الابتداع في تفسير البدعة

لقد ارتحل النبيّ الأكرم إلى الرفيق الأعلى بعد أن أكمل الشريعة وبيّن جليلها ودقيقها وما تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة، قال سبحانه: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاْسْلاَمَ دِيناً} (1) وحفاظاً على دينه وصيانته من
Tuesday, July 15, 2014
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
الابتداع في تفسير البدعة
 الابتداع في تفسير البدعة

 






 

لقد ارتحل النبيّ الأكرم إلى الرفيق الأعلى بعد أن أكمل الشريعة وبيّن جليلها ودقيقها وما تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة، قال سبحانه: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاْسْلاَمَ دِيناً} (1) وحفاظاً على دينه وصيانته من التحريف والتبديل، أمر التمسّك بالثقلين. ولم يرضَ للأُمّة غيرهما لئلاّ يكون الدين أُلعوبة بأيدي المغرضين والطامعين. والمقياس في تميّز البدعة عن السنّة هو الرجوع إلى الثقلين سواء أفسر بالكتاب والعترة، كما هو المتظافر، أم بالكتاب والسنّة، كما رواه الإمام مالك في الموطأ بسند مرسل(2)، والحديثان متقاربا المضمون، لأنّ العترة لا تنشد إلاّ السنّة النبويّة، التي أخذوها كابر عن كابر إلى أن تصل إلى النبيّ الأكرم، فما وافقهما فهو سنّة وما خالفهما فهو بين معصية وبدعة، مع الفرق الواضح بينهما، فلو أُذيعت الفكرة أو شاع العمل بين الناس بها فتصير بدعة، وإن اكتفى بها من دون دعوة وإشاعة فهي معصية.
ومن العجب أنّ أُناساً صاروا إلى تحديد البدعة وتمييزها عن السنّة، ولكنهم جاءوا حين تحديدها ببدعة وفرية جديدة لا دليل عليها في الكتاب والسنّة، وهي أنّ المقياس في تمييز البدعة عن السنّة هو القرون الثلاثة الأولى بعد رحيل الرسول. فما حدث فيها فهو سنّة، وما حدث بعدها فهو بدعة، وإن تعجب فإليك نصّ القائل:
"وممّا نحن عليه، أنّ البدعة ـ وهي ما حدثت بعد القرون الثلاثة ـ مذمومة مطلقة خلافاً لمن قال: حسنة وقبيحة، ولمن قسّمها خمسة أقسام إلاّ إن أمكن الجمع بأن يقال: الحسنة ما عليها السلف الصالح شاملة للواجبة والمندوبة والمباحة، وتكون تسميتها بدعة مجازاً، والقبيحة ما عدا ذلك شاملة للمحرّمة والمكروهة فلا بأس بهذا الجمع"(3).
وهذه النظرية الشاذّة عن الكتاب والسنّة نظرية خاصّة استنتجها القائل ممّا رواه الشيخان في باب فضائل أصحاب النبيّ وإليك نصّهما:
روى البخاري قال: سمعت عمران بن الحصين يقول: قال رسول الله: "خير أُمّتي قرني ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم"، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، "ثمّ إنّ بعدكم قوماً، يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يُؤتمنون، ويَنذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن".
وروى أيضاً عن عبد الله (رضي الله عنه) أنّ النبيّ قال: "خير الناس قَرني ثمّ الذين يلونهم ثمّ يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته"، قال: قال إبراهيم: وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار(4).
إنّ الاحتجاج بهذه الرواية على أنّ الميزان في تمييز البدعة عن السنّة، هو أنّ كلّ ما حدث في القرون الثلاثة الأُولى ليس ببدعة; وأمّا الحادث بعدها فهو بدعة، باطل بوجوه:
الأوّل: إنّ القرن في اللّغة هو النسل(5) وبهذا المعنى استعمل في القرآن الكريم، قال سبحانه: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} (6) وبما أنّ المتعارف في عمر كلّ نسل هو الستّون أو السبعون، يكون المراد، مجموع تلك السنين التي تتراوح بين 180 و 210 وأين هذا من تفسير الحديث بثلاثمائة سنة؟!
