طبیعة التشریع الإسلامی

لقضیة القائد المنتظر دلالة عمیقة على حقیقة أساسیة من حقائق هذا الدین. ولأنّ هذه الحقیقة هی بمثابة القاعدة التی ترتکز علیها طبیعة تعاملنا مع هذا الدین، فقد جهد العدو فی تحطیم هذه القاعدة، ورسم صورة معاکسة لها فی فکر الإنسان المسلم..
Friday, April 11, 2014
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
طبیعة التشریع الإسلامی
 طبیعة التشریع الإسلامی

 





 
 
 
لقضیة القائد المنتظر دلالة عمیقة على حقیقة أساسیة من حقائق هذا الدین. ولأنّ هذه الحقیقة هی بمثابة القاعدة التی ترتکز علیها طبیعة تعاملنا مع هذا الدین، فقد جهد العدو فی تحطیم هذه القاعدة، ورسم صورة معاکسة لها فی فکر الإنسان المسلم..
ما هی هذه الحقیقة القاعدة؟
وکیف تؤکّدها وتعمّقها قضیة القائد المنتظر؟
هذه الحقیقة هی: جدارة النظام الإسلامی بحلّ مشاکل البشریة. فالبشریة مهما شهدت من أنحاء التقلبات، اقتصادیاً، واجتماعیاً، وسیاسیاً، ونفسیاً. مهما امتدّ بها الزمن، وتصرّمت بها القرون. فإنّ الحل الإسلامی یبقى وحده هو القادر على إشباع حاجاتها، ومنهجة حیاتها بالنحو الأکمل والأفضل. إنّه بمقدار ما تظلّ الحلول الوضعیة المصطنعة عاجزة عن إنقاذ البشریة، وانتشالها من ودیان الطیش، الضلال، الشقاء والبؤس، فإنّ الحل الإسلامی یبقى قادراً، وجدیراً، بأن یجهّز البشریة بأروع خریطة لبنائها الاقتصادی والاجتماعی والسیاسی والنفسی.
المرحلة دائماً هی مرحلة الحلّ الإسلامی. والإسلام یبقى جاهزاً للتطبیق دوماً، وقادراً على نقض الرکام الذی خلّفته جاهلیة القرن العشرین على متون البشریة. هذه حقیقة من حقائق الإسلام. وهی طبیعة التشریع الإسلامی. وإنّها حقیقة لم تکن بحاجة إلى برهان، فرسالة الإسلام هی خاتمة الرسالات، ونبوّة محمّد صلى الله علیه وآله هی خاتمة النبوّات، ماذا یعنی ذلک؟
ألیس یعنی أنّ شریعة الإسلام تستقطب عمر البشریة إلى الأخیر، دون حاجة إلى تعدیل، أو تغییر فی بنود هذه الرسالة.
لقد ضاعت هذه الحقیقة على عدد من الناس. من الناس المسلمین بالطبع. حین أراد عدوّنا أن یسلب منّا الإسلام، والعمل للإسلام، بدأ بهذه الحقیقة، لنفقد ثقتنا بالإسلام، وأملنا فی أن یبدأ الإسلام یوماً عملیة التغییر. بعض المساکین نجحت معهم عملیة غسل الدماغ، وغسل النفس أیضاً، بدأوا یشکّون فی قدرة الإسلام على حلّ مشاکل الإنسانیة الضائعة، وفقدوا الأمل فی قدرة الإسلام على تغییر هذا المجتمع المعقّد.
ماذا یقولون؟
وما ینظر هؤلاء المساکین؟
البشریة تطوّرت. سبل الحیاة تعقّدت. لم یعد المجتمع هو المجتمع الذی عاشه الإسلام قبل قرون. کل شیء تغیّر، حتى نفوس الناس وأمزجتهم. الحیاة صعبة، صعبة. الحیاة أصبحت صورة جدیدة، لا یوجد بینها وبین الماضی خیط شبه. مشاکل ضخمة، ومعقّدة, وجدیدة.
