لا بدّ من أن نتعرّف على الدواء والعلاج المناسب للقلب حیث ان لکلّ داء دواء، کما ورد فی الخبر، لکنّ الأهمّ من معرفة الداء هو معرفة الدواء وکیفیّة العلاج، وقد أرشدنا الله عزّ وجلّ فی محکم کتابه وکذلک أهل البیت علیهم السلام فی الروایات الشریفة إلى ذلک، وما علینا إلّا وضع الأمور فی مواضعها والاستفادة منها...
ومقدّمة لا بدّ للإنسان من أنْ یعرف أنّ له بُعداً مادّیاً وهو الجسم، وبعداً معنویّاً وهو الروح، وکما یهتمّ کلّ واحد منّا بجسمه فإنّ علیه أن یهتمّ بروحه أیضاً؛ لأنّ کلّاً منهما له حقّ لا بدّ من أدائه. لذا، وکما تهتمّ بصحّتک وأکلک وشربک، وتسعى جاهداً من أجل المحافظة على جسمک، فتسارع إلى مداواته عند المرض وحلول السقم خوفاً من الموت والهلاک، کذلک لا بدّ - وبطریق أولى - من الاهتمام بقلبک وروحک، وغذائهما، لئلّا تمرض أیضاً، فیقسو قلبک ویختم علیه، فتعجز حینئذٍ عن علاجه، وبالتالی یؤدّی إلى الهلاک الدنیویّ والأخرویّ.
ویا للعجب! من أقوامٍ یهتمّون بأبدانهم، وهذه الأبدان زائلة فانیة یأکلها الدود وتصبح رمیماً وتراباً، ولا یهتمّون بأرواحهم الخالدة الباقیة، إمّا فی الجنّة أو فی النار.
عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال: (عجبت لأقوامٍ یحتمون الطعام مخافة الأذى، کیف لا یحتمون الذنوب مخافة النار!)(1)
کیف نعالج أمراضنا الأخلاقیـّة؟
لنفترض أنّنا أصبنا بأیّ مرضٍ أخلاقیّ، کالکذب والغِیبة والسرقة وغیرها.فالخطوة الأولى: فی طریق العلاج والشفاء، هی التشخیص الصحیح لنوع المرض، ومدى تجذّره فی قلوبنا.
الثانیة: لا بدّ من معرفة سبب المرض؛ لأنّ العلاج قد یکون بعلاج السَّبب فیزول المسبَّب عنه. مثلاً لماذا أکذب؟ هل هو لنقصٍ فی شخصیّتی، أم لأجل مصلحة دنیویّة أم لأجل؟.. الخ. ولماذا أغتاب؟ ولماذا أسرق؟...
الثالثة: استعمال الدواء بشکل صحیح ومتابعة العلاج.
والرابعة: التفقّه فی الدین، والمراد منه ها هنا اطّلاع الإنسان على خطورة الذنب وآثاره الدنیویّة والأخرویّة. فإذا التفت إلى خطورة الکذب مثلاً، وأنّه باب الکبائر، وأنّه ینسلخ عن الإیمان حین کذبه، وأنّه سیعاقب علیه، فأیّ عاقلٍ سیقدم بعدها على الکذب، والعیاذ بالله؟!
علاج آخر للذنوب
وهذا العلاج ینقسم إلى شقّین: أحدهما العلاج العلمیّ، والثانی هو العلاج العملیّ.الف - العلاج العلمیّ
وقد نصطلح علیه بالعلاج النفسیّ ویقوم على عدّة أمور: التفکّر والتذکّر والعزم.1- التفکّر:
یقول الإمام الخمینیّ فی هذا المجال: "والتفکّر فی هذا المقام، هو أن یفکّر الإنسان بعض الوقت، فی أنّ مولاه الّذی خَلقه فی هذه الدنیا، وهیّأ له کلّ أسباب الدعة والراحة، ووهبه جسماً سلیماً... ومن جهة أخرى أرسل جمیع هؤلاء الأنبیاء علیهم السلام، وأنزل کلّ الکتب والرسالات... فما هو واجبنا تجاه هذا المولى مالک الملوک؟..هل إنّ وجود جمیع هذه النعم هو فقط لأجل هذه الحیاة الحیوانیّة وإشباع الشهوات؟.. أم أنّ هناک هدفاً وغایة أخرى؟.. إنّ الإنسان إذا فکّر للحظةٍ واحدةٍ عرف أنّ الهدف من هذه النعم هو شیء آخر، وأنّ الغایة من هذا الخلق أسمى وأعظم، وأنّ هذه الحیاة الحیوانیّة لیست هی الغایة بحدّ ذاتها (2)
وبعبارةٍ أخرى لا بدّ من أن تجلس مع نفسک، تتأمّل فی وضعک وحیاتک، ودنیاک وآخرتک، وأن تقوم بجردة حسابیّة لمسیر حیاتک: أین کنت؟، وإلى أین أسیر؟، وکیف أسیر؟، هل أنا راضٍ عن حیاتی وعلاقتی بربِّی؟، وهل أنا أسیر من الحسن إلى الأحسن أم إلى الأسوأ؟، هل أنا إن متُّ الآن إلى الجنّة أذهب، أم إلى النار الّتی سجّرها جبّارها لغضبه؟، کلّ هذه الأسئلة سوف تؤدّی إلى جوابٍ، یدعو هذا الإنسان إلى الاستئناف، وإعادة فتح حسابٍ جدیدٍ مع ربّه وخالقه.
عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال: (رحم الله امرأً نظر فتفکّر، وتفکّر فاعتبر، واعتبر فأبصر، وأبصر فأقصر، فقد أبصر أقوام ولم یُقصِروا، ثمّ هلکوا فلم یدرکوا ما طلبوا، ولا رجعوا إلى ما فارقوا...)(3)
2- العزم:
والمراد به ها هنا هو "أن یوطّن الإنسان نفسه، ویتّخذ قراراً بترک المعاصی وبأداء الواجبات، وتدارک ما فاته فی أیّام حیاته"(4)وبعبارة ثانیة: لا بدّ لک من أن تقرّر وترید السیر نحو الله وإطاعته، وترک إطاعة الشیطان، والسعی فی سبیل ذلک والتحرّک إلیه، ببدء المسیر من یومک هذا؛ لأنّ الغدَ قد لا یأتی.
عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال: إنّما الدنیا ثلاثة أیّام: فیومٌ مضى بما فیه فلیس بعائد، ویومٌ أنت فیه یحقّ علیک اغتنامه، ویوم لا تدری هل أنت من أهله ولعلک راحلٌ فیه... وإن یک یومک هذا آنسک بقدومه، فقد کان طویل الغِیبة عنک، وهو سریع الرحلة عنک، فتزوّد منه وأحسن وداعه، خذ بالبقیّة فی العمل وإیّاک والاغترار بالأمل...(5)
3- التذکّر:
أ- تذکّر خَلقنا ووجودنا، والنعم الّتی أنعمها الله علینا فیما نستعملها.ب- تذکّر العقاب الدنیویّ، وحلول سخط الله علینا فی أبداننا وأموالنا وأولادنا، وقلّة المطر ونقصان الرزق والعمر، وتسلّط الأشرار علینا..
ج- تذکّر العقاب الأخرویّ: ووقوفنا بین یدی الله عزّ وجلّ وافتضاحنا، ودخول النار وألیم عذابها وشدّته وطول مدّته...
د- الشعور بالرقابة الإلهیـّة: یقول الله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَکُمْ أَیْنَ مَا کُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ﴾(6)، فإذا فکّر الإنسان وتیقّظ من غفلته، وعلم أنّ الله معه أینما کان، سواء فی السرّ أو فی العلن، فی اللیل أو فی النهار، فلعلّه یستحی من اطِّلاع ربّه علیه، ونظره إلیه فیرعوی ویقلع عن ارتکاب ما یسخطه ویغضبه.
یقول الإمام الخمینیّ: "العالم محضر الله، فلا تعص الله فی محضر الله".
عن الإمام الصادق علیه السلام قال: "یا إسحاق (أحد أصحاب الإمام علیه السلام )خفِ الله کأنّک تراه، وإن کنت لا تراه فإنّه یراک، فإن کنت ترى أنّه لا یراک فقد کفرت، وإن کنت تعلم أنّه یراک ثمّ برزت له بالمعصیة، فقد جعلته من أهون الناظرین علیک"(7).
وروی أنّ الإمام الحسین بن علیّ علیه السلام جاءه رجلٌ فقال له: "أنا رجل عاصٍ ولا أصبر على المعصیة، فعظنی بموعظة، فقال علیه السلام: إفعل خمسة أشیاء وأذنب ما شئت:
فأوّل ذلک: لا تأکل رزق الله، وأذنب ما شئت.
والثانی: أخرج من ولایة الله، وأذنب ما شئت.
والثالث: أطلب موضعاً لا یراک الله، وأذنب ما شئت.
والرابع: إذا جاء ملک الموت لیقبض روحک، فادفعه عن نفسک، وأذنب ما شئت.
