المبحث الأول أدلة التقية من القرآن الكريم لا شك أن من قال بالقرآن الكريم صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أجر ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم . وكيف لا ، وهو يهدي للتي هي أقوم ، مع كونه بيانا للناس وهدى وموعظة للمتقين ؟
ومع هذه الحقيقة الناصعة التي طفحت بها آيات الكتاب ، وأكدتها السنة النبوية بأعظم التأكيد ، إلا إنك قد تجد من يسئ إلى المفاهيم القرآنية الواضحة فيه أبلغ الإساءة كمفهوم التقية ، فيدعي أنها من النفاق ! وهذا يكشف عن كون اتخاذ القرار في
التخطيط لأية مسألة فكرية تتصل بعقيدة المسلمين ، أو الأحكام الشرعية وفهمها فهما دقيقا لا يناط أبدا بغير المخلص الكفوء ، خشية من الوقوع في الانحراف الفكري عن قصد أو بدون قصد .
والعجب إنك ترى تلك الإساءة ممن يدعي العلم والفهم وتلاوة القرآن الكريم ، وكأنه لم يمر - في تلاوته - أبدا على ما سنتلوه عليك من آيات بينات وما قاله المفسرون بشأنها .
إن الآيات القرآنية الدالة على اليسر ونفي الحرج وعدم إلقاء النفس إلى التهلكة ، أو المشيرة إلى أن المكره أو المضطر إلى المحرم لا جرم عليه ، غير خافية على أحد ، ولا ينكرها إلا الجاهل المتعسف أو المعاند الصلف ، وكلامنا ليس مع هذا الصنف ، بل مع من يعي أن نبينا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بعث بالحنيفية السمحة ثم يشتبه عليه أمر التقية .
ونحن إذ نتعرض هنا للأدلة القرآنية الدالة على مشروعية التقية ، نود التذكير بأن الدليل الواحد المعتبر الدال على صحة قضية يكفي لإثباتها ، فكيف لو توفرت مع إثباتها أدلة قرآنية كثيرة ، لم يختلف في تفسيرها ، لأنها محكمة ينبئ ظاهرها عن
حقيقتها ولا مجال لمتأول فيها ؟ ومع هذا سوف لا نكتفي بدليل قرآني واحد ، بل سنذكر أربع آيات مباركة ، من بين الآيات القرآنية الكثيرة الدالة على مشروعية التقية .
والسبب في هذا الحصر والانتقاء ، إنا وجدنا القرآن الكريم قد تعرض إلى بيان تقية المؤمنين في الأمم السالفة بآيتين صريحتين ، كما وجدناه قد أمضى تلك التقية بتشريعاته الخالدة في أكثر من آية ، انتقينا منها آيتين فقط ، لما فيهما من وضوح تام حول امتداد ظل ذلك التشريع العظيم إلى وقت مبكر من عمر الرسالة الخاتمة .
ومن هنا قسمنا الأدلة المذكورة على قسمين : أحدهما ، ما اتصل بالتقية قبل الإسلام ، والآخر : ما اتصل بها عند انطلاق دعوة الحق من
البيت العتيق ، وإليك التفصيل :
أولا : الأدلة القرآنية الدالة على التقية قبل الإسلام .
الآية الأولى : حول تقية أصحاب الكهف . قال تعالى : ( وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا * إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا )(1)
في هاتين الآيتين المباركتين أصدق تعبير على أن التقية كانت معروفة وجائزة في شرع ما قبلنا ( نحن المسلمين ) وهي صريحة في تقية أصحاب الكهف رضي الله تعالى عنهم ، وقد أفاض المفسرون في بيان قصتهم وكيف أنهم كانوا في ملة كافرة وأنهم كانوا يكتمون إيمانهم قبل أن يدعوهم ملكهم إلى عبادة الأصنام ، فلجأوا إلى الكهف بدينهم (2)
ولكن قد يقال بأن الله عز وجل أورد من نبأهم ما يدل على عدم تقيتهم ، كقوله تعالى : ( وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا ) ( 3 ) وهذا القول دال على عدم تقيتهم . وقولهم : ( ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها ) ، هو قول من لا يرى التقية أصلا ، فأين تقية أصحاب الكهف إذن ؟ !
والجواب : إن ما صدر عنهم من أقوال معبرة عن عدم تقيتهم إنما صدر بعد انكشاف أمرهم ، إذ كانوا قبل ذلك يكتمون إيمانهم عن ملكهم كما في لسان قصتهم ، على أن في القصة ذاتها ما يعبر بوضوح عن إيصائهم لمن بعثوه بعد انتهاء رقدتهم بالتقية ، كما يفهم من عبارة ( وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا ) .