الأرض غیر الأرض، الناس غیر الناس، والحیاة غیر الحیاة، کیف یبقى الحلّ الإسلامی جدیراً؟
ولو کان جدیراً، فکیف یستطیع أن یغیّر هذا الترکیب البشری المعقّد؟
أم هل سینجح فی عملیة التغییر؟
یقولون: لا
الخلق الإسلامی لم یعد مقبولاً، ولا مهضوماً.والناس أینما کان الشرّ کانوا معه. إنّهم لا یقبلون الحق. وإذن.. فهم لا یقبلون الإصلاح. ومهما جهدت فی تغییرهم فإنّک ستدور فی فراغ.
تلک مقالة أصحابنا المساکین.
لقد أوحیت لهم إیحاءً، وهی نتیجة أراد العدو أن یصلوا إلیها.
والحدیث مع هؤلاء قد یکون طویلاً لو أردت أن أعرض لهم نظام الإسلام، وأوقفهم على جوهر التغیّر الذی تعیشه البشریة، کیما نرى جدارة الحلّ الإسلامی أم لا!
لکنّی لا أستطیع هنا أن أفعل ذلک، فإنّه یکلّفنی الخروج عن دائرة بحثی.
ولذا فإنّ ما سأفعله الآن هو الإشارة إلى التناقض الذی یتورّط فیه هؤلاء الذین یشکّون فی جدارة الإسلام.
کیف یؤمنون بأنّ رسالة الإسلام هی خاتمة الرسالات؟
ولو کان الحل الإسلامی قد استنفذ طاقته. ألسنا بحاجة إلى رسالة جدیدة؟
أمّا إذا کنّا نؤمن بأنّ الإسلام هو الشریعة الخاتمة، فذاک یدعونا إلى الاحتفاظ بثقتنا بالإسلام بوصفه الحلّ الجدیر لمشاکل البشریة.
نحن أمام الخیار التالی:
إمّا أن نثق بجدارة الإسلام فی حل مشاکل البشریة، وإمّا أن نتّهم السماء التی لم تسعفنا برسالة جدیدة، وختمت دورها بالإسلام.
وفی مجرى هذا الحدیث یکون لقضیة القائد المنتظر مشارکة فعّالة.
ما تقول لنا هذه القضیة؟
وماذا تشرح لنا عن قیمومة هذا الدین الأبدی؟
سأوضّح ذلک:
حینما نؤمن بالقائد المنتظر. وحینما ننتظر ثورته المظفّرة. ننتظر الساعة التی یحکم فیها الحق، والإسلام، والسلام. الساعة التی تملأ فیها الأرض بالقسط وتسعد بالعدالة. إنّ ذلک یؤکّد لنا ضرورة الثقة بالإسلام. فمهما بدت التقلّبات والتطورات البشریة کبیرة ومستوعبة، فإنّ ذلک لا یمنع عن نجاح الإسلام، وإنّ ذلک لا یمنع عن بقاء الحل الإسلامی هو الحل القادر على معالجة العقدة البشریة. وبناء أفضل مجتمع إنسانی.
حین نؤمن حقیقة بالقائد المنتظر لا یبقى لنا مجال للشک فی الإسلام، وجدارة الإسلام.
انزلوا إلى أعماق قضیة القائد المنتظر، وانظروا ماذا تعکس لنا من ثقة، ومن مفاهیم.
کیف نستطیع أن نصدّق بنهضته الکبرى، وانتصار الإسلام، ثمّ یراودنا الشک فی قدرة الإسلام على حل مشاکل العصر.
ألیس ذلک تهافتاً فی القول، والعقیدة.
ونحن حینما نکون على ترقّب دائم، وانتظار متّصل، لثورة الإمام المهدی علیه السلام، ألیس ذلک یعنی الثقة بأنّ الإسلام لیس فقط صحیحاً، وإنّما هو قادر على التغییر، وخلق المجتمع المسلم، وتطبیق أحکامه فی الأرض؟!
أولئک الذین أذهلتهم التقلّبات البشریة. أولئک الذین قالوا: إنّ الناس غیر الناس، والحیاة غیر الحیاة.
وتساءلوا بعجب:
کیف سیغیّر الإسلام هذه النفوس التی تعوّدت على الضلال. هؤلاء ما هو رأیهم فی النصر العمیم الذی ستظفر به ثورة القائد العظیم.
إنّ الأرض ستملأ بالقسط والعدل. إنّ الإسلام سیسود ویحکم، ویغیّر، ویخلق الإنسانیة الجدیدة التی هو یریدها. وإذا کنّا نشک فی قدرة الإسلام على ذلک، فالأجدر بنا أن لا نؤمن بالقائد المنتظر!
