ودل التتبع في مختلف الفترات التاريخية، على أن لانتصار الدين في المجتمع شأناً كبيراً في تدرج الاخلاق. ذلك لان الشعوب تنطبع على غرار قادتها، وتكيّف بأهداف قوانينها. ولو لم يكن للدين الا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنزيه النفس عن الطمع بالمادة، لكفى.
أما هذا النفر من بقايا الجاهلية، فقد كانوا – كغيرهم من دعاة الطبقية – مطبوعين على المحافظة والتمسك بعادات الآباء والجدود والنظم البالية والاوضاع الظالمة. وكانوا من الدين الجديد خصومه الالداء في ابان دعوته، ثم نظروا اليه كوسيلة الى الدنيا، ابان اعتناقهم له.
وضاعت تحت ظل هذه النوازع أهداف الدين، وخسر المجتمع تدرّجه الى الصلاح المنشود، فاذا بالناس عند مطامع الدنيا «والدين لعق على السنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم، فاذا محّصوا بالبلاء قلّ الديانون».
ولآل محمد (صلى اللّه عليه وآله) رسالتهم التي لا يتراجعون عنها، لانقاذ الناس لا لنفع أنفسهم، ولاقامة حامية الدين لا اقامة عروشهم، وصيانة المعنويات لا صيانة ذاتياتهم.فاذا كان معاوية لا يزال يعاند هذه الاهداف ويحارب المنادين بها، ثم يظل منفرداً عن المسلمين ببغيه وعدوانه، مأخوذاً بشهوة الحكم مأسوراً بحب الاستئثار في مشاعره ومذاهبه، فَليَسرِ الحسنُ اليه بالمسلمين، وليحاكمه الى اللّه، وكفى باللّه حكماً.
قال أبو الفرج الاصفهاني: «وكان أول شيء أحدثه الحسن عليه السلام أنه زاد المقاتلة مائة مائة. وقد كان علي عليه السلام فعل ذلك يوم
الجمل. وفعله الحسن حال الاستخلاف، فتبعه الخلفاء من بعده في ذلك» قال: «وكتب الحسن عليه السلام الى معاوية مع حرب بن عبد اللّه الازدي: من الحسن بن علي امير المؤمنين الى معاوية بن أبي سفيان. سلام عليك فاني أحمد اليك اللّه الذي لا اله الا هو. أما بعد، فان اللّه جل جلاله بعث محمداً رحمة للعالمين ومنّةً للمؤمنين، وكافة للناس أجمعين، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين. فبلغ رسالات اللّه، وقام بأمر اللّه، حتى توفاه اللّه غير مقصّر ولا وان، وبعد أن اظهر اللّه به الحق، ومحق به الشرك.
وخصّ به قريشاً خاصة، فقال له: وانه لذكر لك ولقومك. فلما توفي، تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته واسرته وأولياؤه ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه. فرأت العرب أن القول ما قالت قريش، وأن الحجة في ذلك لهم، على من نازعهم أمر محمد، فأنعمت لهم وسلمّت اليهم.
ثم حاججنا نحن قريشاً، بمثل ما حاججت به العرب، فلم تتصفنا قريش انصاف العرب لها. انهم أخذوا هذا الامر دون العرب بالانصاف والاحتجاج، فلما صرنا – أهل بيت محمد وأولياءهُ – الى محاجتهم وطلب النصف منهم، باعدونا واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا. فالموعد اللّه، وهو الولي النصير.
ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا وسلطان بيتنا. واذ كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الاسلام، أمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والاحزاب في ذلك مغمزاً يثلمون به، أو يكون لهم بذلك سبب الى ما أرادوا من افساده.
فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله، لا بفضل في الدين معروف، ولا اثر في الاسلام محمود. وانت ابن حزب من الاحزاب وابن أعدى قريش لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ولكتابه.
والله حسيبك فسترد عليه وتعلم لمن عقبى الدار. وبالله لتلقينَّ عن قليل ربك، ثم ليجزينَّك بما قدمت يداك. وما اللّه بظلام للعبيد.
«ان علياً لما مضى لسبيله رحمة اللّه عليه يوم قبض ويوم منَّ اللّه عليه بالاسلام ويوم يبعث حياً، ولانى المسلمون الامر من بعده. فأسأل اللّه ان لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة. وانما حملني على الكتابة اليك، الاعذار فيما بيني وبين اللّه عز وجل في امرك، ولك في ذلك ان فعلته الحظ الجسيم والصلاح للمسلمين.
«فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فانك تعلم أني أحق بهذا الامر منك عند اللّه وعند كل أواب حفيظ، ومن له قلب منيب، واتق اللّه، ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، فواللّه مالك خير في أن تلقى اللّه من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به. وادخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الامر أهله ومن هو أحق به منك، ليطفئ اللّه النائرة بذلك ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين.»
«وان أنت أبيت الا التمادي في غيّك سرتُ اليك بالمسلمين فحاكمتك حتى يحكم اللّه بيننا وهو خير الحاكمين».(1)
ولقد ترى ما ينكشف عنه كتاب الحسن عليه السلام في خواتيمه، من التهديد الصريح بالحرب. وكان لا مناص للامام حسن علیه السلام من اتباع هذه الطريقة فيما يفضي به الى معاوية، حين يطلب اليه «أن يدع التمادي في الباطل، وأن يدخل فيما دخل فيه الناس من بيعته» وهي الطريقة السياسية الحكيمة التي يقصد بها اضعاف الخصم عن المقاومة باضعاف عزمه. ثم هو لا يقول له ذلك الا بعد أن يقيم عليه الحجة بما سبق من حجاجهم لقريش.فدعاه مرشداً، وتوعّده مهدداً، ثم أنذره الحرب صريحاً.
