المؤمن هو الذي يسير بخطى ثابتة على درب الاِيمان الواضح المعالم ولكن قد يتعرض لعواصف هوجاء من الاَهواء والشبهات فتخرجه عن جادّة الصواب ، وتسقطه من قمة جبل الاِيمان إلى وادي الكفر السحيق ، وعندئذٍ يصبح فقيراً من الناحية المعنوية بعد أن كان غنياً بإيمانه ، سأل زيد بن صوحان العبدي أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً : «.. فأيُّ فقر أشدّ ؟» قال عليه السلام : « الكفر بعد الاِيمان » (1)
وسقوط الاِنسان في حضيض الكفر بعد الايمان إنّما يتم على مراحل وخطوات ، لا سيّما وأنّ الشيطان يتّبع مع الاِنسان سياسة : الخطوة خطوة ! لذلك حذر تعالى المؤمنين من إتّباع خطواته قائلاً : ( يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا لاتتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيطانِ.. ) (2)، وقال أيضاً : ( يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا ادخُلُوا في السّلمِ كافةً ولا تتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيطانِ إنَّهُ لكُم عَدوٌّ مّبينٌ ) (3)
فشغل الشيطان الشاغل هو إضلال الاِنسان بشتى الحيل والسبل ولايتمكن من إيقاع الطلاق فجأة بين الاِنسان والاِيمان لذلك يسعى للوصول إلى هدفه التضليلي على مراحل .
والله تعالى يبغض ذلك الاِنسان الذي يلقي بزمام أمره إلى عدوه الشيطان حيثُ السقوط التدريجي والهلاك ، ويؤيده الاَثر الوارد عن سلمان الفارسي قدس سره أنه قال : «إذا أراد الله عزَّ وجل هلاك عبد نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلاّ خائناً مخوناً فإذا كان خائناً مخوناً نزعت منه الاَمانة ، فإذا نزعت منه الاَمانة لم تلقه إلاّ فظّاً غليظاً ، فإذا كان فظاً غليظاً نزعت منه ربقة الاِيمان ، فإذا نزعت منه ربقة الاِيمان لم تلقه إلاّ شيطاناً ملعوناً» (4)
المبحث الاَول : عوامل زوال الاِيمان :
هناك مجموعة من العوامل تسهم في إخراج الاِنسان عن طريق الاِيمان السوّي ، يمكن الاِشارة إلى أبرزها بالنقاط الآتية :أولاً : عدم معرفة الاَئمة : لمّا كان الاَئمة عليهم السلام هم السبيل إلى الله تعالى ، والمسلك إلى رضوانه وحججه على عباده لذا وجبت معرفتهم ومحبتهم، ويؤيد ذلك ما في آية المودة والحديث المتواتر : « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية » (5)ومن هنا قال الاِمام الباقر أو الصادق عليهما السلام:
«لا يكون العبد مؤمناً حتى يعرف الله ورسوله والاَئمة كلّهم وإمام زمانه ويرد إليه ويسلم له » (6). وقال الاِمام الباقر عليه السلام في بيان قوله تعالى : ( كَمَنْ مَثَلُهُ في الظُّلماتِ ليسَ بِخَارجٍ مِنها ) « الذي لا يعرف الاِمام»(7)
فالمؤمن الكامل في إيمانه يجب أن يعرف إمام زمانه وبدون هذه المعرفة الواجبة عليه يصبح ضالاً كالحمل الضائع الذي يسير بلا راع نحو المجهول ، عن سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : قلتُ له ما أدنى ما يكون به الرجل ضالاً ؟ قال عليه السلام : « أن لا يعرف من أمر الله بطاعته ، وفرض ولايته ، وجعله حُجَّته في أرضه ، وشاهده على خلقه . قلتُ: فمن هم يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السلام : الّذين قرنهم الله بنفسه وبنبيّه فقال : ( يا أيُّها الّذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأُولي الاَمر منكم..)» قال : فقبّلت رأسه وقلتُ : أوضحت لي وفرّجت عنّي وأذهبت كلَّ شيء كان في قلبي (8)
فكلّ إنكار للاَئمة عليهم السلام ـ إذن ـ يجرّ إلى هاوية الكفر كما أنّ إدعاء الاِمامة بغير وجه حق يعتبر من الموارد التي تورد صاحبها الكفر ، عن الفضيل ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « من ادّعى الاِمامة وليس من أهلها فهو كافر » (9)
ثانياً : الغلو : وهو من العوامل الاَساسية التي تسهم في خروج الاِنسان
عن حضيرة الاِيمان ، عن سعيد بن جبير قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : «ماغلا أحد من القدرية إلاّ خرج عن الاِيمان » (10). وعن بريد العجليّ ، قال : قلتُ لاَبي عبدالله عليه السلام ما أدنى ما يصير به العبد كافراً ؟ قال : فأخذ حصاة من الاَرض ، فقال عليه السلام : « أن يقول لهذه الحصاة إنّها نواة ويبرء ممّن خالفه على ذلك ويدين الله بالبراءة ممّن قال بغير قوله ، فهذا ناصب قد أشرك بالله وكفر من حيث لا يعلم » (11)