الثاني: على الرغم من اختلاف شرّاح الحديث في تفسير الرواية، إلاّ أنّ جميعها لا يستفاد منها ما يتبنّاه الكاتب، فبعض قال: إنّ المراد من القرن في قوله: "قرني" هو أصحابه، ومن "الذين يلونهم" أبناءهم ومن "الثالث" أبناء أبنائهم.
وقال آخر: بأنّ قرنه ما بقيت عين رأته، ومن الثاني ما بقيت عين رأت من رآه، ثمّ كذلك.
وثالث قال: إنّ قرنه الصحابة، والثاني التابعون، والثالث تابعوهم(7).
وعلى كلّ تقدير تكون المدّة أقلّ من ثلاثة قرون، حتى لو أخذنا بالقول الأخير الذي هو أعمّ الأقوال وأوسعها. فإنّ آخر من مات من الصحابة هو أبو الطفيل، وقد اختلفوا في تاريخ وفاته على أقوال: فقيل: أنّه توفّي سنة 120 أو دونها أو فوقها بقليل وأمّا قرن التابعين فآخر من توفّي منهم كان عام 170 أو 180 وآخر من عاش من أتباع التابعين ممّن يقبل قوله، من توفّي حدود 220، فقيل عن ثلاثة قرون بثمانين سنة، وهذا كثير جدّاً، ولأجل عدم انطباقه على ثلاثة قرون قال ابن حجر العسقلاني: "وفي هذا الوقت 220 هـ ظهرت البدع فاشياً، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها، وأمتُحِن أهل العلم ليقولوا بخَلْق القرآن، وتغيّرت الأحوال تغيّراً شديداً ولم يزل الأمر في نقص الى الآن"(8).
ولو افترضنا أنّ القرن يستعمل في مائة سنة فلا يصحّ تفسير الحديث به، لأنّ المحور في الحديث في تمييز قرن عن قرن آخر هو الأشخاص حسب أعمارهم، فعلى ذلك يجب أن يكون الملاك في تبادل القرون وتمايزها ملاحظة من كانوا يعيشون فيه حيث قال: "خير أُمّتي قرني" ولم يقل القرن الأوّل، ثمّ قال: "ثمّ الذين يلونهم" فلم يقل ثمّ القرن الثاني، وقال: "ثمّ الذين يلونهم" ولم يقل القرن الثالث، فلا محيص عند حساب السنين ملاحظة الأشخاص الذين كانوا يعيشون في قرنه والقرنين اللّذين يليانه.
الثالث: ماذا يراد من عبارة خير القرون وشرّها، وما هو الملاك في الوصف بالخير والشر؟
هناك ثلاثة ملاكات للاتّصاف بالخير والشر، كلها محتمل:
1 ـ إنّ أهل القرن الأوّل كانوا خير القرون وذلك لأنّهم لم يدب فيهم دبيب الخلاف في الأُصول والعقائد، وكانوا متماسكين في الأُصول، متّحدين في العقائد.
2 ـ كونهم خير القرون وذلك لسيادة الطمأنينة فيهم، وكان الجميع متظلّل بظلّ الصلح والسلم إخواناً.
3 ـ كونهم خير القرون وذلك لتمسّكهم بأهداف الدين في مقام العمل وتطبيق الشريعة.
