الایثار هو: أسمى درجات الكرم، وأرفع مفاهيمه، ولا يتحلى بهذه الصفة المثالية النادرة، إلا الذين تحلوا بالأريحية، وبلغوا قمة السخاء، فجادوا بالعطاء، وهم بأمسّ الحاجة اليه، وآثروا بالنوال، وهم في ضنك من الحياة. وقد أشاد القرآن بفضلهم قائلاً: «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة» (1)
وسئُل الامام الصادق عليه السلام: أي الصدقة أفضل، قال: جُهد المُقِل، أما سمعت اللّه تعالى يقول: «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة»(2)
ولقد كان النبي صلى اللّه عليه وآله المثل الأعلى في عظمة الايثار، وسمو الاريحية.
قال جار بن عبد اللّه: ما سُئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله شيئاً فقال لا.
وقال الامام الصادق عليه السلام: «إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أقبل الى الجِعِرانة، فقسم فيها الأموال، وجعل الناس يسألونه فيعطيهم، حتى ألجأوا الى شجرة فأخذت برده، وخدشت ظهره، حتى جلوه عنها، وهم يسألونه. فقال: أيها الناس ردوا علي بردي، واللّه لو كان عندي عدد شَجَرِ تهامة نعماً لقسمته بينكم، ثم ما ألفيتموني جباناً ولا بخيلاً...»(3).وقد كان صلى اللّه عليه وآله يؤثر على نفسه البؤساء والمعوزين، فيجود عليهم بماله وقوته، ويظل طاوياً، وربما شد حجر المجاعة على بطنه مواساة لهم.
قال الباقر عليه السلام: «ما شبع النبي من خبز بُر ثلاثة أيام متوالية، منذ بعثه اللّه إلى أن قبضه»(4)
وهكذا كان أهل بيته عليهم السلام في كرمهم وإيثارهم:
قال الصادق عليه السلام: «كان عليّ أشبه الناس برسول اللّه، كان يأكل الخبز والزيت، ويطعم الناس الخبز واللحم»(5)
وفي علي وأهل بيته الطاهرين، نزلت الآية الكريمة:
«ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً. إنما نطعمكم لوجه اللّه لا نريد منكم جزاءاً ولا شكوراً» (6)
فقد أجمع أولياء أهل البيت على نزولها في علي وفاطمة والحسن والحسين... وقد أخرجه جماعة من أعلام غيرهم، وإليك ما ذكره الزمخشري في تفسيرالسورة من الكشاف.
قال: «وعن ابن عباس أنّ الحسن والحسين مرضا، فعادهما رسول اللّه في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما، إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا، وما معهم شيء، فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً، واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم اللّه من موائد الجنة، فآثروه، وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صياماً، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم، وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك.فلما أصبحوا أخذ عليّ بيد الحسن والحسين وأقبلوا الى رسول اللّه، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، قال: ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها، قد التصق بطنها بظهرها، وغارت عيناها، فساءه ذلك، فنزل جبرائيل وقال: خذها يا محمد هنّاك اللّه بأهل بيتك، فأقرأه السورة»(7)
وقد زخرت أسفار السير بإيثارهم، وأريحيتهم، بما يطول ذكره في هذا البحث المجمل.
العفة
وهي: الامتناع والترفع عمّا لا يحل أو لا يجمل، من شهوات البطن والجنس، والتحرر من استرقاقها المُذِل.وهي من أنبل السجايا، وأرفع الخصائص. الدالة على سمو الايمان، وشرف النفس، وعزّ الكرامة، وقد أشادت بفضلها الآثار:
قال الامام الباقر عليه السلام: «ما من عبادة أفضل عند اللّه من عفة بطن وفرج»(8)
وقال رجل للباقر عليه السلام: «إني ضعيف العمل، قليل الصلاة قليل الصيام، ولكني أرجو أن لا آكل إلا حلالاً، ولا أنكح إلا حلالاً. فقال له: وأيّ جهاد أفضل من عفة بطن وفرج»(9)
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «أكثر ما تلج به أمتي النار، الأجوفان البطن والفرج»(10)
حقيقة العفة:
ليس المراد بالعفة، حرمان النفس من أشواقها، ورغائبها المشروعة، في المطعم والجنس. وإنما الغرض منها، هو القصد والاعتدال في تعاطيها وممارستها، إذ كل إفراط أو تفريط مضر بالانسان، وداع الى شقائه وبؤسه:فالافراط في شهوات البطن والجنس، يفضيان به الى المخاطر الجسيمة، والأضرار الماحقة، ویسمی (الشره).
والتفريط فيها كذلك، باعث على الحرمان من متع الحياة، ولذائذها المشروعة، وموجب لهزال الجسد، وضعف طاقاته ومعنوياته.
الاعتدال المطلوب:
من الصعب تحديد الاعتدال في غريزتي الطعام والجنس، لاختلاف حاجات الأفراد وطاقاتهم، فالاعتدال في شخص قد يعتبر إفراطاً أو تفريطاً في آخر.والاعتدال النِّسبِي في المأكل هو: أن ينال كل فرد ما يقيم اوَدَهُ ويسدّ حاجته من الطعام، متوقياً الجشع المقيت، والامتلاء المرهق.
وخير مقياس لذلك هو ما حدّده أمير المؤمنين علیه السلام، وهو يحدث إبنه الامام الحسن عليه السلام: «يا بني الا اُعلّمك أربع كلمات تستغني بها عن الطب؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين. قال: لاتجلس على الطعام إلا وأنت جائع، ولا تقم عن الطعام الا وأنت تشتهيه، وجوّد المضغ، وإذا نمت فأعرض نفسك على الخلاء، فاذا استعملت هذا استغنيت عن الطب».
وقال: إنّ في القرآن لآية تجمع الطب كله: «كلوا واشربوا ولا تسرفوا»(11)
والاعتدال التقريبي في الجنس هو تلبية نداء الغريزة، كلما اقتضتها الرغبة الصادقة، والحاجة المحفزة عليه.
محاسن العفة:
لا ريب أنّ العفة، هي من أنبل السجايا، وأرفع الفضائل، المعربة عن سمو الايمان، وشرف النفس، والباعثة على سعادة المجتمع والفرد.وهي الخلّة المشرفة التي تزين الانسان، وتسمو به عن مزريات الشره والجشع، وتصونه عن التملق للئام، استدراراً لعطفهم ونوالهم، وتحفّزه على كسب وسائل العيش ورغائب الحياة، بطرقها المشروعة، وأساليبها العفيفة.
المصادر :
1- الحشر: 9
2- الوافي ج 6 ص 58 عن الفقيه
3- سفينة البحار ج 1 ص 607 عن علل الشرائع. والجعرانة موضع بين مكة والطائف
4- سفينة البحار ج 1 ص 194 عن الكافي
5- البحار م 9 ص 538 عن الكافي
6- الدهر: 8 - 9
7- عن الكلمة الغراء - لمرحوم آية اللّه السيد عبد الحسين شرف الدين ص 29 نقل بتصرف وتلخيص
8- الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي
9- البحار م 15 ج 2 ص 184 عن محاسن البرقي وقريب منه في الكافي
10- البحار م 15 ج 2 ص 183 عن الكافي
11- الأعراف: 31/سفينة البحار م 2 ص 79 عن دعوات الراوندي
/ج