ومن هنا قال الفخر الرازي : ( وقوله : ( وليتلطف ) أي : يكون ذلك في سر وكتمان ، يعني دخوله المدينة وشراء الطعام (4)
وأوضح من هذا ما صرح به القرطبي المالكي بشأن توكيل أصحاب الكهف لأحدهم بشراء الطعام مع إيصائه بالتقية من القوم الكافرين بإخفاء الحقيقة عنهم بالتكتم عليها ، فقال ما هذا نصه : ( في هذه الآية نكتة بديعة ، وهي أن الوكالة إنما كانت مع التقية خوف أن يشعر بهم أحد لما كانوا عليه من خوف على أنفسهم ، وجواز توكيل ذوي العذر متفق عليه ) (5)
إذن ، تقية أصحاب الكهف لا مجال لإنكارها في جميع الأحوال سواء قبل تصميمهم على ترك المداراة مع القوم واللجوء إلى الكهف ، أو بعد انتهاء رقدتهم ، ولكن الحق ، أن تقيتهم الأولى كانت قاسية على نفوسهم لما فيها من مجاهدة نفسية عظيمة ، لا سيما إذا علمنا أنهم من أعيان القوم ومن المقربين إلى الملك الكافر دقيانوس قبل أن ينكشف أمرهم .
ولا ريب بأن تقية المسلم من المسلم لا تكون مثل تقية المسلم من الكافر ، بل وما يكره عليه المسلم من كافر مرة واحدة أو مرات لا يقاس بمعاناة الفتية الذين آمنوا بربهم ، لأنهم قضوا شطرا من حياتهم بين قوم عكفوا على عبادة الأصنام والأوثان .
ولهذا ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله : ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف ، إن كانوا ليشهدون الأعياد ، ويشدون الزنانير ، فأعطاهم الله أجرهم مرتين (6)
أقول : كيف لا يشدون الزنار على وسطهم وهم عاشوا في أوساطهم ؟ وكيف لا يشهدون أعيادهم وهم من أعيانهم ؟ الآية الثانية : حول تقية مؤمن آل فرعون . قال تعالى : ( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ) (7)
هذه الآية المباركة هي الأخرى تحكي مشروعية التقية قبل بزوغ شمس الإسلام بقرون .وعلى الرغم من وضوح دلالة الآية على التقية سوف نذكر طائفة من أقوال المفسرين بشأنها ، ليعلم اتفاقهم على مشروعية التقية قبل الإسلام ، وسيأتي تصريحهم ببقائها إلى يوم القيامة
وفي هذا الصدد ، نقل الماوردي في تفسيره عن الحسن البصري ، أن هذا الرجل كان مؤمنا قبل مجئ موسى عليه السلام ، وكذلك امرأة فرعون ، فكتم إيمانه . وأورد عن الضحاك ، بأنه كان يكتم إيمانه للرفق بقومه ، ثم أظهره فقال ذلك في حال كتمه (8)
ولا شك أن ما يعنيه كتمان الإيمان هو التقية لا غير ، لأنه إخفاء أمر ما خشية من ضرر إفشائه ، والتقية كذلك . وأورد ابن الجوزي عن مقاتل بشأن مؤمن آل فرعون : ( إنه كتم إيمانه من فرعون مائة سنة )(9)
لقد بين لنا القرآن الكريم - قبل الآية المذكورة - السبب الذي دفع مؤمن آل فرعون إلى قوله المذكور ، وهو رغبة فرعون بقتل موسى عليه السلام ، قال تعالى : ( وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد ) (10)
وهنا قد يقال - كما في تفسير الرازي - : ( إنه تعالى حكى عن ذلك المؤمن أنه كان يكتم إيمانه ، والذي يكتم إيمانه كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون ؟ ) .
وقد بين الرازي أن في المسألة قولين :
الأول : إن هذا المؤمن لما سمع قول فرعون : ( ذروني أقتل موسى ) لم يصرح بأنه على دين موسى عليه السلام بل أوهم أنه مع فرعون وعلى دينه ، مبينا أن المصلحة تقتضي ترك قتله ، لأنه لم يرتكب ذنبا وإنما كان يدعو إلى الله عز وجل ، وهذا لا يوجب القتل .