وأيّ واحد أُريد من هذه الملاكات; فالقرآن والسنّة والتاريخ القطعي لا يدعمه بل يكذبه، وإليك البيان:
فإن كان الملاك هو العقائد الصحيحة والباطلة، وأنّ المسلمين كانوا متمسّكين جملة واحدة بمعتقد واحد صحيح في القرون الثلاثة الأُولى ثمّ ظهرت رؤوس الشياطين، ودبّت فيهم المناهج الكلاميّة الفاسدة، ـ فإن كان الملاك هذا ـ فتاريخ الملل والنحل لا يؤيد ذلك بل ويكذّبه، فانّ الخوارج ظهروا بين الثلاثين والأربعين من القرن الأوّل، وكانت لهم ادّعاءات وشبهات وعقائد سخيفة خضّبوا في طريقها وجه الأرض، ولم يتمّ القرن الأول إلاّ وظهرت المرجئة، الذين دعوا المجتمع الإسلامي إلى التحلل الأخلاقي، رافعين عقيرتهم بأنّه لا تضرّ مع الإيمان معصية، فقد ضلّوا وأضلّوا كثيراً حتّى دبّ الارجاء بين المحدثين وغيرهم في القرن الثاني، وقد ذكر أسماءهم جلال الدين السيوطي في تدريب الراوي(9). حيث كان الارجاء يقود المجتمع الإسلامي إلى التحلل الأخلاقي، والفوضى في جانب العمل. إلى أن ظهرت المعتزلة في أوائل القرن الثاني عام 510 هـ قبل وفاة الحسن البصري بقليل، فتوسّع الشقاق بين المسلمين، وانقسموا إلى فرق كثيرة، حيث كان النزاع قائماً على قدم وساق منذ أن ظهر الاعتزال على يد واصل بن عطاء حتى أواسط القرن الخامس الذي قضي فيه على هذه الفرقة.
وأمّا القرن الثاني فكان عصر ازدهار المذاهب الكلامية، وكانت الأمصار ميداناً لتضارب الأفكار.
فمنهم متزمت يقتصر في وصفه الله سبحانه على الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة، ويفسّرها بمعانيها الحرفية، من دون إمعان وتدبّر،
ويرفع صوته بأنّ لله يداً ووجهاً ورجلا وأنّه مستقرّ على عرشه.
ومنهم مرجئيّ يكتفي بالإيمان بالقول، ويقدّمه ويؤخر العمل ويسوق المجتمع إلى التحلل الخلقي وترك الفرائض.
وآخر محكِّم يكفّر كلّ الطوائف الإسلامية غير أهل نحلته، الذين كانوا يبغضون الخليفتين عثمان وعليّاً، وكانوا يكفرّون الصدّيق الأعظم عليّ (عليه السلام).
ومعتزلي يؤوّل الكتاب والسنّة بما يوافق معتقده وعقليته.
وجهميّ ينفي صفات الله كلّها، وينفي الاستطاعة والقدرة عن الإنسان، ويحكم بفناء الجنّة والنار، وقد هلك جهم بن صفوان عام 128 هـ.
وكرّامي يقول: الإيمان قول باللسان، وإن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن، وانّه سبحانه جسم لا كالأجسام وقد هلك "كرّام" عام 552 هـ.
إلى غير ذلك من المناهج الرجعية التي أفسدت المسلمين والمجتمع الإسلامي بعقائدها الفاسدة، فكيف يمكن ـ من هذا الجانب ـ وصف هذه القرون خيراً؟!
وأمّا إذا كان الملاك هو صفاء المجتمع من حيث السلم والصلح وسيادة الطمأنينة على المسلمين، فهذا ما يكذّبه التاريخ، فانّ القرن الأوّل كان صحيفة سوداء في التاريخ الإسلامي، وكان قرناً دموياً لم يرَ التاريخ مثله. فكيف يكون خير القرون؟! وأيّ يوم فيه كان يوم الصفاء والصلح؟!
