إذا كان العلم نور الله يقذفه في قلب من يشاء فما الذي يمنع عن قذف نور العلم في قلب أوليائه ،هكذا كان من مصادر علم الأئمة عليهم السلام الإلهام ، والذي ترافقه سكينة تجعلهم يثقون بأنه من عند الله .
كذلك روي عن الإمام الصادق (عليه السلام)أنه قال : إن علمنا غابر ومزبور ونكث في القلب ونقر في الأسماع ، قال : أما الغابر فما تقدم من علمنا ، وأما المزبور فما يأتينا ، وأما النكث في القلوب فإلهام ، وأما النقر في الأسماع فإنه من الملك .
وروى زرارة مثل هذا الحديث وأضاف : قلت كيف يعلم أنه كان الملك ولا يخاف من الشيطان إذا كان لايرى الشخص قال ..
إنه يلقى عليه السكينة فيعلم أنه من الملك ، ولو كان من الشيطان اعتراه الفزع . وإن كان الشيطان - يأزره - لايتعرض لصد هذا الأمر(1)
وعلم الإمام الباقر (عليه السلام)- كما سائر أئمة الهدى انبعث من هذه الروافد ، فلم يكن غريباً ، ما أظهر الله على لسانه من معارف الدين حتى قال الشيخ المفيد ( قدس سره ). لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين عليهما السلام من علم الدين والآثار والسنّة وعلم القرآن وسيرة وفنون الآداب ما ظهر عنه(2)
من هنا ترى عظماء الفقه والحديث يعترفون بالمصدر الإلهي لعلمه الغزير ، فقد جاء في كشف الغمة عن الحافظ عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي في كتابه معالم العترة الطاهرة عن الحكم بن عتيبة ( وكان من كبار فقهاء عصره ) أنه قال في تفسير قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ }(3)
قال : كان والله محمد بن علي منهم(4)
وحكي عن أبي نعيم في كتابه الحلية أنه سأل رجل ابن عمر عن مسألة فلم يدر ما يجيبه ، فقال اذهب إلى ذلك الغلام فسله وأعلمني بما يجيبك ، وأشار إلى الباقر (عليه السلام)فسأله فأجابه فأنجد ابن عمر فقال : إنهم أهل بيت مفهمون.
والتعبير بكلمة مفهمون كان شائعاً في ذلك العصر ، وكان يعني أنهم مؤيدون من عند الله يلقي عليهم الرب علماً بالإلهام .
ولذلك ترى من العلماء من يقصدونه من كل أفق بحثاً عن علمه الإلهي حتى روي عن عبد الله بن عطاء أنه قال : ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام)، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة مع جلالته في القوم بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه.
وقد روى عنه محمد بن سلم ذلك الفقيه المتبحر ثلاثين ألف حديث ، أما جابر الجعفي فقد قال : حدثني أبو جعفر سبعين ألف حديث لم أحدث أحداً أبداً.
ولأن الظروف السياسية كانت تتسم ببعض الانفراج فلقد تسنى للإمام أن يحاجج الكثير من المخالفين له ويعيدهم إلى جادة الصواب ، والتاريخ يسجل لنا بعض تلك الاحتجاجات ، وننقل شيئاً منها لتكون شاهدة على ما وراءها من الحجج البالغة .