واتبع خطة ابيه معه. وما كان الحسن في ما أحيط به من ظروف، وفي ما مُني به من أعداء، الا ممثّل أبيه حقاً، حتى لكأن قطعة من الزمن كانت من عهد أمير المؤمنين عليه السلام، تأخرت عن حياته فاذا هي عهد ابنه الحسن في الكوفة. وكما كانت الحرب ضرورة لا مفرَّ منها، في عهد الاب الراحل عليه السلام، كانت كذلك ضرورة لا يغني عنها شيء في عهد الابن القائم على الامر.
وكان مما يزين الخلافة الجديدة، أن تزهو في فتوّتها بما تملكه من قوة وسلطان، ولن يتم ذلك الا بأن تضرب على أيدي العابثين، لتبعث الهيبة في النفوس، وتشق طريقها الى الاستقرار لتقبض على نواصي الامور. فلا عجب اذا جاء كتاب الحسن هذا صريحاً في تهديده، شديداً في وعظه، قوياً في لغته الآمرة الناهية «واتق اللّه ودع البغي واحقن دماء المسلمين، فواللّه ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به، وادخل في السلم والطاعة ولا تنازع الامر أهله ومن هو أحق به منك..».
أما الشعار الاموي في الشام، فقد ظل مغاضباً للخلافة الهاشمية في الكوفة، متنمراً على بيعة الحسن تنّمره على بيعة أبيه من قبل. ولم تجد معه الرسائل المناصحة المصارحة، ولا كبحت من جموحه أساليبها الحكيمةَ وحججها الواضحة.
ونحن اذا تصفحنا ما وصل الينا من رسائل الامام الحسن عليه السلام الى معاوية، لم نجد فيها كلمة تستغرب من مثله، أو تتجاوز حد الحجة التي تنهض بحقه فيما فرضه اللّه من مودة أهل البيت عليهم السلام، وفيما سجله «الكتاب» من الحكم بطهارتهم من الرجس، أو لوّح اليه من ولايتهم على الناس، وبما صح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه واله في نصوص الامامة وتعيين الامام، وبالدعوة – اخيراً – الى الطاعة وحقن الدماء واطفاء النائرة واصلاح ذات البين.
اما رسائل معاوية الى الامام الحسن عليه السلام ، فقد رأيناها تأخذ – على الغالب – بأعراض الموضوع دون جوهرياته، وتفزع في الكثير من مضامينها الى نبش الدفائن وتأريث النعرات الخطرة بين الاخوان المسلمين.
ومن الحق ان نعترف لمعاوية بسبقه استفزاز «الشعور الطائفي» لاول مرة في تاريخ الاسلام. بما كان يقصد اليه من طريق نبش هذه الدفائن، وتأريث هذه النعرات. فكان بذلك أول داعٍ الى فصم الوحدة التي بنِي عليها دين التوحيد، والتي هي – بحق – جوهر اصلاحه وسرّ نجاحه بين الاديان.
وكأنّ معاوية حين عجز عن اصطياد المغفلين من الناس، عن طريق نفسه أو عن طريق أبيه «أبي سفيان بن حرب» - ولهذين الطريقين سوابقهما المعروفة لدى المسلمين بأرقامها وتواريخها – رفع عقيرته في رسائله الى الحسن، باسم أبي بكر وعمر وأبي عبيدة ولوّح فيها بخلاف أهل البيت (عليهم السلام) على بيعة أبى بكر..
وكانت [رسائل معاوية] بجملتها لا ينقصها في الموضوع الذي ابردت لاجله الا الحجة لاثبات الحق الشرعي – عبر العرش المقدس -. وحتى الشبهة المتخاذلة التي كان يصطنعها لمقارعة علي عليه السلام، في حروبه الطويلة الامد، باسم الثأر لعثمان، قد طويت صفحتها بموت الامام الاول، وها هو ذا تجاه الامام الثاني، الذي كان قد جثم بنفسه على باب دار عثمان يوم مقتله، يدافع الناس عنه، حتى لقد «خضب بالدماء» كما يحدثنا به عامة المؤرخين، ويقول الطقطقي في تاريخه: «ان الحسن قاتل عن عثمان قتالاً شديداً، حتى كان يستكتفه وهو يقاتل عنه، ويبذل نفسه دونه..». (2)
كل ذلك وعثمان بالموقف الدقيق الذي كان لا يفتأ يؤلب عليه فيه الآخرون، ويخذله الاقربون.
وهؤلاء الامويون لم يكتفوا بأن يفرضوا انفسهم ووجودهم الخالي من الحياة والجهد، بل تجاوزوا هذا، الى تعبئة المجتمع في طبقات.. واذا بالثروات الفاحشة تصير وتجتمع في أيدي الامويين وانصارهم، واذا بمروان يستبد بالمقدرات العليا على هواه، واذا بأكثر الاقاليم تذهب اقطاعات بين فلان وفلان.. فيعلى بن امية يملك ما قيمته مائة الف دينار، عدا عقاراته الكثيرة. وعبد الرحمن بن عوف يملك ما قيمته خمسمائة الف دينار. وزيد بن ثابت يملك من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس.. فلا بدع ان استنكرت الكثرة خطة هذا الجديد، ولا بدع ان تحدوا انصاره واتهموهم بالمروق، ولا بدع ان دخلوا معهم في صراع بدأ خفياً ثم امتد حمياً.
