ترتبط ظاهرة النبوة بقانون الهدایة العامة الذی ینص أن (کل شیء فی هذا الکون الواسع یحمل معه قانونه الربانی الصارم الذی یوجهه ویرتفع به مدى ما یتاح له من ارتفاع وتطور فالبذرة یتحکم فیها قانونها الذی یحولها ضمن شروط معینة إلى شجرة والنطفة یتحکم فیها قانونها الذی یطورها إلى إنسان وکل شیء من الشمس إلى البروتون ومن الکواکب السیارة فی مدار الشمس إلى الالکترونات السیارة فی مدار البروتون یسیر وفق خطة ویتطور وفق امکاناته الخاصة)(1)، والإنسان لیس استثناء من هذا القانون فهو کغیره من مفردات الکون خاضع لقانون الهدایة العامة: (الذی خلق فسوى والذی قدر فهدى) (2) ولکن خصوصیة الاختیار وحریة الارادة الذی یتمتع بها تجعل لتطبیق هذا القانون ظروفه الخاصة فبینما تَعْملُ الکائنات الطبیعیة البحتة من أجل أهداف مرسومة من قبل واضع الخطة لا من أجل أهداف تعیشها هی وتتوخى تحقیقها فإن الإنسان کائن هادف یعمل من أجل هدف یرید هو تحقیقه. من الطبیعی أن تکون هذه الأهداف التی یحددها الإنسان وفقاً لمصلحته وحاجاته، ولکن من جهة اخرى إن خلق الإطار الموضوعی لضمان عمل الإنسان وسعیه لمصالح
الجماعة شرط لابدَّ منه لاستقرار الحیاة الاجتماعیة ودیمومتها فینشأ التعارض بین ما تفرضه طبیعة الحیاة المدنیة من مصالح جماعیة وما تدعو إلیه توازع الفرد إلى مصالح شخصیة وکان لابدَّ من صیغة تحل هذا التناقض: (والنبوة بوصفها ظاهرة ربانیة فی حیاة الإنسان هی القانون الذی وضع صیغة الحل هذه بتحویل مصالح الجماعة وکل المصالح الکبرى التی تتجاوز الخط القصیر لحیاة الإنسان إلى مصالح للفرد على خطه الطویل وذلک عن طریق اشعاره بالامتداد بعد الموت والانتقال إلى ساحة العدل والجزاء التی یحشر الناس فیها لیروا اعمالهم (فمن یعمل مثقال ذرة خیراً یره ومن یعمل مثقال ذرة شراً یره)(3) وبذلک تعود مصالح الجماعة مصالح للفرد نفسه على هذا الخط الطویل)(4)، وتتألف هذه الصیغة من جانب نظری وجانب تطبیقی: الاول یتمثل فی النظریة التی تستند إلیها الصیغة وهی عقیدة المعاد: أما الجنبة التطبیقیة فهی الممارسة التربویة للإنسان على هذه النظریة وهی عملیة قیادیة ربانیة تعتمد على الغیب ولذلک لا توجد الا بوحی من السماء (النبوة).
النبوة الخاصة والدلیل الاستقرائی:
کما طبق باقر الصدر الدلیل الاستقرائی لإثبات الصانع یجریه هنا لاثبات نبوة النبی محمد(صلى الله علیه وآله) واهمیة هذا الاستدلال انه یتجاوز الطریقة القدیمة والمتعارفة لاثبات النبوة والتی تعتمد اساساً المعجزة کمظهر خارق للعادة یکشف کشفاً إنیاً عن اتصال صاحب المعجزة ـ بالغیب ـ ویقوم هذا الدلیل على أربع خطوات.