1- لقد كان عبد الله بن نافع بن الأزرق واحداً من قادة الخوارج الذين كانوا أشد الفرق عداءً للإمام علي (عليه السلام)وأهل بيته ، وكان يقول : لو أني علمت أن بين قطريها أحداً تبلغني إليه المطايا يخصمني أن علياً قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحلت إليه ، فقيل له ولا ولده ، فقال أفي ولده عالم فقيل له هذا أول جهلك أو هم يخلون من عالم ؟ قال فمن عالمهم اليوم ؟ قيل محمد بن علي بن الحسين بن علي ، فرحل إليه في صناديد أصحابه حتى أتى المدينة ، فاستأذن على أبي جعفر فقيل له هذا عبد الله بن نافع ، قال : وما يصنع بي وهو يبرأ مني ومن أبي طرفي النهار ، فقال له أبو بصير الكوفي : جعلت فداك ، إن هذا يزعم أنه لو علم أن بين قطريها أحداً تبلغه المطايا إليه يخصمه أن عليّاً قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحل إليه ، فقال له أبو جعفر : أتراه جاءني مناظراً ؟. قال : نعم !. قال : يا غلام ، اخرجْ فحط رحله ، وقل له إذا كان الغد فائتنا ، فلما أصبح عبد الله بن نافع غدا في صناديد أصحابه وبعث أبو جعفر إلى جميع أبناء المهاجرين والأنصار فجمعهم ، ثم خرج إلى الناس وأقبل عليهم كأنه فلقة قمر فخطب فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم)ثم قال : الحمد لله الذي أكرمنا بنبوته واختصنا بولايته ، يا معشر أبناء المهاجرين والأنصار من كانت عنده منقبة لعلي بن أبي طالب فليقم وليتحدث ، فقام الناس فسردوا تلك المناقب فقال عبد الله أنا أروي لهذه المناقب من هؤلاء ، وإنما أحدث علي الكفر بعد تحكيمه الحكمين " حتى انتهوا إلى حديث خيبر لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، كرّاراً غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله علي يديه " فقال أبو جعفر (عليه السلام)ما تقول في هذا الحديث ؟ قال : هو حق لا شك فيه ولكن أحدث الكفر بعد ، فقال له أبو جعفر : ثكلتك أمك ، أخبرني عن الله عزَّ وجلَّ أحب علي بن أبي طالب يوم أحبه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان أم لم يعلم ، فإن قلت لا كفرت ، فقال : قد علم ، قال : فأحبه الله على أن يعمل بطاعته أو على أن يعمل بمعصيته ، فقال : على أن يعمل بطاعته ، فقال له أبو جعفر : فقم مخصوماً ، فقام وهو يقول حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، الله أعلم حيث يجعل رسالته(5)
2- وكان قتادة من أبرز فقهاء البصرة ولكنه كان يتشوق إلى رؤية الإمام الباقر (عليه السلام)ومناظرته ، حيث كانت المدينة المنورة حاضرة الفقه والتفسير وسائر المعارف الإلهية ، ولذلك فقد انتشر علم الإمام إلى كل الآفاق ..
من هنا جاء قتادة إلى المدينة يسأل عن الإمام فلما رآه قال له الإمام : أنت فقيه أهل البصرة ؟ قال : نعم ، فقال : ويحك يا قتادة إن الله عزّ وجلّ خلق خلقاً فجعلهم حججاً عى خلقه فهم أوتاد في أرضه ، قوام بأمره ، نجباء في علمه ، اصطفاهم قبل خلقه ، أظلةً عن يمين عرشه.
فسكت قتادة طويلاً ثم قال : أصلحك الله ، والله لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدام أحد منهم ما اضطرب قدامك ، فقال له أبو جعفر : أتدري أين أنت ؟ أنت بين يدي بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فأنت ثم ونحن أولئك . فقال له قتادة : صدقت والله جعلني الله فداك ماهي بيوت حجارة ولا طين ، قال : فأخبرني عن الجبن ، فتبسم أبو جعفر وقال : رجعت مسائلك إلى هذا ، قال : ضلت عني ، فقال : لا بأس به ، فقال : إنه ربما جعلت فيه أنفحة الميت ، قال : ليس بها بأس إن الأنفحة ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم ، إنما تخرج من بين فرث ودم ، ثم قال : وإنما الأنفحة بمنزلة دجاجة ميتة أخرجت منها بيضة فهل تأكل تلك البيضة ؟ قال قتادة : لا ولا آمر بأكلها فقال له أبو جعفر : ولِمَ ؟ قال : لأنها من الميتة ، قال له : فإن حضنت تلك البيضة فخرجت منها دجاجة أتأكلها ؟ قال : نعم قال : فما حرم عليك البيضة وأحل لك الدجاجة ، ثم قال : فكذلك الأنفحة مثل البيضة فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلين ولا تسأل عنه إلاّ أن يأتيك من يخبرك عنه(6)
3- وقد بث الإمام من علمه بين الناس حتى سمي باقراً ، فقد جاء في لسان العرب أنَّه لقب به ( أي بالباقر) لأنه بقر العلم ، وعرف أهله واستبسط فرعه وتوسع فيه . والتبقر التوسع(7)
وقال ابن حجر في صواعقه المحرقة : سمي بذلك من بقر الأرض أي شقها وأثار مخبآتها ومكامنها ، فكذلك هو أظهرَ من مخبأة الكنوز والمعارف ، وحقائق الأحكام والحكم ، ولطائف مالا يخفى إلاّ على متطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة ، ومن ثم قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه(8)
وقد أفاض الإمام على المسلمين من علمه عبر تربيته لطائفة عظيمة من الفقهاء والمفسرين وحكماء المعارف الإلهية ، من أمثال جابر بن يزيد الجعفي ، ومحمد بن مسلم ، وأبان بن تغلب ، ومحمد بن إسماعيل بن بزيع ، وأبو بصير الأسدي ، والفضيل بن يسار وآخرين .