سیعود الذین آمنوا بالإسلام، ووثقوا بحکم الإسلام، وعرفوا حقیقة الإسلام، سیعود هؤلاء حکّاماً فی الأرض، خلفاء لله على البریة.
(وَعَدَ اللهُ الّذینَ آمنُوُا مِنْکُمْ وَعَمِلُوُا الصّاِلِحاتِ، لَیَسْتَخْلِفَنّهُمْ فی الأَرْضِ..).(1)
سوف تتحطّم کل قلاع الکفر والضلال. سوف تتبخّر کل العقبات، وتنسحب أمام تیّار الإسلام. سوف تذوب کما یذوب الجلید تحت وهج الشمس کل الحواجز الموهومة. الإسلام له یوم یثبت للناس کیف سیحقّّق لهم العدالة، والسعادة المنشودة. کیف أنّه جدیر وحده بإنقاذ أبناء الأرض من ودیان البؤس والشقاء. إنّه الشریعة الخالدة. الشریعة التی ستحکم، وتنتصر. حینما أکّد القرآن أنّ الأرض سیرثها عبادی الصالحون. وحینما رسّخ أهل البیت هذا المفهوم، وعبّروا عنه بقضیة القائد المنتظر. وحینما أضحت هذه القضیة أهم قضیة فی قاموس الفکر الشیعی. لم یکن ذلک عبثاً، وبدون عطاء. لقد کان ذلک من أجل أن لا نفقد الثقة العلمیة بإسلامنا. ومن أجل أن لا یغمرنا الشک فی قدرة إسلامنا على التغییر.
إنّ الفکر الشیعی حینما یعمّق فکرة الإمام المنتظر علیه السلام ، یکون قد خلق أمنع حصن، وبنى أرکز قاعدة، تمنع عن تسرّب الشک فی الإسلام إلى الإنسان المسلم. لقد کان أروع تحصین قدّمه الفکر الشیعی فی قضیة القائد المنتظر.
حینما نؤمن بهذه القضیة، ویکون إیماننا حقاً، وإیماناً واعیاً، نکون قد ضبطنا صمّام الأمان، وکسرنا عود الشک، وتجاوزنا أوهام العدو، وعاصفته بسلام.
یعتبر تأریخ البشریة منذ أعمق امتداداته تأریخ صراع مریر بین قوى الخیر وقوى الشر. بین جبهة الحق وجبهة الباطل. هذا الصراع لم یتوقّف لحظة فی طول عمر البشریة، ولم یفتر. مظاهر هذا الصراع متعدّدة، ومتنوّعة، ومستقطبة. والأدوات التی استخدمت فی هذا الصراع هی الأخرى متعدّدة ومتنوّعة، کل واحد من البشر شارک فی هذا الصراع. وأیّ عمل تصادفه تستطیع أن تعرف إلى أی جبهة ینتمی، إلى الحق أم إلى الباطل. وهذا الصراع ینعکس على الإنسان الواحد، ففی أعماق نفسه نزعات خیر، ونزعات شر، ومواقف الإنسان تخضع لطبیعة الصراع بین هذه النزعات، وتلک قضیة تصدق حتى على الرسل:
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِیٍ إلاّ إذا تَمَنّى أَلْقى الشّیْطُانُ فی أُمْنیَّتِهِ فَیَنْسَخُ اللهُ ما یُلْقِی الشّیْطان...).(2)
مظاهر هذا الصراع تمتد إلى أعماق التأریخ، بل إلى بدایات التأریخ.
فمنذ أولاد آدم والخلاف الذی نشب بینهما سجّلت أوّل جریمة على الأرض، فی أوّل جولة من جولات الصراع.
ولقد مثّل الأنبیاء والرسل على طول التأریخ الرادة المخلصین لجبهة الحق، وکان یقف فی نفس الجبهة الأوصیاء، وکل أتباع الرسل.
بینما کان یقف فی الجبهة المقابلة الوجوه النفعیة، وأصحاب الذوات الانتهازیة، أو العقد النفسیة، سواء ما تسترّ منهم بقناع الإیمان، أو ما بدا مکشوفاً یعلن الشرک والجحود.
