طارق بن زیاد

طارق بن زیاد قائد عسکری مسلم وُلد فی المغرب الأوسط، وقاد الغزو الإسلامی لشبة الجزیرة الأیبیریة خلال الفترة الممتدة بین عامیّ 711 و718م بأمر من موسى بن نصیر والی أفریقیة فی عهد الخلیفة الأموی الولید بن عبد الملک. یُنسب إلى طارق بن زیاد إنهاء حکم القوط الغربیین لاسبانیا. وإلیه أیضًا یُنسب "جبل طارق" وهو الموضع الذی وطأه جیشه فی بدایة غزوه للأندلس. یُعتبرُ طارق بن زیاد أحد أشهر القادة العسکریین فی التاریخین الأیبیری والإسلامی على حدٍ سواء، وتُعدّ سیرته العسکریَّة من أنجح السیر التاریخیَّة.(1)
 طارق إبن زیاد، أحد کبار قادة الجیوش الاسلامیة وفاتح الاندلس الذی سمیت صخرة جبل طارق بإسمه حتى یومنا هذا.
وطارق ابن زیاد (توفی 720 م) من قبیلة یقال إنها من الجزائر وهناک من یقول إنها من جبال الأطلس المغربیة. کان طارق ابن زیاد فارسا مغوارا أعجب موسى بن نصیر بشجاعته وقوته، ولهذا عهد إلیه بفتح شمال أفریقیا وعینه بعد ذلک والیا على طنجة.
کان الحلم الأکبر الذی یراود طارق ابن زیاد هو اجتیاز الماء إلى الجهة الأخرى واجتیاح أسبانیا، التی کانت تحت حکم ملک القوط لذریق. قاد طارق بن زیاد جیش المسلمین واجتاز المضیق الذی یفصل بین شمال أفریقیا وأوروبا، والذی أصبح یعرف فیما بعد باسمه (مضیق طارق بن زیاد)، والتقى الجمعان بالقرب من نهر لکه. ووقف طارق بن زیاد یومها أمام جنوده وألقى خطبته المأثورة بلغة عربیة فصیحة وهو یحثهم على الحرب بقوله:
(أیها الناس، أین المفر؟ البحر من ورائکم، والعدو أمامکم، ولیس لکم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنکم فی هذه الجزیرة أضیع من الأیتام على مائدة اللئام، وقد استقبلکم عدوکم بجیشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لکم إلا سیوفکم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أیدی عدوکم، وإن امتدت بکم الأیام على افتقارکم، ولم تنجزوا لکم أمرًا ذهبت ریحکم، وتعوَّضت القلوب من رعبها منکم الجراءة علیکم، فادفعوا عن أنفسکم خذلان هذه العاقبة من أمرکم بمناجزة هذا الطاغیة فقد ألقت به إلیکم مدینته الحصینة، وإن انتهاز الفرصة فیه لممکن، إن سمحتم لأنفسکم بالموت.
وإنی لم أحذرکم أمرًا أنا عنه بنجوة، ولا حَمَلْتُکُمْ على خطة أرخص متاع فیها النفوس إلا وأنا أبدأ بنفسی، واعلموا أنکم إن صبرتم على الأشقِّ قلیلاً، استمتعتم بالأرفَهِ الألذِّ طویلاً، فلا ترغبوا بأنفسکم عن نفسی، فما حظکم فیه بأوفى من حظی".
وقد انتخبکم الولید بن عبد الملک أمیر المؤمنین من الأبطال عُربانًا، ورضیکم لملوک هذه الجزیرة أصهارًا، وأختانًا، ثقة منه بارتیاحکم للطعان، واستماحکم بمجالدة الأبطال والفرسان؛ لیکون حظُّه منکم ثواب الله على إعلاء کلمته وإظهار دینه بهذه الجزیرة، ولیکون مغنمًا خالصة لکم من دونه، ومن دون المؤمنین سواکم، والله – الله – ولَّى أنجادکم على ما یکون لکم ذِکرًا فی الدارین.
واعلموا أننی أول مُجیب لما دعوتکم إلیه، وأنی عند مُلتقى الجمعین حامل نفسی على طاغیة القوم لذریق، فقاتله - إن شاء الله -، فاحملوا معی، فإن هلکت بعده، فقد کفیتکم أمره، ولم یعوزکم بطلب عاقد تسندون أمورکم إلیه، وإن هلکت قبل وصولی إلیه؛ فاخلفونی فی عزیمتی هذه، واحملوا بأنفسکم علیه، واکتفوا الهمَّ من الاستیلاء على هذه الجزیرة بقتله؛ فإنهم بعده یُخذلون.
کما قیل أنَّه ذکرهم بالآیة القرآنیَّة: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ یُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ فَیَقْتُلُونَ وَیُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَیْهِ حَقّاً فِی التَّوْرَاةِ وَالإِنجِیلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَیْعِکُمُ الَّذِی بَایَعْتُم بِهِ وَذَلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ﴾
وبالرغم من قلة جنده وشحّ المساعدات، وبالرغم من المصاعب التی واجهها فی بلاد یدخلها لأوّل مرة، إلا انه استطاع فتح الأندلس وتحقیق الانتصار.
اختلف المؤرخون حول نهایة هذا الرجل وکیف کانت، ومن المعروف أنَّه عاد إلى دمشق بصحبة موسى بن نصیر بعد أن استدعاهما الخلیفة الولید بن عبد الملک، وقیل أنَّ سبب ذلک هو خلافٌ وقع بینهما واحتدّ، وفی جمیع الأحوال فقد عُزل کلٌ منهما عن منصبه، وأمضى طارق بن زیاد أواخر أیَّامه فی دمشق إلى أن وافته المنیَّة سنة 720م.
ترک طارق بن زیاد إرثًا کبیرًا بعد وفاته تمثَّل ببقاء شبه الجزیرة الأیبیریَّة تحت حکم المسلمین زهاء 8 قرون، وفی وقتٍ لاحق خلال القرن العشرین أُطلق اسمه على عدد من المواقع فی البلدان الإسلامیَّة وبالأخص فی المغرب العربی.
لم یذکر قدامى المؤرخین کابن عبد الحکم وابن الأثیر والطبری وابن خلدون، تفاصیل کافیة عن أصول طارق بن زیاد، وقد حذت حذوهم کلٍّ من دائرة المعارف الإسلامیَّة وموسوعة کامبریدج الإسلامیَّة فی الوقت المُعاصر. فهو قائد مسلم یقاتل فی سبیل الله (2)
ویمیل معظم المؤرخین إلى أنه بربری کابن عذاری یتبنون هذا الرأی لکونه کان مولى لموسى بن نصیر والی أفریقیة ، لکن على الرغم من ذلک یختلف أصحاب هذا الرأی فی تحدید القبیلة والمنطقة التی وُلد فیها وانتمى إلیها طارق بن زیاد، وذلک کون القبائل التی یُعتقد بانتمائه إلیها کانت کلها فی زمانه تستوطن إقلیم طرابلس .
بحسب الظاهر فإنَّ المؤرخ والجغرافی الکبیر أبو عبد الله محمد الإدریسی هو أوَّل من قال بأصول طارق بن زیاد الأمازیغیة وذلک فی القرن الثانی عشر المیلادی، وأشار إلیه باسم طارق بن عبد الله بن ونامو الزناتی، دون الإشارة إلى أنه ابن زیاد.