الثاني : إنه كان يكتم إيمانه ، ولما علم بقول فرعون المذكور أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى وشافه فرعون بالحق. على أن تقيته واضحة جدا حتى على القول الثاني ، لأنه رضي الله عنه كان قد أظهر إيمانه وشافه فرعون بالحق بعد أن كتمه بتصريح القرآن الكريم ، وكتمان الحق وإظهار خلافه هو التقية بعينها .
وهذا الرجل العظيم لم يصفه القرآن الكريم بالنفاق ، ولا بالمحتال المخادع ، بل وصفه بأشرف الصفات وأعظمها عند الله عز وجل ، صفة الإيمان .
وكيف كان ، فقد أخرج المتقي الهندي في كنز العمال ، عن ابن النجار ، عن ابن عباس ، وعن أبي نعيم في الحلية ، وابن عساكر ، عن ابن أبي ليلى مرفوعا قوله صلى الله عليه وآله وسلم : الصديقون ثلاثة : حبيب النجار مؤمن آل ياسين ، ومؤمن آل فرعون الذي قال : ( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ) ، والثالث : علي بن أبي طالب ، وهو أفضلهم (11)
وفي تفسير المحرر الوجيز : قال الجوهري : ( وقد أثنى الله على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسره ، فجعله الله تعالى في كتابه ، وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر ) (12)
وفي تفسير القرطبي في تفسيره الآية المذكورة قال : ( إن المكلف إذا نوى الكفر بقلبه كان كافرا وإن لم يتلفظ بلسانه ، وأما إذا نوى الإيمان بقلبه فلا يكون مؤمنا بحال حتى يتلفظ بلسانه ، ولا تمنعه التقية والخوف من أن يتلفظ بلسانه فيما بينه وبين الله تعالى ، إنما تمنعه التقية من أن يسمعه غيره ، وليس من شرط الإيمان أن يسمعه الغير في صحته من التكليف ، وإنما يشترط سماع الغير له ، ليكف عن نفسه وماله ) (13)
وبالجملة ، فإن جميع المفسرين الذين وقفت على تفسيرهم اعترفوا بتقية مؤمن آل فرعون ، ولولا خشية الإطالة لأوردنا المزيد من أقوالهم ، ويكفي أن الخوارج الذين زعم بعضهم بأنهم ينكرون التقية قد صرح أباضيتهم بالتقية في تفسيرهم لهذه الآية :
قال المفسر الأباضي محمد بن يوسف أطفيش عن الرجل المؤمن : ( فمعنى كونه من آل فرعون أنه فيهم بالتقية مظهرا أنه على دينهم ، وظاهر قوله ( يا قوم ) أنه منهم - إلى أن قال - واستعمل الرجل تقية على نفسه ، ما ذكر الله عز وجل عنه بقوله : ( وإن يك كاذبا فعليه كذبه ) (14)
المصادر :
1- سورة الكهف : 18 / 19 – 20
2- راجع : تفصيل قصتهم في مجمع البيان / الطبري 5 : 697 - 698 . وزاد المسير / ابن الجوزي 5 : 109 - 110 والجامع لأحكام القرآن / القرطبي 10 : 357 - 359 . وتفسير الطبري 15 : 50 . والدر المنثور / السيوطي 5 : 373 . والتفسير الكبير / الفخر الرازي 21 : 97 . وتفسير أبي السعود 6 : 209 . وقد وردت قصتهم عن ابن عباس ، ومجاهد وعكرمة ، وقتادة وغيرهم .
3- سورة الكهف : 18 / 14
4- التفسير الكبير / الفخر الرازي 21 : 103
5- الجامع لأحكام القرآن / القرطبي 10 : 376 - 377
6- أصول الكافي 2 : 174 - 175 / 14 و 19 كتاب الإيمان والكفر باب التقية ، المكتبة الإسلامية ، طهران / 1388 ه
7- سورة غافر : 40 / 28
8- النكت والعيون / الماوردي 5 : 153 ، دار الكتب العلمية ، بيروت
9- زاد المسير / ابن الجوزي 7 : 312
10- سورة غافر : 40 / 26
11- التفسير الكبير / الرازي 27 : 60 . 2 / كنز العمال / المتقي الهندي 11 : 601 / 32897 و 32898 ، ط 5 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت . وفي حاشية كشف الأستار / محمد حسين الجلال : 98 مؤسسة الأعلمي ، بيروت / 1405 ه
12- المحرر الوجيز / ابن عطية 14 : 132 ، تحقيق المجلس العلمي بفاس / 1407 ه
13- الجامع لأحكام القرآن / القرطبي 15 : 307
14- تيسير التفسير / محمد بن يوسف بن أطفيش الأباضي 1 : 343 - 345
/ج