فی الزمن الّذی تشنّ فیه الحملات الإعلامیّة المعادیة لتقدیم الدِّین والإسلام على وجه الخصوص کدین للتخلّف والجهل والتعصّب والخرافة والرجعیّة وما شاکل، من المحزن أن نحتاج لنتکلّم ونستدلّ وندافع عن أمر واضح وبیِّن لکلّ ذی لبٍّ فی معرکة یمتلک فیها خصومنا - قوى الاستکبار فی العالم- کلّ عناصر الدعایة والإعلام ومراکز الدراسات.
اللهُ تعالى مصدرُ العلم
أنزل الله سبحانه وتعالى الکتب السماویّة، وبعث الأنبیاء والرسل - قادة الدین- إلى البشریّة لهدایتها وتوعیتها وإنذارها، یقول تعالى:﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ لِئَلاَّ یَکُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَکَانَ اللّهُ عَزِیزًا حَکِیمًا﴾(1)، ویقول سبحانه: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّکَ الَّذِی خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّکَ الْأَکْرَمُ * الَّذِی عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ یَعْلَمْ﴾(2) فالله سبحانه وتعالى هو الّذی علم الإنسان ما لم یعلم، فالدین مصدره الله والعلم مصدره الله.
إلا أنّ هناک من یصرّ على فرضیّة الصراع بین الدِّین والعلم، ویعتبر أنّهما لا یجتمعان بل إنّ هناک تناقضاً بینهما. إلا أنّ الواقع والتاریخ یکذبان هذه الفرضیّة؛ فالأنبیاء والرسل علیهم السلام لم یکونوا فقط مبلّغی رسالات الدین، بل کانوا أیضاً معلّمی البشریّة فی الکثیر من مجالات العلم بل إنّ العلماء الألبّاء عجزوا أمام معارف الأنبیاء الموهوبة من الله تعالى وهذا ما نراه جلیّاً فی أحوال نبیّ الله عیسى بن مریم علیه السلام حیث أحیا بعلمه الإلهیّ الموتى وشفا الأعمى والمرضى: ﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِی إِسْرَائِیلَ أَنِّی قَدْ جِئْتُکُم بِآیَةٍ مِّن رَّبِّکُمْ أَنِّی أَخْلُقُ لَکُم مِّنَ الطِّینِ کَهَیْئَةِ الطَّیْرِ فَأَنفُخُ فِیهِ فَیَکُونُ طَیْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأکْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْیِی الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُکُم بِمَا تَأْکُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِی بُیُوتِکُمْ إِنَّ فِی ذَلِکَ لآیَةً لَّکُمْ إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ﴾(3).
أمّا مکانة العلم والعلماء فی القرآن والروایات فإنّها ممّا تعجز به کلماتنا عن الإحاطة ببعض من شأنه أو شیء من مقامه ویکفینا قول الله سبحانه: ﴿یَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنکُمْ وَالَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾(4) وبذلک نتبیّن أنّه ما من دین أو عقیدة أو فکر أو حضارة تحدّثت عن العلم والمعرفة ومکانة العلماء وحثّت على طلب العلم وبیّنت قیمة ودرجة وأثر العلم فی الدنیا وفی الآخرة کما فعل الإسلام العظیم وخاتم النبیّین محمّد بن عبد الله صلى الله علیه وآله وسلم. ولم یکن أحدٌ قبل رسول الإسلام قد خطر فی باله أن یجعل فداء الأسرى الّذین وقعوا فی ید المسلمین فی معرکة بدر بأن یعلّم کلّ أسیر عشرة من المسلمین! حتّى الفدیة أراد صلى الله علیه وآله وسلم أن یوظّفها فی خدمة العلم والتعلّم والمعرفة.
وصیّة الأنبیاء والکتب السماویّة
ونحن إذ نؤکّد على هذه الحقیقة الإسلامیّة الراسخة وهذه المکانة العالیة للعلم والعلماء والمتعلّمین والمعلمین، لا نتحدّث عن العلوم الدینیّة فقط کما قد یشتبه البعض، بل نتحدّث عن کلّ علم ومعرفة تقرّب الإنسان من الله سبحانه وتعالى، وتجعل الإنسان فی خدمة أهله ومجتمعه وأمّته وکلّ البشریّة. کلّ علم نافع من هذا النوع هو العلم الممدوح، هو العلم الّذی یرفع أهله درجات فی الدنیا وفی الآخرة، وهو العلم الّذی وصّى به الأنبیاء والرسل وکتب الله السماویّة.