كما أنه نشر العلم عبر من روى عنه من علماء عصره من أمثال : ابن المبارك ، والزهري ، والأوزاعي . وأبي حنيفة ومالك والشافعي وزياد بن المنذر الهندي والبطري والبلاذري والسلامي والخطيب وغيرهم(9)
وكان الولاة يجأرون إلى أهل بيت الرحمة كلما دهمتهم داهمة ، وبالرغم من الصراع الحاد القائم بين الطرفين لم يدّخر الأئمة عليهم السلام وسعاً في خدمة الإسلام وإنقاذ الأمة من الأخطار المحيطة بهم .من ذلك ما ينقل لنا التاريخ من ورطة وقع فيها الخليفة الأموي عبد الملك حسبما ذكره إبراهيم بن محمد البيهقي في كتابه المحاسن والمساوئ حيث نقل عن الكسائي أنه قال :
دخلت على الرشيد ذات يوم وهو في ( إيوانه وبين يديه مال كثير قد تشق عنه البدر شقاً ، وأمر بتفريقه في خدم الخاصة وبيده درهم تلوح كتابته وهو يتأمله وكان كثيراً ما يحدثني فقال : هل علمت أول من سن هذه الكتابة في الذهب والفضة ؟ قلت يا سيدي هو عبد الملك بن مروان ! قال : فما كان السبب في ذلك ؟ قلت : لا علم لي غير أنه أول من أحدث هذه الكتابة ! فقال : سأخبرك : كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر نصرانيا على دين ملك الروم وكانت تطرز بالرومية ، وكان طرازها أباً وابناً وروحاً قديساً فلم يزل ذلك كذلك وصدر الإسلام كله يمضي على ما كان عليه إلى أن ملك عبد الملك فتنبه له وكان فطناً ، فبينا هو ذات يوم إذ مر به قرطاس فنظر إلى طرازه فأمر أن يترجم إلى العربية ففعل ذلك ، فأنكره وقال : ما أغلظ هذا في الدين والإسلام ، أن يكون طراز القراطيس بمصر وهي تحمل في الأواني والثياب ، فتدور في الآفاق والبلاد وقد طرزت بشرك مثبت عليها ، فأمر بالكتاب إلى عبد العزيز بن مروان وكان عامله بمصر بإبطال ذلك الطراز على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك ، وأن يأمر صنّاع القراطيس بأن يطرزوها بسورة التوحيد و { شَهِدَ الله أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُو}(10) وهذا طراز القراطيس خاصة إلى هذا الوقت لم ينقص ولم يزد ولم يتغير ، وكتب إلى عمال الآفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع والحبس الطويل ، فلما أثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد وحملت إلى بلاد الروم ، أنتشر خبرها ووصل إلى ملكهم ، فترجم له ذلك الطراز فأنكره وغلظ عليه واستشاط غضباً فكتب إلى عبد الملك : إن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم ، ولم يزل يطرز بطراز الروم إلى أن أبطلته ، فإن كان من تقدمَك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت ، وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا ، فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت ، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق ، حاجة أشكرك عليها وتأمر بقبض الهدية وكانت عظيمة القدر ، فلما قرأ عبد الملك كتابه رد الرسول وأعلمه أن لا جواب له ولم يقبل الهدية ، فانصرف بها إلى صاحبه فلما وافاه أضعف الهدية ورد الرسول إلى عبد الملك وقال : إني ظننتك استقللت الهدية فلم تقبلها ولم تجبني عن كتابي ، فأضعفت لك الهدية وأنا أرغب إليك في مثل ما رغبت فيه من رد هذا الطراز إلى ما كان عليه أولاً ، فقرأ عبد الملك الكتاب ولم يجبه ورد الهدية ، فكتب إليه ملك الروم يقتضي أجوبة كتبه ويقول : إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي فتوهمتك استقللت الهدية فأضعفتها فجريت على سبيلك الأول وقد أضعفتها ثالثة ، وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لآمرن بنقش الدنانير والدراهم ، فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلاّ ما ينقش في بلادي ، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام فينقش عليها من شتم نبيك ما إذا قرأته ارفض جبينك له عرقاً ، فأحب أن تقبل هديتي ، وترد الطراز إلى ما كان عليه ، وتجعل ذلك هدية بررتني بها وتبقى على الحال بيني وبينك ، فلما قرأ عبد الملك الكتاب غلظ عليه وضاقت به الأرض وقال : أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام لأني جنيت على رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم من شتم هذا الكافر ما يبقى غابراً ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب ، إذ كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم ، فجمع أهل الإسلام واستشارهم فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعمل به ، فقال له روح بن زنباع : إنك لتعلم الرأي والمخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه ، قال ويحك من ؟ قال : الباقر من أهل بيت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)قال : صدقت ولكن أُرتج عليّ الراي فيه فكتب إلى عامله بالمدينة أن أَشْخص إلي محمد بن علي بن الحسين مكّرماً ومتّعه بمائتي ألف درهم لجهازه وبثلاثمائة ألف درهم لنفقته ، وأزح علته في جهازه من يخرج معه من أصحابه ، واحتبس الرسول قبله إلى موافاته عليه ، فلما وافى أخبره الخبر فقال له الباقر (عليه السلام):
لا يعظمن هذا عليك فإنه ليس بشيء من جهتين :
(احداهما ) أن الله عزّ وجلّ لم يكن ليطلق ما تهددك به صاحب الروم في رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم).