ولقد تعاقب على قیادة جبهة الحق مائة وأربعة وعشرون ألف نبی، یعزّز بعضهم بعضاً، ویدفع إلى الإمام عجلة الحق کلّما تسرّب إلیها الوهن والتعب.
(إذْ أَرْسَلْنا إِلَیْهِمُ اثْنَیْنِ فَکَذَّبُوُهُما فَعَزَّزْنا بَثالِث، فَقالُوا إنّا إلیْکُمْ مُرْسَلُونَ).(3)
وکل نبوّة جدیدة تواجه صراعاً جدیداً متوقعاً، وعناداً عن الحق یرتکبه النفعیون.
(وَما أَرْسَلْنا فی قَرْیَةٍ مِنْ نَذِیرٍ إلاّ قالَ مُتْرَفُوُها إنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ کافِرُونَ).(4)
وبالطبع فإنّ نتیجة الصراع لم تکن واحدة. فهناک انتصارات متبادلة، وبالمثل تراجعات متبادلة. والبشریة على هذا المنوال إلى الیوم الحاضر. وستبقى غیر جازعة، ولا متهاونة.
لمن نهایة الصراع؟
بعض الناس یحملون روح التشاؤم، وآخرون یحملون روح الخوف. وأولئک وهؤلاء یقلقون على مصیر الحق. هل یمکن أن یفوز یوماً ما؟ وکیف ذلک؟ ها هو الباطل یحکم الشعوب! وما تزال الأرض تشهد حکم الطاغوت! بل وکل الأرض فی قبضة الکف السوداء!
فأین الحق، وأین جیش الحق؟
إلا أننّا لا نستطیع أن نمضی مع هذا المنطق التشاؤمی. فالحق الکامل لا یوجد فی الأرض. لکن هل یوجد باطل کامل فی الأرض؟
إنّ مع کل باطل فی هذه الأرض قدراً من الحق، وهذا الحق یحکم، وینفذ ویطبّق. وحینما نتوقع أن نجد حقاً محضاً خالصاً فی هذه الأرض فإنّنا سنخیب یقیناً. وتبدو لنا الصورة قاتمة.
لکن لماذا نفعل ذلک؟
إنّ التوحید حق، والإسلام حق، والتشیع حق. وفی حکومة الخلفاء العباسیین کان هناک حق یحکم وباطل یحکم. هناک حق یحکم. فالتوحید منتصر، والإسلام على إجماله منتصر. وهناک باطل یحکم، فالخط الإسلامی الأصیل مشرّد، ومطرود، ومعذّب والإسلام لا یملک الفرص الکافیة لبناء المجتمع القویم. انحرافات الخلفاء کثیرة، والجور مبثوث فی کل مکان. لکن لم یکن ذلک یعنی أنّ الباطل وحده هو الذی یحکم.
ألم یکن الإمام علی بن الحسین علیه السلام یدعو لجیوش المسلمین فی العهد الأموی، بالانتصار على جیوش الروم؟ إذن فهی تعبّر عن حق. إنّک تستطیع أن تجد الحق فی کل مکان، وفی کل موقع، لکن لن تجده وحده بالطبع. حکومات الغرب، وحضارة الغرب کم بلغت من الانحراف؟
لکن ألست تجد فیها الإیمان بالله؟ مهما تکن طبیعة هذا الیمان.
وقد لا تجد فیها الحریة الکاملة، لکن ألست تجد فیها بعض الحریة؟
ومهما یکن القانون غارقاً فی الظلم والتعسّف، لکن قد یصیب بعض الحق حینما یمنع المعتدین، والمستغلین والنفعیین.
وإذا کان الحق یواجه افتراقات وصراعات داخلیة قد تضعف جبهته. ألم یکن الباطل مثل ذلک؟
إنّ صف الباطل لم یسلم من الاشتباکات الداخلیة، ولم یطب له العیش یوماً، کلّما أتت أمّة لعنت أختها.