والخامس: إذا أدخلک مالکٌ فی النار، فلا تدخل فی النار، وأذنب ما شئت"(8).
باء - العلاج العملیّ:
وهذا العلاج ینقسم إلى علاج عامّ وعلاج خاصّ.العلاج العامّ: هو لکلّ الذنوب والأمراض، وذلک بمعرفة سبب الابتلاء بها، والوقوع فیها، وهو إمّا الجهل أو الغفلة أو ضعف الإرادة، وحینئذٍ لا بدّ من المبادرة إلى رفع الجهل بالعلم والتفقّه، ورفع الغفلة بالاستیقاظ والتذکّر، وعلاج ضعف الإرادة أمام الشهوات بتقویة العزم وبذل الجهد فی مقاومة الذنوب وترکها.
العلاج الخاصّ: وهو أن یبادر الإنسان عملیّاً إلى معالجة الذنب الّذی وقع فیه، فإذا التفت مثلاً إلى أنّه وقع فی الغِیبة، فیتوقّف ویستغفر ربّه، ویسعى للتحلّل من صاحبها، ویترک الغِیبة مدّة من الزمن، ولا یجلس فی مجلس الغِیبة، ولا یشارک أحداً فی غِیبة ولو بسکوته، ولیتعوّد على لجم لسانه والتفکیر قبل کلامه..
یقول الإمام الخمینیّ قدس سره فی کیفیّة علاج المفاسد الأخلاقیّة:
(ابحث عن العلاج واعثر على الدواء، لإزالة تلک الأخلاق الفاسدة والقبیحة... وأفضل علاج... هو ما ذکره علماء الأخلاق وأهل السلوک، وهو أن تأخذ کلّ واحدة من الملکات القبیحة الّتی تراها فی نفسک، وتنهض بعزمٍ على مخالفة النفس إلى أمدٍ، وتعمل عکس ما ترجوه وتتطلّبه منک تلک الملکة الرذیلة . وعلى أی حال اطلب التوفیق من الله تعالى لإعانتک فی هذا الجهاد، ولا شکّ فی أنّ الخُلُقَ القبیح سیزول بعد فترة وجیزة...)(9).
جلاء القلوب
من نعم الله علینا بعد أن خلقنا وابتلانا، وهو أعلم بما صنع، وقد علم أنّ بعضنا سیفسد فی الأرض ویطغى، فینحرف عن صراطه المستقیم، فتنکّس القلوب وتقسو وتمرض، أرشدنا إلى الدواء فی کتابه وعن طریق رسوله وأهل بیته علیهم السلام، وسوف نشیر ها هنا إلى جملة من أدویة القلب:1- ذکر الله:
یقول الله عزّ وجلّ فی محکم کتابه الکریم ﴿الَّذِینَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِکْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِکْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(10).ویروى عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال لأحد أصحابه: "یا أبا أسامة إرعوا قلوبکم بذکر الله عزّ وجلّ، واحذروا النکت"(11).
ومن کلام لأمیر المؤمنین علیه السلام عند تلاوته: ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِیهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَیْعٌ عَن ذِکْرِ اللَّهِ﴾(12) قال: "إنّ الله سبحانه جعل الذکر جلاء القلوب"(13).
قال الشاعر الورّاق:
وإذا مرضتَ من الذنوب فداوها***بالذکر إنّ الذکر خیر دواء
والسقم فی الأبدان لیس بضائرٍ ***والسقم فی الأرواحِ شرّ بلاء(14)
2- الاستغفار:
عن رسول الله صلى الله علیه واله قال: "ألا أنبّئکم بدائکم من دوائکم؟: داؤکم الذنوب ودواؤکم الاستغفار"(15).3- قراءة القرآن:
وهو دواء وشفاء للقلوب والأبدان.یقول الله عزّ وجلّ: ﴿یَا أَیُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْکُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّکُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِی الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِینَ﴾(16).
وعن أمیر المؤمنین علیه السلام قال: "إنّ هذه القلوب تصدأ کما یصدأ الحدید، قیل فما جلاؤها؟ قال: تلاوة القرآن وذکر الموت"(17).
وعنه علیه السلام قال: "إنّ الله سبحانه لم یعظ أحداً بمثل هذا القرآن، فإنّه حبل الله المتین وسببه الأمین, وفیه ربیع القلب وینابیع العلم, وما للقلب جلاء غیره..."(18).