الخطوة الأولى: إن هذا الشخص الذی أعلى رسالته إلى العالم ینتسب إلى شبه الجزیرة العربیة وهی بیئة متخلفة فکریاً وحضاریاً وینتمی إلى مجتمع الحجاز بالذات الذی یعیش تخلفاً اجتماعیاً تطغى علیه العقلیة القبلیة ولم ینل حظاً من ثقافة عصره رغم انخفاضها وکان رسول الله(صلى الله علیه وآله) یمثل شخصیة اعتیادیة فهو لم یکن یقرأ ولا یکتب ولم یتلقَّ أی تعلیم منظم أو غیر منظم ولم یساهم النبی قبل البعثة فی النشاط الثقافی الذی کان شائعاً فی قومه ولم یؤثر عنه أی تمیز عن ابناء قومه الا فی التزاماته الخلقیة وأمانته ونزاهته وصدقه وعفته.
الخطوة الثانیة: یستقرىء فی هذه الخطوة خصائص الرسالة التی جاء بها النبی، وهی رسالة القرآن الکریم والشریعة الإسلامیة التی تمیزت بخصائص عدیدة منها:
1- تتضمن ثقافة دینیة واسعة وفریدة وهی أکبر من کل الثقافات الدینیة التی عرفها العالم.
2- جاءت بقیم ومفاهیم عن الکون والإنسان والحیاة من أروع من عرفه الإنسان من قیم وتشریعات.
3- تحدثت الرسالة عن تاریخ الإنسان والأمم السابقة بما لم یکن معروفاً بین العرب.
4- بلغ القرآن قمة الروعة والجمالیة فی أسالیب البیان.
الخطوة الثالثة: یؤکد فی هذه الخطوة وفی ضوء الاستقراء العلمی أن هذه الرسالة بتلک الخصائص السابقة وغیرها مما لم نذکر (اختصاراً) هی أکبر بدرجة عظیمة من الظروف والعوامل التی حددناها فی الخطوة الأولى.
الخطوة الرابعة: یطرح التفسیر الوحید المعقول للموقف: کیف نشأت هذه الرسالة بتلک الخصائص الرفیعة فی تلک الظروف الموضوعیة المتخلفة؟ ان الجواب الوحید: هو (افتراض عامل اضافی وراء الظروف والعوامل المحسوسة وهو عامل الوحی عامل النبوة الذی یمثل تدخل السماء فی توجیه الأرض)(5)
ضرورة النبوة:
لقد غاب عن البحث الکلامی القدیم الحاجة الاجتماعیة للنبة لأنها استغرقت فی قضایا (العصمة) وعلاقة النبوة باللطف والمعجزة... الخ... لکن التحدیات الفکریة المعاصرة جعلت باقر الصدر ینظر إلى النبوة کما نظر إلى بقیة اصول الدین نظرة مغایرة تُبْرِزُ الابعاد الاجتماعیة لهذه الاصول الاعتقادیة ودورها فی البناء الحضاری ولذلک کشف فی بحوثه المتفرقة عن الحاجة الماسة إلى النبوة... والرابط بین کل ما کتب فی هذا الموضوع هو تأکید الحاجة الملحة والضرورة الحضاریة للنبوة:
1- النبوة حاجة معرفیة: الانسان بحکم جهازه الادراکی حسی اکثر منه عقلی فهو ینفعل بالمحسوس أکثر من أی شیء آخر. ولذلک کانت الحضارات فی التاریخ متأثرة بهذا المیل نحو الحس. والحضارة الغربیة الیوم فی ثقافتها وانتاجها العلمی والتقنی تکشف عن نزوع للحس والتجربة أکثر من أی شیء آخر، ولکن هناک معارف اخرى: المعقولات والقیم الاخلاقیة التی لا یمکن أن یدرکها الإنسان بالحس والتجربة بل یتفاعل معها عادة بالعقل والوجدان. ولکن إدراک هذه القیم الروحیة والمعنویة لا یرقى إلى الحس ولذلک نرى عبر التاریخ أن التفاعل معها یبقى باهتاً فاتراً... لا یبلغ حرارة الادراک الحسی وقوته... من هنا نشأت الحاجة إلى الأنبیاء فی تعمیق الإدراک لهذه القیم ولقد تمکن الإنسان عبر هؤلاء الأنبیاء من الانفتاح الحسی على القیم العقلیة والروحیة. ولولا الوحی لما کان للبشریة من إدراک حسی للمعنویات فالأنبیاء هم الطلیعة البشریة التی عایشت حسیاً هذه الأحکام العقلیة والمفاهیم الروحیة والعنویة وهم بدورهم یعسکون هذه التربیة الحسیة على الناس ولولا الوحی لا نحصر الحس بالمادة ولتضخم الوعی بها على حساب المعنویات (فالوحی حسب الحقیقة اذن هو المربی الأول للبشریة الذی لم یکن بالإمکان للبشریة ان تربى بدونه لان البشریة بدون الوحی لیس لها إلاّ حس بالمادة والإدراک عقلی غائم قد یصل إلى مستوى