(تَحْسَبُهُمْ جَمِیعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّى).(5)
وأنت لا تجد وجهاً واحداً یدوم له العرش. إنّه سیقهر حتماً أمام قوىً أخرى، ولتکن من فصیلة الباطل، إلاّ أنها کثیراً ما تحمل قسماً من الحق. ومن هنا فالباطل فی صراع، کما الحق فی صراع:
(وَقالَتِ الیَهُوُدُ لَیْسَتِ النّصارى على شَیءٍ وَقالَتِ النّصارى لَیْسَتِ الیَهُوُدُ على شَیء).(6)
وبمقدار ما ینحسر الباطل یتقدّم الحق خطوات. وجبهة الحق مهما بدت سلیمة، فإنّها تعیش الصراع. إننا بحاجة إلى عمق فی الرؤیة.
(إنْ یَمْسَسْکُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُه).(7)
(إنْ تَکُوُنُوا تَألَمُونَ فَإنّهُم یَألَمُونَ کَما تَألَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مالا یَرْجُوُن).(8)
لقد عالج القرآن نقطة الضعف التی أحسّها فی المسلمین حین أصیبوا بنکبة، فألفتهم بسرعة إلى أنّ العدو یشکو مثل شکواکم، وتلک حقیقة صادقة إلى الأبد. حین کانت جیوش النصارى تتقدّم، ألم تکن الکنیسة تعیش صراعاً عمیقاً بین الکاثولیک والبروتستانت، لغایة التحرّر من بعض تعسّفات الکاثولیک، واضطهادهم. وحینما یزحف الجیش الشیوعی فی العصر الحاضر، ألسنا نشهد أکبر انشقاق بین اتّجاهین فیه.
وفی کل مکان تجد یمیناً ویساراً ووسطاً!
ألیس الحق هو المستفید من هذه التناقضات؟
لمن نهایة الصراع؟
مرّة أخرى نعود لنطرح هذا السؤال، لکننا هذه المرّة نطرحه على قضیة القائد المنتظر لنجیب. لقد أعلن القرآن عن خاتمة الصراع الطویل.
الصراع الذی بدأ منذ الیوم الأوّل من عمر البشریة. الصراع الذی عاشته البشریة طوال مسیرتها المکدودة. خاتمة هذا الصراع للحق، والحق وحده.
(وَعَدَ اللهُ الّذینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ، لَیَسْتَخْلِفَنّهُمْ فی الأَرْضِ، کَما اسْتَخْلَفَ الّذینَ مِنْ قَبْلِهِم وَلِیُمَکّنَنّ لَهُم دِینَهم الذی ارْتَضى لَهُم وَلیُبَدّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً...).(9)
(وَنُریدُ أنْ نمُنَّ على الّذین اسْتُضْعِفُوا فی الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارِثین).(10)
وقضیة القائد المنتظر هی تجسید لهذا الوعد، وتعمیق لإیماننا به. إنّها تبعد عنّا شبح الیأس تدفع بنا فی قلب المعرکة، أبطالاً متمرّسین، واثقین بأنّ النصر حلیفنا وأنّ الموت للعدو. داعی للقلق على مصیر الحق. تبهرنا جیوش الانحراف. صخرة الباطل مهما بدت شامخة، ومهما توطّدت فی الأرض، فإنّها ستتحطم یوماً ما. إنّ حکم الطاغوت لن یدوم، ولن یهنأ له العیش. إنّ حکم الطاغوت مهما تجبّر، وتعملق، وشمخ فی العلو، فإنّه سیخسر الجولة، ویتهشم تحت وطأة الحق.
(وَلا یَغُرنّکَ تَقَلّبُ الّذینَ کَفَرُوا فی البلاد).(11)
نعم..
إنّ الأرض سیخیّم علیها الظلام، والظلم. لکن حجب الباطل مهما تکاثفت فإنّها لا تمکث طویلاً أمام وهج الشمس. سیزول الظلام، وتملأ الأرض بالقسط والعدل. هکذا تحدّثنا قضیة القائد المنتظر. هؤلاء الذین قطع الیأس آخر آمالهم، وملکهم الانهیار. هؤلاء.. یجب أن یسترجعوا الأمل. یجب أن یقنعوا بأنّ الباطل هزیل، وأنّه سوف ینهزم. المستقبل لجبهة الأنبیاء والرسل والأوصیاء. وواحد من هؤلاء الأوصیاء هو القائد المنتظر.
(وَمَا أَرْسَلْنا فِی قَرْیَةٍ مِنْ نَبِیٍّ إلاّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأساءِ..).(12)
إنّ قضیة القائد المنتظر مصدر قوّة.