نحن کمسلمین نقدّم جواباً واقعیّاً وعملیّاً. نعم، إن کانت هناک بعض التجارب الّتی تنسب نفسها إلى الإسلام قد ارتکبت أخطاءً قاتلة من هذا النوع، فالّذی یتحمّل المسؤولیّة هم أصحاب هذه التجربة، ولیس الإسلام ولا نبیّه ولا قرآنه الّذی من أوّل آیة فیه إلى آخر آیة یمتلئ بالمعرفة والعلم والحدیث عن الإنسان -الذکر والأنثى- فی هذه الرحلة العظیمة وفی هذا الکدح الطویل إلى الله سبحانه وتعالى. هذا هو الجواب العملی. لا نحتاج إلى التنظیر ولا إلى الاستدلال ولا إلى القول بأنّ الإسلام هو لیس کذلک. القرآن یقول هذا والأحادیث تؤکّد هذا المضمون أیضاً.
وما أروع هذا الحدیث الّذی نختم به هذه الفقرة وبه نتبیّن عظمة العلم ومکانته الحقیقیّة فی الإسلام، فعن أبی بصیر قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: "کان أمیر المؤمنین علیه السلام یقول: یا طالب العلم إنّ العلم ذو فضائل کثیرة: فرأسه التواضع، وعینه البراءة من الحسد، وأذنه الفهم، ولسانه الصدق، وحفظه الفحص، وقلبه حسن النیّة، وعقله معرفة الأشیاء والأمور، ویده الرحمة، ورجله زیارة العلماء، وهمّته السلامة، وحکمته الورع، ومستقرّه النجاة، وقائده العافیة، ومرکبه الوفاء، و سلاحه لین الکلمة، وسیفه الرضا، وقوسه المداراة، وجیشه محاورة العلماء، و ماله الأدب، وذخیرته اجتناب الذنوب، وزاده المعروف، وماؤه الموادعة، ودلیله الهدى، ورفیقه محبّة الأخیار"(5).
لیس للعلم حدود
الإسلام یؤکّد على الحاجة إلى المعرفة والعلم والتعلّم، ولیس فی مرحلة محدّدة من عمر الإنسان بل من المهد إلى اللحد. العلم لیس له حدود ولیس له نهایة، وعلى الإنسان أن یبقى عاشقاً للعلم ولا یتعاطى مع العلم فقط کوسیلة للعیش. وهذا من خصوصیّات التوجیه الإسلامیّ.
قد نتعاطى مع العلم کمصدر للعیش وکمصدر للقوّة وکمصدر لمعالجة المشکلات الّتی یعیشها الناس، ولکن علینا أن ننظر إلى العلم والمعرفة کقیمة إیمانیّة ذاتیّة أیضاً ونرتبط معه ارتباطاً عشقیّاً وحبّیّاً روحیّاً. هذا ما أکّدته ورسّخته تعالیم الإسلام.
یجب أن لا یکون لطموحاتنا العلمیّة ولا لأحلامنا العلمیّة حدود، أیّاً تکن الصعوبات الاجتماعیّة والحیاتیّة والمعیشیّة الّتی تُحیط بنا، وأیّاً تکن الظروف الّتی عشناها فی السابق أو الّتی یمکن أن نواجهها فی المستقبل. العلم والمعرفة بالنسبة لنا، هما مسألتان ضروریّتان لازمتان سواء فی البعد الإیمانیّ، لأنّه ﴿إِنَّمَا یَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِیزٌ غَفُورٌ﴾(6)، أم فی البعد الاجتماعیّ الحضاریّ لأنّ الحیاة باتت متطلّباتها کبیرة وعظیمة وخطیرة جدّاً، ولأنّ الاستحقاقات المقبلة أیضاً لا مکان فیها للضعفاء. والضعفاء لیسوا فقط من لا یملکون المال ولا یملکون السلاح. أوّل الضعفاء هم الجهلة، هم الّذین یعیشون عالة على حضارات الغیر، هم الّذین لا یستطیعون أن یعالجوا مشاکلهم من خلال قدراتهم واختصاصاتهم وخبراتهم الوطنیّة والقومیّة. لذلک، إذا کنّا نؤمن بأنّنا فی عالم ینتصر فیه القویّ، ویُحترم فیه القوی ویبقى فیه القوی، فعندها یجب أن نبحث ونسعى للحصول على کلّ عناصر القوّة وفی مقدّمتها العلم فی کلّ اختصاصاته الّتی تحتاج إلیها أمّتنا.
فی مواجهة التحدّیات
ولا بأس أن، نتحدّث عن مسؤولیّة إنسانیّة ودینیّة وحضاریّة، عن مسؤولیّة تجاه أمّة، عن مسؤولیّة فی المعرکة ولیس عن مسؤولیّة فی دائرة الحیاة الشخصیّة. نؤکّد على المسؤولیّة العامّة لشعوب المنطقة وشعوب عالمنا العربی والإسلامیّ وخصوصاً على الطلّاب الجامعیّین. لیس هناک أیّ مشکلة فی أنّ الفرد عندما یتخرّج من الجامعة یعود إلى حیاته الشخصیّة ویفکّر ویخطّط کیف یؤمّن فرصة عمل وکیف یهیّئ منزلاً وعائلة، هذا أمر طبیعیّ وفطریّ، هذا أمر مشروع ومستحبّ أیضاً فلا یُشْعِرْه أحد بعقدة تجاه هذا الموضوع أبداً. "الکادُّ على عیاله کالمجاهد فی سبیل الله"(7). هذا دیننا وهذا إسلامنا.
