كيف نتوصّل إلى مكافحة البدع ونقضي عليها؟ وهو سؤال مهمّ يبيّن موقفنا في هذا العصر أمام تيارات البدع قديماً وحديثاً. وفي الحقيقة أنّ ما نذكره في الجواب، هو واجب العلماء المفكّرين الذين يتحرّقون لمعرفة الحق بين منعرجات الأهواء النفسية والانتماءات العصبية.
إنّ القضاء على البدع ولو نسبياً يتمّ بالقيام بأُمور هي:
الأوّل: دراسة العقائد الإسلامية في ضوء الكتاب والسنّة الصحيحة، والفطرة الإنسانية، والعقل السليم، ونفي الاكتفاء برسالة "الطحاوية" للإمام الصحاوي، و "الإبانة" للإمام الشيخ الأشعري فإنّهما قد أدّيا رسالتهما في عصرهما بأحسن وجه، ولم يكن في وسعهما إلاّ ما ألّفا ونشرا، وإن تأثّرا بالروايات غير الصحيحة، إذ في ثنايا ذينك الكتاب التلميح إلى التشبيه والتعطيل، وتعريف الإنسان بلا اختيار وإرادة، كالريشة في مهبّ الريح، إلى غير ذلك ممّا تردّه الفطرة السليمة، كجواز تعذيب الطفل يوم القيامة بالنار. ومن المؤسف جداً الاكتفاء بدراسة العقائد بهذين الكتابين وما شاكلهما في مقابل التشكيكات البرّاقة التي تثيرها كلّ يوم الوسائل الإعلامية على الإطلاق في معسكر الغرب والشرق، وهل يمكن صدّ هذا التيار بهذه الكتب؟ كلاّ ومن قال نعم; فإنّما يقوله بلسانه وينكره بقلبه. كلّ ذلك يسوقنا إلى أن نعطي للعقائد والمعارف قسماً أوفر في دراساتنا، حتى تتميز البدع عن غيرها، نعم انّ من يتلقى كلّ ما ذكره أحمد بن حنبل في كتاب السنّة والإمامين السابقين في رسالتهما، لا غبار عليه، وإن كان ضدّ الكتاب والسنّة المتواترة والعقل الفطري الصريح فلا يحسّ وظيفة أصلا، وكلامنا مع المفكّرين الواعين العالمين بما يجري في البلاد على الإسلام والشباب، وما تثار من إشكالات حول الأُصول حتى التوحيد نفسه.
الثاني: تمحيص السنّة ودراستها من جديد دراسة عميقة سنداً ومضموناً مقارناً مع الكتاب والسنن القطعية عن الرسول، فانّ أكثر البدع لها جذور في السنّة المدوّنة، وهو (صلى الله عليه وآله) عنها بريء، وإنّما اختلقها الوضّاعون الكذّابون على لسانه. غير أنّ مسلمة أهل الكتاب وبما أنّهم لم يروا النبي الأكرم قد نسبوها إلى أنبيائهم وكتبهم، ونسبها بعض السلف إلى نفس النبيّ الأكرم، وها نحن نضع أمامك حديثين رواهما الشيخان في مورد الأنبياء حتى نتخذهما مقياساً لما لم نذكره.
إنّه سبحانه يعرّف فضله على النبيّ الأكرم بقوله: {وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمْ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (1) والمراد من فضله سبحانه في ذيل الآية هو علم النبي الذي أفاضه الله عليه ووصفه بكونه عظيماً، مضافاً إلى ما في صدر الآية من إنزال الكتاب والحكمة عليه. ومع ذلك نرى أنّ الرسول في الصحيحين يُعرّف بصورة أنّه لا علم له بأبسط الأُمور وأوضح السنن الطبيعية في عالم النباتات، حيث رأى قوماً يلقّحون النخيل فنهاهم عن ذلك قائلا بأنّه لا يظن انّه يغني شيئاً، فتركه الناس وواجهوا الخسارة وعدم الإثمار، فأتوا إلى النبيّ الأكرم، فقال ما قال، واليك نصّ الرواية:
1 ـ روى مسلم، عن موسى بن طلحة، عن أبيه، قال: مررت ورسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوم على رؤوس النخل فقال: "ما يصنع هؤلاء" فقالوا: يُلقِّحونه، يجعلون الذكر في الأُنثى فتلقح، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "ما أظنّ يغني ذلك شيئاً" فأخبروا بذلك، فتركوه، فأخبر رسول الله بذلك، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنّي إنّما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدّثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإنّي لن أكذب على الله عزوجل"(2).
وروى عن رافع بن خديج، قال: قدم نبي الله المدينة وهم يُأبِّرون النخل، يقولون: يلقّحون النخل، فقال: "ما تصنعون؟" قالوا: كنّا نصنعه، قال: "لعلّكم لولم تفعلوا كان خيراً" فتركوه فنقضت، قال: فذكروا ذلك له، فقال: "إنّما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فانّما أنا بشر"(3).
والعجب انّ مؤلف الصحيح مسلم النيسابوري ذكر الحديث في باب أسماه بـ "وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ذكره (صلى الله عليه وآله) من معايش الدنيا على سبيل الرأي" نحن نعلّق على الحديث بشيء بسيط ونترك التفصيل إلى القارئ.