ولقد باتت الحالة العامة تجيء في كلمتين: حكومة تتآمر بالشعب وشعب يتآمر بالحكومة. ولكن للشعب الكلمة الاخيرة والعليا دائماً.. ومن الانصاف والخير ان نذكر ان الجمهور مع ذلك لم يكن أرعن في ثورته، فقد اتصل بأولياء الامور والسلطة، وطالب بواسطة ممثليه مراراً وتكراراً ولكن مطاليبه في كل مرة كانت تبوء بالفشل وكان فشلاً ذريعاً متواصلاً، ومن النوع المثير.
وكان عمرو بن العاص في هذه الاثناء يحرض الناس على عثمان ويجبه سياسته علانية ويتجسس عليه ويفضح الاحاديث التي تجري داخل داره، ولا يلقى احداً الا أدخل في روعه كراهيته.. ويقابله حينما خطب عثمان على ملأ من الصاخبين المتمردين بقوله: «يا امير المؤمنين انك قد ركبت نهابير وركبناها معك فتب نتب». وهذه عائشة تجترئ وهو يخطب فتقول وقد نشرت قميص النبي: «هذا قميص النبي لم يبل وقد ابليت سنته». وهذا طلحة والزبير يعينان الثائرين بالمال.. ولكن علياً مع كل ما هو عاتب وواجد.. بادر الى تقديم ولديه لاعتباراتهما التقديرية ومواليه لكي ينهنهوا عوادي الاحداث..
وحين بلغه أن الناس حصروا داره ومنعوه الماء بعث اليه بثلاث قرب وقال للحسن والحسين اذهبا بسيفكما حتى تقوما على بابه ولا تدعا احداً يصل اليه بمكروه. وكان أن خضب الحسن بالدماء وشج قنبر مولاه.
هذا ما عرف التاريخ عن علي وبنيه ازاء المصرع، بينما عرف من ناحية ثانية، أن عثمان وهو محاصر كتب الى معاوية وهو بالشام: «أن اهل المدينة قد كفروا واخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة، فابعث الي من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول». فاذا بمعاوية حينما جاءه كتابه يتربص به، فقد كره – على حد دعواه – مخالفة أصحاب الرسول، وقد علم اجتماعهم على ذلك. ومن تهكمات القدر أن يحرض عمرو بن العاص على قتل عثمان ونجبهه عائشة علانية ويتخلى معاوية عن نجدته ويعين عليه طلحة والزبير كلاهما، ثم ينفر هؤلاء أنفسهم هنا وهناك يطالبون بدمه علي بن ابي طالب الذي أخلص له النصيحة وحذره من هذا المصير وكان مجنه دون رواكض الخطوب..
نعم كانت حجة معاوية الوحيدة في رسائله الى الحسن، ادعاؤه «اني اطول منك ولاية واقدم منك بهذا الامر تجربة واكبر منك سنّاً! »(3) ولا شيء غير ذلك.ولو كان لدى معاوية من وراء هذه الجمل المتعاطفة، حجة حرية بالقول أو عسية بالقبول، لافضى بها، ولترك النزوع الى نبش الدفائن وتأريث النعرات.وليت شعري، أيَّ تجاربك تعني أبا يزيد ؟!..
أيوم ضجّت الشام منك الى عمر حتى قام لشكاويها وقعد، واستقدمك – مع البريد – وكنت أخوف منه من غلامه «يرفأ». ؟ أم يوم ضربك بالدرة على رأسك حين دخلت عليه معجباً بملابسك الخضر؟
أم يوم كنت تقتطع الامور من دون عثمان، ثم تقول: «هذا أمر عثمان» كذباً حتى لقد كنت أحد أسباب نكبته ؟
أم يوم سعيت برجلك وجيشك تحارب امام زمانك بالسلاح باغياً – غير متحرج ولا متأثم - ؟
وهل في هذا القديم «من تجاربك» ما يشعر بالحجة على استحقاقك الولاية أو الاستمرار على مثلها ؟. فأين اذاً استحقاق الخلافة يا ترى ؟..
وهل في ولاية تتقادم على مثل هذا النسق المجلوب عليه، والقائم على الكذب والبهتان واراقة الدماء، ما يدل على أهلية المقام الديني الرفيع ؟.
جمل تتعاطف كما تتعاطف الحجج النواصع، ثم هي لا ترجع في خلاصتها الا الى معنى واحد، هو التماس الحجة (بطول المدة !).
ولا نعرف في منطق الحق مقياساً يثبت الخلافة بطول المدة أو بكبر السن !!
وقد يكون الرجل أبصر الرجال في شراء ضمائر الناس، أو في تأريث الفتن في الناس، ولكن ذلك لا يعني استحقاق هذا الرجل لنيابة النبوة في الاسلام. وقد يكون الرجل أقوم الرجال في ضبط أعصابه وفي كبت عواطفه، حتى ليعده الناس من كبار الحلماء، ولكن ذلك ليس دليل الامامة الدينية في الناس، لان الحلم العظيم كما يكون في الامام، يكون في المتزعمين المنافقين. وقد يكون الرجل في حنكته أقدر الناس على تربيب العقائد وتوجيه الرأي العام الى الاخذ برأيه الخاص – سواء كان رأيه من رأي اللّه أو من رأي العاطفة – ولكن ذلك لا يعدو بهذا الرجل ان يكون المبتدع في الدين، لا الخليفة على المسلمين. لان الخليفة لا رأي له الا رأي القرآن، ولا سند له الا من الحديث، ولا مرجع له الا الى اللّه عزّ وجل.