الإیمان بالقیم والمثل وبالله إلاّ أنه ایمان عقلی على أی حال لا یهز قلب هذا الإنسان ولا یدخل ضمیره ولا یسع کل وجوده ولا یتفاعل مع کل مشاعره وعواطفه)(6)
2- النبوة وتحریر الإنسان: إن النبوة فی المنظور الصدری تحرر الإنسان على المستوى الذاتی وعلى المستوى الموضوعی: اما على (المستوى الذاتی) فهو ما بیناه فی هذا الأصل ومعرض الاستدلال على النبوة العامة وارتباطها بقانون الهدایة العامة من حلّ الجدل الداخلی والتمزق الداخلی بین مصالح الذات والنظام المدنی ومقتضیاته.
أما (المستوى الموضوعی): فهی ما تتحرک فیه النبوة على قاعدة (لا اله إلاّ الله) لتحطیم کل القیود الإجتماعیة والسیاسیة المتمثلة فی جمیع أنواع الظلم والاستغلال فدور الأنبیاء فی مکافحة الاستبداد ومقاومة الطغیان من أکثر الأدوار أهمیة.
3- النبوة والثورة: یرى باقر الصدر ان النبوة ثورة تحرریة (وان الإسلام الذی کان من أجله الأنبیاء ثورة اجتماعیة على الظلم والطغیان وعلى الوان الاستغلال والاستعباد)(7)
هذه الثورة فریدة فی نسیجها لانها حررت الإنسان من الداخل وحررت الکون من الخارج فی وقت واحد ویفسر باقر الصدر فی أطروحته خلافة الإنسان وشهادة الأنبیاء کیف أن هذه الثورة تعد ضرورة لمقاومة الانحراف الطارىء على خط خلافة الإنسان لله فی الکون وحتمیة تدخل الأنبیاء لیعیدوا المسیرة إلى مسارها الصحیح.
وهذه الثورة تمتاز عن غیرها لأنّها لا تحاول کما هو الحال فی کل الثورات استبدال مواقع الاستغلال وإنما تسعى جاهدة لاستئصال الاستغلال کقیمة سلبیة ومدمرة للمجتمع واقتلاع جذورها من نفوس الظالمین أنفسهم. فالثائر الذی یتحرک فی إطار النبوة ورسالتها لا ینطلق فی حرکته وحربه على الاستغلال من أجل استرداد حق شخصی ضائع ولا بدافع ذاتی کالانتقام بل یندفع الثائر النبوی فی ثورته للقضاء على العلاقات الاجتماعیة القائمة على أساس الجور والاستغلال ولیقتلع الظلم بوصفه قیمة سلبیة یعطل حرکة المجتمع ویصادر مصالح المستضعفین بل مصالح المستغلین أنفسهم على المدى البعید (وعلى هذا الأساس نؤمن بأن الثورة الحقیقة لا یمکن أن تنفصل بحال عن الوحی والنبوة ومالها من امتدادات فی حیاة الناس کما أن النبوة والرسالة الربانیة لا تنفصل بحال عن الثورة الاجتماعیة على الاستغلال والترف والطغیان)(8)
4- النبوة وقیادة المجتمعات: إن النبوة بما هی الصلة الموضوعیة بین الناس والمثل الأعلى المطلق للمسیرة الانسانیة هی الأقدر على قیادة الجماهیر وتنظیم قواها ودفعها إلى الأمام نحو الغایات السامیة الواقعیة والسعادة الحقة لذلک فإن القیادة من لوازم النبوة التی لا تنفک عنها والتی تفرضها المهمة الأساسیة لها المتمثلة فی (الشهادة) على خط خلافة الإنسان ویتمثل هذا الدور فی الأبعاد التالیة(9)
اولا: استیعاب الرسالة السماویة.
