لنا وقفة تأملية مع المعنى السليم للمنتظِر، وطبيعة الحال فالمنظور هنا هو المعنى المصطلح أي انتظار مهديّ هذه الأمّة الثاني عشر من عترة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن ما نحتاجه هنا والذي ينبغي أن نضع النقاط عليه، وما يفيدنا في هذا المضمار هو الإجابة على عدة أسئلة تتمحور في النظرة المتطلّعة إلى هذا المفهوم العقيدي:
ماذا ينتظر الإنسان؟
وما هي المقدمات التي ينبغي الالتفات إليها حتّى يكون الإنسان منتظِراً؟وإذا كان المنتظِر هو ذلك الإنسان المترقب والمتوقع لحدوث شيءٍ، فما هو الحدث الذي يترقبه المرء؟
هل هو وجود مهديِّ هذه الأمّة؟ وهل يُدخله هذا النوع من الترقّب في عداد المنتظرين؟
أو أنه يترقب تحقق أمنياته الذاتية وتوفر مطالبه الشخصيّة يصاحب ذلك انغلاق خاص على الذات واحتياجاتها والنفس وأحلامها؟
وبعبارة ثانية: ما هي معالم المنتظِر؟
فهل كلّ من يؤمن بعقيدة المصلح العالمي يعدّ من المنتظرين؟
بل لنحدّد المصطلح بشكل أدقّ ونقول: هل كلّ من يؤمن بالعقيدة الاثني عشرية وبولادة الإمام الحجّة ابن الحسن عليه السلام يعدّ من المنتظرين؟
وبمقولة ثالثة: هل العقيدة المهدوية من الأمور العبادية القلبية؟ أو هي من الأمور العبادية الجوارحيّة؟ ولنا أن نتسائل باصطلاح المناطقة والحكماء - إن صحّ الاطلاق - فنقول: هل هي من مقولة العقل النظري فقط أو أنها تابعة للعقل العملي، أو على أقل لها بُعد عملي؟
وفي هذا الصدد يمكننا القول وبصراحة أنّه ليس كلّ من اعتقد بالمصلح العالمي يعدّ منتظراً، وكذلك ليس كلّ من كان معتقداً بالعقيدة الاثني عشرية يعدّ منتظراً. وهكذا يعمّم هذا النفي ليشمل من اعتنق المهدوية قلباً وآمن بها جناناً ووجداناً ولكن لم يجسّدها حركةً على صعيد الواقع، ولم يتعاط معها كقضية واقعية محسوسة لها بعدها وأثرها على مستوى الفرد والمجتمع.
ويبقى هذا الوصف - على حقيقته وصدقه على بعض الأفراد - قضية مشكّكة تتأرجح بين القوة والمتانة والضعف والاضطراب بحسب اختلاف انطباقها بين الأفراد المنتظرين كسائر القضايا الإيمانية والعقائدية الأخرى.
معالم المنتظِر:
صحيح أنّ هذا الوصف من الأمور والقضايا المشككة والنسبية والتي تختلف من شخص لآخر في جوانب قوتها وضعفها وضيقها وسعتها، ولكن هذا لا يمنع من رؤية بعض المواصفات وتسجيلها في ضمن قائمة معالم المنتظِر والتي تمثّل المقوّمات الأساسية له سواء على صعيد الجانب العقيدي والإيماني أو يتخطى إلى جوانب تفعيل العقيدة فيحصّلها واقعاً حركياً ملموساً، وهكذا فقد تُمثّل بعض المقوّمات في الحقيقة مقدمات كبرويّة لا يمكن أن يتحقق عنوان المنتظِر من دون تمركزها مسبقاً في الذهنية الإيمانية وفي إطار وحيّز الإنسان الذي يراد منه أن يكون منتظِراً حقيقياً.وهكذا قد تشترك بعض المقدمات هنا مع مقدمات الانتظار لما قلنا سابقاً من وجود العنصر المشترك الذي تتحرك حوله هذه المفاهيم الثلاثة.