اذاً، فليس الرجل الصالح لملكوت الخلافة الاسلامية، والنيابة عن النبوة في الدين، الا مخلوق من نوادر الخلق، يختاره اللّه من عباده ويصطفيه من جميع خلقه، لمزايا ينفرد بها عن العباد، وفضائل يتميز بها عن الخلق. واللّه سبحانه الذي برأ العباد أعرف بذلك العبد الصالح الذي انفرد بهذه المزايا، وانماز بهاتيك الفضائل. وهو الذي يوحي باسمه الى نبيه فيختاره من دون غيره. وليس لاحد – بعد ذلك – أن يختار.
اما معاوية فلم يكن له من سوابقه وسوابق أبيه، ولا من كيفية اسلامه واسلام أبيه، ولا من مواقفه مع عمر وعثمان ومع علي عليه السلام ما يزعه عن التطاول الى ادعاء أعظم المراتب في الاسلام، حتى جاء يقول للامام الحسن ابن رسول اللّه (صالی الله عليه وسلم)وقد بايعه المسلمون في آفاق الارض بما فيهم صحابة الرسول وأهل بيته وخاصته وجميع المعنييّن باسلاميتهم: «اني اكبر منك سناً واقدم منك وأطول منك.. !!».وهل تجد في دنيا الحجاج، أبلغ من هذا المنطق في اعلان العجز عن الحجة ؟.
وكاتبة ثانيةً، ولكنه حاول في هذه المرة، التهديد بالاغتيال والاغراء بالاقوال، وكأنه عرف الحسن على غير حقيقته، فاَسفّ الى مثل هذا الاسلوب المبتذل الذي لا يخاطب به مثله، قال:
«اما بعد، فان اللّه يفعل في عباده ما يشاء. لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، فاحذر ان تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس، وايأس من أن تجد فينا غميزة !! ثم الخلافة لك من بعدي، فأنت أولى الناس بها والسلام.وكان جوابه الاخير الذي جبه رسولي الحسن اليه، وهما جندب بن عبد اللّه الازدي والحرث بن سويد التيمي أنه قال لهما: «ارجعا فليس بيني وبينكم الا السيف !(4)
وهكذا ابتدأ معاوية العدوان، وخرج عامداً على طاعة الخليفة المفروضة طاعته عليه، الخليفة الذي لم يخالف على بيعته أحد من المسلمين غيره وغير جماعته من جند الشام الذين صقل قرائحهم على الخلاف، ورباهم على رأيه، وحبسهم عن الاختلاط بغيرهم، فكانوا حقاً، كما وصفهم صعصعة بن صوحان العبدي حين سأله معاوية عنهم فقال: «أطوع الناس لمخلوق وأعصاهم للخالق، عصاة الجبار وحلفة الاشرار»(5)
ودارت الكوفة دورتها، وهي تستمع الى تهديد معاوية وتتلقف الاخبار عن زحفه الى العراق. وارتجزت للحرب على لسان شيعتها البهاليل. وهكذا جدَّ الجدّ ولا مندوحة لولي الامر على الاستجابة للظرف المفاجئ والنزول على حكم الامر الواقع.
وكان حرب البغاة واجبه الذي يستمده من عقيدته ويستمليه من أعماق مبدئه، ولا استقرار للخلافة دون القضاء على هذا الانقسام الذي يفرضه معاوية على صفوف المسلمين، بثوراته المسلحة في وجه الخلافة الاسلامية قرابة ثلاث سنوات متتاليات، أحوج ما يكون المسلمون فيها الى الاستقرار والاستعداد.
وكانت حروب الشام منذ تجنّد لها معاوية، أشأم الحروب على الاسلام، واكثرها دماً مهراقاً، وحقاً مضاعاً، واجتراء على الحقايق، وانتصاراً للنزق الطائش، والاهواء الدنيوية الرخيصة.
وان الاسلام بمبادئه الانسانية السامية لم يشرع الحرب الا في سبيل اللّه وابتغاءاً الخير الناس وذياداً عن حياضه، اما نهب الثغور واخافة الآمنين، ومحاربة الشعوب المؤمنة باللّه وبرسوله (لانه يريد أن يتأمّر عليهم) فذلك ما لا تعرفه المبادئ الاسلامية، ولا تعترف بمثله الا الجاهلية الهوجاء. وذلك هو مصدر الصدمات التي مزّقت الكلمة وفرّقت الدين، وفرضت العداوات بين فئات المسلمين.
واستجاب لمعاوية في هذه الحروب «سفهاء طغام» على حد تعبير شبث بن ربعي التميمي حين واجهه في أحدث سنة 36، فاستغل تفسخ أخلاقهم، وأتّجر بفساد أذواقهم، وقذف بهم في لهوات الموت، وكلهم راضٍ مطيع.
وكانت الشنشنة الموروثة في هاشم، أنهم لا يبدأون أحداً قط بقتال. وتجد فيما عهد به الحسن الى قائده «عبيد اللّه بن عباس» تأييداً صريحاً
لهذا الخلق الهاشمي الافضل. وكان للحسن على الخصوص، مواريث شخصية كثيرة من وصايا ودساتير، آثره بها سيد العرب أبوه امير المؤمنين عليه السلام. وكان ابوه كما يحدثنا التاريخ شديد العناية بابنه الحسن «وكان يكرمه اكراماً زائداً ويعظمه ويبجله»(6). وكانت هذه الوصايا، المثل التي لا يقربها الباطل ولا تزيغ عن الصواب على اختلاف موضوعاتها في الدين والدنيا وفي التربية والاخلاق. وكان فيما أوصى به علي الحسن قوله: «لا تدعونَّ الى مبارزة، فان دُعيت اليها فأجب، فان الداعي اليها باغ. والباغي مصروع».
