النجاشی

النجاشی: هو لقب عام لملوک الحبشة، واللفظة معرّبة عن (نیجوستی) التی تعنی بلغة أهل الحبشة (ملک أو سلطان) وأما اسمه الحقیقی: أصحمة بن أبحر، وأصحمة بالعربیة: عطیة..
Wednesday, April 16, 2014
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
النجاشی
النجاشی

 





 

النجاشی: هو لقب عام لملوک الحبشة، واللفظة معرّبة عن (نیجوستی) التی تعنی بلغة أهل الحبشة (ملک أو سلطان) وأما اسمه الحقیقی: أصحمة بن أبحر، وأصحمة بالعربیة: عطیة..
قال تعالى: ((لتجدنّ أشدّ الناس عداوة للذین آمنوا الیهود والذین أشرکوا ولتجدنّ أقربهم مودّة للذین آمنوا الذین قالوا إنّا نصارى ذلک بأنّهم منهم قسّیسین ورهباناً وأنهم لا یستکبرون* وإذا سمعوا ما أُنزل الى الرسول ترى أعینهم تفیض من الدمع ممّا عرفوا من الحقّ…)).(1)
قال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)لجعفر وأصحابه: «لو خرجتم الى أرض الحبشة، فإن بها ملکاً لا یُظلم عنده أحد، وهی أرض صدق، حتى یجعل الله لکم فرجاً مما أنتم فیه».وکان النجاشی یدین بدین النصارى.
قال ابن اسحاق: قال الزهری: …عن أم سلمة زوج النبی(صلی الله علیه وآله وسلم): «…فإن عائشة أم المؤمنین حدّثتنی أن أباه کان ملک قومه، ولم یکن له ولد إلا النجاشی، وکان للنجاشی عمّ، له من صلبه اثنا عشر رجلاً، وکانوا أهل بیت مملکة الحبشة، فقالت الحبشة بینها: لو أنّا قتلنا أبا النجاشی وملّکنا أخاه، فإنه لا ولد له غیر هذا الغلام، وإن لأخیه من صلبه اثنی عشر رجلاً، فتوارثوا ملکه من بعده، بقیت الحبشة بعده دهراً، فغدوا على أبی النجاشی فقتلوه، وملّکوا أخاه، فمکثوا على ذلک حیناً.
ونشأ النجاشی مع عمه، وکان لبیباً حازماً من الرجال، فغلب على أمر عمه، ونزل منه بکل منزلة، فلما رأت الحبشة مکانه منه، قالت بینها: والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه، وإنا لنتخوّف أن یملّکه علینا، وإن ملّکه علینا لیقتلنا أجمعین: لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه، فمشوا الى عمّه فقالوا: إما أن تقتل هذا الفتى، وإما أن تخرجه من بین أظهرنا، فإنا قد خفناه على أنفسنا. قال: ویلکم قتلت أباه بالأمس، وأقتله الیوم؟! بل أخرجه من بلادکم. قالت: فخرجوا به الى السوق فباعوه من [الى] رجل من التجار، بستمئة درهم؛ فقذفه فی سفینة، فانطلق به، حتى إذا کان العشیّ من ذلک الیوم، هاجت سحابة من سحائب الحزین فخرج عمه یستمطر تحتها، فأصابته صاعقة فقتلته، قالت: ففزعت الحبشة الى ولده، فإذا هو محمّق، لیس فی ولده خیر، فمرج على الحبشة أمرهم. فلما ضاق علیهم ما هم فیه من ذلک، قال بعضهم لبعض: تعلّموا والله أن ملککم الذی لا یقیم أمرکم غیره للذی بعتم غدوة، فإن کان لکم بأمر الحبشة حاجة، فادرکوه الآن، قالت: فخرجوا فی طلبه وطلب الرجل الذی باعوه منه، حتى أدرکوه، فأخذوه منه، ثم جاءوا به فعقدوا علیه التاج، وأقعدوه على سریر الملک، فملّکوه… قالت: فلذلک یقول[النجاشی]: ما أخذ الله منّی رشوة حین ردّ علیّ مُلْکی، فآخذ الرشوة فیه: وما أطاع الناس فیّ فأطیع الناس فیه، قالت: وکان ذلک أول ما خُبر من صلابته فی دینه، وعدله فی حکمه.(2)

مع المهاجرین فی الحبشة:

قال ابن اسحاق: فلمّا رأى رسول الله صلى الله علیه وآله وسلّم ـ ما یصیب أصحابه من البلاء وما هو فیه من العافیة، بمکانه من الله ومن عمه أبی طالب، وأنه لا یقدر على أن یمنعهم ممّا هم فیه من البلاء، قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملکاً لا یُظلم عنده أحد، وهی أرض صدق، حتى یجعل الله لکم فرجاً ممّا أنتم فیه». فخرج عند ذلک المسلمون من أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً الى الله بدینهم، فکانت أول هجرة فی الإسلام.
وکان أول من خرج من المسلمین أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومی، ومعه امرأته أم سلمة بنت أبی أمیة بن المغیرة المخزومی.
وعثمان بن عفان بن أبی العاص بن أمیّة، ومعه امرأته رقیّة بنت رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم). وأبو حذیفة بن عتبة بن ربیعة، ومعه امرأته سهلة بنت سهیل بن عمرو، وولدت له بأرض الحبشة محمد بن أبی حذیفة.
وعامر بن ربیعة العدوی، ومعه امرأته لیلى بنت أبی حثمة العدوی.
والزبیر بن العوّام بن خویلد بن أسد، ومصعب بن عمیر، من بنی عبد الدار، وعبد الرحمن بن عوف الزهری، وأبو سَبْرة بن أبی رُهم العامری، وسهیل بن وهب الفهری، وعثمان بن مظعون الجُمحی(3)، وکان علیهم عثمان بن مظعون، فی قول ابن هشام(4). وروى الواقدی: أن الذین هاجروا الهجرة الأولى خرجوا متسلّلین سرّاً، وکانوا أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، حتى انتهوا الى الشُعیبة، منهم الراکب ومنهم الماشی، ووفق الله للمسلمین ـ ساعة جاءوا ـ سفینتین للتجّار حملوهم فیهما الى أرض الحبشة بنصف دینار، وکان مخرجهم فی: رجب فی السنة الخامسة من حین نُبّیء رسول الله ـ صلى الله علیه وآله وسلم ـ وخرجت قریش فی آثارهم حتى جاءوا البحر، حیث رکبوا، فلم یدرکوا منهم أحداً.(5)
وقال الیعقوبی: لمّا رأى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)ما فیه أصحابه من الجُهد والعذاب وما هو فیه من الأمن بمنع أبی طالب عمّه إیّاه، قال لهم: «ارحلوا مهاجرین الى أرض الحبشة الى النجاشی، فإنه یُحسن الجوار».
فخرج فی المرة الأولى: اثنا عشر رجلاً، وفی المرة الثانیة: سبعون رجلاً، سوى أبنائهم ونسائهم، وکان لهم عند النجاشی منزلة.(6)
وقد مرّ خبر ابن اسحاق وقد وصف رحلة من عدّهم مع عثمان بن مظعون الى الحبشة بالهجرة الأولى، ولکنّه بعد عدّهم قال: ثمّ خرج جعفر ابن أبی طالب(رضی الله عنه) وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة فکانوا بها، منهم من خرج بأهله، ومنهم من خرج بنفسه لا أهل له معه. ثمّ أخذ فی عدّهم وأنسابهم، فعدّ من بنی هاشم رجلاً واحداً هو: جعفر بن أبی طالب(رضی الله عنه) ومعه امرأته أسماء بنت عمیس الخثعمیة، وولدت له بأرض الحبشة عبد الله بن جعفر. ثمّ عدّ من بنی أمیة وحلفائهم سبعة نفر، فعدّ أولهم: عثمان بن عفان ومعه رقیة ابنة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، وعمرو بن سعید بن العاص، وخالد بن سعید بن العاص، ومعهما نساؤهما. ومن حلفائهم: عبد الله بن جحش وأخوه عبید الله (وهو الذی تنصّر فی الحبشة) ومعه امرأته أمّ حبیبة بنت أبی سفیان، وقیس بن عبد الله ومعه امرأته برکة مولاة أبی سفیان.
ثمّ عدّ من بنی نوفل رجلاً، ومن بنی عبد بن قصی رجلاّ، ومن بنی شمس رجلین.
ومن بنی أسد من قریش أربعة نفر منهم الزبیر بن العوام ابن خویلد بن أسد، والأسود بن نوفل بن خویلد بن أسد، ویزید بن زمعة بن الأسود بن المطلّب بن أسد (وزمعة أو أبوه الأسود أحد المستهزئین الستّة برسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم).
ومن بنی عبد الدار خمسة نفر منهم: مصعب بن عمیر، ومن بنی زهرة وحلفائهم من بهراء وهُذیل ستة نفر منهم: عبد الرحمن بن عوف، وأبو وقاص، وابنه عامر، وعبد الله بن مسعود وأخوه عتبة، والمقداد بن عمرو بن قضاعة، وکان قد تبنّاه فی الجاهلیة الأسود بن عبد یغوث من بنی زهرة، فکان یقال له: المقداد بن الأسود.ومن بنی تیم رجلین.
ومن بنی مخزوم وحلفائهم ثمانیة نفر منهم: أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد ومعه امرأته أم سلمة هند بنت أبی أمیة بن المغیرة المخزومی، وهشام بن أبی حذیفة بن المغیرة، وعیّاش بن أبی ربیعة بن المغیرة. وسلمة بن هشام.
ومن بنی جمح أربعة عشر رجلاً منهم: عثمان بن مظعون، وابنه السائب بن عثمان، وأخواه قدامة بن مظعون، وعبد الله بن مظعون.

ومن بنی سهم أربعة عشر رجلاً.

ومن بنی عدی خمسة نفر. ومن بنی عامر ثمانیة نفر.
ومن بنی الحارث بن فهر ثمانیة نفر منهم: أبو عبیدة عامر بن عبد الله بن الجرّاح.
ثم قال ابن اسحاق: فکان جمیع من لحق بأرض الحبشة وهاجر الیها من المسلمین ـ سوى أبنائهم الذین خرجوا بهم معهم صغاراً أو ولدوا بها ـ ثلاثة وثمانین رجلاً، إن کان عمار بن یاسر فیهم، وهویُشَک فیه.(7)
إذن، فهو فی هذا العدّ یعدّد أهل الهجرة الثانیة الى الحبشة وعلیهم جعفر بن أبی طالب، ولعلّه فی عدده ـ ثلاثة وثمانین رجلاً ـ قد جمع أهل الهجرة الأولى مع الثانیة، بینما الیعقوبی جرّد أعداد الهجرة الثانیة فقط فقال بالسبعین، أو باستثناء النساء والأطفال کما قال. وکذلک فعل القُمّی فی تفسیره، إذ قال: لمّا اشتدّت قریش فی أذى رسول الله وأصحابه أمرهم رسول الله أن یخرجوا الى الحبشة، وأمر جعفر ابن أبی طالب أن یخرج معهم، فخرج جعفر وخرج معه سبعون رجلاً من المسلمین حتى رکبوا البحر(8)
فالمناسب أن یقول ابن هشام فی سیرته إن بدایة الهجرة مع جعفر، أو مع خروج عمرو بن العاص الى الحبشة سفیراً من قبل معاندی مکّة لایذاء جعفر وأصحابه.

حدیث أم سلمةعمّا دار عند النجاشی:

قال بن اسحاق: حدثنی محمد بن مسلم الزهریّ عن أبی بکر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومی، عن أم سلمة بنت أبی أمیة بن المغیرة زوج رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)قالت: لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خیر جار: النجاشی، أمِنّا على دیننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شیئاً نکرهه فلما بلغ ذلک قریشاً، ائتمروا بینهم أن یبعثوا الى النجاشی فینا رجلین منهم جَلْدین؛ وأن یهدوا للنجاشی هدایا مما یستظرف من متاع مکة، وکان من أعجب ما یأتیه منها الأدم، فجمعوا له أدماً کثیراً، ولم یترکوا من بطارقته بطریقاً إلا أهدوا له هدیة، ثم بعثوا بذلک عبد الله بن أبی ربیعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى کل بطریق هدیته قبل أن تُکلما النجاشی فیهم، ثم قدما إلى النجاشی هدایاه، ثم سلاه أن یسلمهم إلیکما قبل أن یکلمهم. (9)
قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشی، ونحن عنده بخیر دار، عند خیر جار، فلم یبق من بطارقته بطریق إلا دفعا إلیه هدیته قبل أن یکلما النجاشی، وقالا لکل بطریق منهم: إنه قد ضوى(10) إلى بلد الملک منا غلمان سُفهاء، فارقوا دین قومهم، ولم یدخلوا فی دینکم، وجاءوا بدین مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا الى الملک فیهم أشراف قومهم لیردهم إلیهم، فإذا کلمنا الملک، فأشیروا علیه بأن یسلمهم إلینا ولا یکلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عیناً، وأعلم بما عابوا علیهم؛ فقالوا لهما: نعم. (11)
ثم إنهما قدما هدایاهما الى النجاشی فقبلها منهما، ثم کلماه فقالا له: أیها الملک، إنه قد ضوى إلى بلدک منا غلمان سفهاء، فارقوا دین قومهم، ولم یدخلوا فی دینک، وجاءوا بدین ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إلیک فیهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم لتردّهم إلیهم، فهم أعلى بهم عیناً، وأعلم بما عابوا علیهم وعاتبوهم فیه.
قالت: ولم یکن شیء أبغض إلىعبد الله بن أبی ربیعة وعمرو بن العاص من أن یسمع کلامهم النجاشی. قالت: فقالت بطارقته حوله: صدقا أیّها الملک قومهم أعلى بهم عیناً وأعلم بما عابوا علیهم فأسلمهم إلیهما. فلیردّاهم إلى بلادهم وقومهم.
قالت: فغضب النجاشی، ثم قال: لاها الله! إذن لا أسلمهم إلیهما، ولا یکاد قوم جاورونی، ونزلوا بلادی، واختارونی على من سوای، حتى أدعوهم فأسألهم عما یقول هذان فی أمرهم، فإن کانوا کما یقولان أسلمتهم إلیهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن کانوا على غیرذلک منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاورونی!!
فلما جاءوا، وقد دعا النجاشی أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال لهم: ما هذا الدین الذی قد فارقتم فیه قومکم، ولم تدخلوا فی دینی، ولا فی دین أحد من هذه الملل؟
قالت: فکان الذی کلمه جعفر بن أبی طالب، فقال له: أیها الملک، کنا قوماً أهل جاهلیة، نعبد الأصنام، ونأکل المیتة، ونأتی الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسیء الجوار ویأکل القویّ منّا الضعیف، فکنا على ذلک، حتى بعث الله الینا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا الى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما کنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحدیث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار، والکفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأکل مال الیتیم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرک به شیئاً، وأمرنا بالصلاة والزکاة والصیام ـ قالت: فعدد علیه أمور الاسلام ـ فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرک به شیئاً، وحرّمنا ما حرّم علینا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علینا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن دیننا، لیردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضیقوا علینا وحالوا بیننا وبین دیننا، خرجنا إلىبلادک، واخترناک على من سواک؛ ورغبنا فی جوارک، قالت، فقال له النجاشی: هل معک مما جاء به من عند الله من شیء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم؛ فقال له النجاشی: فاقرأه علیّ؛ قالت: فقرأ علیه صدراً من: ((کهیعص))، قالت: فبکى والله النجاشی حتى اخضلّت لحیته، وبکت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حین سمعوا ما تلا علیهم.
ثم قال النجاشی: إن هذا والذی جاء به عیسى لیخرج من مشکاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلّمهم إلیکما، ولا یُکادون. قالت: فلما خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله لآتینّه غداً عنهم بما استأصل به خضراءهم. قالت: فقال له عبد الله بن أبی ربیعة وکان أتقى الرجلین فینا: لا تفعل فإن لهم أرحاماً، وإن کانوا قد خالفونا؛ قال: والله لأخبرنّه أنهم یزعمون أن عیسى بن مریم عبد. قالت: ثم غدا علیه من الغد فقال: أیها الملک، إنهم یقولون فی عیسى بن مریم قولاً عظیماً، فأرسل إلیهم فسلهم عما یقولون فیه. قالت: فأرسل إلیهم لیسألهم عنه.
قالت: ولم ینزل بنا مثلها قطّ. فاجتمع القوم، ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون فی عیسى بن مریم إذا سألکم عنه؟ قالوا: نقول والله ما قال الله، وما جاءنا به نبینا کائناً فی ذلک ما هو کائن.
قالت: فلما دخلوا علیه، قال لهم: ماذا تقولون فی عیسى ابن مریم؟ قالت: فقال جعفر بن ابی طالب: نقول فیه الذی جاءنا به نبیّنا(صلی الله علیه وآله وسلم): هو عبد الله ورسوله وروحه وکلمته ألقاها الى مریم العذراء البتول قالت: فضرب النجاشی بیده إلىالأرض فأخذ منها عوداً، ثم قال: والله ما عدا عیسى بن مریم ما قلت هذا العود. قالت: فتناخرت بطارقته حوله حین قال ما قال؛ فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شیوم بأرضی ـ والشیوم: الآمنون ـ من سبّکم غَرِم، ثم قال: من سبّکم غَرِم، ثم قال: من سبّکم غَرِم. ما أحبّ أن لی دبراً من ذهب، وأنی آذیت رجلاً منکم. (12)
قال ابن هشام: ویقال دبری من ذهب، ویقال: فأنتم سیوم. والدبر بلسان الحبشة: الجبل ـ ثم قال النجاشی: ردّوا علیهما هدایاهما، فلا حاجة لی بها، فو الله ما أخذ الله من الرشوة حین ردّ علیّ ملکی، فآخذ الرشوة فیه، وما أطاع الناس فیّ فأطیعهم فیه.
قالت: فخرجا من عنده مقبوحین مردوداً علیهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخیر دار، مع خیر جار(13)… الى أن قالت: حتى قدمنا على رسول الله وهو بمکّة. ولم یذکر ابن اسحاق أو ابن هشام متى کان هذا الرجوع؟ فی حین أنها تقول: قدمنا، ولا تستثنی أحداً. ولکنّ الظاهر أنّها عوّلت على المعلوم یوم حدیثها لقریبها أبی بکر المخزومی. بینما یقول ابن اسحاق: وبلغ أصحاب رسول الله الذین خرجوا الى أرض الحبشة إسلام أهل مکة، فأقبلوا لمّا بلغهم ذلک، حتى اذا دنوا من مکة بلغهم أن ما کانوا تحدّثوا به من اسلام أهل مکة کان باطلاً، فلم یدخل أحد إلا بجوار أو مستخفیاً منهم: عثمان بن عفان ومعه امرأته رقیة بنت رسول الله ـ صلى الله علیه [وآله] وسلم ـ وأبو سلمة المخزومی ومعه امرأته أم سلمة المخزومیة. والسکران بن عمرو ومعه امرأته سودة بنت زمعة بن قیس. وأبو سَبْرة بن أبی رُهْم معه امرأته کلثوم بنت سهیل بن عمرو، وعدیله أبو حذیفة بن عتبة ومعه امرأته سهلة بنت سُهیل بن عمرو، وأخوها عبد الله بن سهیل بن عمرو. وعامر بن ربیعة ومعه امرأته لیلى بنت أبی حَمِنة. فهؤلاء عشرة أزواج. ومن غیرهم: الزبیر بن العوّام، ومصعب بن عمیر، عبد الرحمن بن عوف وأبو عبیدة بن الجراح والمقداد بن عمرو، وعبد الله ابن مسعود، وعمار بن یاسر، وعثمان بن مظعون، وأخواه: عبد الله وقدامة، وابنه السائب بن عثمان. (14)
ومن ثمّ یقول ابن اسحاق: فیجمع من قدم مکة من أصحابه ـ صلى الله علیه وآله وسلم ـ من أرض الحبشة ثلاثة وثلاثون رجلاً.(15)
هذا وقد سبق منه القول بأنهم کانوا: اثنین وثمانین رجلاً وامرأة(16)
وقال عن جمیع من قدم المدینة من الذین حملهم النجاشی مع عمرو ابن أمیة الضمری فی السفینتین الى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)إنهم کانوا ستة عشر رجلاً، ومحمد والحارث ابنا حاطب الجُمحی مع أمّهم فاطمة بنت المجلّل، وعبد الله بن المطلّب الزُْهْری مع أمّه رملة بنت أبی عوف السّهمی، قدمتا بأبنائهما بعد هلاک أزواجهما فی الحبشة، فی إحدى السفینتین.