4- قلّة الأکل:
عن الإمام الصادق علیه السلام قال: "ولیس شیء أضرّ لقلب المؤمن من کثرة الأکل, وهی مورثة لشیئین: قسوة القلب وهیجان الشهوة".وقال عیسى روح الله علیه السلام: "ما مرض قلب بأشدّ من القسوة"(19).
5- استماع الموعظة:
عن الإمام علیّ علیه السلام قال: "المواعظ صقال النفوس وجلاء القلوب"(20).وقیل: "الموعظة حرز من الخطأ، وأمنٌ من الأذى وجلاءٌ للقلوب من الصدأ".
6- الحدیث:
عن النبیّ صلى الله علیه واله قال: "تذاکروا وتلاقوا وتحدّثوا؛ فإنّ الحدیث جلاء القلوب"(21).7- قیام اللیل:
وعنه صلى الله علیه واله قال: "علیکم بقیام اللیل فإنّه دأب الصالحین، وإنّ قیام اللیل قربة إلى الله وتکفیر السیّئات، ومنهاة عن الإثم ومطردة الداء عن أجسادکم..."(22).خلاصة
- کما یهتمّ الإنسان بصحّته وطعامه ومشربه، والمسارعة إلى مداواة الأمراض الّتی یتعرّض لها جسده . کذلک لا بدّ وبطریق أولى، من أن یهتمّ الإنسان بغذاء الروح، وعلاج أمراض القلب المعنویّة- ینقسم علاج أمراض الروح والقلب إلى قسمین:
أ- العلاج النفسیّ، ویتضمّن ثلاث خطوات:
- التفکّر فی عظمة مخلوقات الله .- العزم على ترک المعاصی وأداء الواجبات .
- تذکّر العقاب الإلهیّ واستشعار رقابته لنا .
ب- العلاج العملیّ، ویتضمّن خطوتین:
- علاج عام لکلّ الذنوب والأمراض، کمعرفة أسباب ارتکابها جهلاً أو غفلة... الخ .- علاج خاصّ لکلّ ذنب، بشکل مستقلّ کعلاج ذنب الغِیبة فقط، وهکذا
- وصفات تربویّة لعلاج أمراض القلوب:
- ذکر الله تعالى واستغفاره .
- قراءة القرآن الکریم.
- التقلیل من الطعام والشراب والنوم.
- الاستماع للموعظة وأحادیث أهل البیت علیهم السلام.
- أداء صلاة اللیل، فهی دأب الصالحین.
صلاة الزهراء علیها السلام
قال رسول الله صلى الله علیه واله: "وأمّا ابنتی فاطمة فإنّها سیّدة نساء العالمین من الأولین والآخرین، وهی بضعة منّی، وهی نور عینی، وهی ثمرة فؤادی، وهی روحی الّتی بین جنبیّ، وهی الحوراء الإنسیّة، متى قامت فی محرابها بین یدی ربّها جلّ جلاله زهر نورها لملائکة السماء کما یزهر نور الکواکب لأهل الأرض، ویقول الله عزّ وجلّ لملائکته: یا ملائکتی انظروا إلى أمَتی فاطمة سیّدة إمائی قائمة بین یدیّ ترتعد فرائصها من خیفتی وقد أقبلت بقلبها على عبادتی، أشهدکم أنّی قد آمنت شیعتها من النار"(23).المصادر :
1- بحار الأنوار، المجلسی، ج75، ص46
2- الإمام الخمینی، الأربعون حدیثاً، ص23
3- شرح نهج البلاغة، ابن أبی حدید، ج5، ص147
4- الإمام الخمینی، الأربعون حدیثاً، ص25
5- مستدرک الوسائل، المیرزا النوری، ج12، ص149
6- الأنعام: 94
7- الکافی، الکلینی، ج2، ص67
8- بحار الأنوار، المجلسی، ج75، ص126
9- الإمام الخمینی، الأربعون حدیثاً، ص39
10- الرعد: 28
11- الکافی، الکلینی، ج8، ص167
12- النور: 37
13- بحار الأنوار، المجلسی، ج66، ص325
14- شرح نهج البلاغة، ج7، ص81
15- مستدرک الوسائل، المیرزا النوری، ج12، ص123
16- یونس: 57
17- شرح نهج البلاغة، ج10، ص144
18- میزان الحکمة، ص31
19- مستدرک الوسائل، المیرزا النوری، ج12، ص94
20- غرر الحکم ودرر الکلم، ص224
21- بحار الأنوار، المجلسی، ج2، ص152
22- مستدرک الوسائل، المیرزا النوری، ج6، ص331
23- بحار الأنوار، العلّامة المجلسی، ج 28، ص 38
/ج