لذلك كنّا نرى الحسن في ابان بيعته، وفي قوة اندفاع أصحابه للهتاف بالحرب، لا يجيب اليها صريحاً، ولا يعمل لها جادّاً، لانه كان ينظر الى الحرب نظرته الى ضرورة بغيضة، يلجأ اليها حين لا حيلة له في اجتنابها، وكان ينتظر تنظيم حرب يضمن لها القوة، أو قوة تضمن له الحرب، وقد حالت الظروف المتأزمة – يومئذ – والذاهبة صعداً في ازماتها بينه وبين ما يريد.
وقد أتينا في الفصل السابق على استكشاف الاوكار التي كان ينتمي اليها المتحزّبون المتحمسون في الكوفة، من أموية، ومحكّمة، وشكاكين، وحمراء. وأشرنا هناك الى ما كانت تعج به هذه المجتمعات من روح الهدم والتخريب، والوقوف في وجه السياسة القائمة بشتى الاساليب.
وكان كل ذلك – وبعضه كاف – سبب التمهل في الحرب، الامر الذي عورض به الحسن عليه السلام من قبل فئات من أصحابه المناصحين له. وكان للنشاط المؤقت المحدود، الذي غمر الكوفة في أيام البيعة، أثره في اغراء هذه الفئات من الاصحاب، ليظنوا كل شيء ميسراً لخليفتهم الجديد. ولكنها كانت النظرة القصيرة التي لا تمتد الى ما وراء الستار. ولا تزن في حسابها ما تهدفه هاتيك «الاوكار».
اما الامام الحسن علیه السلام فقد كان ينظر بالبصيرة الواعية الى أبعد مما ينظرون، ويعرف بالعقل اليقظان من مشاكلهم اكثر مما يعرفون، ويغار – بدينه – على الصالح العام أعنف مما يحسبون.
انه يدرك جيداً دقة الموقف، بما يسيطر عليه من ميوعة الاخلاق، في قسم عظيم ممن معه في جيشه، وممن حوله في كوفته وكان ينتظر لهذا التفسخ الاخلاقي الذي باع الدنيا بالدين، أثره السيئ في ظروف الحرب، لو أنه استبق الى الحرب قبل أن يضطره الموقف اليها.
ورأى أن في تحمّل قليل من مفاسد هؤلاء كثيراً من الصلاح لسياسته الحاضرة مع ظرفه الخاص.
ورأى ان يعالج الموقف من وجهه الثاني، فترفق بالناس، ولم يتنكّر لاحد من رعيّته ولم يبد له أمراً، وأخذ بسياسة التهدئة واسدال الستار، لئلا يتسع الفتق وتعم الفتنة، وارجأ التصفية الى وقتها المناسب لها، ليضع الندى في موضعه والسيف على أهله.
وهنا يسبق الى الذهن استفهام لا يجوز للباحث أن يتجاوزه من دون أن يقف على سرّه. انه كان الاولى برئيس الدولة اذ جوبه من ظروفه بمثل هذا الجوّ المتلبد بالغيوم، أن يعمد الى الحزم في استئصال الشغب، فيستعمل الشدة ويكشف المؤامرات وينكّل بالخونة ويكيل لهم الجزاء الذي يستحقون. فما الذي حدا بالحسن عليه السلام، الى العزوف عن طريقة الشدة الى الرفق أحوج ما يكون موقفه الى الاول منهما تعجيلاً للاستقرار واستعداداً لمستقبله المهدّد بالحروب ؟.
وللجواب على هذا الاستفهام، وجوهه الثلاث التي ستقرؤها في خاتمة الفصل الثامن. ونقول هنا: ان الحسن لو أراد الاخذ بسياسة الشدة – وكانت من أوضح الاساليب التي تتخذ لمثل هذه الظروف – لتعجّل الفتنة عن عمد، ولفتح ميدانه للثورات الداخلية التي لن تكون أقلَّ خطراً على مقدراته من حروب الشام. وكان معاوية العدوّ الذي لا يفتأ يمدّ فكرة الثورة في الكوفة بكل ما اوتي من ثراء أو دهاء.
لذلك كان ما اختاره الحسن هو الاحسن لموقفه الدقيق.
ونقول في الجواب على مقترح بعض نصحائه من أصحابه في تعجيل الحرب حين طلب اليه «بأن يبدأ معاوية بالمسير حتى يقاتله في أرضه وبلاده وعمله»(7): انه لو فعل ذلك لفتح للمعارضين من زعماء الاحزاب في الكوفة وللمتفيهقين من القراء و(أهل الهيأة والقناعة) فيها، منفداً للخلاف عليه لا يعدم الحجة، اذا اريد الاحتجاج به من ناحية «الابتداء بالعدوان» وهي الحجة التي لا يجد كثير من الناس أو من بسطاء الناس الجواب عليها، والتي قد يؤول بها النقاش الى مجاهرة هذه الجماعات بنكث البيعة علناً، والتخلي عن الحسن جهاراً، ومعنى ذلك التعرض الى أفظع انشقاق داخلي، له عواقبه ومخاوفه. ولهذا وذاك آثر الحسن التهدئة متمهلاً بالحرب بادئ ذي بدء. ثم ارتجل الامر بالجهاد.
