
السید عبد الرحمن الکواکبی یعتز بنسبه وحسبه وعلمه وجاهه وماله، فأسرة الکواکبی ( من بیت فی حلب ) کانت فیها نقابة الأشراف فی حلب، ولها مدرسة تسمى المدرسة الکواکبیة، وأبوه أحد المدرسین فی الجامع الأموی بحلب والمدرسة الکواکبیة فیها.تعاون على تربیة بیته وما فی تقالیده من عزة وإباء وشمم وأنفة من الصغائروخالة له تعهدته بعد وفاة والدته وهو صغیر. وکانت من نوادر النساء فی الشرق، عرفت بالأدب والکیاسة وکبر العقل. فطرته التی فطر علیها میل إلى الحق، وحب الخیر والاستجابة للتربیة الصالحة.کل هذا جعل منه رجلًا یستعصی على ناقد الأخلاق نقده، مؤدب اللسان فلاتؤخذ علیه هفوة، یزن الکلمة قبل أن ینطق بها وزنًا دقیقًا، حتى لو ألقى علیه السلام لفکر فی الإجابة، متزن فی حدیثه، إذا قاطعه أحد سکت وانتظر حتى یتم حدیثه، ثم یصل ما انقطع من کلامه، فیؤدب بذلک محدثه، نزیه النفس لا یخدعها مطمع ولا یغریها منصب، شجاع فیما یقول ویفعل، مهما جرت علیه شجاعته من سجن وضیاع مال وتشرید، وهو — مع أنفته وعزته وصلفه على الکبراء —متواضع للبائسین والفقراء، یقف دائمًا بجانب الضعفاء، یشع على من یجالسه الاتزان والتفکیر الهادی، وحب الحق ونصرة المبدأ، والتضحیة للفضیلة.تعلم کما کان یتعلم ناشئة زمانه الدینیون، لغة عربیة ودین فی مدرسة
وکانت مدرسة تسیر على الطریقة الأزهریة أسرته بحلب فیما یقرأ من کتب، وما یتبع من منهج، ولکنه أکمل نفسه بقراءته بعض العلوم الریاضیة والطبیعیة، وأحضر له والده من الفارسیة والترکیة، وطالع بنفسه کثیرًا من الکتب التاریخیة، وعنى بدراسة قوانین الدولة العثمانیة. فلما أتم دراسته انغمس فی الحیاة العملیة، وتنوعت أعماله، وتباینت اتجاهاته، فمن محرر لجریدة رسمیة، إلى رئیس کتاب المحکمة الشرعیة، على قاض شرعی فی بلدة من البلاد السوریة، إلى رئیس البلدیة. ثم هو بین الحین والحین یعتزل اسمها الشهباء، أو یشتغل الوظائف الحکومیة فینشئ لنفسه جریدة فی بالأعمال التجاریة، أو یقوم بمشروعات عمرانیة، ومن کل ذلک یستفید خبرة وتجربة بالحیاة. وفی کل الأعمال الحکومیة والحرة یصطدم بنظام الدولة، وباستبداد الحکام،وفساد رجال الإدارة، فینازلهم وینازلونه، ویحاربهم ویحاربونه، وینتصر علیهم حینًا، وینتصرون علیه حینًا، وسلاحه دائمًا النزاهة والعدل والاستقامة، وسلاحهم دائمًا الدسائس واتهامه بخروجه على النظام، ودعوته للشغب.
وبلغ الضیق فی الشرق منتهاه فی عهد السلطان عبد الحمید، ولکن شدة الضغط تولد الانفجار، والقسوة تفتق الحیلة. وتوالی الاضطهاد یولد البغضاء، فکثرت فی هذا العهد الجمعیات السریة تعمل لتحریر البلاد العثمانیة من الظلم، وتعمل لوضع نظام دیمقراطی لا یکون فیه السلطان الحاکم بأمره، وفر کثیر من العثمانیین إلى أوربا یدرسون نظم الحکم الأوربی وما وصلت إلیه أوربا من البحوث الاجتماعیة، وأخذوا یکتبون ذلک فی جرائدهم ومجلاتهم التی یحررونها خارج الحدود العثمانیة، ومنها تتسرب إلى البلاد نفسها. وأخذت مصر بعد انفصالها من حکم العثمانیین تؤوی الأحرار، وتؤید القول فی نقد نظام الحکم، وظهرت فی الجرائد والمجلات مقالات بالعربیة فی تشریح أحوال الجماعات وأصول الحکومات، وترجم إلى العربیة .