ثم عدّ تسعة نفر ممّن هلک من الرجال بأرض الحبشة مسلمین، وواحداً منهم تنصّر بها، هو عبید الله بن جحش حلیف بنی أمیة وصهر أبی سفیان على ابنته رملة أم حبیبة،(17) لمّا قدم أرض الحبشة تنصّر بها فکان اذا مرّ بالمسلمین من أصحاب رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)قال: فقحنا وصأصأتمأی: أنا قد فتحنا أعیننا فأبصرنا ولم تفتحوا أعینکم فتبصروا وأنتم تلتمسون ذلک! ومات بها نصرانیاً. ولذلک تزوّج امرأته رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)بواسطة النجاشی قبل رجوعهم الى المدینة بعد الحدیبیة وقبل خیبر. وکان معها ابنتها حبیبة، وبها کانت تکنّى. (18)
وعدّ ممّن هلک بماء شربوه فی طریق الرجوع: موسى بن الحارث واختیه عائشة وزینب ریطة ابنتی الحارث أمهم ولم یبق من الأسرة سوى ابنتهم فاطمة.
وبالجملة فقد عدّ ابن اسحاق ـ عدا من قدم على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)مکّة، وسوى من حملهم النجاشی فی السفینتین، ممّن تخلّف عن بدر وقدم بعد ذلک ـ عدّهم: أربعة وثلاثین رجلاً(19)فهؤلاء مع من قدم مکّة: ثلاثة وثلاثون رجلاً، ومن حملهم النجاشی فی السفینتین: ستة عشر رجلاً، فیکون المجموع: أربعة وثمانین رجلاً، سوى النساء، وقد عدّ جمیع من هاجر الى أرض الحبشة من النساء: ستّ عشرة امرأة، سوى بناتهنّ اللاتی ولدن هناک(20) وعدّ ممن وُلد من أبنائهم بأرض الحبشة: خمسة، ومن البنات: خمساً أیضاً، وهم مع من مات منهم والذی تنصّر مئة وعشرون. (21)
النبی (صلی الله علیه وآله وسلم)یطلب ید أم حبیبة من النجاشی:
فقد تزامن مع ورود کتاب النبی(صلی الله علیه وآله وسلم)الى النجاشی وورود الجواب الیه(صلی الله علیه وآله وسلم)أمران مهمان، هما: خطبة النبی(صلی الله علیه وآله وسلم)لأم حبیبة بواسطة النجاشی، وتجهیزه المسلمین فی الحبشة الى المدینة.
فقد جاء فی سواطع الأنوار وغیره: أن النجاشی کتب الى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)جواباً على کتابه(صلی الله علیه وآله وسلم)فی طلب ید أمّ حبیبة منه:
بسم الله الرحمن الرحیم
الى محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)من النجاشی أصحمة
سلام علیک یا رسول الله من الله ورحمة الله وبرکاته. أما بعد فإنی قد زوّجتک امرأة من قومک على دینک، وهی السیّدة أمّ حبیبة بنت أبی سفیان، وأهدیتک هدیة جامعة: قمیصاً وسراویل وعطافاً وخُفّین ساذجین. والسلام علیک ورحمة الله وبرکاته.(22)
وجاء فی بحار الأنوار: … ورزق النجاشی ولداً، فسمّاه محمداً، وسقته أسماء ـ أسماء بنت عمیس زوجة جعفر بن أبی طالب ـ من لبنها.(23)
مکاتبات رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)مع النجاشی:
روى أبی عبد الله الحافظ باسناده عن محمد بن اسحاق، قال: بعث رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)عمرو بن أمیة الضمری الى النجاشی، فی شأن جعفر بن أبی طالب وأصحابه، وکتب معه کتاباً: «بسم الله الرحمن الرحیم
من محمد رسول الله الى النجاشی الأصحم ملک الحبشة
سلام علیک، فإنی أحمد إلیک الله الملک القدّوس المؤمن المهیمن، وأشهد أن عیسى بن مریم روح ا لله، وکلمته ألقاها الى مریم البتول الطیبة الحصینة، فحملت بعیسى، فخلقه من روحه ونفخه کما خلق آدم بیده ونفخه، وإنی أدعوک الى الله وحده لاشریک له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعنی وتؤمن بی، وبالذی جاءنی، فإنی رسول الله، وقد بعثت إلیکم ابن عمی جعفراً ومعه نفر من المسلمین، فإذا جاءوک فأمّرهم، ودع التجبّر، فإنی أدعوک وجنودک الى الله، وقد بلّغت ونصحت، قاقبلوا نصیحتی، والسلام على من اتّبع الهدى.»
فکتب النجاشی الى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم):
بسم الله الرحمن الرحیم
الى محمد رسول الله، من النجاشی الأصحم بن أبحر
سلام علیک یا نبی الله من الله، ورحمة الله وبرکاته، لا إله إلا هو الذی هدانی الى الاسلام، وقد بلغنی کتابک یا رسول الله فیما ذکرت من أمر عیسى، فوربّ السماء والأرض، إنّ عیسى ما یزید على ما ذکرت، وقد عرفنا ما بعثت به الینا، وقد قرینا ابن عمک وأصحابه، فأشهد أنک رسول الله صادقاً مصدّقاً، وقد بایعتک وبایعت ابن عمک، وأسلمت على یدیه لله ربّ العالمین، وقد بعثت الیک یا نبی الله اریحا بن الأصحم بن أبحر، فإنی لاأملک إلا نفسی، وإن شئت أن آتیک فعلت یا رسول الله، فإنی أشهد ما تقول حقّ.(24)
ثم بعث الى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)بهدایا، وبعث الیه بماریة القبطیة، أمّ ابراهیم، وبعث الیه بثیاب وطیب کثیر، وفرس، وبعث الیه ثلاثین رجلاً من القسّیسین لینظروا الى کلامه ومقعده ومشربه، فوافوا المدینة، ودعاهم رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)الى الاسلام، فآمنوا ورجعوا الىالنجاشی(25). وقرأوا علیه ما قرأ علیهم(صلی الله علیه وآله وسلم)فبکى النجاشی، وبکى القسّیسون، وأسلم النجاشی، ولم یظهر للحبشة اسلامه، وخافهم على نفسه، وخرج من بلاد الحبشة یرید النبی(صلی الله علیه وآله وسلم)فلما عبر البحر توفی، فأنزل الله على رسوله: ((لتجدنّ أشدّ الناس عداوة للذین آمنوا الیهود والذین أشرکوا ولتجدنّ أقربهم مودّة للذین آمنوا الذین قالوا إنا نصارى…))(26)
عمرو بن أمیة الضمری والنجاشی:
ذکر ابن سعد: أن الذی بعثه النبی(صلی الله علیه وآله وسلم)الى النجاشی هو عمرو بن أمیة نفسه وذکر شطراً من رسالته(صلی الله علیه وآله وسلم)الشفویة الى النجاشی قال: قال عمرو بن أمیة: یا أصحمة! (کذا) إن علیّ القول وعلیک الاستماع! إنک کأنک فی الرقة علینا منّا، وکأنّا فی الثقة بک منک، لأنّا لم نظنّ بک خیراً قطّ إلا نلناه ولم نحفظک على شرّ قطّ إلاّ أمنّاه، وقد أخذنا الحجة علیک من قبل آدم، والانجیل بیننا وبینک شاهد لا یُرد وقاضٍ لا یجوز[فأسلم] وفی ذلک موقع الخیر واصابة الفضل، وإلاّ فأنت فی هذا النبیّ الأمیّ کالیهود فی عیسى بن مریم، وقد فرّق رسله الى الناس، فرجاک لمّا لم یرجهم له، وأمنک على ما خافهم علیه، لخیر سالف وأجر یُنتظر.
فقال النجاشی: أشهد بالله أن النبی الذی ینتظره أهل الکتاب، وأنّ بشارة موسى براکب الحمار کبشارة عیسى براکب الجمل، وأنّه لیس الخیر کالعیان، ولکن أعوانی من الحبشة قلیل، فأنظرنی حتى أکثر الأعوان وألیّن القلوب، ولو أستطیع أن آتیه لأتیته(27)
مثالب وفد قریش مع النجاشی:
کانت على رأس النجاشی وصیفة له تذبّ عنه، فنظرت الى عمارة بن الولید، فلما رجع عمرو بن العاص الى منزله قال لعمارة: لو راسلت جاریة الملک، فراسلها. فأجابته، فقال له عمرو: قل لها: تبعث الیک من طیب الملک شیئاً. فقال لها، فبعثت الیه، فأخذ عمرو من ذلک الطیب، فادخل عمرو الطیب على النجاشی وقال: أیّها الملک إن حرمة الملک عندنا وطاعته علینا وما یکرمنا اذا دخلنا بلاده ونأمن فیه: أن لا نغشه ولا نریبه، وإن صاحبی هذا الذی معی قد أرسل الى حرمتک وخدعها فبعثت الیه من طیبک، ثمّ وضع الطیب بین یدیه فغضب النجاشی وهمّ بقتل عمارة، ثم قال: لا یجوز قتله فانهم دخلوا بلادی فلهم أمان، ثمّ دعا السحرة فقال لهم: اعملوا به شیئاً أشد علیه من القتل، فأخذوه ونفخوا فی احلیله الزئبق فصار مع الوحش یغدو ویروح ولا یأنس بالناس، فبعثت قریش بعد ذلک فکمنوا له فی موضع حتى ورد الماء مع الوحش فأخذوه، فما زال یضطرب فی أیدیهم ویصیح حتى مات(28)
النجاشی یبشّر المهاجرین بنصر النبی(صلی الله علیه وآله وسلم)فی بدر:
عن جعفر، عن أ بیه(علیهما السلام) أنه قال: أرسل النجاشی ملک الحبشة الى جعفر بن أبی طالب وأصحابه فدخلوا علیه وهو فی بیت له جالس على التراب، وعلیه خلقان الثیاب قال: فقال جعفر بن أبی طالب: فأشفقنا منه حین رأیناه على تلک الحال، فلمّا رأى ما بنا وتغیّر وجوهنا قال: الحمد لله الذی نصر محمداً وأقرّ عینی به، ألا أبشّرکم؟! فقلت: بلى أیّها الملک فقال: إنّه جاءنی الساعة من نحو أرضکم عین من عیونی، هناک، وأخبرنی أن الله قد نصر نبیّه محمداً(صلی الله علیه وآله وسلم)وأهلک عدوّه. وأُسر فلان بن فلان، وقتل فلان بن فلان، التقوا بواد یقال له: بدر، کأنی أنظر الیه حیث کنت أرعى لسیّدی هناک، وهو رجل من بنی ضمرة، فقال له جعفر: أیّها الملک الصالح مالی أراک جالساً على التراب، وعلیک هذه الخلقان؟ فقال: یا جعفر إنّا نجد فیما أُنزل على عیسى صلى الله علیه أن من حق الله على عباده أن یحدثوا لله تواضعاً عندما یحدث لهم من نعمة، فلمّا أحدث الله تعالى لی نعمة بنبیّه محمد صلى الله علیه وآله وسلم، أحدثت لله هذا التواضع، قال: فلما بلغ النبی(صلی الله علیه وآله وسلم)ذلک قال لأصحابه: «إن الصدقة تزید صاحبها کثرة، فتصدقوا یرحمکم الله، وان التواضع یزید صاحبه رفعة، فتواضعوا یرفعکم الله، وإن العفو یزید صاحبه عزّاً، فاعفوا یعزّکم الله».(29)