(مَثَلُ الّذِینَ اتَّخَذُوا مِنَ دِوُنِ اللهِ أَوْلِیاءَ کَمَثَلِ الْعَنْکَبُوُتِ اتَّخَذَتْ بَیْتاً، وَإنّ أَوْهَنَ الْبُیُوتِ لَبَیْتُ الْعَنْکَبُوتِ لَوْ کانُوا یَعْلَمَوُنْ).(13)
وإذا کان الأمل هو المحفز لأیّ تحرک، فإنّ قضیة القائد المنتظر تخلق فینا هذا الأمل الحافز.
المؤمن بهذه القضیة لا ینهار، ولا ییأس، ولا ینخلع قلبه وهو یرى الباطل یجول، ویعربد، ویحطّم، ویعیث فی الأرض فساداً.
إنّنا لن نموت. لن نتنازل. لن ننسحب من معرکة الشرف والحق والحیاة. فحینما یضرب الباطل ضربته الأخیرة ستنکسر عصاه، وینتهی، ومن ثمّ یحکم الحق. والذین کانوا مستضعفین فی الأرض سیصبحون حکّام الأرض وقادة المسیرة. لکن من هم الذین لا یأکل قلوبهم الیأس. إنّهم قلیل، وقلیل جداً. غیر أنّ هؤلاء القلیل هم الذین یحملون رایة الحق، ویحتضنون لواء القائد العظیم، مهدی آل محمّد.
أفلا نکون من هؤلاء القلیل؟ الذین وصفهم الإمام علی علیه السلام قائلاً:
(أولئک الأقلّون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً)(14).
العطاء الذاتی لحیاة القائد المنتظر:
إنّ ما أقصده بالعطاء الذاتی هو المردود النفسی الذی تعکسه قضیة القائد المنتظر على ذواتنا. إنّ الحجم الذی تخلّفه من الأثر فی نفوسنا ـ نحن المؤمنین بالقضیة ـ من المکانة بنحو لا یمکن تغافله وتناسیه.وإنّنی أحاول هنا أن استجلی صورة عن هذا العطاء.
الأمل:
لقد تحدّثت لکم شیئاً ما عن الأمل، ودور القضیة فی ترسیخه وتعمیق جذوره فی نفوسنا، وکیف نصبح هازئین بالظلم، رافضین لحکومة الظلم، غیر مستسلمین، ولا واهنین. على ثقة کاملة بأنّ عمر الظلم قصیر، وأن سیصبح الصبح، ألیس الصبح بقریب.
إنّ تجبّر الظلم، وکبریاء الطاغوت، وسیطرته على الأرض، وعلى شعوب الأرض، کل ذلک لا یثنی عزمنا القاهر على المضی قدماً، فالنتیجة لنا، الطریق المزروع بالأشواک نحن قادرون على أن نقطعه بکل صبر وبسالة، والعزّة للمؤمنین.
(وَأنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنینَ).(15)
إنّ قضیة القائد المنتظر هی مصدر قوّة. ولیس کما یحسب بعض الناس أنّها بمثابة الکهف الذی نلجأ إلیه عند الهزیمة. أبداً.. إنّها لن تقبل منّا الهزیمة، وتسخر من المهزومین. فحصون الباطل یجب أن تتحطّم.وأعواد عرش الطواغیت یجب أن تتکسّر. وسیموت کل الفراعنة، سیغرقون فی نفس البحر الذی ملؤوه دماً، وستسیخ بهم الأرض.
التماسک:
وسوى ذلک فإنّ قضیة القائد المنتظر، ووجوده حیّاً بین صفوفنا، وفی داخل جبهتنا، یحفزنا على الشعور بالأصالة، والاستقلال، والحیاة والقوّة. دعنی أشرح ذلک وأوضّحه أکثر:
هناک فارق کبیر فی الوضع النفسی لأمّة لا تعرف قیادتها. أو لا تملک قیادة حیة تتفاعل معها. لیس لها من تثق به. لیس لها من ترمی بطرفها إلیه. إنّها أمّة ستذوب، وتتلاشى، وتتمزّق. ستأکلها الاتجاهات، وتمیّلها الافتراقات. وتنصهر فی الکل، وفی الأکثریة المحیطة بها. ستضیع ملامحها، وتفقد شخصیتها، وتنسى أصالتها واستقلاها. وتتوسّل للدخول ضمن الاتجاهات الأکثر قوّة، والأکثر منعة وتماسکاً.