والمواصفات المقوّمة لعنوان المنتظِر هي:
1- الاعتقاد بوجود الإله العالم الحكيم الرؤوف بعباده والذي لا يفعل أمراً إلاّ وفيه مصلحة وحكمة.
2- الاعتقاد بوجود الرسل والمبعوثين من قبل الله سبحانه وتعالى لهداية العباد وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
3- الاعتقاد بخاتم الرسل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وأنّ شريعته خاتمة الشرائع لا دين بعده (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإْسْلامُ)،(1) (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإْسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (2) وعلى هذا الأساس فلا بدّ أن يكون أكمل الأديان كافة، ومنسجماً تمام الانسجام مع متطلبات كلّ عصر وملبياً لحاجات كلّ زمن. وله القدرة على التعاطي والتجاذب مع الأحداث المختلفة سعة وضيقاً، وبكلمةٍ موجزة وعبارةٍ واضحة يجب الاعتقاد بأن الإسلام هو ذلك الدين الإلهي الذي باستطاعته إعطاء الحلول والإجابات بشكلٍ متين وأسلوب واضح لكلّ مشاكل الحياة من جهة وما يعتلج في الصدور ويستراب في القلوب عند البشرية منذ عصر الرسالة وإلى أن تقوم الساعة من جهة أخرى.
4- الاعتقاد بوجود أوصياء وخلفاء من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منتخبين ومعينين من قبل الله تعالى لا دخل للعنصر البشري في اختيارهم وتعيينهم حتّى إلى نفس النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وهم أئمّة إثنا عشر أوّلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ تسعة من ذرية الحسين آخرهم (م ح م د) بن الحسن العسكري، يتصفون بمواصفات وهبها الله إليهم خاصة من أبرزها العصمة ليس فقط عن الذنب وليس فقط في مجال التبليغ، بل تتسع لتشمل السهو والنسيان بل كل نقيصة أو ما يخالف المروءة. إذ (العصمة هي التنزُّه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها، وعن الخطأ والنسيان.. بل يجب أن يكون منزّهاً حتّى عمّا ينافي المروّة، كالتبذل بين الناس من أكلٍ في الطريق أو ضحكٍ عال، وكلّ عملٍ يستهجن فعله عند العرف العام).(3)
5- الاعتقاد بأنّ الإمام المهدي مولود من سنة (255هـ) وتقلّد الإمامة الإلهيّة عام (260هـ) في يوم شهادة والده وهو حجّة الله في الأرض، وهو حيّ موجود بيننا يرانا ونراه ولكن لا نعرفه ولا نشخّصه بمصداقه وإن كنّا نعرفه بمشخصاته وهويته وأوصافه.
6- الاعتقاد بأنّ الإمام الثاني عشر الحجّة ابن الحسن غيّبه الله عن العباد لمصلحة وحكمة خفيت علينا وإن كنّا نعلم بعض أطرافها وأسبابها، وسوف يظهره الله تعالى فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
7- الاعتقاد بأنّ المنتظَر هو ذلك الإمام المطّلع على حقائق أمورنا وخفايا أعمالنا.
ذلك الإمام الذي يجيبنا إذا دعوناه ويشفع لنا إذا رجوناه.
ذلك الإمام الذي يحسّ آلامنا ويفرح لفرحنا ويحزن لحزننا ويتألم لما يجري علينا.
هذا كلّه بلحاظ عالم الاعتقادات وفي مجال الفكر والنظر، أما مقومات الجانب العملي في الانتظار ومعرفة المواصفات الخاصة العملية التي ينبغي توفرها عند المنتظرين حتّى يتصف الإنسان بهذه الصفة على نحو الحقيقة بحيث ينطبق عنوان (المنتظِر) عليه انطباقاً واقعياً حقيقياً لا مجاز فيه فسوف تطالعك تحت عنوان: (كيف تكون منتظِراً حقيقياً).
وهنالك مقوّمات ونقاط أخرى أعرضنا عنها روماً للاختصار وحذراً من التطويل.