بحث بحثًا مستفیضًا فی علاقة الاستبداد بالدین، ونقل عن الإفرنج رأیهم فی أن الاستبداد فی السیاسة متولد من الاستبداد فی الدین أو مسایر له. فکثیر من الأدیان تبث فی نفوس الناس الخشیة من قوة عظیمة لا تدرک کنهها العقول، وتهددهم بالعذاب بعد الممات تهدیدًا ترتعد منه الفرائص، ثم تفتح بابًا للخلاص والنجاة بالالتجاء إلى الأحبار والقسس والمشایخ، بالذلة لهم، والاعتراف أمامهم، وطلب الغفران منهم. والمستبدون السیاسیون یتبعون هذه الطریقة فیسترهبون الناس بالتعالی والتعاظم، ویذلونهم بالقهر والقوة وسلب الأموال، حتى لا یجدوا ملجأ إلا التزلف لهم وتملقهم! وعوام الناس یختلط علیهم فی أذهانهم الإله المعبود والمستبدون من الحکم، فیتشابه عندهم استحقاق التعظیم، وینزهونهم عن سؤالهم عما یفعلون ولا یرون لهم حقًا فی مراقبتهم على أعمالهم، کما أنه لیس لهم حق فی مراقبة لله فیما یفعل!! ولهذا خلعوا على المستبد صفات لله کولی النعم، والعظیم الشأن، والجلیل القدر، وما إلى ذلک! وما من مستبد سیاسی إلا ویتخذ له صفة قدسیة یشارک فیها لله أو تربطه برباط مع لله ولا أقل من أن یتخذ بطانة من أهل الدین یعینونه على ظلم الناس باسم لله!! أن الإسلام فی جوهره الأصیل لا ینطبق علیه هذا القول، فهو مبنی على قواعد الحریة السیاسیة متوسطة بین الدیمقراطیة والأرستقراطیة، فهو مؤسس على أصول دیمقراطیة(أی المراعاة التامة للمصلحة العامة)، وعلى شورى أرستقراطیة، أی شورى الخواص، وهم أهل الحل والعقد، فالقرآن مملوء بتعالیم تقضی بأمانة الاستبداد، والتمسک بالعدل، والخضوع لنظام الشورى، من ما » : حتى فی القصص، من مثل « وشاورهم فی الأمر، وأمرهم شورى بینهم » : مثل ومظهر هذا کان فی أیام النبی صلى الله علیه وسلم والخلفاء .«
ولذلک یکون الحاکم المستبد وهؤلاء العلماء فی صراع دائم، العلماء یحاولون الإنارة، والمستبد یحاول إطفاءها، وکلاهما یحاول کسب عامة الشعب، فالمستبد یخفیهم لیستسلموا، وهؤلاء العلماء ینیرونهم لیقولوا ویفعلوا. والحاکم المستبد تسره غفلة الشعب لأنه یتمکن بغفلتهم من الصولة علیهم: یغصب أموالهم فیحمدونه على إبقاء حیاتهم ویضرب بعضهم ببعض فیصفونه بحسن السیاسة والکیاسة، ویسرف فی أموالهم فیقولون إنه کریم، ویقتلهم ولا یمثل بهم فیقولون إنه رحیم، وإن نقم علیه بعض الأباة، قاتلهم بهم کأنهم بغاة.والحاکم المستبد یخاف رعیته کما تخافه رعیته، بل خوفه منهم أشد، لأنه یخافهم عن علم، وهم یخافونه عن جهل. وقد اعتاد المؤرخون المحققون قیاس درجة استبداد الحاکم بمقدار حذره، ودرجة عدله بمقدار طمأنینته، کما یستدلون على أصالة الاستبداد فی الأمة بترف الحکام. وإمعانهم فی البذخ، وکثرة الحجاب. ومن دلائل تغلل الاستبداد فی الأمة استکناه لغتها، فإن کثرت فیها ألفاظ التعظیم وعبارات الخضوع کبعض اللغات فی المنطقة، دلت على تاریخها القدیم فی الاستبداد. وإن قلت کالعربیة قبل امتزاجها بغیرها دلت على الحریة.وعلى الجملة فأخوف ما یخاف المستبد من العلم، العلم الذی یعلم أن الحریة أفضل من الحیاة، والشرف أعز من المنصب والمال، والحقوق وکیف تحفظ، والظلم وکیف یرفع، والإنسانیة وقیمتها والعبودیة وضررها.