أيوم قُتل فيه الخليفة عثمان بن عفان في عقر داره بمرآى ومسمع من المهاجرين والأنصار؟
أيوم فتنة الجمل الذي قتلت فيه عشرات الآلاف من الطرفين بين صحابي وتابعي، وقد عقب ذلك ترميل النساء وإيتام الأطفال، وحدوث الأزمة والشدّة؟
أيوم صفّين الذي خرج فيه أمير الشام بوجه الإمام عليّ (عليه السلام)، الذي بايعه المهاجرون والأنصار بيعة لم ير لها نظير في التاريخ، فوقع صِدَام بين طائفتين من المسلمين كانت نتيجته إراقة دماء عشرات الأُلوف، إلى أن انتهى إلى التحكيم؟
أيوم ظهر الخوارج على الساحة الإسلامية يَغيرون ويقتلون الأبرياء إلى أن انتهت فتنتهم بقتل مشايخهم في النهروان؟
أيوم أُغير على آل رسول الله بكربلاء، حيث قتل فيه أبناء المصطفى، وفيهم سبطه وريحانته سيد شباب أهل الجنّة، وسُبيت بنات الزهراء ومن معهنّ من نساء أهل البيت علیهم السلام حتى لم يبقَ بيت له برسول الله صلة إلاّ وقد ضُجَّت فيه النوائح وعمته الآلام والأحزان؟
أيوم أُبيحت فيه مدينة رسول الله في وقعة الحرّة الشهيرة فقتل الأصحاب والتابعون، ونهبت الأموال، وبقرت بطون الحوامل وهتكت الأعراض حتى ولدت الأبكار دون أن يعرفن أولادهن؟(10)
أيوم حاصر جيش بني أُميّة مكّة المكرّمة والبيت العتيق ورموه بالحجارة، لأجل القضاء على عبد الله بن الزبير؟
أيوم تسلّم عبد الملك بن مروان منصّة الخلافة، وقد عيّن الحجاج بن يوسف عاملا على العراق، فسفك دماءً طاهرة، وقتل الأبرياء، وزجّ بالسجون رجالا ونساءً من دون أن تظلّهم مظلّة تقيهم حرّ الشمس وبرد الليل القارص؟
فكل تلك الحوادث الدموية قد وقعت ولما ينقضي القرن الأوّل، فكيف يمكن أن يكون خير القرون وأفضلها.
وإن كان صاحب القرن هو الرسول الأعظم أفضل الخلق؟ إلاّ أنّ سيرته، تختلف عن سيرة أُمّته التي وقفْتَ على صورة مجملة من أفعالها الدموية(11).
وإن كان الملاك هو تمسّكهم بالدين في مجال الأحكام والفروع فهو أيضاً لم يتحقّق، وإن شئت فارجع إلى ما حدث بعد رحيل النبي في نفس عام الرحلة، فانّ كثيراً ممّن رأى النبيّ الأكرم وأدركه وسمع حديثه أصبح يمتنع عن أداء الزكاة، بل وارتدّ بعض عن دين الإسلام، لولا أن يقمعهم الخليفة الأوّل ويرد عاديتهم.
لكن لا ندري هل نصدق هذا الحديث أم نؤمن بما حدّث القرآن الكريم، حيث يعتبر قوماً أعرف بمواقع الإسلام ويفضلهم على من كان في حضرة النبيّ من الصحابة الكرام وقد ارتدّ، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِم ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (12) قل لي من هؤلاء الذين يعتزّ الله بهم سبحانه ويفضّلهم على أصحاب النبيّ؟ فلاحظ التفاسير(13).
لا ندري هل نؤمن بهذا الحديث الذي رواه الشيخان أم نؤمن بما رواه نفسهما في باب آخر، قالا: قال رسول الله: "يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيُهلئون عن الحوض فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقول: إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى"(14).
هل نؤمن بهذا الحديث أم نؤمن بما رواه المؤرّخون في حياة الوليد بن عقبة وهو الذي وصفه سبحانه بكونه فاسقاً وقال: {اِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا} (15) وقد أطبق المفسّرون في نزولها على الوليد بن عقبة.
هذا وقد ولّى الكوفة أيّام خلافة الخليفة الثالث فشرب الخمر، وقام يصلّي بالناس صلاة الفجر فصلّى أربع ركعات، وكان يقول في ركوعه وسجوده: اشربي واسقني، ثمّ قاء في المحراب ثمّ سلّم وقال: هل أزيدكم إلى آخر ما ذكره(16).
وليس الوليد شخصاً وحيداً بين من عاصر النبيَّ الأكرم، بل كان فيهم أصناف مختلفة لا يمكن الحكم باستقامتهم فضلا عن الحكم بعدالتهم.
