عن الفریقین وکما مرَّ سابقاً.
فقصصهم فیها تفاصیل عقدیة واعتقادیة، (وَتَفْصِیلَ کُلِّ شَیْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ)، الذین یؤمنون بالسنن الإلهیة یؤمنون بهذه المواقع الإلهیة وسنن الله تعالى فی أولیائه وحججه المصلحین للبشریة، فعلیکم أنتم أیّها الأمّة الأتباع لسیّد الرسل وآخر الأمم أن لا تجهلوا ذلک، وعلیکم التصدیق والإیمان بما یجری على حجج الله تعالى والأئمّة الاثنی عشر المستخلَفین من قِبَل رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم)، وأنَّ الثانی عشر منهم له غیبتان، وله خفاء ولادة، ومن قبل ولادته استدعی وسجن أبوه وجدّه فی قاعدة عسکریة تُدعى (سُرَّ من رأى). فمن الطبیعی إذن خفاء ولادته ولیس من المنطق التکذیب بها خصوصاً بعد أن بشَّر النبیّ (صلى الله علیه وآله وسلم) به فی متواتر الروایات، من أنَّ المهدی من ولده یُبعث مصلحاً منجیاً منقذاً.(17)
فمن خلال کلّ ذلک اتَّضح أنَّ ظاهرة نبیّ الله موسى لیست خاصّة به، بل هی سُنّة إلهیة حاصلة أیضاً فی أمّة رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم)، مضافاً إلى ذلک طائفة من الآیات القرآنیة التی تنبئنا بذلک

الخوف والترقّب عند موسى (علیه السلام):

فی ظاهرة النبیّ موسى (علیه السلام) هناک صفة یکرّرها القرآن الکریم فی جملة من السور، ألا وهی صفة الخوف والترقّب فی قوله تعالى: (فَأَصْبَحَ فِی الْمَدِینَةِ خائِفاً یَتَرَقَّبُ) ، وقوله تعالى: (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً یَتَرَقَّبُ) ، وقد مرَّ أنَّ هذا الخوف لیس خوفاً شخصیاً، وإنَّما خوف على أداء الرسالة وأداء البرنامج الإلهی فی إنجاء بنی إسرائیل من أنظمة الظالمین والمفسدین، والتعبیر بـ (خائِفاً یَتَرَقَّبُ) یوحی بأنَّ النبیّ موسى (علیه السلام) کان دوماً فی حالة استنفار وتوجّس وتحسّب أمنی منذ بدء نشأته، إلى أن أدّى ذلک الدور فی الظهور المعلن وتقویضه للأنظمة الفرعونیة وأنظمة الفساد والظلم یعنی حالة التعبئة والاستنفار الأمنی فی أثناء حرکته فی الخفاء وفی الغیبة، وحالة الترقّب هذه هی فی الواقع صفة مهمّة موجودة فی برامج المصلحین الإلهیین، فالذین یُعدّون لبرامج إصلاحیة إلهیّة عظیمة مؤثّرة فی مسیر ومصیر تاریخ البشر یکون الملف الأمنی نُصبَ أعینهم بشکل دائم، وهذا ما نشاهده فی الواقع فی العقیدة بالإمام المهدی (علیه السلام)، وهو أنَّ غیبته هی نوع من حالة التحسّب الصاعد إلى درجته القصوى فی البرنامج الأمنی، لکی تستتمّ له المواصلة فی مسیر برنامج الوصول إلى درجة الصفر فی الإصلاح وهی ساعة الظهور، فهذه صفة أخرى أکَّدها القرآن الکریم فی أولیائه الحجج المصلحین المنقذین، یجب أن نلتفت إلیها، مضافاً إلى صفة الخوف التی هی هنا بمعنى الحیطة على البرنامج الإلهی المسند إلیه والمکلّف به، وأنَّه فی مدّة خفاء ولادة النبیّ موسى وغیبته کانت هناک تعبئة لشیعته المؤمنین به وبالإصلاح على یدیه، حیث قال لهم کما فی الآیة: (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِینُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَْرْضَ لِلَّهِ یُورِثُها مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ) (18)، ممَّا یدلّل على أنَّ شیعة النبیّ موسى لاقوا من الأذى والهوان إلى درجة بلغ بها السیل الزبا، وقد حدَّثنا القرآن الکریم فی سور عدیدة أنَّ شیعة النبیّ موسى قبل ظهوره بالإصلاح وانتصاره على أنظمة الظلم وأنظمة الفراعنة، لاقوا من الظالمین والمفسدین ما لاقوا من الظلم والاضطهاد والذبح، وإسالة الدماء وقطع وإبادة النسل کما فی قوله عز وجل: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِی الأْرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِیَعاً یَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ یُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَیَسْتَحْیِی نِساءَهُمْ إِنَّهُ کانَ مِنَ الْمُفْسِدِینَ).
فالمحنة کانت شدیدة، ولها فی الواقع وجه شَبَه أیضاً مع المؤمنین بالإمام المهدی (علیه السلام) ممَّن یکنُّ مودَّته ومشایعته، فیوطّن نفسه على مثل هذا الامتحان قبل ظهور الحجّة، وهذه عِظة یقف عندها المؤمن والمسلم القارئ للقرآن الکریم کی یتَّعظ من هذه المشاهد فی حجج الله المصلحین، ویأخذها عِظة وعِبرة ودرساً عقائدیاً عقدیاً فیما یعتقده بالإمام المهدی (علیه السلام)، وإجابة لهذه التساؤلات والإثارات الکثیرة حول العقیدة بالإمام المهدی (علیه السلام).
المصادر :
1- القصص: 19
2- القصص: 17
3- القصص: 18
4- القصص: 20
5- القصص: 21
6- القصص: 22
7- القصص: 27 – 29
8- الکافی 5: 414/ باب التزویج بالإجارة/ ح 1
9- القصص: 29 و30
10- القصص: 32
11- طه: 24
12- القصص: 3 و4
13- القصص: 33
14- القصص: 33 – 35
15- الأحزاب: 62
16- فاطر: 43
17- کمال الدین: 286/ باب وقوع الغیبة بالقائم (علیه السلام)/ ح 1
18- الأعراف: 128



 

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.