وما كان اذ أمر بالجهاد الا مستجيباً للظرف الطارئ الذي لم يكن يحتمل – في نظر الجميع – الا الامر بالجهاد، وذلك حين بادر معاوية الى العدوان مبتدئاً، وتحلبت أشداقه بالمطامع الاقليمية ولكن في صميم بلاد الاسلام !، فزحف الى «جسر منبج» (بلد قديم كبير، بينه وبين جسره على الفرات ثلاثة فراسخ، وبينه وبين «حلب» عشرة فراسخ، وفي المعجم: «بينهما يومان»، قال: «ومنها الى (ملطية) اربعة ايام والى الفرات يوم واحد، وخرج منها جماعة منهم البحتري وابو فراس الحمداني) باتجاه العراق، وذلك بعد وفاة امير المؤمنين عليه السلام، بقليل من الزمن اختصره اليعقوبي(8) كثيراً فحدّده بثمانية عشر يوماً.
ومن هناك حيث بلغ أعالي الفرات، رفع صوته «بالعواء» الذي حاول أن يجعل منه زئيراً وجلجلة، ليخيف الثغور الآمنة المطمئنة، ولينبّه مرابض الاسود في كوفة الجند فيستدرجها الى النزال.
ونظر معاوية الى مصرع علي (عليه السلام)، كأحسن فرصة للاجراءات الحاسمة بين الكوفة والشام. وكان ذلك هو القرار الاخير الذي تم عليه الاتفاق بينه وبين مشاوريه، الذين كانوا يتحلّقون حوله ليل نهار، وينظمون معه حركة المعارضة للخلافة الهاشمية، بحنكة تشبه الدهاء، أمثال المغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، والوليد بن عتبة، ويزين بن الحر العبسي، ومسلم بن عقبة، والضحاك بن قيس الفهري. ونجح معاوية في اختيار الظرف المناسب.
ونجح في خلق الشغب المزعج في كوفة الحسن، بما أولاه من عناية بالغة بشراء الضمائر الرخيصة فيها، وبما بثه من جواسيس يتأبطون في رواحهم الوان الاكاذيب، ويتزوّدون في غدوّهم الاخبار والمعلومات، عما يجدّ في الكوفة من تصاميم، وعما يوجد لديها من امكانيات. وكان سلاح معاوية من هذا النوع، أقوى من سلاحه بالرجال والحديد وأشدّ منهما مضاء وأبعد أثراً.
واستنفر عشائره وجيوشه، فكتب الى عماله على النواحي التابعة له، بنسخة واحدة، يقول فيها: «فاقبلوا اليَّ حين يأتيكم كتابي هذا بجدكم وجهدكم وحسن عدتكم»(9)
ومضى الامام الحسن (عليه السلام) – بدوره – على تصميمه في الاستعداد للجواب على هذا العدوان. فدعا الى الجهاد، وتألب معه المخلصون من حملة القرآن وقادة الحروب وزهاد الاسلام، أمثال حجر بن عدي الكندي وأبي ايوب الانصاري، وعمرو بن قرضة الانصاري، ويزيد بن قيس الارحبي، وعديّ بن حاتم الطائي، وحبيب بن مظاهر الاسدي، وضرار بن الخطاب، ومعقل بن سنان الاشجعي، ووائل بن حجر الحضرمي [سيد الاقيال]، وهانئ بن عروة المرادي، ورشيد الهجري، وميثم التمار، وبرير بن خضير الهمداني، وحبة العرني، وحذيفة بن أسيد، وسهل بن سعد، والاصبغ بن نباتة، وصعصعة بن صوحان، وابي حجة عمرو بن محصن، وهانئ بن أوس، وقيس بن سعد بن عبادة، وسعيد بن قيس، وعابس بن شبيب، وعبد اللّه بن يحيى الحضرمي، وابراهيم بن مالك الاشتر النخعي، ومسلم بن عوسجة، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وبشير الهمداني، والمسيب بن نجية، وعامر بن واثلة الكناني، وجويرية بن مشهر، وعبد اللّه بن مسمع الهمداني، وقيس بن مسهر الصيداوي، وعبد الرحمن بن عبد اللّه بن شداد الارحبي، وعمارة بن عبد اللّه السلولي، وهانئ بن هانئ السبيعي، وسعيد بن عبد اللّه الحنفي، وكثير بن شهاب، وعبد الرحمن بن جندب الأزدي، وعبد اللّه بن عزيز الكندي، وأبي ثمامة الصائدي، وعباس بن جعدة الجدلي، وعبد الرحمن بن شريح الشيباني، والقعقاع بن عمر، وقيس بن ورقاء، وجندب بن عبد اللّه الازدي، والحرث بن سويد التيمي، وزياد بن صعصعة التيمي، وعبد اللّه بن وال، ومعقل بن قيس الرياحي.
وهؤلاء هم الجناح القويّ في جبهة الامام الحسن عليه السلام. وهم السادة الذين وصفهم الامام الحسن عليه السلام فيما عهد به الى «عبيد اللّه بن عباس» بأن الرجل منهم يزيد الكتيبة، ووصفهم معاوية في حروب صفين بأن قلوبهم جميعاً كقلب رجل واحد، وقال عنهم: «انهم لا يقتلون حتى يقتلوا أعدادهم». وهم الذين عناهم يومئذ بقوله: «ما ذكرت عيوبهم تحت المغافر بصفين الا لُبس على عقلي». وشهادة العدوّ وأصدق الشهادات مجداً.
وهزّ أعصاب الكوفة في فورة الدعوة الى الجهاد، تفاؤل عنيف غلب الناس على منازعها، فاذا بالناس يتسابقون الى صفوفهم بما فيهم العناصر المختلفة التي لا يعهد منها النشاط للدعاوات الخيرة والاعمال الصالحة والمساعي الخالصة للّه عز وجل.