نشأته وبدایاته العسکریَّة

یتَّفق أغلب المؤرخین المسلمین المعاصرین، من عرب وأمازیغ، وإسبان، أنَّ طارق بن زیاد کان مولى موسى بن نصیر والی أفریقیة،(3) وأنَّ الأخیر عیَّنه أمیرًا على برقة بعد مقتل زهیر بن قیس البلوی فی طبرق عام 76هـ. ولم یلبث طارق بن زیاد طویلًا فی هذا المنصب، إذ أنه سرعان ما اختیر قائدًا لجیش موسى بن نصیر، فأبلى بلاءً حسنًا فی حروبه، وأظهر أنَّه فارسٌ شجاعٌ مقدام، وغازٍ بطَّاش. وظهرت لموسى بن نصیر قدرة تابعه هذا فی اقتحام المعارک، ومهارته فی قیادة الجیش، فولَّاه على مقدمة جیوشه بالمغرب الأوسط، وهکذا أتیح لطارق بن زیاد أن یتولَّى قیادة جیوش موسى، فسیطر الأمویّون على ما تبقى من حصون المغرب الأقصى حتى المحیط الأطلسی، وشارک طارق فی إرساء الأمن بالمغرب حتى بلغ مدینة الحسیمة، قصبة بلاد المغرب، وأم مدائنها، فحاصرها حتى دخلها وأسلم أهلها. وبهذا تمَّ فتح شمال أفریقیا بکامله، وعُیِّن طارق بن زیاد والیًا على طنجة مکافأةً له على إخلاصه للإسلام والخلافة.(4)

