لقد أجهد الإمام نفسه إجهاداً كبيراً وحملها من أمره رهقاً من كثرة عبادته وعظيم طاعته. أجمع المؤرخون أنه (عليه السّلام) قد قضى معظم حياته صائماً نهاره، قائماً ليله حتى وصل بعبادته وتهجده وتخضعه إلى درجة الفناء الكامل في الله...
في الوقت نفسه كانت تلاحقه ذكريات كربلاء المؤلمة، وما جرى لأبيه سيد الشهداء (عليه السّلام) ولأهل البيت من النكبات الكبيرة والخطوب المريرة. وهل بإمكانه أن ينسى كلما نظر إلى عماته وأخواته فيتذكر فرارهن يوم الطف من خيمة إلى خيمة، ومنادي القوم ينادي: أحرقوا البيوت. كل هذه الذكريات الأليمة تثير أشد الحزن في نفسه فيحزن ويذرف الدموع الحارة.
لقد بكى على أبيه عشرين سنة حتى قال له مولاه: إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين. فقال (عليه السّلام): إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة(1).
ومن الطبيعي أن لذلك كله أثراً مباشراً على صحته التي أذابتها هذه المآسي القاسية. فكان كلما تقدم سن الإمام ازداد ضعفاً وذبولاً.
اغتياله بالسم:
احتل الإمام زين العابدين قلوب الناس وعواطفهم فتحدث الناس بإعجاب عن علمه وفقهه وسائر ملكاته، وكان السعيد من تشرف بمقابلته والاستماع إلى حديثه لذلك نراه قد تمتع بشعبية هائلة في عصره.وقد شق ذلك على الأمويين وأقضى مضاجعهم وكان من أكبر الحاقدين عليه الوليد بن عبد الملك.
روى الزهري أنه قال: (لا راحة لي، وعلي بن الحسين موجود في دار الدنيا)(2).
وقد صمم هذا الخبيث المجرم على اغتيال الإمام (عليه السّلام) بأي طريقة، ولما آل إليه الملك والسلطان بعث سماً قاتلاً إلى عامله على يثرب، وأمره أن يدسه للإمام ونفذ عامله ذلك(3)، وقد تفاعل السم في بدن الإمام، فأخذ يعاني أشد الآلام وأقساها، وبقي على فراش الموت عدة أيام يشكو بلواه إلى الله تعالى، ويدعو لنفسه بالمغفرة والرضوان، وقد تزاحم الناس لتفقده وعيادته، وهو (عليه السّلام) يحمد الله ويثني عليه أفضل الثناء على ما رزقه من الشهادة على يد شر البرية الظالمين الطغاة الذين كان همهم الدنيا الفانية ومباهجها البراقة الزائفة.
وصيته لولده الإمام الباقر:
عهد الإمام زين العابدين إلى ولده محمد الباقر (عليهما السّلام) بالإمامة، كما عهد إليه أيضاً بهذه الوصية القيمة فقال له: (يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة فقد قال لي: يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله)(4).وأوصاه أيضاً بناقته، فقال له: إني حججت على ناقتي هذه عشرين حجة لم أقرعها بسوط، فإذا أنفقت فادفنها، لا تأكل لحمها السباع، فإن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: (ما من بعير يوقف عليه موقف عرفة سبع حجج إلا جعله الله من نعم الجنة، وبارك في نسله) ونفذ الإمام الوصية(5).
والوصية الأخيرة قال فيها (عليه السّلام): (أن يتولى بنفسه غسله وتكفينه وسائر شؤونه حتى يواريه في مقره الأخير).