أوّلا: نفترض انّ النبي الأكرم ليس نبياً، ولا أفضل الخليقة، ولا من أُنزل إليه الكتاب والحكمة، ولا من وصف الله سبحانه علمه بكونه عظيماً، ولكن كان عربياً صميماً ولد في أرض الحجاز، وعاش بين ظهراني قومه وغيرهم في الحضر والبادية، وقد تكرّرت سفراته إلى الشام، وكلّ إنسان كان هذا شأنه يعرف أنّ النخيل لا يثمر إلاّ بالتلقيح، فما معنى سؤاله ما يصنع هؤلاء؟! فيجيبونه بقولهم: إنّهم "يلقحونه" أفيمكن أن يكون هذا الشيء البسيط خفيّاً على النبي؟!
ثانياً: كيف يمكن للنبي النهي عن التلقيح وهو سنّة من سنن الله في عالم الحياة، وقال سبحانه: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلا} (4) ومع ذلك فكيف يقول: "ما أظنّ يغني ذلك شيئاً"؟!
ثالثاً: إنّ الاعتذار الوارد في الرواية يُسيء الظنّ بكلّ ما يقوله النبيّ الأكرم، فإن كان المخبر بهذه الدرجة من العلم; فكيف يمكن الاعتماد بما يُخبر عن الله سبحانه؟! كلّ ذلك يسيء الظن بكلّ ما يذكره بلسانه ويخرج من شفتيه، والأسوأ من ذلك ما نُسب إليه من الاعتذار بقوله: "وإذا حدّثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فانّي لن أُكذب على الله عزّوجلّ"، لأنّ فيه تلميحاً إلى أنّه ـ والعياذ بالله ـ يكذب في مواضع أُخر.
فلو اعتمدنا على هذه الرواية ونظائرها في بناء العقيدة، فستكون النتيجة أنّ النبي ربّما يكون جاهلا بأبسط السنن الجارية في الحياة، فهل يصحّ التفوّه بذلك؟
2 ـ لو كان الحديث الأوّل يحطّ من منزلة النبيّ الأكرم، فالحديث الثاني يحطّ من مكانة الكليم موسى (عليه السلام). فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما بالاسناد إلى أبي هريرة، قال: لمّا جاء ملك الموت إلى موسى (عليه السلام) فقال له: أجب دعوة ربّك، فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها، قال: فرجع الملك إلى الله تعالى، فقال: إنّك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، ففقأ عيني، قال: فردّ الله إليه عينه، وقال: ارجع إلى عبدي فقال: الحياة تريد، فإن كنت تريد الحياة، فضع يدك على متن ثور، فما توارت بيدك من شعرة فانّك تعيش بها سنة(5).
وأخرجه ابن جرير الطبري في تأريخه، وقال: "إنّ ملك الموت يأتي الناس عيوناً حتى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه ـ إلى أن قال: ـ فجاء بعد ذلك إلى الناس خفية"(6).
والحديث غنيّ عن التعليق ولا يوافق الكتاب ولا سنّة الأنبياء ولا العقل السليم من جهات هي:
1 ـ انّه سبحانه يقول: {إذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (7) فظاهر قوله: "أجب ربك" انّه كان ممّن كتب عليه الموت وجاء أجله ومع ذلك تأخّر.
2 ـ من درس حياة الأنبياء بشكل عام يقف على أنّهم (عليهم السلام) ما كانوا يكرهون الموت كراهة الجاهلين، وهل كانت الدنيا عند الكليم أعزّ من الآخرة، وهل كانت تُخفى عليه نعمها ودرجاتها؟!
3 ـ ما ذنب ملك الموت إنْ هو إلاّ رسول من الله مجنّد له، يعمل بإمرته، فهل كان يستحق لمثل هذا الضرب؟!
4 ـ كيف تُرِك القصاص عن موسى مع أنّه سبحانه يقول: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ والْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (8).
5 ـ وهل كان ملك الموت أضعف من موسى حتى غلب عليه وفقأ عينه ولم يتمكن من الدفاع، ولم يزهق روحه مع كونه مأموراً به من ربه؟ أنا لا أدري، وأظنّ أنّ القارئ في غنىً عن هذه التعليقات، فانّ مضمون الحديث يصرّح بأعلى صوته انّه مكذوب.
فتمحيص السنّة فريضة على المفكّرين لكي يقضوا بذلك على البدع التي ما انفكّت تتلاعب بالدين، ولا يقوم بذلك إلاّ من امتحن الله قلبه بالتقوى ولا تأخذه في الله لومة لائم، وإن رماه المتطرّفون بأنواع التهم والأباطيل، ولا غرو فانّ المصلحين في جميع الأجيال كانوا أغراضاً لنبال الجهّال.
اللّهمّ إنّا نسألك التوفيق لإحياء السُنَن، وإماتة البِدَع، والعمل بكتابك وسنّة نبيّك سيد رُسُلك، وأفضل خليقتك.
ونسألك الابتعاد عن أهل الزِيَغ والبدع، ومكافحة الرأي المخترَع، والتمسّك بحبلك المتين، ونبذ ما أُلصِق بدينك القويم.
وصلّى الله على رسول الله وعلى عترته الطاهرين وصحبه المنتجبين والسائرين على دربهم إلى يوم الدين.
المصادر :
1- النساء/113
2- صحيح مسلم 15: 125 و 126 الباب 38، كتاب الفضائل
3- صحيح مسلم 15: 125 و 126 الباب 38، كتاب الفضائل
4- فاطر/43
5- صحيح مسلم ، ج 7، كتاب الفضائل / البخاري، الصحيح 4: 157، كتاب بدء الخلق
6- - الطبري، التاريخ 1: 305، باب وفاة موسى.
7- يونس/49
8- المائدة/45
/ج