فتح الأندلس

بعد نجاح العملیَّات العسکریَّة لطارق بن زیاد، تمَّ لموسى بن نصیر السیطرة على کامل المغرب الأقصى، وامتد النفوذ الأموی الإسلامی إلى تلک المناطق وأصبحت من حینها جزءًا من العالم الإسلامی، غیر أنه بقیت فقط سبتة التی کان یحکمها حاکم قوطی یدعى یولیان خارج نطاق سیطرة المسلمین. (5)

مُقدمات وأسباب الفتح

کانت عادة أشراف القوط أن یرسلوا أولادهم إلى بلاط ملکهم للتعلیم والتنشئة هناک. وحدث أن اغتصب لذریق ملک القوط ابنة یولیان، مما أغضب الأخیر، وقرر أن ینتقم بدعوة المسلمین لغزو القوط. کما یبدو أنَّ یولیان هذا کان یمتلک بعض الإقطاعات فی جنوبی أیبیریا، وهو على صلات حسنة مع حکَّام البلاد السابقین آل غیشطة، وتحالف مع أخیلا المُطالب بالعرش الإسبانی للتخلّص من حکم لذریق، کما کان رسول آل غیشطة إلى المسلمین. ولمَّات تاخم المسلمون حدود بلاده وجد فی قوَّتهم خیر من یُساعده فی تحقیق هدفه، کما أراد أن یُقِّمَ إلیهم خدمة جلیلة بعد أن أضحوا أسیاد المنطقة، فقرر أن یؤدی دور الوسیط فی تشجیعهم على العبور إلى إسبانیا، فراسل موسى بن نصیروقیل طارق بن زیاد یدعوهم لعبور المضیق وغزو القوط، وأعدّ لهم السفن اللازمة للعبور، وبیَّن لهم حسن البلاد وفضلها وما تحتویه من الخیرات، وهوَّن حال رجالها ووصفهم بالضعف.(6)
ویبدو أنَّ طارق بن زیاد کان یُراوده حلم اجتیاز المیاه إلى الضفة المُقابلة، کما أنه فی الواقع أنَّه لم یکن لدى موسى بن نصیر ما یدعوه إلى رفض هذه الفکرة، ذلک لأنَّ الأمر قد یتطوَّر إلى صورة فتح إسلامی شامل لهذا البلد یُدخله فی دائرة الدولة الإسلامیَّة إلَّا أنَّ عملًا ضخمًا من هذا النوع لا بد وأن ینال موافقة الخلیفة فی دمشق، لذلک کتب موسى بن نصیر إلى الولید بن عبد الملک یُبلغه عرض یولیان ویستأذنه فی العبور. تردد الولید فی بادئ الأمر خشیةً على المسلمین من أن یُغرَّر بهم، وأمر موسى بأن یتروّى فی الأمر، وأن یختبر البلاد بالسرایا. بناءً على هذا أرسل موسى أحد ضبَّاطه ویُدعى طریف بن مالک المعافری، وهو من البربر، على رأس قوَّة عسکریَّة وأمره بالغارة على ساحل إسبانیا الجنوبی. نزل طریف وجنوده فی جزیرة بالوماس، وأغار على المناطق التی تلیها إلى جهة الجزیرة الخضراء وأصاب سبیًا کثیرًا وعاد مُحمَّلًا بالغنائم، فأقنعت هذه الحملة کلٍّ من الخلیفة وموسى بن نصیر بضعف وسائل الدفاع الإسبانی.(7)