(والأخرى ) وجود الحيلة فيه ، قال : وماهي ؟ قال : تدعو في هذه الساعة بصنّاع فيضربون بين يديك سككاً للدراهم والدنانير ، وتجعل النقش عليها سورة التوحيد وذكر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)، أحدهما في وجه الدرهم والدينار والآخر في الوجه الثاني ، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة التي تضرب فيه تلك الدراهم والدنانير ، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهماً عدداً من الأصناف الثلاثة التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل وعشرة منها وزن ستة مثاقيل وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل ، فتكون أوزانها جميعاً واحداً وعشرين مثقالاً فتجزئها من الثلاثين فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل ، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان ، فتضرب الدراهم على وزن عشرة والدنانير على وزن سبعة مثاقيل ، وكانت الدراهم في ذلك الوقت إنما هي الكسروية التي يقال لها اليوم البغلية لأن رأس البغل ضربها لعمر بن الخطاب بسكة كسروية في الإسلام مكتوب عليها صورة الملك وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية ( نوش خر ) أي كل هنيئاً ، وكان وزن الدرهم منها قبل الإسلام مثقالاً والدراهم التي كان وزن العشرة منها وزن ستة مثاقيل والعشرة وزن خمسة مثاقيل هي السميرية الخفاف والثقال ونقشها نقش فارس .
ففعل عبد الملك ذلك وأمره محمد بن علي بن الحسين أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام ، وأن يتقدم إلى الناس في التعامل بها وأن يتهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكك من الدراهم والدنانير وغيرها ، وأن تبطل وترد إلى مواضع العمل حتى تعاد إلى السكك الإسلامية ، ففعل عبد الملك ذلك ورد رسول ملك الروم إليه يعلمه بذلك ، ويقول : إن الله عزّ وجلّ مانعك مما قدرت أن تفعله وقد أقدمت إلى عمالي في أقطار البلاد بكذا وكذا وبإبطال السكك والطراز الرومية ، فقيل لملك الروم إفعل ما كنت تهددت به ملك العرب فقال : إنما اردت أن أغيظه بما كتبت إليه لأني كنت قادراً عليه والمال وغيره برسوم الروم فأما الآن فلا أفعل لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام وممتنع من الذي قال . وثبت ما اشار به محمد بن علي بن الحسين إلى اليوم ثم رمى يعني الرشيد بالدرهم إلى بعض الخدم(11)
إن العلم الإلهي الذي حباه به الرب بما أخلص له في الطاعة ، واجتهد في سبيله بالدعاء والعمل ، إنه كان وراء إرشاده إلى السبيل الأفضل لمواجهة تهديد ملك الروم .
وهذا العلم كان يميز الإمام الحق عمن ادعوا هذا المقام بغير حق ، سواء الولاة الظالمون أو العلويون الذين نازعوا الأئمة حقهم .
وهكذا نجد في تاريخ أهل البيت عليهم السلام كيف كان يقول شيعتهم عليهم بما لديهم من علم الدين والعلم بالحقائق الخفية بإذن الله ، وبالتوسم بنور الله وبتأييد ملائكة الله .
وفيما يلي ننقل بعض الأحاديث التي تزيدنا معرفة بمقام الإمامة عموماً وبدرجات الإمام الباقر (عليه السلام)بالذات .