ما الذی یمنع الفئة القلیلة من الذوبان، والاندکاک فی الفئات الکبرى؟
وما الذی یحصّن دائرتها من التلاشی فی الدوائر الأخرى؟
شیء واحد بالتأکید...
هو شعورها بأصالتها، واستقلالها، وثقتها بوجودها. مهما تملک هذه الفئة من فکر، ومن حق، فإنّ ذلک لا یدفع عنها خطر الانهیار، والتفلّل، والذوبان، ما لم تستشعر الثقة بنفسها، وقوّة کتلتها، وحیویة جبهتها، ووحدة صفّها.
إنّ هذا الشعور هو الذی یقطع حبل الانهیار، والتحلّل والانصهار ضمن الأکثریة.
والأمّة التی لا تعرف قیادتها، ولا تملک الثقة بأنّ قیادتها وراء الخط، تدبّر وتعمل، وتشهد، وتخطّط، وتنتهز الفرص للهجوم، إنّ مثل هذه الأمة تفقد الشعور بالمنعة، والحصانة. تفقد الشعور بالاستقلال، والوحدة. وعلى العکس من ذلک الأمة التی توطد حبل الاتصال مع قادتها، وتعرف جیداً أنّهم داخل الساحة، والأحداث لا تمرّ دون اطّلاعهم. هذه الأمّة مهما بلغت من الصغر، والقلّة. ومهما أحاطت بها الاتجاهات ذات الأکثریة الساحقة. إنّ هذه الأمّة وهذه الفئة تصبح ذات قناعة کافیة لأن تقیها خطر الذوبان. وإذا کان الحدیث عن جبهة التشیع فبوسعک أن تلاحظ معی:
إنّ هذه الجبهة تحتضن الأقلیة الضعیفة، والمطاردة. وکل التیارات التی شهدها تأریخ الإسلام وقفت ضد هذه الجبهة، وکانت ترى فیها الخطر الذی یقوّض کیانها لو قدّر لها أن تواصل نشاطها بقرار، وحرّیة. ومع ذلک فإنّ قلعة التشیع لم تستسلم:
وباتت غیر مستسلمة حتى فی حال غیاب قائدها (الإمام الثانی عشر) من أهل البیت. وبالطبع فإنّها کانت معرّضة للتمزّق بغیاب قائدها.
وشیء من ذلک قد تحقق بالفعل. لقد کان الإمام یقول:
(کیف أنتم إذا بقیتم بلا إمام هدىً ولا علم، یتبرّأ بعضکم من بعض).(16)
لکن رغم کل ذلک فهاهی أحد عشر قرناً مضت على غیبة هذا القائد، والتشیع ما یزال راسخاً.
والمؤمنون بهذا الخط لم یقتلهم الوهن، ولم یحدّ من نشاطهم الضعف، والقلّة، وحیاة المطاردة. ترى ماذا کان وراء ذلک؟
وکیف لم تذب هذه الفئة، کما ذابت معظم الفئات الأخرى؟
لقد شهد التأریخ الإسلامی عشرات من الفرق الدینیة، لکن ید المنون مسحت علیها، وانتهت. إنّها لم تصمد أمام أدنى الضغوط، أو أدنى الافتراقات. بینما ظلّ التشیع، رغم کل الأعاصیر، والصدمات، والمکائد. رغم القلّة، والضعف، والتشتّت. ظلّ حیّاً راسخاً، معبّراً عن جوهر الإسلام. صارخاً بالحق، ساخراً بالظالمین، ومؤامرات الظالمین. ماذا کان وراء ذلک، والقائد محتجب؟!
کیف لم یصب الانهیار عزائم الشیعة؟
کیف لم یستسلموا للأکثریة الساحقة والقویّة. ما الذی شدّهم هذا الشدّ الوثیق بالمذهب. الشدّ الذی خابت معه کل محاولة للتمزیق والتفکیک.
بلا شک کان وراء ذلک إیمان الشیعة بحیاة قائدهم المغیّب، وأنّه معهم، وفی أوساطهم. یعیش همومهم، ویتمزّق قلبه ألماً لمآسیهم.