غزو أیبیریا

فی 5 رجب 92هـ/29 أبریل 711م، أرسل موسى بن نصیر طارق بن زیاد على رأس جیشٍ عظیم وصل تعداد أفراده إلى نحو 7,000 رجل معظمهم من البربر. عبر طارق بن زیاد وجیشه المضیق الفاصل بین البحر المتوسط والمحیط الأطلسی، ونزل فی رأس شبه الجزیرة الأیبریَّة فی الموضع الذی یعرف الیوم بجبل طارق، وسیطر على ذلک الموقع بعد أن اصطدم بالحامیة القوطیَّة. أقام القائد المسلم عدَّة أیَّام فی قاعدة الجبل نظَّم خلالها جیشه، وأعدَّ خطَّة لفتح القلاع القریبة، والتوغّل فی عمق إسبانیا، ونجح فی فتح بعض القلاع والمدن منها قرطاجنة والجزیرة الخضراء، ثمَّ تقدم باتجاه الغرب حتى بلغ خندة جنوبی غربی إسبانیا التی یقطعها نهر برباط عبر وادی لکة الشهیر، وعسکر هناک (8).
عندما علم لذریق بعبور جیش طارق، جمع جیشًا بلغ نحو 100,000 رجل وسار لقتالهم، وعلم طارق بن زیاد بواسطة جواسیسه بأنباء الحشود الضخمة التی حشدها لذریق، فراسل موسى بن نصیر یستمده، فأرسل له 5,000 رجل آخر. تقابل الجیشان فی 28 رمضان 92هـ/19 یولیو 711م عند وادی لکة من کورة شذونة، على بعد أمیال إلى الشرق من قادش، وجرت بینهما معرکة طاحنة، أسفرت عن انتصار حاسم لجیش طارق بن زیاد، وتمَّ القضاء على الجیش القوطی ومعه الملک، وتشیر بعض المصادر إلى أنَّ طارق بن زیاد هو من قتل لذریق بیده، إذ رماه برمحه فأرداه قتیلًا على الفور، وجعل یصیح: "قتلت الطاغیة.. قتلت لذریق".(9)
نصح یولیان طارق بن زیاد بتقسیم جیشه لفتح المدن الهسبانیة، فأرسل طارق مفارز فتحت قرطبة وإلبیرة وغیرها، وسار بنفسه یرید طلیطلة عاصمة القوط. وبحکم الأمر الواقع، أصبح طارق حاکمًا على الأندلس. وبعد أن تمَّ له فتح طلیطلة، راسل موسى بن نصیر یطلب منه المدد لتعویض النقص فی عدد الجنود ولتوطین ما یلزم من الرجال فی المدن حدیثة الفتح حتى یُدافعوا عنها، فکتب قائلاً: "إن الأمم قد تداعت علینا من کل ناحیة فالغوث الغوث". ردَّ موسى بن نصیر على طارق بن زیاد یأمره بألَّا یتجاوز مکانه حتى یلحق به، وفی شهر رمضان من عام 93هـ/یونیو 712، أقلع موسى بن نصیر إلى الجزیرة الخضراء على رأس قوة عسکریَّة ضخمة وفتح عدَّة مدائن أخرى أثناء توجهه لمقابلة طارق بن زیاد.(10)

نهایته

عام 95هـ، وبعد أن فتحا مناطق واسعة من شبة الجزیرة الأیبیریة، جاءت رسل الخلیفة الولید بن عبد الملک تستدعی موسى بن نصیر وقائده طارق بن زیاد إلى دمشق، لینتهی بذلک دورهما کقادة عسکریین فی فتح الأندلس. ویُرجّح عدد من المؤرخین سبب استدعائهما إلى دمشق من قبل الخلیفة إلى خِلافٍ وقع بینهما وبلغ حدَّة کبیرة دفعت الخلیفة إلى استدعاءهما إلى دمشق لیحسم الخلاف بنفسه. توجه طارق بن زیاد بصحبة موسى بن نصیر إلى دمشق ومعه أربعمائة من أفراد الأسرة المالکة وجموع من الأسرى والعبید والعدید من النفائس. ولمَّا وصلا طبریَّا فی فلسطین، طلب منهما سلیمان بن عبد الملک ولی العهد التأخّر حتى یموت الخلیفة الولید الذی کان یصارع الموت. لکنهما تابعا تقدّمهما ودخلا مع الغنائم إلى دمشق.(11)
وعندما تولّى سلیمان الخلافة، عزل موسى وأولاده، وقتل ابنه عبد العزیز بن موسى الذی شارک فی فتح الأندلس. أمَّا طارق بن زیاد فقد انقطعت أخباره إثر وصوله إلى الشام، واضطربت أقوال المؤرخین فی نهایته، غیر أن الراجح أنه لم یولَّ عملا بعد ذلک، ویبدو أنَّه آثر أن یعیش بعیدًا عن الأضواء، ویُمضی أیَّامه فی العبادة والزهد بعیدًا عن مسرح الشهرة وضجیج السیاسة، وقد توفی سنة 720م.(12)