فقد روى الحلبي عن الإمام الصادق (عليه السلام)أنه قال : دخل الناس على أبي ( الإمام الباقر ) وقالوا : ما حد الإمام ؟ قال : حده عظيم ، إذا دخلتم عليه فوقروه وعظموه وآمنوا بما جاء به من شيء ، وعليه أن يهديكم ، وفيه خصلة إذا دخلتم عليه لم يقدر أحد أن يملأ عينه منه إجلالاً وهيبةً ، لأن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)كذلك كان ، وكذلك يكون الإمام ، قالوا : فيعرف شيعته ؟ قال : نعم ساعة يراهم ، قالوا : فنحن لك شيعة ؟ قال : نعم كلكم قالوا : أخبرنا بعلامة ذلك قال : أخبركم باسماءكم وأسماء آبائكم وقبائلكم ؟ قالوا : أخبرنا ، فأخبرهم ، قالوا : صدقت ، ( قال : ) وأخبركم عما أردتم أن تسألوا عنه في قوله تعالى: { كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ } (12) نحن نعطي شيعتنا من نشاء من علمنا ، ثم قال : يقنعكم ؟ قالوا : في دون هذا نقنع(13)
وينقل عبد الله بن معاوية الجعفري قصته مع والي المدينة ، الذي بعث عبره برسالة تهديد إلى الإمام الباقر (عليه السلام)، فلم يأبه بها الإمام لأن الله أطلعه على أنه معزول قريبا ، يقول سأحدثكم بما سمعته أذناي ورأته عيناي من أبي جعفر (عليه السلام)أنه كان على المدينة رجل من آل مروان وأنه أرسل إليّ يوماً فأتيته وماعنده أحد من الناس ، فقال : يا معاوية إنما دعوتك لثقتي بك ، وإني قد علمت أنه لايبلغ عني غيرك ، فأحببت أن تلقى عمَّيْك محمد بن علي وزيد بن الحسين (عليه السلام)وتقول لهما : يقول لكما الأمير لتكفان عما يبلغني عنكما ، أو لتنكران ، فخرجت متوجهاً إلى ابي جعفر فاستقبلته متوجهاً إلى المسجد فلما دنوت منه تبسم ضاحكاً فقال : بعث إليك هذا الطاغية ودعاك وقال : القَ عمَّيك فقل لهما كذا ؟ قال : أخبرني ابو جعفر بمقالته كأنه كان حاضراً ، ثم قال : يا ابن عم قد كفينا أمره بعد غد ، فإنه معزول ومنفي إلى بلاد مصر والله ما أنا بساحر ولا كاهن ، ولكني أتيت وحدثت ، قال : فوالله ما أتى عليه اليوم الثاني حتى ورد عليه عزله ونفيه إلى مصر وولي المدينة غيره(14)
أما أبو بصير الذي كان من خواص الإمام فإنه يروي قصته مع الإمام وكيف كان (عليه السلام)يراقبه ويؤدبه يقول :
كنت أقرئ امرأة القرآن بالكوفة فمازحتها بشيء ، فلما دخلت على أبي جعفر عاتبني وقال : من ارتكب الذنب في الخلاء لم يعبأ الله به ، أي شيء قلت للمرأة ؟ فغطيت وجهي حياءً وتبت فقال أبو جعفر : لا تعد(15)
ويروي أبو بصير أيضاً كيف أخبر الإمام عن ملك بني العباس قبل سنين من توليهم السلطة فيقول : كنت مع الباقر في مسجد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) قاعداً حدْثان ما مات علي بن الحسين (عليه السلام)إذ دخل الدوانيقي وداود بن سليمان قبل أن أفضي الملك إلى ولد العباس ، وما قعد إلى الباقر إلاّ داود فقال الباقر (عليه السلام): ما منع الدوانيقي أن يأتي ؟ قال : فيه جفاء ، قال الباقر (عليه السلام): تذهب الأيام حتى يلي أمر هذا الخلق ويطأ أعناق الرجال ، ويملك شرقها وغربها بطول عمره فيها حتى يجمع من كنوز الأموال مالم يجتمع لأحد قبله ، فقام داود وأخبر الدوانيقي بذلك فأقبل إليه الدوانيقي وقال : ما منعني من الجلوس إليك إجلالك فما الذي خبرني به داود ؟ فقال : هو كائن ، قال : وملكنا قبل ملككم ؟ قال : نعم ، قال : يملك بعدي أحد من ولدي ؟ قال : نعم ، قال : فمدة بني أمية أكثر أم مدتنا ؟ قال : مدتكم أطول وليتلقفن هذا الملك صبيانكم ويلعبون كما يلعبون بالكرة ، هذا ما عهده إليّ أبي ، فلما ملك الدوانيقي تعجب من قول الباقر (عليه السلام)(16)
خصال الإمام :
لا يختار الله عبداً لمقام الإمامة . ويجعله حجة بالغة على خلقه إلاّ إذا اكتملت فيه الخصال الجيدة . وكان مثلاً لما أقر به سبحانه في كتابه من خشية الله وتوقيره . وتعظيمه وتجليله . وإخلاص العبودية له والتي تتجلى في جملة أقواله وأفعاله . فلا يقول إلاّ صواباً ولا يعمل إلاّ رشداً .وإذا كنا ننقل بعض خصال الإمام الباقر (عليه السلام)الحميدة ، أو خصال أحد المعصومين عليهم السلام ، فلكي نأتي بالشواهد الواضحة التي تدلنا على أمثالها ، وليس لأننا نريد أن تختصر كل حياة الإمام فيها . أو نحصي فضائله وخصاله الحميدة ، كلا .. لأننا نعرف سلفاً أن حياتهم كانت صورة واقعية عن القرآن الكريم ، بيد أن ما بلغنا منها لم يكن مستوعباً لجوانب حياتهم ، لأن جانباً منها انبهر به المؤرخون فأكثروا فيه الحديث واكتفوا بقياس سائر الجوانب عليه ، فمثلاً ذكروا من حياة الإمام السجاد جانب العبادة ، ولم يتحدثوا كثيراً عن جانب العلم ، بينما عكسوا الأمر فيما يتصل بحياة الإمام الباقر (عليه السلام).وهكذا نكتفي ببعض الإشراقات التي وصلت إلينا من حياة الإمام ونترك للقارئ أن يقيس سائر أبعاد حياته عليها .