مشکلة الجامعیّین فی العالم الإسلامیّ
على الإنسان أن یتحمّل هذه المسؤولیّة، وهذا لا یتنافى على الإطلاق مع المساهمة فی التحدّیات والمسؤولیّات الجهادیّة والسیاسیّة والثوریّة. الحقیقة أنّ المرض السائد الآن فی الأمّة هو أنّ الکثیر من طلّاب الجامعات وخرّیجی الجامعات فی عالمنا العربیّ والإسلامیّ ینکفئون للاهتمام بحیاتهم الشخصیّة، وبالتالی، لا تجدهم فی المواجهات العامّة وفی المراحل الخطیرة. عِلماً أنّ الطاقة الحقیقیّة فی الأمّة هی فی أجیال الشباب، فی شبابها بالدرجة الأولى، الشباب الّذین یملکون الصحّة، العنفوان، والطاقة، الشباب الّذین یملکون الأمل، وبالتالی هؤلاء الشباب یتحمّلون مسؤولیّة کبیرة فی مواجهة التحدّیات، ونحن بحاجة إلى حضور کبیر لأجیال الشباب ولطلّاب الجامعات فی ساحات المواجهة والتحدّی.
ولا بدّ من التأکید على أنّ هذا العلم وهذه المعرفة تبقى مفیدة للإنسانیّة إذا بقیت قائمة على قاعدة الإیمان بالله والتسلیم له والاعتقاد بعظمته وقدرته وجبروته، وإلّا فکما قالت الآیات الّتی تتحدّث عن العلم: ﴿عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ یَعْلَمْ﴾ إلى أن تقول ﴿کَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَیَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾(8). إنّ الّذی یتصوّر أنّه وصل إلى مقام من العلم والقوّة ومقام من الغنى لا یُدانیه أحد، مقام یستغنی به عن الله عزّ وجلّ، عن خالق الخلق ورازقهم وعن منزّل العلم وحافظ هذا الوجود، یصل إلى مرحلة الطغیان والجبروت وادّعاء الألوهیّة الّتی فی لحظة من اللحظات ینکشف عجزها.
خلاصة الکلام
إنّ العلم یعیش فی حضن الإیمان، الإیمان الّذی یعنی أنّ: "الله حاضرٌ وحافظٌ ومراقبٌ لهذا الوجود"، وعلیه فینبغی للإنسان أن یبقی هذه الفکرة حیّة وقائمة فی وجدانه کلّ لحظة. الإیمان إلى جانب هذا العلم یحفظ التواضع ویحفظ القیم الأخلاقیّة ویحفظ روح خدمة البشریّة ویمنع من العتوّ والغلوّ والعلوّ والطغیان والتجبّر والاستکبار والفساد والإفساد.
أمّا العلم بعیداً عن هذا الإیمان، فهو من أخطر الأسلحة الّتی هدّدت البشریّة وعرّضت البشریّة للمخاطر. العلم هنا یُصبح من أخطر الأسلحة الّتی تدمّر البشریّة وتسحق الناس فی مشارق الأرض ومغاربها. ولذلک، فإنّ عظمة الإسلام تکمن فی هذه النقطة أیضاً الّتی تدعو إلى العلم وتحثّ على العلم وترفع من درجة العلماء، ولکنّها تضع العلم بعد الإیمان، وفی حضن الإیمان وفی ظلّه وفی حاکمیّته حتّى لا تتفلّت هذه القوى العلمیّة الضخمة وتتحوّل إلى مأساة.
إنّ قدر هذه الأمّة أن تواجه الأخطار والتحدّیات ولیس خیارها. قدر هذه الأمّة أن تقاوم، وقدر هذه الأمّة أن تنتصر، لأنّ الله سبحانه وتعالى وعدها بالنصر، فقط عندما تکون الأمّةَ الحیّةَ العازمةَ المتوکّلةَ الحاضرةَ.
﴿وَلَیَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن یَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ﴾(9).
المصادر :
1- سورة النساء، الآیة: 165
2- سورة العلق، الآیات: 1- 5
3- سورة آل عمران: الآیة:49
4- سورة المجادلة، الآیة:11
5- الکافی، الکلینی، ج1، ص48
6- سورة فاطر، الآیة: 28
7- فقه الرضا، ابن بابویه، ص208
8- سورة العلق، الآیتان: 6- 7
9- سورة الحجّ، الآیة:40
/ج