یرقب حالهم، وجبهتهم. ینتظر.. ینتظر، کما هم فی انتظار. هو مرتبط معهم، غیر بعید عنهم، ولا ناسٍ لقضیته وقضیتهم.
فهناک وحدة فی القضیة، وهناک وحدة فی المصیر. إنّ هذا القائد الذی احتجب عن الرقابة التی تلاحقه، والذی ما یزال محتجباً ریثما تکون ساعة النصر قد أزفت، وریثما تکون شروط الثورة قد مثلت فی الأفق.
إنّ هذا القائد حی..
ومن هذه الحیاة تخفق قلوبنا بالحیاة. ومن هذا النشاط نستمد النشاط، ونعرف کیف نعمل، وکیف یجب أن نتکتل. فنحن أمة لها أصالة، ولها استقلالها ما دامت قیادتها حیة، صابرة مشرفة على الساحة. مادامت قیادتها غیر ضائعة ولا واهنة. الفواصل الزمنیة بیننا وبین هذا القائد معدومة.
فلا داعی لاستشعار البعد، والدهشة، والافتراق عن القیادة. لأنّ هذه القیادة ما تزال حیّة، کما لو کانت ولیدة عصرنا.
دعنا نتصوّر ماذا یکون الوضع النفسی لو کنّا لا نملک هذا القائد، الذی نثق به ثقة مطلقة، والذی نثق بأنّه سیسحق کل الخصوم.
هب أنّ الإمام المهدی علیه السلام قد مات فی الستینات أو السبعینات من عمره الشریف.وفقدنا القیادة المعصومة والمظفرة.
وأصبحنا ننتظر فقط مجیء مصلح قد تجود به ید الزمان فی یوم من أیام المستقبل. ثمّ کنّا نواجه الصدمة تلو الصدمة.
نواجه الذبح، والخنق، والسجن والتشرید. نواجه الدسائس الخبیثة التی تحرص على إبادتنا. ونحن قلّة، وضعاف، ومشرّدون.
والناس ینظرون إلینا شزراً. والرجل الذی ننتظر صولته غیر موجود. ألیس کنا نقترب نفسیاً إلى الهزیمة. نؤثر العافیة، والسلم والأمان.
فندخل ونموع فی أحضان الأکثریة. نذوب کأننا الشمع. نفقد الشعور بأنّنا تکتّل رصین محقّ. فی کل صدمة نفقد مجموعة من الأعوان الذین یُهزمون بفعل الصدمة والمحنة. انظروا کیف تمزّقت وبادت الفئات الأخرى، لدى أدنى صعوبة، وفی بدایة الصراع؟
کیف انتهى المعتزلة من الوجود، وانتهى مذهب الاعتزال، حینما انتفضت علیه السلطات؟
إنّ تلک الفرق والمذاهب لم تواجه عشر العناء، والخطر الذی واجهه التشیع. حینما طوردت الفئات، وأصیبت بالشتات، وحین تمزّقت جغرافیاً، ونفسیاً، وفکریاً کانت قد حکمت على نفسها بالموت والفناء.
أمّا جبهة التشیّع، فالداخلون فیها یعرفون أنّ قائدهم المظفر المعصوم.. معهم، یشهد، یسمع، یرقب الأحداث، یتحرک، یسدد، ینتظر.
إذن فهم کتلة حیة بحیاة هذا القائد. وأینما ذهب الرجل الشیعی، وفی کل مکان قذفته الأمواج، هو یشعر بأنّ قائده یعیش مأساته، ویحمل همّه، وتربط بین الاثنین علاقة مودّة، وحبّ، وهمّ مشترک، وهدف مشترک.
المصادر :
1- النور : 55.
2- الحج : 52.
3- یس: 14.
4- سبأ : 34.
5- الحشر: 14.
6- البقرة: 113.
7- آل عمران : 140.
8- النساء: 104.
9- النور : 55.
10- القصص : 5.
11- آل عمران : 196.
12- الأعراف : 94.
13- العنکبوت : 41.
14- الکافی: 1/335, الحدیث 3و339 الحدیث 13.
15- آل عمران : 139.
16- إکمال الدین وإتمام النعمة : 348 الحدیث 36.


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.