" قال : ابن شهراشوب في المناقب " : كان أصدق الناس لهجة وأحسنهم بهجة وأبذلهم مهجة ، وكان أقل أهل بيته مالاً وأعظمهم مؤونة ، وكان يتصدق كل جمعة بدينار ، وكان يقول الصدقة يوم الجمعة تضاعف لفضل يوم الجمعة على غيره من الأيام ، وكان إذا أحزنه أمر جمع النساء والصبيان ثم دعا فأمنوا ، وكان كثير الذكر ، كان يمشي وإنه ليذكر الله ويأكل الطعام وإنه ليذكر الله ، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله عن ذكر الله ، وكان يجمع ولده فيأمرهم بالذكر حتى تطلع الشمس ، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منهم ومن كان لا يقرأ منهم أمره بالذكر ، ويأتي قول المفيد : وكان ظاهر الجود في الخاصة والعامة مشهور الكرم في الكافة ، معروفاً بالتفضل والإحسان مع كثرة عياله وتوسط حاله ، ويأتي عن سليمان بن دمدم أنه عليه السلام كان يجيز بالخمسمائة درهم إلى الستمائة إلى الألف ، وكان لا يمل من صلة إخوانه وقاصديه ومؤمليه وراجيه ، وكان إذا ضحك قال : اللهم لا تمقتني . وقال الأبي في كتاب نثر الدرر : كان إذا رأى مبتلى أخفى الاستعاذة ، وكان لايسمع من داره يا سائل بورك فيك ولا يا سائل خذ هذا وكان يقول : سموهم بأحسن أسمائهم(17)
وحينما يذكر أبو نعيم في كتابه الحلية الإمام يصفه بهذا النعت : الحاضر الذاكر الخاشع الصابر أبو جعفر محمد بن علي الباقر(18)
وكان من شدة خشوعه ما يذكره ( أفلح ) مولى أبي جعفر أنه قال : خرجت مع محمد بن علي حاجّاً فلما دخل المسجد نظر إلى البيت فبكى حتى علا صوته ، فقلت : بأبي أنت وأمي إن الناس ينظرون إليك فلو رفعت بصوتك قليلاً(19) فقال لي : ويحك يا أفلح ولم لا أبكي لعل الله تعالى أن ينظر إليّ منه برحمة فأفوز بها عنده غداً ، قال ( أفلح ) ثم طاف بالبيت ثم جاء حتى ركع عند المقام فرفع رأسه من سجوده فإذا موضع سجوده مبتل من كثرة دموع عينه ويضيف أفلح قائلاً : كان إذا ضحك قال : اللهم لا تمقتني(20)
ويقول نجلُه الإمام الصادق (عليه السلام)وهو يصف تبتل والده إلى الله : كان أبي كثير الذكر ، لقد كنت أمشي معه وإنه يذكر الله ، وآكل معه الطعام وإنه ليذكر الله ، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله . وكنت أرى لسانه لازقاً بحنكه يقول : لا الله إلاّ الله ، وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس ، ويأمر بالقرآن من كان يقرأ منا ومن كان لايقرأ منا أمره بالذكر(21)
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام):
إني كنت أمهد لأبي فراشه فأنتظره حتى يأتي ، فإذا أوى إلى فراشه ونام قمت إلى فراشي . وإنه أبطأ عليّ ذات ليلة فأتيت المسجد في طلبه وذلك بعدما هدأ الناس ، فإذا هو في المسجد ساجد ، وليس في المسجد غيره وسمعت حنينه وهو يقول : سبحانك اللهم أنت ربي حقاً حقاً ، سجدت لك تعبداً ورقاً ، اللهم إن عملي ضعيف فضاعفه لي ، اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك ، وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم(22)
وكان (عليه السلام)شديد الحب لكتاب ربه ، عظيم الاهتمام به والتأثر بآياته ، حتى أن أبان بن ميمون القداح قال : قال لي أبو جعفر (عليه السلام): إقرأ . قلت : من أي شيء أقرا ؟. قال : من السورة التاسعة ؟ قال : فجمعت ارتمسها فقال : اقرأ من سورة يونس فقال .. قرأت { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } (23) قال : حسبك ، قال : قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم): إنِّي لأَعجبُ كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن(24)