إلى جوار جده (عليه السّلام):
اشتد المرض على الإمام (عليه السّلام) وثقل حاله من تفاعل السم في جسده الطاهر، وأخذ يعاني آلاماً مرهقة، فأخبر الإمام أهله في غلس الليل أن سوف ينتقل إلى الفردوس الأعلى، وأغمي عليه ثلاث مرات، فلما أفاق فقرأ سورة (الفاتحة) وسورة (إنا فتحنا) ثم قال (عليه السّلام): (الحمد لله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الجنة نتبوأ منها حيث نشاء فنعم أجر العاملين)(6).وانتقلت روحه الطاهرة إلى خالقها كما ترتفع أرواح الأنبياء والمرسلين، تحفها بإجلال وإكبار ملائكة الله، وألطافه تعالى لقد ارتفعت تلك الروح العظيمة إلى خالقها بعد كفاح مرير وسمت بألطاف الله وتحيته تاركة إضاءات منيرة على مفارق كل الدروب في هذه الدنيا بعلومها ومعارفها وعبادتها وتجردها من كل نزعات الميول الشخصية.
لقد عمل الإمام (عليه السّلام) طول حياته في سبيل الله فأحب في الله وأبغض في الله وجاهد من أجل رفع كلمة الله بكل ما أوتي من قوة مباركة وعطاء خير.
تجهيزه عليه السلام:
نفذ الإمام الباقر الوصية (عليه السّلام) بتجهيز جثمان أبيه، فغسل جسده الطاهر ورأى مواضع سجوده كأنها مبارك الإبل من كثرة سجوده لله تعالى، ونظر إلى عاتقه فكأنه مبارك الإبل أيضاً من أثر الجراب الذي كان يحمله على عاتقه ويوزعه على الفقراء والمحرومين(7) وبعد الفراغ من غسله أدرجه في أكفانه وصلى عليه الصلاة المكتوبة.تشييعه عليه السلام:
جرى للإمام تشييع حافل لم تشهد يثرب له نظيراً، فقد شيعه جميع الناس من قريب وبعيد، التفت الجماهير حول النعش الكريم جازعين في البكاء والعويل بكل خشوعٍ وإحساس عميق بالخسارة الكبرى. لقد فقدوا بموته عبقرية كبرى وخيراً عميماً، فقدوا تلك الروحانية الشفافة التي لم يخلق لها مثيل. ازدحم أهالي يثرب على الجثمان المقدس فالسعيد من يحظى بحمله، وهذا أحد الفقهاء السبعة في المدينة سعيد بن المسيب لم يفز بتشييع الإمام والصلاة عليه. وقد أنكر عليه ذلك حشرم مولى أشجع، فأجابه سعيد: أصلي ركعتين في المسجد أحب إلي من أن أصلي على هذا الرجل الصالح في البيت الصالح(8). وما نراه أنه اعتذار مهلهل ذلك أن حضور تشييع جنازة الإمام (عليه السلام) الذي يحمل هدى الأنبياء وكرامة الأوصياء من أفضل الطاعات وأحبها إلى الله تعالى.في المقر الأخير..
وصل الجثمان الطاهر إلى بقيع الغرقد وسط هالة من التكبير والتحميد، فحفروا له قبراً بجوار قبر عمه الإمام الحسن سيد شباب أهل الجنة وريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والذي استشهد بالطريقة نفسها على يد معاوية بن أبي سفيان، صاحب القول المأثور (إن لله جنوداً من عسل).وأنزل الإمام الباقر جثمان أبيه إلى المقر الأخير وأنزل معه كنوز العلم والبر والتقوى، وروحانية أجداده المتقين عليهم أفضل الصلاة والسلام.
وبعد الفراغ من دفن الإمام زين العابدين (عليه السّلام) هرع الناس نحو الإمام الباقر يعزونه ويشاركونه في لوعته وأساه والإمام مع إخوته وسائر بني هاشم يشكرون الجموع الغفيرة المعزية على مشاركتهم في الخطب الجلل والمصاب العظيم الذي حل بهم. وإنا لله وإنا إليه راجعون. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
المصادر :
1- زين العابدين للمقرم، ص363. عن الخصال، ج1، ص131
2- حياة الإمام الباقر، ج1، ص51.
3- الصواعق المحرقة، ص53.
4- زين العابدين للقرشي، ص421.
5- زين العابدين للقرشي، ص421.
6- زين العابدين للقرشي، ص422، عن روضة الكافي.
7- حياة الإمام محمد الباقر، ج1، ص54.
8- حياة زين العابدين، ص423.
/ج