ثم عرض للاستبداد والمال، ویعنی بذلک الحکومة الاستبدادیة وأثرها فی الثروة أو الحالة الاقتصادیة فی البلاد. وهو فی هذا الموضوع یرى الخیر فی نوع معتدل من الاشتراکیة، نعم لا ینبغی أن یتساوى العالم الذی أنفق زهرة حیاته فی تحصیل العلم النافع، أو الصانع الماهر فی صنعة مفیدة، وذلک الجاهل الخامل النائم فی ظل الحائط، ولکن العدالة تقضی أن یأخذ الراقی بید السافل والغنی بید الفقیر، فیقربه من منزلته، ویقاربه فی معیشته؛ وقد مال الإسلام إلى هذا النوع، ففرض الزکاة (٢٫٥ ٪) من رءوس الأموال تعطی للفقراء وذی الحاجة، وحرم الربا،
ثم عرض للاستبداد والتربیة — والتربیة تنمیة الاستعداد جسمًا ونفسًا وعقلًا وهی قادرة أن تبلغ بالإنسان أعلى حد من الرقی لو صلحت. والحکومة العادلة تعنی بتربیة الأمة من وقت تکون الجنین، بل قبله، بسن قوانین للزواج الصالح، ثم بالعنایة بالقابلات والأطباء، ثم بفتح بیوت اللقطاء ثم بإنشاء المکاتب والمدارس وتنظیم خططها متدرجة إلى أعلى مرتبة؛ ثم تسهیل الاجتماعات، والإشراف على المسارح، ثم تشجیع النوادی وإنشاء المکتبات، وإعلان شأن النوابغ بإقامة النصب ونحوها، ثم بتنمیة المشاعر القویة بشتى أنواعها وتیسیر الأعمال وغیر ذلک.أما الحیاة فی الحکومات المستبدة فمجرد نماء یشبه نماء الأشجار الطبیعیة فی الغابات ، یسطو علیها الغرض والحرق، وتحطمها العواطف والأیدی والقواصف.
فی الحکومة العادلة یعیش الإنسان حرًا نشیطًا یسره النجاح ولا تقبضه الخیبة، وفی الحکومة المستبدة یعیش خاملًا خامدًا، ضائع القصد حائرًا.وهنا ضرب مثلًا یصح أن یخطب به الخطباء فی الناس لیستیقظوا، فوضع خطبة نموذجیة لتنبیه المشاعر. ثم قال: إن الرقی الذی ینشده فی ظل العدل هو أن یکون الشخص أمینًا على جسمه وحیاته بحراسة الحکومة التی لا تغفل عن المحافظة علیه، أمینًا على ملذاته الجسمیة والفکریة باعتناء الحکومة بإیجاد أسبابها، أمینًا على حریته فلا یعتدی علیها، أمینًا على نفوذه کأنه سلطان عزیز لا یمانع فی تنفیذ مقاصده النافعة، أمینًا على ماله وشرفه؛ وما منحته الطبیعة من مزایا، فما لم تتحقق هذه فالحکومة مستبدة لیست بیئة لترقی شعبها.
وبهذا ینتهی الکتاب؛ وهو فیه قوی مخلص مملوء غیرة وأسفًا وتلهفًا على رفع نیر الاستبداد عن الشرق؛ وهو أن استمد الفکرة من العرب؛ فهو یبسطها ویعدلها ویعنی بتطبیقها، وقد یؤخذ علیه عصر نفسه فی دائرة النظریات. وکان الکتاب یکون أوقع فی النفس لو ملأه بالشواهد وما رأى وسمع من أحداث وهو معروف بسعة الاطلاع، فلو قرن النظریات بالشواهد لکان کتابه أکثر فائدة وأعم نفعًا، ولکن یظهر أن قد منعه من ذلک أنه أراد أن یستتر فأخفى اسمه ولم یضعه على الکتاب؛ وقال فی مقدمة الکتاب: إنه لم یقصد ظالمًا بعینه ولا حکومة مخصوصة، ولو أتى بالشواهد لدل على الحکومة التی قصدها، ودل بذلک على نفسه، وما کان فی ذلک من ضرر، بل کان فیه کل النفع؛ ولکن الأمور تقدر بأوقاتها وظروفها، وهو فیما اکتنفه من ظروف کان فی عرضه النظریات فقط شجاعًا جریئًا.