سبب إسلامه:

قال المفسّرون: ائتمرت قریش أن یفتنوا المؤمنین عن دینهم، فوثبت کل قبیلة على من فیها من المسلمین یؤذونهم ویعذبونهم، فافتتن من افتتن، وعصم الله منهم من شاء، ومنع الله رسوله(صلی الله علیه وآله وسلم)بعمه أبی طالب، فلما رأى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)ما بأصحابه ولم یقدر على منعهم ولم یؤمر بعد بالجهاد، أمرهم بالخروج الى أرض الحبشة، وقال: «إن بها ملکاً صالحاً لا یُظلم عنده أحد، فاخرجوا الیه حتى یجعل الله عزّ وجلّ للمسلمین فرجاً» وأراد به النجاشی واسمه أصحمة(30)، فخرج الیها سرّاً أحد عشر رجلاً وأربع نسوة… وهذه هی الهجرة الأولى، ثم خرج جعفر بن أبی طالب، وتتابع المسلمون الیها، … فلما علمت قریش بذلک وجهوا عمرو بن العاص وصاحبه عمارة بن الولید بالهدایا الى النجاشی والى بطارقته لیردّوهم الیهم… ثم وردوا على النجاشی، فقال عمرو بن العاص: أیها الملک إن قوماً خالفونا فی دیننا، وسبّوا آلهتنا، وصاروا إلیک، فردّهم إلینا، فبعث النجاشی الى جعفر فجاء وقال: أیها الملک سلهم أنحن عبید لهم؟ فقال: لا بل أحرار، فقال: سلهم ألهم علینا دیون یطالبوننا بها؟ قال: لا ما لنا علیکم دیون، قال: فلکم فی أعناقنا دماء تطالبوننا بها؟ قال عمرو: لا، قال: فما تریدون منّا؟ آذیتمونا فخرجنا من دیارکم، ثم قال: أیها الملک بعث الله فینا نبیاً أمرنا بخلع الأنداد، وترک الاستقسام بالأزلام، وأمرنا بالصلاة والزکاة والعدل والأحسان، وإیتاء ذی القربى ونهانا عن الفحشاء والمنکر والبغی، فقال النجاشی: بهذا بعث الله عیسى(علیه السلام) ثم قال النجاشی لجعفر: هل تحفظ مما أنزل الله على نبیک شیئاً؟ قال: نعم فقرأ سورة مریم، فلما بلغ قوله تعالى: ((وهزّی إلیک بجذع النخلة تساقط علیک رطباً جنیّاً))(31)، قال: هذا والله هوالحقّ، فقال عمرو: إنه مخالف لنا، فردّه إلینا، فرفع النجاشی یده وضرب وجه عمرو، وقال: أسکت، والله إن ذکرته بسوء لأفعلنّ بک… فانصرف عمرو وأقام المسلمون هناک بخیر دار، وأحسن جوار، إلى أن هاجر رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وعلا أمره، وهادن قریشاً، وفتح خیبر، فوافى جعفر الى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)بجمیع من کانوا معه، فقال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): «لا أدری أنا بفتح خیبر أسرّ أم بقدوم جعفر».(32)
الله سبحانه یخبر رسوله(صلی الله علیه وآله وسلم)بموت النجاشی:
فی البحار… عن علی(علیه السلام) قال: «إن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)لمّا أتاه جبرئیل بنعی النجاشی، بکى بکاء حزین علیه، وقال: إن أخاکم أصحمة مات، ثم خرج الى الجبّانة ـ المقبرة ـ وکبّر سبعاً، فخفض الله له کل مرتفع حتى رأى جنازته وهو بالحبشة.(33)
فقد کان موت النجاشی فی شهر رجب من سنة تسع للهجرة، ونعاه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)الى الناس فی الیوم الذی مات فیه، وصلى علیه بالبقیع، فرُفع الیه سریره بأرض الحبشة حتى رآه وهو بالمدینة، فصلّى علیه، وتکلّم المنافقون، فقالوا: أیصلّی على هذا العلج؟ فأنزل الله تعالى: (وإن من أهل الکتاب لمن یؤمن بالله وما أُنزل إلیکم وما أُنزل إلیهم).
فلما مات النجاشی صلّى علیه رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، واستغفر له.(34)
وقال ابن اسحاق: وحدّثنی یزید بن رومان عن عروة بن الزبیر، عن عائشة، قالت: لما مات النجاشی، کان یتحدّث أنه لا یزال یُرى على قبره نور.(35)
وفی حدیث جابر بن عبد الله الأنصاری(رضی الله عنه): إن رسول الله صلى على النجاشی.(36)