عالمية الانتظار:
قد يقول البعض إنّ انتظار المصلح العالمي لا يتوقف على كثير من هذه المقومات المدعاة، بل أكثر من هذا لا يتوقف على الاعتقاد بوجود الله تعالى لأننا نجد أنّ الإنسان الديالكتيكي المادي يعتقد بضرورة صلاح العالم في يوم ما على يد رجال أكفاء يعمّ في عصرهم الرخاء والمساواة والحرية!يقول الشهيد الصدر في بيان عالمية الانتظار وعدم اختصاصه بفئة دون أخرى: (لم يقتصر الشعور بهذا اليوم الغيبي والمستقبل المنتظر على المؤمنين دينياً بالغيب، بل امتدّ إلى غيرهم أيضاً وانعكس حتّى على أشدّ الإيديولوجيات والاتجاهات العقائدية رفضاً للغيب والغيبيات، كالمادية الجدلية التي فسّرت التاريخ على أساس التناقضات، وآمنت بيوم موعود تصفّى فيه كلّ تلك التناقضات ويسود فيه الوئام والسلام).(4)
وهكذا فالاعتقاد بمجيء المصلح العالمي قضية فطرية غرسها الله في فطرة كلّ إنسان ولا يمكن أن تتفق البشرية على خطأ (وذلك لأنّ أي مطلب يريده الناس كافّة دليل على فطريته،.. (إذ) كل حبّ أصيل وفطري يحكي عن وجود محبوب خارجي وجذاب، كيف يمكن أن يخلق الله التعطش في داخل الإنسان دون أن يخلق في خارجه الينبوع الذي يصبو نحوه ليرتوي منه؟ لهذا نقول إنّ فطرة الإنسان وطبيعته التي تبحث عن العدالة تصرخ بأعلى صوتها أنّ الإسلام والعدالة سوف يسودان العالم كلّه في نهاية المطاف، وأنّ مظاهر الظلم والجور والأنانية سوف تزول، وأنّ البشرية ستتوحد في دولة واحدة وتعيش تحت راية واحدة في جوٍّ من التفاهم والطهارة) إذن فليست قضية الانتظار (تجسيداً لعقيدة إسلاميّة ذات طابع ديني فحسب، بل هو عنوان لطموح اتجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها وصياغة لإلهام فطري أدرك الناس من خلاله أن للإنسانية يوماً موعوداً على الأرض).(5)
وهذا كلام صحيح ومنطقي في حدّ ذاته وأمر مقبول جداً، ولكن الذي نقصده من المنتظِر والانتظار شيء وراء المصلح العالمي، وهذا سبق وأن أوضحناه حينما قلنا إنه ليس كل من يعتقد بضرورة المصلح العالمي يعدّ من المنتظرين، بل أكثر من هذا فنحن قد نفينا أن يكون المؤمن المعتقد بالإمام المهدي عليه السلام من مصاديق المنتظرين إذا كان خالياً عن تجسيد هذا المفهوم في الواقع المعاش. على نطاق ذاته وخصوصياته ومن ثمَّ انطلاقاً وامتداداً إلى مجتمعه ومحيطه.
فالاعتقاد بأمثال هذه المفاهيم وإن كان حقاً وصدقاً ومطابقاً للواقع المستقبلي، ولكن هذا شيء وكونه من المنتظرين لمثل هذه الشخصية العالمية التي تطبّق عدالة السماء في الأرض شيء آخر، فبينهما بون شاسع كما هو الحال بين العلم بالشيء والاعتقاد والإيمان به فإبليس على سبيل المثال كان يعلم بوجود الله وقدرته ويعلم بوجود الجنّة والنار علم اليقين، ربّما كان يفوق علم الكثير منّا لأنه رأى هذه الأمور رؤية عين ونحن سمعناها ولم نر شيئاً.