العلاقة مع موسى بن نصیر

هناک خلاف حول طبیعة العلاقة التی کانت بین طارق بن زیاد وموسى بن نصیر. فبعض المؤرخین، رجحوا وجود علاقة حقد وحسد من جهة موسى تجاه طارق بن زیاد، بعد نجاحه فی غزو الأندلس. فی حین لم یرجح بعضهم وجود تلک الضغائن بین الاثنین. وقد ذکر ابن عبد الحکم أن موسى غضب على طارق، وسجنه وهمّ بقتله لولا شفاعة مغیث الرومی مولى الولید بن عبد الملک، وأن استدعاء الخلیفة الولید للرجلین، کان بسبب ذلک. کما ذکر صاحب أخبار مجموعة فی فتح الأندلس، عندما التقى طارق بموسى فی الأندلس، نزل عن جواده احترامًا له، بینما وضع موسى السوط على رأسه، وأنبه على مخالفته أمره. فی حین ذکر البلاذری أن موسى عنّف طارق فی خطاب أرسله إلیه ینهاه أن یتجاوز قرطبة، إلا أنهما تصالحا بعد ذلک.(13)

مائدة الذهب

القصة الأکثر انتشارا فیما یتعلق بالعداوة بین طارق وموسى، تتعلق بمائدة من الذهب مرصعة بالأحجار الکریمة، نسبتها المصادر العربیة إلى النبی سلیمان بن داود، التی استولى علیها طارق فی غزواته، وانتزع منها إحدى أقدامها. اتهم موسى طارقًا فی تلک القدم، فأنکر طارق ذلک. وأمر موسى باستبدالها بقدم أخرى من الذهب. وقد دخل موسى بتلک المائدة على الخلیفة فی دمشق. وأمام الخلیفة، إدعى موسى بأنه من عثر علیها، غیر أن طارق فنّد الادعاء حین أظهر القدم الأصلیة أمام الخلیفة. لم ترد القصة فی فتوح البلدان للبلاذری، الذی ذکر فقط أن موسى دخل بالمائدة على الخلیفة.(14)