النجاشی داعیة الإسلام:

قال ابن اسحاق فی السیرة بسنده الى عمرو بن العاص نفسه قال: لمّا انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعتُ رجالاً من قریش کانوا یرون رأیی ویسمعون منّی، فقلت لهم: تعلمون ـ والله ـ إنّی أرى أمر محمد یعلو الأمور علوّاً منکراً، وإنّی قد رأیت أمراً فما ترون فیه؟ قالوا: وماذا رأیت؟ قلت: رأیت أن نلحق بالنجاشی فنکون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا کنّا عند النجاشی، فإنّا أن نکون تحت أیدیه أحبّ إلینا من أن نکون تحت یدی محمّد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن یأتینا منهم إلا خیر. قالوا: إن هذا الرأی. قلت: فاجمعوا لنا ما نُهدی له. وکان أحبّ ما یُهدى الیه من أرضنا الأدم. فجمعنا له أدماً کثیراً، ثمّ خرجنا حتى قدمنا علیه.
فو الله إنّا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمیة الضمری ـ وکان رسول الله ـ صلى الله علیه وآله وسلم ـ قد بعثه إلیه فی شأن جعفر وأصحابه، فدخل علیه وخرج من عنده ـ فقلت لأصحابی: هذا عمرو بن أمیة الضمری، لو قد دخلت على النجاشی وسألته إیّاه فأعطانیه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلک رأت قریش أنی قد أجزأت عنها حین قتلت رسول محمد.
فدخلت علیه فسجدت له ـ کما کنت أصنع ـ فقال: مرحباً بصدیقی؛ أهدیت إلیّ من بلادک شیئاً؟ قلت: نعم أیها الملک، قد أهدیت إلیک أدماً کثیراً ثمّ قرّبته إلیه، فأعجبه. ثمّ قلت له: أیها الملک، إنی قد رأیت رجلاً خرج من عندک وهو رسول رجل عدوّ لنا، فأعطنیه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرفنا وخیارنا.
قال: فغضب ثمّ مدّ یده فضرب بها أنفی ضربة ظننت أنه قد کسره، فلو انشقّت لی الأرض لدخلت فیها فرقاً منه. فقلت له: والله لو ظننت أنک تکره هذا ما سألتکه. قال: أتسألنی أن أعطیک رسول رجل یأتیه الناموس الأکبر الذی کان یأتی لموسى لتقتله! قلت: أیها الملک، أکذلک هو؟ قال: ویحک یا عمرو أطعنی واتّبعه، فإنّه ولله لعلى الحق، ولیظهرنّ على من خالفه کما ظهر موسى على فرعون وجنوده… فخرجت إلى أصحابی وقد حال رأیی عمّا کان علیه.
ثمّ خرجت عامداً الى رسول الله ـ صلى الله علیه وآله وسلّم ـ فلقیت خالد بن الولید وذلک قُبیل الفتح… فقدمنا المدینة على رسول الله…(37)
هذا وقد قال عمرو بن العاص: لمّا انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق ثمّ خرجنا فقدمنا علیه، فو الله إنّا لعنده إذ جاء عمرو بن أمیة الضمری، وکان رسول الله قد بعثه إلیه فی شأن جعفر وأصحابه.