فجمع المعسكر الى جنب أولئك المخلصين من أنصار الحسن سواداً من الناس غير معروفين، وجماعة من أبناء البيوت المرائين، وجمهوراً من مدخولي النية الذين لا يتفقون معه في رأي، وربَّما لا يكونون الا عين عدوه عليه وعلى أصحابه، وآخرين من الضعفاء الرعاديد الذين اذا أُكرهوا على القتال اتقوه بالفرار، وربما لم يكن لهم من الامل الا أمل الغنائم «وليس أحد منهم يوافق احداً في رأي ولا هوى، مختلفون لا نيّة لهم في خير ولا شر(10)». – وفيهم الى ذلك، المشاجرات الحزبية التي ستكون في غدها القريب شجرة الشوك في طريق التجهيزات التي تستدعيها ظروف الحرب.
وتخوَّف الامام الحسن – منذ اليوم الاول – نتائج هذا التلوّن المؤسف الذي انتشر في صفوفه، والذي لا يؤمن في عواقبه من الخذلان، وهو ما تشير اليه بعض المصادر(11) صريحاً.
فكان ينظر الى الجماهير المرتجزة بين يديه للحرب، غير واثق بثباتهم معه، ولا مؤمن باخلاصهم لاهدافه.
وتراءت له من وراء هؤلاء (في الكوفة)، الرؤوس ذوات الوجهين التي يئس من اصلاحها الهدى، أمثال الاشعث بن قيس، وعمرو بن حريث ومعاوية بن خديج، وأبي بردة الاشعري، والمنذر بن الزبير، واسحق بن طلحة، وحجر بن عمرو، ويزيد بن الحارث بن رويم، وشبث بن ربعي، وعمارة بن الوليد، وحبيب بن مسلمة، وعمر بن سعد، ويزيد بن عمير، وحجار بن أبجر، وعروة بن قيس، ومحمد بن عمير، وعبد اللّه بن مسلم بن سعيد، وأسماء بن خارجة، والقعقاع بن الشور الذهلي، وشمر بن ذي الجوشن الضبابي. وعلم أن له من هؤلاء ليوماً.
وهؤلاء هم الكوفيون الناشزون، الذين كانوا يشرعون الاخلاق لانفسهم وللناس الذين يماثلونهم – رغم ادّعائهم الاسلام !. وكان الاسلام الذي عمر الاخلاق في النفوس وزخر به النعيم على المسلمين، قد هزمته المادة بين أوساط هذا المجتمع المأفون، فتباعدت بينهم وبينه القربى، وعجزوا عن مسايرته بتعاليمه وتربيته وتثقيفه، فما بايعوا الحسن على السمع والطاعة حتى كانوا عملاء أعدائه على الشغب والعصيان، يرقبون الحوادث، ويتربصون الدوائر، وينتهزون الفرص، ويتآمرون على اخطر الموبقات غير حافلين بعواقبها ولا عارها ولا نارها. وكان الخطر المتوقع من انخراط هؤلاء في الجيش، أكبر من الخطر المنتظر من أعدائه الذين يصارحونه العداء وجهاً لوجه.
فلمَ لا يتخوّف عاهل الكوفة من الخذلان، ولم لا يتمهل بالحرب ما وسعه التمهّل، وللنتائج الغامضة حكمها الذي يفرض الاناة ويذكّر بالصبر، ويلوّح بالخسران.ولكنه – وقد دُعي الآن الى المبارزة – خليق أن يرجع الى الميراث النفيس الذي يشيع في نفسه من ملكات أبيه العظيم (وكان لا بد للشبل أن ينتهي الى طبيعة الاسد).
فليرجع الى وصية أبيه له، وكان مما أوصاه به أبوه: «لا تدعونَّ الى مبارزة، فان دُعيت لها فأجب، فان الداعي لها باغ..».
وليرجع الى واجبه الشرعي بما له من ولاية أمر المسلمين، وليس للامام الذي قلده الناس بيعتهم، أن يغضي على الجهر بالمنكر والبغي على الاسلام ما وجد الى ذلك سبيلاً.
واللّه تعالى شأنه يقول: «فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر اللّه».
ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول: «من دعا الى نفسه، أو الى أحد، وعلى الناس امام، فعليه لعنة اللّه فاقتلوه».
اما السبيل الى ذلك، ولا نعني به الا القوة على انكار المنكر، فقد كان للكوفة من القوى العسكرية في مختلف الثغور الخاضعة لها، ما يؤكد الظن بوجود الكفاية للحرب، رغم الاوضاع الشاذة التي نزع اليها كثير من خونة الكوفيين المواطنين.
وكان للدولة الاسلامية في أواسط القرن الاول، أعظم جيش تحتفل بمثله تلك القطعة من الزمن، لولا أن الالتزام بقاعدة «المرابطة» التي تفرضها حماية الثغور والتي كان من لوازمها توزيع القسم الاكثر من الجيوش الاسلامية على مختلف المواقع البعيدة عن المركز، كان يحول دائماً دون استقدام العدد الكثير من تلك الوحدات للاستعانة به في الحروب القريبة من المركز، ولا سيما مع صعوبة العمليات السوقية بنظامها السابق ووسائطها القديمة المعروفة.
وكان الجيش المقدَّر على الكوفة وحدها. تسعين الفاً أو مائة الف – على اختلاف الروايتين(12) -. وكان الجيش المقدَّر على البصرة ثمانين الفاً. وهؤلاء هم أهل العطاء في المصرين، أعني الجنود الذين يتقاضون الرواتب من خزينة الدولة. وفي المصرين العسكرّيين – الكوفة والبصرة – مثل هؤلاء عدداً من اتباعهم ومواليهم ومن متطوّعة الجهاد غالباً.