ثالثاً : العصبية : الاِيمان يعني إلتزام الحق ولا يجتمع مع العصبية التي ضمن ما تعنيه من إيثار مصالح القرابة والقوم على قواعد الحق والعدالة عند التعارض بينهما وعليه فمن تعصّب فقد انقلب على عقبيه عن الاِيمان وصُنّف مع أعراب الجاهلية ، قال الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم : « من كان في قلبه حبّة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية»(12)، كما جاء عن الاِمام الصادق عليه السلام : « من تعصّب أو تُعصّب له فقد خلع ربقة الاِيمان من عنقه » (13)
هذا ، وللعصبية معنىً آخر غير مذموم وغير مخرج عن الاِيمان كأن يحب الاِنسان قومه بحيث لا يؤدي ذلك إلى الظلم والعدوان ، وقد وضع الاِمام زين العابدين عليه السلام المقياس الصحيح للتفريق ، فقال عليه السلام : « العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرّجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ، ولكن من العصبية أن
يعين قومه على الظلم » (14)
رابعاً : ضرب القرآن بعضه ببعض : المعروف أنّ البعض يتلاعب بمعاني القرآن حسب أهواءه ومصالحه فيضرب بعضه ببعض ليثبت حجته ويسكت خصمه تجنياً على الحق والحقيقة ، وتشويهاً لمعاني ومفاهيم القرآن الصافية ، وهذا هو عين الجحود والكفر بالله تعالى ، عن القاسم بن سليمان عن أبي عبدالله عليه السلام : « ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلاّ كفر » ، وسألت محمد بن الحسن رحمه الله عن معنى هذا الحديث فقال : هو أن تجيب الرجل في تفسير آية بتفسير آية اُخرى (15)، بمعنى التمويه على الآخرين بلا دليل أو برهان .
خامساً : الطمع : وهو أحد العوامل النفسية التي تسهم في إخراج الاِنسان من بوتقة الاِيمان ، قيل لاَمير المؤمنين عليه السلام : «ما ثبات الاِيمان ؟» قال عليه السلام : « الورع ، قيل : فما زواله ؟ قال : الطمع » (16)
المبحث الثاني : مرتكب الكبيرة :
بعد أن استعرضنا أبرز العوامل التي تخرج الاِنسان من سكة الاِيمان ، نجد من المناسب التطرق إلى مسألة مرتكب الكبيرة فقد اختلف أهل القبلة فيمن أقرَّ بالشهادتين ، وأتى بالذنوب الكبيرة كالقتل وشرب الخمر وما إلى ذلك . هل هو كافر مخلد في النار ، أو أنه مؤمن فاسق يعاقب علىالذنب بما يستحق ، ثم يدخل الجنة ؟ ذهب الخوارج إلى كفر مرتكب الكبيرة ، وقال الاِمامية والاَشاعرة وأكثر الاصحاب والتابعين إلى إنّه مؤمن اتّصف بالفسق ، وأحدث المعتزلة قولاً ثالثاً وأثبتوا المنزلة بين المنزلتين ، أي لا هو بالكافر ، ولا بالمؤمن . وقد أورد الشيخ المفيد في هذا الصدد شاهداً قرآنياً على أنّ كبائر الذنوب لا تخرج عن الاِيمان وذلك انّه لاخلاف أنّ ما صنعه أخوة يوسف عليه السلام بأخيهم من إلقائه في غيابة الجب وبيعه بالثمن البخس وكذبهم على الذئب وما أوصلوه إلى قلب أبيهم نبي الله يعقوب من الحزن كان كبيراً من الذنوب . وقد قصّ الله قصتهم وأخبر عن سؤالهم أباهم الاستغفار عن توبتهم وندمهم فإن كان الحسد لا يخرج عن الاِيمان ، فالكبير من الذنوب أيضاً لا يخرج عن الاَديان (17)
واستدل العلاّمة الحلي في شرح التجريد على صحة القول بأنّ مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق لا يخلد في النار ، استدل : «بأنّه لو خلد في النار للزم أن يكون من عبدَ الله مدة عمره ثم عصى آخر عمره معصية واحدة ، مع بقائه على إيمانه ، لزم أن يكون هذا مخلداً في النار ، تماماً كمن أشرك بالله مدة عمره ، وذلك محال لقبحه عند العقلاء» (18)
وليس من شك أنّ سيئة واحدة لا تحبط جميع الحسنات ، بل العكس هو الصحيح ، لقوله تعالى : (... إنَّ الحسناتِ يُذهبن السيئات.. ) (19)
والباحث المتجرّد عن الهوى والغرض ، يلاحظ أنّ رأي أهل البيت عليهم السلام
حول هذه المسألة الحساسة أكثر صوابية وينسجم مع روح الاِسلام السمحة ، ويتلائم مع رحمة الله الواسعة . فالاِنسان ضعيف بطبعه ومعرَّض للخطأ ، لذلك فتح الله تعالى أمامه باب التوبة على مصراعيه ، عن أبي عبدالله عليه السلام : « إنَّ الله عزَّ وجلَّ يفرح بتوبة عبده المؤمن إذا تاب كما يفرح أحدكم بضالته إذا وجدها » (20)
وعليه فآل البيت عليهم السلام لا يؤيسون الناس من رحمة الله ويدخلونهم في دائرة الكفر بمجرّد إرتكاب الذنب وإن كان كبيراً ، فهناك ربّ رؤوف يتصف بالرحمة والمغفرة أقسم أن لا يُبقي أحداً في النار من الموحدين .