حرق الأسطول الإسلامی

من الأمور التی کانت محل الجدل فیما یرتبط بتاریخ طارق بن زیاد، مسألة حرقه للسفن التی عبر علیها للأندلس لیقطع طریق العودة على جنوده، ویدفعهم للاستبسلال فی القتال أمام العدو، وهی روایة محل شک نظرًا لکونها لم تذکر فی الروایات العربیة إلا فی کتاب نزهة المشتاق فی اختراق الآفاق للإدریسی الذی عاش بعد الفتح بنحو خمس قرون. وکذا مسألة خطبته التی قالها قبل معرکة وادی لکة، والتی قال فیها:
أیها الناس، أین المفر؟ البحر من ورائکم، والعدو أمامکم، ولیس لکم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنکم فی هذه الجزیرة أضیع من الأیتام على مائدة اللئام، وقد استقبلکم عدوکم بجیشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لکم إلا سیوفکم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أیدی عدوکم، وإن امتدت بکم الأیام على افتقارکم، ولم تنجزوا لکم أمرًا ذهبت ریحکم، وتعوَّضت القلوب من رعبها منکم الجراءة علیکم، فادفعوا عن أنفسکم خذلان هذه العاقبة من أمرکم بمناجزة هذا الطاغیة فقد ألقت به إلیکم مدینته الحصینة، وإن انتهاز الفرصة فیه لممکن، إن سمحتم لأنفسکم بالموت.
وإنی لم أحذرکم أمرًا أنا عنه بنجوة، ولا حَمَلْتُکُمْ على خطة أرخص متاع فیها النفوس إلا وأنا أبدأ بنفسی، واعلموا أنکم إن صبرتم على الأشقِّ قلیلاً، استمتعتم بالأرفَهِ الألذِّ طویلاً، فلا ترغبوا بأنفسکم عن نفسی، فما حظکم فیه بأوفى من حظی".
وقد انتخبکم الولید بن عبد الملک أمیر المؤمنین من الأبطال عُربانًا، ورضیکم لملوک هذه الجزیرة أصهارًا، وأختانًا، ثقة منه بارتیاحکم للطعان، واستماحکم بمجالدة الأبطال والفرسان؛ لیکون حظُّه منکم ثواب الله على إعلاء کلمته وإظهار دینه بهذه الجزیرة، ولیکون مغنمًا خالصة لکم من دونه، ومن دون المؤمنین سواکم، والله – الله – ولَّى أنجادکم على ما یکون لکم ذِکرًا فی الدارین.
واعلموا أننی أول مُجیب لما دعوتکم إلیه، وأنی عند مُلتقى الجمعین حامل نفسی على طاغیة القوم لذریق، فقاتله - إن شاء الله -، فاحملوا معی، فإن هلکت بعده، فقد کفیتکم أمره، ولم یعوزکم بطلب عاقد تسندون أمورکم إلیه، وإن هلکت قبل وصولی إلیه؛ فاخلفونی فی عزیمتی هذه، واحملوا بأنفسکم علیه، واکتفوا الهمَّ من الاستیلاء على هذه الجزیرة بقتله؛ فإنهم بعده یُخذلون.
کما قیل أنَّه ذکرهم بالآیة القرآنیَّة: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ یُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ فَیَقْتُلُونَ وَیُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَیْهِ حَقّاً فِی التَّوْرَاةِ وَالإِنجِیلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَیْعِکُمُ الَّذِی بَایَعْتُم بِهِ وَذَلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ﴾. هناک شک فی نسبة تلک الخطبة إلى طارق، نظرًا لأنها لم ترد فی أقدم المصادر العربیة التی تناولت فتح الأندلس وهی فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحکم أو فتوح البلدان للبلاذری، کما لم یذکرها ابن الأثیر ولا ابن خلدون، وذکرها المقری دون أن یذکر عمّن نقلها.(15)

مواضیع أخرى

من أقدم الوثائق التی تُشیر إلى طارق بن زیاد تأریخ عام 754، أی خلال العقود الأولى من الفتح الإسلامی للأندلس، وهی مکتوبة باللغة اللاتینیَّة، وفیها یُشار إلى القائد المُسلم باسم Taric Abuzara. ارتبط إسم طارق بن زیاد عند بعض المؤرخین باسم جاریة تُدعى "أم حکیم"، ویُقال أنها رافقته فی أسفاره وفتوحاته وکانت معه حین عبر إلى أیبیریا، لکن طبیعة علاقتهما غیر معروفة.

ذکرى طارق بن زیاد

شخصیَّته

یُشیر عدد من الباحثین والمؤرخین المسلمین مثل الدکتور عبد الحلیم عویس والدکتور راغب السرجانی إلى أنَّ طارق بن زیاد کان إنسانًا متواضعًا راضیًا وقنوعًا، تجلَّت إنسانیَّته فی الکثیر من المواقف البارزة. فقد رضی على الدوام أن یکون الرجل الثانی بعد موسى بن نصیر، ولم تظهر منه أی علامة صراع من أجل الدنیا، و«کان بربریًّا عربیًّا مسلمًا مثالیًّا»، أی کان الإسلام قومیَّته وکان المسلمون على اختلاف قومیَّاتهم شعبه. کما أشار هؤلاء إلى أنَّ طارق بن زیاد کان وفیًّا لکل من وقف معه، ولم ینکث عهده أبدًا، وأنَّ له فضلٌ کبیر على الیهود الأیبیریّین، فقد کان القوط قد أصدروا أمرًا بتنصیر، أو تعمید کل أبناء الیهود الذین یصلون إلى سن السابعة، کما أصدروا أمرًا بمصادرة أملاک الیهود بعد اکتشافهم لمؤامرة یهودیة، ولهذا کان فتحه للأندلس إنقاذًا للیهود. کما عُرف أنَّه أعاد للأمراء أملاکهم التی کانت لهم، وهی التی سمیت بصفایا الملوک، کما کان صادقًا فی عهود الأمان التی أعطاها لبعض المدن، حتى ولو کان أهل هذه المدن قد حصلوا علیها بنوع من الحیلة، فلم ینکث عهده معهم مع ذلک، اعتمادًا على أن فی الحرب من الخدعة ما تقرُّه کل القوانین.