وكان يستلهم من كتاب ربه معارف الدين حتى أنه يدعو الرواة أن يسألوه عن مصدر أقوالهم من القرآن ، هكذا يروي أبو الجارود قال : قال أبو جعفر (عليه السلام): إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عن كتاب الله . ثم قال : حتى حديثه أن الله نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال : فقالوا يابن رسول الله وأين هذا من كتاب الله ؟ فقال : إن الله عزّ وجلّ يقول في كتابه : { لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِن نَجْوَاهُمْ } (25) وقال : { وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً } (26) وقال : { لاَ تَسْاَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ }(27)
وإذا سأل عن حاله استغل السؤال لتذكير نفسه والسائل بالله ، فقد روي أنه قيل لمحمد بن علي الباقر (عليه السلام)كيف أصبحت : قال : " أصبحنا غرقى في النعمة ، موتورين بالذنوب ، يتحبب إلينا إلهنابالنعم ، ونتمقت إليه بالمعاصي ، ونحن نفتقر إليه وهو غني عنّا "(28)
وكان (عليه السلام)شديد التسليم لأمر الله فقد روى بعض أصحابه أنه قال : كان قوم أتوا أبا جعفر (عليه السلام): فوافَوا صبياً له مريضاً ، فرأوا منه اهتماماً وغماً ، وجعل لا يقر ( قال ) فقالوا : والله لإن أصابه بشيء إنا نتخوف أن نرى منه ما نكره ، قال فما لبثوا أن سمعوا الصياح عليه ، فإذا هو قد خرج عليهم منبسط الوجه في غير الحال التي كان عليها ، فقالوا له : جعلنا الله فداك لقد كنا نخاف مما نرى منك أن لو وقع ان نرى منك ما يغمنا ، فقال لهم : إنا لنحب أن نعافى في من نحب ، فإذا جاء أمر الله سلمنا فيما يحب(29)
وكان (عليه السلام)لا يلويه عن العمل الصالح شيء . وفي ذلك رواية طريفة ينقلها بعض أصحابه حيث يقول : - حضر أبو جعفر (عليه السلام)جنازة رجل من قريش وأنا معه ، وكان فيها عطاء فصرخت صارخة فقال عطاء : لتسكتن أو لنرجعن ، قال : فلم تسكت فرجع عطاء قال : فقلت لأبي جعفر (عليه السلام)إن عطاء قد يرجع ، قال : ولِمَ ؟ قلت : صرخت هذه الصارخة فقال لها : لتسكتن أو لنرجعن ؟ فلم تسكت فرجع ، " فقال : إمضِ بنا فلو أنا إذا رأينا من الباطل مع الحق تركنا له الحق لم نقضِ حق مسلم ، قال : فلما صلى على الجنازة قال وليها لأبي جعفر : إرجع مأجوراً رحمك الله فإنك لا تقوى على المشي ، فأبى أن يرجع ، قال فقلت له : قد اذن لك في الرجوع ولي حاجة أريد أن أسالك عنها ، فقال : إمضِ فليس بإذنه مشينا ولا بإذنه نرجع ، إنما هو فضل وأجر طلبناه فبقدر ما يتبع الجنازة الرجل يؤجر على ذلك(30)
أما معاشرته لإخوانه فقد كانت غاية في الأدب ، فمثلاً يحكي أبو عبيدة عن آداب عشرته في السفر فيقول : كنت زميل أبي جعفر (عليه السلام)وكنت أبدأ بالركوب ثم يركب هو " فإذا استوينا سلّم وسأل مسألة رجل لا عهد له بصاحبه ، وصافح ، قال : وكان إذا أنزل نزل قبلي ، فإذا استويت أنا وهو على الأرض سلم وسأل مسألة من لا عهد له بصاحبه ، فقلت يابن رسول الله إنك تفعل شيئاً ما يفعله من قبلنا ، وإن فعل مرة لكثير ، فقال :
أما علمت ما في المصافحة ، إن المؤمنين يلتقيان فيصافح أحدهما صاحبه فما تزال الذنوب تتحات عنهما كما يتحات الورق عن الشجر والله ينظر إليهما حتى يفترقان(31)
وكان في تعامله مع الناس برّاً عفيفاً ، وكان يعفو عن السيئة أنى استطاع إلى ذلك سبيلاً ، وكان لذلك أطيب الأثر في نفوس الناس ، فقد قال له نصراني يوماً : أنت بقر قال : لا أنا باقر قال : أنت ابن الطباخة ( يريد تعييره بها ) قال : تلك حرفتها ، قال : أنت ابن السوداء الزنجية البذية ؟ قال : إن كنت صدقت غفر الله لها ، وإن كنت كذبت غفر الله لك ، فانبهر النصراني بأخلاقه ، ودعاه ذلك إلى الإسلام على يديه(32)
وقد كان تعامله مع المستضعفين يتميز بالشفقة والرفق ، وقد روي عن نجله الإمام الصادق (عليه السلام)أنه قال :
إذا استكملتم ما ملكت أيمانكم في شيء فيشق عليهم فاعملوا معهم فيه ، قال : وإن كان أبي ( الإمام الباقر عليه السلام ) ليأمرهم فيقول كما أنتم ، فيأتي فينظر ، فإن كان ثقيلاً قال باسم الله ثم عمل معهم ، وإن كان خفيفاً تنحى عنهم(33)
وربما كان عمله في إصلاح حقله ومزرعته لهذه الجهة ، حيث كان الأئمة (عليه السلام)يرون الكدح والكد أمراً محبوباً يقربهم إلى الله .