کتاب أم القرى روایة جدیة لیس فیها غرام وغزل، بل فیها غرام مؤلفه بالعالم الإسلامی، یعانی فی سبیله ما یعانی المحب الهائم، ویود من صمیم قلبه أن یصل محبوبه إلى أعلى درجات الکمال، ویضحی من أجله بماله الذی ضیعه علیه الظلمة لتمسکه بالحق، ویضحی بوطنه فیهجره لأنه لم یستطع أن یجهر برأیه فی حلب فجهر به فی مصر؛ ولا بأس فکل بلد إسلامی وطنه — کان یحب التخصص، وینادی بأن کل قادر یحصر نفسه فی فرع من فروع العلم أو الفن حتى یتقنه، وطبق ذلک على نفسه، فلم یتوزع بین فقه ولغة، وما إلى ذلک، إنما وهب نفسه لإصلاح المسلمین، فدرس التاریخ الإسلامی فی دقة وإمعان فی البلاد الإسلامیة سیاحة فاحصة منقبة، ودرس کل قطر إسلامی ومزایاه وعیوبه، حتى أنطق کل عضو بعقلیة قطره: وسلطة المتعممین؛ « أم القرى » إنه لما وضع روایته والإسکندری یشکو ضعف الأخلاق، والإنجلیزی ینعی على المسلمین عدم المجتمعات وتبادل الرأی بالخطب والمحاضرات ونحو ذلک. اکتوى السید جمال الدین الأفغانی من السیاسة الأوربیة ولعبها بالمسلمین، فصب علیها جام غضبه، واستغرقت حملته على السیاسة الإنجلیزیة أکبر قسم فی العروة الوثقى، واکتوى الکواکبی بالسیاسة العثمانیة فکانت موضع نقده. نظر الأفغانی إلى العوامل الخارجیة للمسلمین فدعاهم إلى أن یناهضوها، ونظر الکواکبی إلى المسلمین فدعاهم إلى إصلاحها، فإنها إن صلحت لم تستطع السیاسة الخارجیة أن تلعب بهم؛ ولذلک کانت معالجة الأفغانی للمسائل معالجة تأثر، تخرج من فمه معالجة طبیب یفحص المرض فی هدوء، ( الکوکبی ) الأقوال نارًا حامیة، ومعالجة ویکتب الدواء فی أناة. الأفغانی غضوب، والکواکبی مشفق، الأفغانی داع إلى السیف، والکواکبی داع إلى المدرسة. ولعل هذا یرجع أیضًا إلى اختلاف المزاج، فالأ فغانی حاد الذکاء حاد الطبع، الکواکبی رزین الذکاء هادئ الطبع، إذا وضعت أمامهما بعد. ولکن من خیر نقطة « الکواکبی » قبل، وتخطاها ( الأفغانی ) عقبة تخطاها تتخطى، فلا عجب إن کان للأفغانی دوی المدافع، وکان للکواکبی خریر الماء یعمل فی بطء حتى یفتت الصخر!. لو مکن له معرفة لغة أجنبیة ووقف على ما وصلت إلیه بحوث علم الاجتماع الحدیث لکان له منبع فیاض إلى جانب غزارة فکره. وبینما الناس یعجبون بما ینشر من مقالات إصلاحیة فی المجلات والجرائد، ومجالس الفضلاء فی مصر عامرة بحدیثه وجدله ودفاعه المؤدب عن آرائه، إذا ، بالصحف المصریة تطلع بنبأ موته الفجائی یوم ٦ من ربیع الأول سنة ١٣٢٠ فأسف علیه کل من کان محبًا لإصلاح المسلمین، وبکاه إخوانه الذین کانوا یرون فیه رجلًا نبیل الخلق، سامی المقصد، عفی اللسان، نقی الضمیر. فرحمه لله!
المصدر :
تحقیق راسخون / من کتاب زعماء الإصلاح فی العصر الحدیث ، احمد امین
/ج