ولكن مع ذلك يعدّ الله الذين اعتقدوا بما قاله النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم مؤمنين ويعدّ إبليس من الكافرين. إذن فالقضية لا تعتمد ولا تصدق على مجرد الاعتقاد والعلم بالشيء بقدر ما هي متوقفة في انطباقها على آثارها وتداعياتها خارج حدود الذات كما جاء في الحديث: (الإيمان قول باللسان ومعرفة بالقلب وعمل بالأركان).(6)
كيف تكون منتظراً حقيقياً؟
ربّما يجد المرء من نفسه اعتقاداً راسخاً ويقيناً عميقاً بالمقومات والنقاط المذكورة آنفاً ولكن لا يحسّ من نفسه بلوعة الانتظار ولا تدمع له عين لألم الفراق، ولا يسهر له جفن شوقاً إلى اللقاء وطمعاً في لحظة الوصال. ولا تقضّ مضجعه ذكرى الغريب المضطّر.فهو مؤمن بالمنتظَر عليه السلام على مستوى النظرية من دون تجسيد ذلك على مستوى التطبيق والواقع العملي، فمن هنا كان لزاماً على المرء المنتظر ولكي يجمع بين المفهوم والمصداق والنظرية والتطبيق، ولكي يجعل من نفسه مفردة إيمانية محصّلة لكامل مفردات الإيمان في الحديث الشريف السابق لا بدّ إذن من رسم خطوات عملية ممنهجة، ووضع آليّة حركية خاصة لكسب هذه المقومات وتحصيل صفة المنتظِر والانتظار إن كانت مفقودة وتركيزها وتقويتها إن كانت ضعيفة.
وأفضل منهجيّة يتّبعها الإنسان وأسلم برنامج عملي مضمون النتائج لكسب هذا المقام الشامخ هو ما رسمه أهل البيت عليهم السلام لنا وما نهجوه من منهاج.
فلذا من الضروري تتبّع آثارهم الشريفة وسلوك أقوالهم الكريمة والانتهال من نميرهم العذب.
وأوّل هذه الخطوات هي:
1- إبعاد العامل المصلحي والشخصنة الذاتية في ممارسة الانتظار:أن لا يكون الانتظار لأجل تحقيق مطامع شخصية وتحصيل وجاهات ذاتية فإنّ هذا الإنسان ليس منتظراً للإمام عليه السلام في الحقيقة وإنّما هو منتظرٌ للحصول على الشهوات النفسانية واللذّات الجسمانية. كما قال أمير المؤمنين: (إني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم)،(7) ولهذا نجد الإمام الصادق عليه السلام يحذّر أبا بصير (رحمه الله) من مثل هذا الانتظار القائم بالحقيقة على الأطماع الذاتية، كما جاء في أصول الكافي عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جٌعلت فداك، متى الفرج؟ فقال: (يا أبا بصير، وأنت ممّن يريد الدنيا، من عرف هذا الأمر فقد فرّج عنه لانتظاره).(8)
وهكذا جاء في تحف العقول عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (افترق الناس فينا على ثلاث فرق:
فرقة أحبّونا انتظار قائمنا ليصيبوا من دنيانا فقالوا وحفظوا كلامنا وقصروا عن فعلنا، فسيحشرهم الله إلى النار، وفرقة أحبّونا وسمعوا كلامنا ولم يقصروا عن فعلنا، ليستأكلوا الناس بنا فيملأ الله بطونهم ناراً يسلط عليهم الجوع والعطش، وفرقة أحبّونا وحفظوا قولنا وأطاعوا أمرنا ولم يخالفوا فعلنا فأولئك منّا ونحن منهم).(9)
وهذا يذكّرنا بحال طلحة والزبير حينما بايعا عليّاً طمعاً في أن ينالا منه سلطاناً أو جاهاً فلما خابا وخسئا نكثا بيعتهما وأخلفا وعدهما وباءا بالخسران المبين في الدنيا والآخرة.
المصادر :
1- آل عمران: 19.
2- آل عمران: 85 .
3- عقائد الإمامية للشيخ المظفر.
4- بحث حول المهدي: 53.
5- المصدر السابق.
6- أمالي الطوسي: 448.
7- نهج البلاغة 2: 19.
8- الكافي 1: 371.
9- تحف العقول: 514.
/ج