فقد كان فيهم المنافقون المعروفون بالنفاق(17)، والمختفون به(18)، ومرضى القلوب(19)، والسمّاعون كالريشة في مهب الرياح(20)، وخالطوا العمل الصالح بالسيّئ(21)، والمشرفون على الارتداد(22)، والمسلمون غير المؤمنين(23)، والمؤلّفة قلوبهم(24)، والمولّون أمام الكفّار(25)، والفاسق(26).
نحن نترك تفسير الحديث إلى آونة أُخرى، ولعلّ المحقّقين يجدون له تفسيراً ينطبق على التاريخ القطعي المشهود والملموس.

الابتداع في تفسير البدعة

إنّ من البدعة في تفسيرها، هو جعل السلف معياراً للحقّ والباطل والإصرار عليه، فترى أنّ كثيراً ممّن ينتمون إلى السلفية يصفون كثيراً من الأُمور بالبدعة بحجّة أنّها لم تكن في عصر الصحابة والتابعين، وهذا ابن تيمية "يصف الاحتفال في مولد النبي بدعة بحجّة أنّه لم يفعله السلف، مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً، لكان السلف ـ رضي الله عنهم ـ أحقّ منّا فإنّهم كانوا أشدّ محبّة لرسول الله وتعظيماً له منّا وهم على الخير أحرص"(27).
ويقول في حقّ القيام للمصحف وتقبيله: "لا نعلم فيه شيئاً مأثوراً عن السلف"(28).
وقد ورث هذه الفكرة كثير ممّن يؤمن بمنهجه. وهذا هو عبد الله بن سليمان ابن بليهد الذي قام باستفتاء علماء المدينة بتخريب قباب الصحابة وأئمة أهل البيت في بقيع الغرقد عام 4413 وقد نشر مقالا في جريدة أُمّ القرى في عدد جمادى الآخر سنة 4513 وجاء فيها قوله: لم نسمع في خير القرون أنّ هذه البدعة (البناء على القبور) حدثت فيها بل بعد القرون الخمسة(29).
وبدورنا نشكر الشيخ ابن بلهيد حيث وسع الأمر على المسلمين وأدخل عليها قرنين آخرين بعدما قصر مؤلف الهدية السنية العصمة على أهل القرون الثلاثة الأُولى، ولكن نهيب بصاحب المقال بأنّ المسلمين وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قد فتحوا القدس، وفيها مقابر الأنبياء ومقام إبراهيم ويعقوب وأولادهم، وعليها قباب وأبنية ولم يَدُر بخلد أحد حتى الخليفة بأنّها بدعة كي يهدموها بمعاولهم.
إنّ هناك كلاماً جميلا للأُستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، فقد ألّف كتاباً باسم "السلفية مرحلة زمنيّة مباركة لا مذهب إسلامي" وقد أدّى فيه حقّ المقال، نقتطف منه ما يلي:
إنّ من الخطأ بمكان أن نعمد إلى كلمة (السلف) فنصوغ منها مصطلحاً جديداً، طارئاً على تاريخ الشريعة الإسلامية والفكر الإسلامي، ألا وهو "السلفية" فنجعله عنواناً مميزاً تندرج تحته فئة معيّنة من المسلمين، تتّخذ لنفسها من معنى هذا العنوان وحده مفهوماً معيناً، وتعتمد فيه على فلسفة متميزة، بحيث تغدوا هذه الفئة بموجب ذلك جماعة إسلامية جديدة، في قائمة جماعات المسلمين المتكاثرة والمتعارضة بشكل مؤسف في هذا العصر، تمتاز عن بقية المسلمين بأفكارها وميولاتها بل تختلف عنهم حتى بمزاجها النفسي ومقاييسها الأخلاقية كما هو الواقع اليوم فعلا.
بل إنّما لا نعدو الحقيقة إن قلنا: إنّ اختراع هذا المصطلح بمضامينه الجديدة التي أشرنا إليها، بدعة طارئة في الدين، لم يعرفها السلف الصالح لهذه الأُمة ولا الخلف الملتزم بنهجه.