في ذلك يروي أبو عبد الله الصادق أن محمد بن المكدر كان يقول : ما كنت أرى أن مثل علي بن الحسين يدع خلفاً لفضل علي بن الحسين حتى رأيت ابنه محمد بن علي ، فأردت أن اعظه فوعظني ، فقال له أصحابه : بأي شيء يعظك ؟ قال : خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت محمد بن علي وكان رجلاً بديناً وهو متّكٍ على غلامين له أسودين أو موليين ، فقلت في نفسي : شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا ، أشهد لأعظنه ، فدنوت منه فسلمت عليه ، فسلَّم عليَّ ببهر وقد تصبب عرقاً ، فقلت أصلحك الله يا شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا ، لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال ؟ قال : فخلى عن الغلامين من يده ، ثم تساند وقال : لو جاءني والله الموت وأنا في هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله تعالى أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس ، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله ، فقلت : يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني(34)
وكان يمكن الإمام أن يستخدم عبيده في أمر إصلاح أرضه ، إلاّ أنه أحب أن يراه الله كاداً في سبيل إعاشة عياله .
ونختم حديثنا عن عِشرة الإمام بحديث يرويه الإمام الصادق (عليه السلام)يقول :أعتق أبو جعفر من غلمانه عند موته شرارهم وأمسك خيارهم . فقلت : يا أبته تعتق هؤلاء وتمسك هؤلاء ؟ فقال : إنهم قد أصابوا مني حزناً فيكون هذا بهذا(35)
هكذا ضرب الإمام أروع الأمثلة في الخصال الحميدة والآداب الرفيعة ، ولا ريب أن الرواة لم ينقلوا لنا إلاّ نزراً يسيراً من جوانب حياته التي تفيض بالحكمة والرشاد .. فسلام الله عليه أبداً وصلاته عليه دائماً سرمداً.
المصادر :
1- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 60
2- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر : ص 7
3- الحجر/75
4- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 6
5- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 9
6- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 10 / 11
7- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 40
8- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر
9- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 17
10- آل عمران/18
11- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر 13 - 16
12- ابراهيم/24
13- بحار الأنوار : ج 46 ، ص 244
14- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 246
15- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 247
16- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 249
17- في رحاب أئمة أهل البيت سيرة الباقر : ص 6
18- بحار الأنوار : ( ج 46 ، ص 289 ) نقلاً عن حلية الأولياء : ج 3 ص 180
19- الظاهر خفضت والله العالم
20- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 290
21- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 297
22- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 301
23- يونس/26
24- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 303
25- النساء/114
26- النساء/5
27- المائدة/101 في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 303
28- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 304
29- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 301
30- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 301
31- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 302
32- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 289
33- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 303
34- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 287
35- في رحاب أئمة أهل البيت في سيرة الباقر ص 300
/ج