ثانیاً: الاشراف على ممارسة الإنسان لدوره فی الخلافة.
ثالثاً: التدخل لمقاومة الانحراف واتخاذ کل التدابیر الممکنة من أجل سلامة المسیرة.
وکمدلول واقعی لهذه القیادة وانسجاماً مع هذه الأدوار للنبوة یعتقد الصدر أن الدولة ظاهرة نبویة یقول (فمن ناحیة تکون الدولة ونشوئها تاریخیاً نرفض إسلامیاً نظریة القوة والتغلب ونظریة التفویض الالهی الاجباری ونظریة العقد الاجتماعی ونظریة تطور الدولة عن العائلة ونؤمن بأن الدولة ظاهرة نبویة وهی تصعید للعمل النبوی بدأت فی مرحلة معینة من حیاة البشریة)(10)
5- النبوة والعدالة الاجتماعیة: لم یستطع القانون الوضعی... على طول التاریخ أن یحقق العدالة الحقة... فالعقل البشری رغم عظمته یبقى قاصراً عن إرساء المعالم التفصیلیة للتشریع الذی یستجیب لحاجات الفرد والجماعة الواقعیة والذی یحقق التوازن بین الفرد المجموعة ولا یخضع للهوى وإیحاءات المصلحة الضیقة ولا یسقط فی حبائل المیولات الفئویة والعرقیة والعشائریة إن النبوة برفضها أی سیادة وأی سلطة إلاّ لله وانه وحده مصدر السلطات تکون أنجزت ما یعتبرها باقر الصدر (اعظم ثورة شنها الأنبیاء مارسوها فی معرکتهم من أجل تحریر الإنسان وتعنی هذه الحقیقة أن الإنسان حرّ ولا سیادة لانسان آخر أو لطبقة أو لأی مجموعة بشریة علیه وإنما السیادة لله وحده وبهذا یوضع حد نهائی لکل ألوان التحکم وأشکال الاستغلال وسیطرة الإنسان على الإنسان)(11)
(لقد أعطى الأنبیاء لهذه الحقیقة (تحریر الإنسان من أی سیادة اخرى وسلطة اخرى) مدلولها الموضوعی المتمثل فی الشریعة النازلة بالوحی من السماء فلم یعد بالامکان ان تستغل لتکریس سلطة فرد أو عائلة أو طبقة بوصفها سلطة الهیة)(12)
المصادر :
1- محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة، م. س، ص59
2- الاعلى: 3
3- الزلزلة: 7 ـ 8.
4- میزان الحکمة ص61.
5- میزان الحکمة ص73.
6- محمد باقر الصدر، أهل البیت: تنوع ادوار وحدة هدف، م. س، ص51.
7- محمد باقر الصدر: الإسلام یقود الحیاة، م. س، ص171.
8- میزان الحکمة ص172.
9- میزان الحکمة ، ص163.
10- میزان الحکمة ص29.
11- میزان الحکمة ص21 ـ 22.
12- میزان الحکمة، ص21 ـ 22.