الثورة علیه بسبب إسلامه:

قال ابن اسحاق: حدّثنی جعفر بن محمد، عن أبیه قال: «اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشی: إنک قد فارقت دیننا، وخرجوا علیه، فأرسل الى جعفر[ابن أبی طالب] وأصحابه، فهیأ لهم سفناً، وقال: ارکبوا فیها وکونوا کما أنتم، فإذا هُزمت فامضوا حتى تلحقوابحیث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا، ثم عمد الى کتاب فکتب فیه أنه: یشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، ویشهد أن عیسى بن مریم عبده ورسوله وروحه، وکلمته ألقاها الى مریم؛ ثم جعله فی قبائه عند المنکب الأیمن، وخرج الى الحبشة، وصفّوا له، فقال: یا معشر الحبشة، ألست أحق الناس بکم؟ قالوا: بلى، قال: فیکف رأیتم سیرتی فیکم؟ قالوا: خیر سیرة، قال: فما لکم؟ قالوا: فارقت دیننا، وزعمت أن عیسى عبد، قال: فما تقولون أنتم فی عیسى ؟ قالوا: نقول: هو ابن الله، فقال النجاشی، ووضع یده على صدره على قبائه: هو یشهد أن عیسى بن مریم، لم یزد على هذا شیئاً، وإنما یعنی ما کتب، فرضوا وانصرفوا. فبلغ ذلک النبی(صلی الله علیه وآله وسلم)فلما مات النجاشی صلّى علیه واستغفر له. (38)
فرحة المهاجرین بانتصار النجاشی:
قال ابن اسحاق عن أم سلمة قالت: فو الله إنّا لعلى ذلک إذ نزل به رجل من الحبشة ینازعه فی ملکه، قالت: فو الله ما علمتنا حزنّا حزناً قطّ کان أشدّ علینا من حزن حزنّاه عند ذلک، تخوّفاً أن یظهر ذلک الرجل على النجاشی: فیأتی رجل لا یعرف من حقّنا ما کان النجاشی یعرف منه، قالت: وسار الیه النجاشی، وبینهما عرض النیل، قالت: فقال أصحاب رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): من رجلٌ یخرج یحضر وقیعة القوم ثم یأتینا بالخبر؟ قالت: فقال الزبیر بن العوّام: أنا، قالوا: فأنت، وکان من أحدث القوم سنّاً، قالت: فنفخوا له قربة فجعلها فی صدره، ثم سبح علیها حتى خرج الى ناحیة النیل التی بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم، قالت: فدعونا الله تعالى للنجاشی بالظهور على عدوّه والتمکین له فی بلاده. قالت: فو الله إنّا لعلى ذلک متوقعون لما هو کائن، إذ طلع الزبیر وهو یسعى، فلمع ثوبه وهو یقول: ألا أبشروا، فقد ظفر النجاشی وأهلک الله عدوه، ومکّن له فی بلاده، قالت: فو الله ما علمتنا فرحنا فرحة قط مثلها، قالت: ورجع النجاشی، وقد أهلک الله عدوه ومکّن له فی بلاده، واستوثق علیه أمر الحبشة، فکنا عنده فی خیر منزل، حتى قدمنا على رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وهو بمکة.(39)
أبو طالب یشکر صنیع النجاشی:
وکان مما قیل من الشعر فی تقدیر النجاشی على صنیعه للمهاجرین المسلمین، حین أمنوا بأرض الحبشة، نزلوا جوار النجاشی، وقد عبدوا الله لا یخافون على ذلک أحداً، وقد أحسن النجاشی جوارهم حین نزلوا به؛ فقد قال أبو طالب، حین رأى ذلک، أبیاتاً للنجاشی یحضه على حسن جوارهم والدفع عنهم:
لیت شعری کیف فی النأی جعفر ـــــ وعمرو وأعداء العدوّ الأقارب
وهل نالت أفعال النجاشی جعفراً ــــ وأصحابه أو عاق ذلک شاغب
تعلّم أبیت اللعن، أنک ماجد ــــ کریم فلا یشقى لدیک المجانب
تعلّم بأن الله زادک بسطة ــــ وأسباب خیر کلها بک لازب
وأنک فیض ذو سجال غزیرة ـــــ ینال الأعادی نفعها والأقارب(40)
وممن قال الشعر فی الحبشة فی مدح النجاشی، عبد الله بن الحارث بن قیس بن عدی بن سعد بن سهم: حین أمنوا بها، قال:
یا راکباً بلّغنْ عنی مغلغلة ــــ من کان یرجو بلاغ الله والدین
کلّ امرىء من عباد الله مضطهد ــــ ببطن مکة مقهور ومفتون
أنّا وجدنا بلاد الله واسعة ــــ تُنجی من الذلّ والمخزاة والهون
فلا تقیموا على ذلّ الحیاة وخز ــــ ی فی الممات وعیب غیرمأمون
إنا تبعنا رسول الله واطّرحوا ــــ قول النبی وعالوا فی الموازین
فاجعل عذابک فی القوم الذین بغوا ـــــ وعائذاً بک أن یغلوا فیطغونی(41)

أمّ سلمة تقرض النجاشی:

قال ابن اسحاق: … عن أم سلمة بنت أبی أمیة بن المغیرة زوج رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، قالت: لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خیر جار: النجاشی، أمِنّا على دیننا، وعبدنا الله تعالى، لا نؤذى ولا نسمع شیئاً نکرهه.(42)
ومن روایة یونس عن ابن اسحاق: إن أبا نیزر مولى علی بن أبی طالب(علیه السلام)، کان ابناً للنجاشی نفسه، وأن علیاً(علیه السلام) وجده عند تاجر بمکة، فاشتراه منه، وأعتقه مکافأة لما صنع أبوه للمسلمین(43). ویقال: إن الحبشة ارسلوا وفداً منهم الى أبی نیزر بعد أبیه النجاشی لیملّکوه، فأبى علیهم، وقال: ما کنت لأطلب الملک بعد أن منّ الله علیّ بالاسلام، ولم یکن لونه لون الحبشة، بل کان حسن الوجه طویلاً.(44)
وخاتمة المطاف، القرآن الکریم یشهد للنجاشی:
فی قوله تعالى: ((لتجدنّ أشدّ الناس عداوة للذین آمنوا الیهود والذین أشرکوا ولتجدنّ أقربهم مودّة للذین آمنوا الذین قالوا إنّا نصارى…))(45)
أخرج عبد بن حمید وابن جریر وابن المنذر وابن أبی حاتم وأبو الشیخ عن مجاهد: فی قوله تعالى: ((ولتجدنّ أقربهم مودة للذین آمنوا الذین قالوا إنّا نصارى…)) قال: هم الوفد الذین جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة، وأخرج النسائی وابن جریر وابن المنذر وابن أبی حاتم والطبرانی وأبو الشیخ وابن مردویه عن عبد الله بن الزبیر قال: نزلت هذه الآیة فی النجاشی وأصحابه: ((واذا سمعوا ما أنزل الى الرسول ترى أعینهم تفیض من الدمع))، وأخرج ابن أبی شیبة وابن أبی حاتم وأبو نعیم فی الحلیة والواحدی من طریق ابن شهاب قال: أخبرنی سعید بن المسیّب وأبو بکر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعروة بن الزبیر قالوا: بعث رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)عمرو بن أمیة الضمری، وکتب معه کتاباً الى النجاشی، فقدم على النجاشی، فقرأ کتاب رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)ثم دعا جعفر بن أبی طالب والمهاجرین معه، وأرسل النجاشی الى الرهبان والقسّسین فجمعهم، ثم أمر جعفر بن أبی طالب أن یقرأ علیهم القرآن، فقرأ علیهم سورة مریم، فآمنوا بالقرآن، وفاضت أعینهم من الدمع، وهم الذین أنزل فیهم: ((ولتجدنّ أقربهم مودّة)، وأخرج ابن أبی شیبة وأبو الشیخ عن عروة قال: کانوا یرون أن هذه الآیة نزلت فی النجاشی: ((وإذا سمعوا ما أنزل الله الى الرسول)).(46)
المصادر :
1- المائدة: 82ـ 83
2- السیرة النبویة لابن هشام: ج2، ص183ـ 184.
3- سیرة ابن هشام: 1، 322، 323 عن ابن اسحاق، وأضاف الواقدی: عبد الله بن مسعود کما فی الطبقات: 1، 204، وعنه فی الطبری: 2، 330.
4- سیرة ابن هشام: 1، 324 منه.
5- طبقات ابن سعد: 1، 204، وعنه فی الطبری: 2، 329.
6- تاریخ الیعقوبی: ج2، ص29.
7- سیرة ابن هشام: 1، 345ـ 353، ونقله الطبری أیضاً بعبارة أخرى.
8- تفسیر القمی، 1: 176.
9- أم سلمة وبعلها أبو سلمة، توفی عنها بالمدینة، وخلف علیها رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)وقیل فی اسمها: رملة، وأبوها أبو أمیة اسمه حذیفة یعرف بزاد الراکب، انظر الاصابة، للحافظ ابن حجر وعلى ذیلها الاستیعاب للإمام ابن عبد البر.
10- ضوى: لجأ.
11- أی أبصر بهم من غیرهم.
12- الشیوم: هم الآمنون، فیحتمل أن تکون لفظة حبشیة غیر مشتقّة، ویحتمل أن یکون لها أصل فی العربیة، وأن تکون من شمت السیف إذا أغمدته، لأن الآمن مغمد عنه السیف. الروض الأنف: ج2، ص92.
13- سیرة ابن هشام: ج2، ص177ـ 181.
14- سیرة ابن هشام: 2/3.
15- سیرة ابن هشام: 2/ 3ـ 10.
16- سیرة ابن هشام: 1/353.
17- سیرة ابن هشام: 4/10، ثم عدّ سبعة رجلاً من أبناءه، وفی ص7.
18- إن الجرو (ابن الکلب) اذا أراد أن یفتح عینیه للنظر صأصأ، أی صوّت.
19- سیرة ابن هشام: 4/10.
20- سیرة ابن هشام: 4، 10.
21- المصدرالسابق: ص11.
22- موسوعة التاریخ الاسلامی: ج1، هامش ص576.
23- البحار: ج18/ ص417.
24- إعلام الورى: ج1/ ص118 و119.
25- المصدر السابق، وقصص الأنبیاء للراوندی: 323 ـ 404، ودلائل النبوة للبیهقی: 2/308، والبدایة والنهایة: 3/83.
26- بحار الأنوار: ج18، ص417.
27- طبقات ابن سعد: 1/259، وعنه فی سیرة ابن هشام: 3/279، وزینی دحلان: بهامش سیرة الحلبی: 3/67.
28- تفسیر القمی: 1/176ـ 178، وعنه فی إعلام الورى: 43ـ 45، والیعقوبی: ج2/30.
29- أمالی ابن الشیخ: 9، والبحار: ج18، ص417ـ 418.
30- البحار: ج18/ ص411ـ 412.
31- مریم: 25.
32- البحار: ج18، ص411ـ 412.
33- المصدر السابق: ص418.
34- سیرة ابن هشام: ج2/ ص185.
35- المصدر السابق: ص184.
36- البحار: 18/ 420.
37- سیرة ابن هشام: 3/ 289 و290.
38- سیرة ابن هشام: ج2، ص185.
39- سیرة ابن هشام: ج2، ص182.
40- سیرة ابن هشام: ص176ـ 177.
41- سیرة ابن هشام: ج2، ص173.
42- سیرة ابن هشام: ج2، ص177.
43- المصدر السابق: ج2/185.
44- موسوعة التاریخ الاسلامی: ج1، هامش ص575.
45- المائدة: 82ـ 86.
46- تفسیر الدر المنثور للسیوطی: ج6/ ص128ـ 131.



 

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.