وتزداد هذه الرؤية وضوحاً وإشراقاً من الاَمل ، بما ورد عن أبي عبدالله عليه السلام : «مامن مؤمن يقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة ، فيقول : وهو نادم ، استغفر الله الذي لا إله إلاّ هو الحي القيوم بديع السماوات والاَرض ذي الجلال والاكرام وأسئله أن يصلي على محمد وآل محمد وأن يتوب عليَّ إلاّ غفرها الله عزَّ وجلَّ له » (21)
وعنه عليه السلام : « .. قد يكون العبد مسلماً قبل أن يكون مؤمناً ولا يكون مؤمناً حتى يكون مسلماً ، فالاِسلام قبل الاِيمان وهو يشارك الاِيمان ، فإذا أتى العبد كبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله عزَّ وجلَّ عنها كان خارجاً من الاِيمان ، ساقطاً عنه اسم الاِيمان وثابتاً عليه اسم الاِسلام ، فإن تاب واستغفر عاد إلى دار الاِيمان ولا يخرجه إلى الكفر إلاّ بالجحود والاستحلال أن يقول للحلال هذا حرام وللحرام هذا
حلال ودان بذلك ، فعندها يكون خارجاً من الاِسلام والاِيمان داخلاً في الكفر ، وكان بمنزلة من دخل الحرم ثمَّ دخل الكعبة وأحدث في الكعبة حدثاً فأُخرج عن الكعبة وعن الحرم فضربت عنقه وصار إلى النار » (22)
نعم الذي يحرم من مغفرة الله هو الذي لم تعرف له توبة قط بعد كفره ومات على جحوده وإنكاره للحق تبارك وتعالى ، وكذلك من كفر بعد إيمانه وتاب ولكن توبته لم تكن توبة نصوحة إذ سرعان ما أعاد إلى حضيض الكفر وازداد كفراً قال تعالى : ( إنَّ الَّذين آمنُوا ثُمَّ كفروا ثُمَّ آمنُوا ثُمَّ كفروا ثُمَّ ازدادُوا كُفراً لم يكنِ اللهُ ليغفر لهُم ولا ليهديهُم سبيلاً ) (23)
المصادر :
1- معاني الاخبار : 198
2- سورة النور 24 : 21
3- سورة البقرة 2 : 208
4- اُصول الكافي 2 : 291 / 10 كتاب الاِيمان والكفر
5- صحيح البخاري 5 : 13 باب الفتن ، وصحيح مسلم 6 : 21 ـ 22 / 1849 . واُصول الكافي 1 : 303 / 5 ، وكمال الدين 2 : 412 ـ 413 / 10 و 11 و 12 و 15 باب الاِمامة والتبصرة على اختلافٍ في اللفظ ولا بدَّ أن يكون المراد في جميع الاَلفاظ هو مادلّ عليه اللفظ المذكور أعلاه
6- اُصول الكافي 1 : 180 / 2
7- المصدر السابق 1 : 185 / 13
8- معاني الاَخبار : 394 . والآية من سورة النساء 4 : 59
9- ثواب الاَعمال : 255
10- ثواب الاَعمال وعقاب الاعمال ، للصدوق : 254
11- معاني الاخبار : 393
12- اُصول الكافي 2 : 308 / 3 كتاب الاِيمان والكفر
13- المصدر السابق : 307 / 1
14- اُصول الكافي 2 : 308 / 1 كتاب الاِيمان والكفر
15- معاني الاَخبار : 190
16- الاختصاص : 31
17- الفصول المختارة من العيون والمحاسن : 11 منشورات مكتبة الداوري 1396 هـ ط4
18- اُنظر التفسير الكاشف ، للشيخ محمد جواد مغنية 1 : 139
19- سورة هود 11 : 114
20- اُصول الكافي 2 : 436 / 13 كتاب الاِيمان والكفر
21- المصدر السابق : 438 / 7
22- اُصول الكافي 2 : 27 ـ 28 / 1 كتاب الاِيمان والكفر
23- سورة النساء 4 : 137
/ج