فإنّ السلف ـ رضوان الله عليهم ـ، لم يتّخذوا من معنى هذه الكلمة بحدّ ذاتها مظهراً لأيّ شخصية متميّزة، أو أي وجود فكري أو اجتماعي خاص بهم، يميّزهم عمّن سواهم من المسلمين، ولم يضعوا شيئاً من يقينهم الاعتقادي أو التزاماتهم السلوكية والأخلاقية في إطار جماعة إسلامية ذات فلسفة وشخصية فكرية مستقلّة. بل كان بينهم وبين من نسمّيهم اليوم بالخلف منتهى التفاعل وتبادل الفهم والأخذ والعطاء تحت سلطان ذلك المنهج الذي تمّ الاتّفاق عليه، والإحتكام إليه، ولم يكن يخطر في بال السابقين، منهم ولا اللاحقين بهم أنّ حاجزاً سيختلق ليرتفع ما بينهما، بصُنع طائفة من المسلمين فيما بعد، وليقسم سلسلة الأجيال الإسلامية الى فريقين، يصبغ كلا منهما بلون مستقلّ من الأفكار والتصوّرات والاتّجاهات، بل كانت كَلِمتا السلف والخلف في تصوّراتهم لا تعني ـ من وراء الانضباط بالمنهج الذي ألمحنا إليه ـ أكثر من ترتيب زماني كالذي تدلّ عليه كلمتا: (قبل وبعد)(30).
إنّ ما ذكره هذا المحقق هو الحق القراح الذي لا يرتاب فيه من له إلمام بالكتاب والسنّة وسيرة المسلمين وتاريخهم، وأين هذا وما ذكره الدكتور سيد الجميلي حيث جعل للسلفية والسلف حقيقة شرعية وقال: كلمة السلفية والسلف مصطلحات شرعيان(31) وليس هذا الاشتباه منه ببعيد لضآلة علمه بالتاريخ وإن كنت في شك فانظر كيف فسّر الأشاعرة بقوله; هم أتباع أبي موسى الأشعري المتوفّى سنة 44 مع أنّهم من أتباع أبي الحسن الأشعري المولود عام 062 والمتوفى عام 432 وهو من أحفاد أبي موسى الأشعري، فهذا مبلغ علمه ويريد أن يقضي بين الفقهاء والمجتهدين والمحدّثين!!
المصادر :
1- المائدة/3
2- مالك بن أنس، الموطأ: 648 برقم 1619
3- الهدية السنية، الرسالة الثانية: 51
4- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري 7: 6 باب فضائل أصحاب النبي ـ النووي، شرح صحيح مسلم 8: 84 ـ 85
5- الخليل، العين: ترتيب العين ـ ابن منظور، اللسان: مادة "قران"
6- الأنعام/6
7- صحيح مسلم، شرح النووي 16: 85
8- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري 7: 4
9- السيوطي، تدريب الراوي 1: 328
10- صائب عبد الحميد، منهج في الانتماء المذهبي: 281
11- لاحظ في الوقوف على هذه الحوادث المرّة، تاريخ الطبري، تاريخ اليعقوبي، مروج الذهب للمسعودي، وتاريخ الكامل للجزري، والإمامة والسياسة لابن قتيبة إلى غير ذلك من المعاجم التاريخية المعتبرة
12- المائدة/54
13- الرازي، مفاتيح الغيب 3: 427 ـ تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري 6: 165
14- ابن الأثير، جامع الأصول 11: 120 برقم 7973
15- الحجرات/6
16- ابن الأثير، الكامل 2: 52 ـ الجزري، اُسد الغابة 5: 91 إلى غيرهما من المصادر الكثيرة
17- المنافقون: 1 ـ 8
18- التوبة: 101
19- الأحزاب: 12
20- التوبة: 45 ـ 47
21- التوبة: 102
22- آل عمران: 154
23- الحجرات: 14
24- التوبة: 60
25- الأنفال: 16
26- الحجرات: 6
27- ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم: 276
28- ابن تيمية، الفتاوي الكبرى 1: 176
29- السيد الأمين، كشف الارتياب: 357 ـ 358
30- الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، السلفية: 13 ـ 14
31- الدكتور سيد الجميلي، مناظرات ابن تيمية مع فقهاء عصره



 

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.