میراثه

یُعتبر طارق بن زیاد أحد أشهر القادة العسکریین المُسلمین فی التاریخ، ومن أهمهم على الإطلاق، وهو من أکثر الشخصیَّات الوطنیَّة إجلالًا فی المغرب العربی، فی کلٍ من الجزائر والمغرب بشکلٍ خاص، وعند العرب والأمازیغ على حدٍ سواء، وقد سُمِّیت باسمه الکثیر من المواقع تکریمًا له وتخلیدًا لذکراه، فی البلدان الإسلامیَّة وخارجها. من هذه على سبیل المِثال أکادیمیَّة طارق بن زیاد فی إنفر غروف هایتس، مینیسوتا، بالولایات المتحدة، وهی مدرسة ابتدائیَّة مدعومة من مؤسسة الإغاثة الإسلامیَّة الأمریکیَّة،وقد دخلت فی عدَّة قضایا قانونیَّة جدلیَّة کونها خالفت مبدأ فصل الدین عن الدولة المعمول به فی البلاد إلى أن أُغلقت سنة 2011م من قبل وزارة التعلیم المینوسوتیَّة. وفی سنة 2012م أصدر البنک المرکزی البریطانی لحکومة جبل طارق ورقة مالیة تحمل صورة طارق بن زیاد، والورقة المالیَّة هذه من فئة 5 جنیهات استرلینیَّة، ویظهر علیها طارق بن زیاد یحمل سیفًا. لکن الإرث الأهم لطارق بن زیاد یبقى المضیق الفاصل بین البحر المتوسط والمحیط الأطلسی الذی حمل اسمه منذ أن عبره وحتى الزمن الحالی.
المصادر :
1- طارق بن زیاد - موسوعة یونیفیرسالس (فرنسیة)
2- المقری التلمسانی، ص. 255؛ یقول أنَّ ابن خلدون یُشیر إلى طارق بن زیاد بلقب اللیثی غیر أنَّ هذا لا یظهر فی الطبعات الحدیثة المُعاصرة من أعمال ابن خلدون.
3- ابن خلکان. 81
4- تعدى إلى الأعلى ل: أ ب ت ث ج الخیمة: تاریخ؛ طارق بن زیاد (ت 720م)
5- ابن عبد الحکم 1999. 276
6- حسین، مؤنس (1959). فجر الأندلس. القاهرة-مصر. صفحة 64.
7- تعدى إلى الأعلى ل: أ ب ابن عذاری 1980, p. 6
8- ابن القوطیة، أبو بکر محمد القرطبی. تاریخ افتتاح الأندلس، تحقیق عبد الله الطبَّاع. بیروت - لبنان: دار النشر للجامعیین. صفحة 34-35
9- ابن قتیبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم (1963). الإمامة والسیاسة، جـ2. القاهرة-مصر: مکتبة ومطبعة مصطفى البابی الحلبی. صفحة 74.
10- ابن عبد الحکم 1999. 280
11- جوزیف رینو: الفتوحات الإسلامیة. ص43 وما بعدها، ط1، 1984م - الجزائر.
12- الزرکلی 2002. 217
13- ابن عبد الحکم 1999. 283/ تعدى إلى الأعلى ل: أ ب البلاذری 1901. 239
14- ابن عبد الحکم 1999. 279-285
15- ابن خلکان 1972321-322