فهذه زهاء ثلاثمائة وخمسين الفاً، هي مقاتلة العراق، فيما يحسب على العراق من القدرة العسكرية، عدا جيوش فارس واليمن والحجاز والمعسكرات الاخرى. وكان من تحمّس الشيعة للحرب (يوم الحسن)، ومن الحاح الخوارج على حرب الحالّين الضالّين اهل الشام – على حدّ تعبيرهم -، ومن انسياح الناس الى صفوفهم يوم نجحت دعاوة الدعاة الى الجهاد في الكوفة. ما يكفي وحده رصيداً للظن بوجود الكفاية بل اليقين بوجودها، لو انهم صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه، يوم التقت الفئتان وحميت الصدور واحمَرَّت الحدق.
النفير وَالقيادة
ونادى منادي الكوفة – الصلاة جامعة -، واجتمع الناس فخرج الامام الحسن عليه السلام، وصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال:«أما بعد، فان اللّه كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها، ثم قال لاهل الجهاد: اصبروا ان اللّه مع الصابرين. فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون الا بالصبر على ما تكرهون. انه بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير اليه فتحرك. لذلك اخرجوا رحمكم اللّه الى معسكركم في النخيلة حتى ننظر وتنظرون، ونرى وترون».
قال مؤرخو الحادثة: «وسكت الناس فلم يتكلم أحد منهم ولا أجابه بحرف».
- ورأى ذلك «عديّ بن حاتم» وكان سيد طيء والزعيم المرموق بسوابقه المجيدة في صحبته للنبيّ والوصيّ معاً (صلى اللّه عليهما) فانتفض انتفاضته المؤمنة الغضبى، ودوّى بصوته الرزين الذي هز الجمع، فاستدارت اليه الوجوه تستوعب مقالته وتعنى بشأنه – وفي الناس كثير ممن عرف لابن حاتم الطائي، تاريخه وسؤدده وثباته على القول الحق – واندفع الزعيم محموم اللهجة قاسي التقريع، يستنكر على الناس سكوتهم، ويستهجن عليهم ظاهرة التخاذل البغيض.
وقال:
«أنا عديّ بن حاتم، ما أقبح هذا المقام !. ألا تجيبون امامكم وابن بنت نبيكم ؟. أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة، فاذا جدّ الجد، راوغوا كالثعالب ؟. أما تخافون مقت اللّه ولاعيبها وعارها ؟»
ثم استقبل الامام الحسن عليه السلام بوجهه فقال:
«أصاب اللّه بك المراشد، وجنّبك المكاره، ووفقك لما يحمد ورده وصدره. وقد سمعنا مقالتك، وانتهينا الى أمرك، وسمعنا لك، وأطعنا فيما قلت ورأيت».
قال: «وهذا وجهي الى معسكرنا، فمن أحب أن يوافي فليواف».
ثم خرج من المسجد، ودابته بالباب، فركبها ومضى الى النخيلة، وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه. وكان المثل الاول للمجاهد المطيع، وهو اذ ذاك أول الناس عسكراً(13). وفي طيء الف مقاتل لا يعصون لعديّ أمراً(14)
ونشط – بعده – خطباء آخرون، فكلّموا الامام الحسن عليه السلام بمثل كلام عديّ بن حاتم، فقال لهم الامام الحسن عليه السلام: «رحمكم اللّه مازلت أعرفكم بصدق النية، والوفاء، والمودة. فجزاكم اللّه خيراً».
واستخلف الامام الحسن عليه السلام على الكوفة – ابن عمه – المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأمره باستحثاث الناس للشخوص اليه في النخيلة.
وخرج هو بمن معه، وكان خروجه لاول يوم من اعلانه الجهاد أبلغ حجة على الناس في سبيل استنفارهم.
وانتظمت كتائب النخيلة خيار الاصحاب من شيعته وشيعة أبيه وآخرين من غيرهم. ونشط المغيرة بن نوفل لاستحثاث الناس الى الجهاد وكان من المنتظر للعهد الجديد – الذي قوبل بالمهرجانات القوية في اسبوع البيعة، أن لا يتأخر أحد بالكوفة عن النشاط المتحمس لاجابة دعوة الامام. ولكن شيئاً من ذلك لم يقع !. وحتى السرايا الجاهزة التي كان امير المؤمنين عليه السلام قد أعدها للكرة على جنود الشام قبيل وفاته – وكانت تعد اربعين الف مقاتل – قد انفرط عقدها وتمرد أكثرها، وتثاقل معها اكثر حملة السلاح في الكوفة عن الانصياع للامر.وكان المذبذبون من رؤساء الكوفة، أشدهم نشاطاً في اللحظة الدقيقة التي أزفت فيها ساعة الجدّ. قالت النصوص التاريخية فيما ترفعه الى الحارث الهمداني كشاهد عيان: «وركب معه – أي مع الحسن – من أراد الخروج وتخلّف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا، وغرّوه كما غرّوا أمير المؤمنين من قبله.. وعسكر في النخيلة عشرة أيام فلم يحضره الا أربعة آلاف. فرجع الى الكوفة، ليستنفر الناس، وخطب خطبته التي يقول فيها: قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي..(15)
أقول: ثم لا ندري على التحقيق عدد من انضوى اليه – بعد ذلك – ولكنا علمنا أنه «سار من الكوفة في عسكر عظيم» على حد تعبير ابن ابي الحديد في شرح النهج.
وغادر النخيلة وبلغ «دير عبد الرحمن» فاقام ثلاثاً، والتحق به عند هذا الموضع مجاهدون آخرون لا نعلم عددهم.
وكان دير عبد الرحمن هذا مفرق الطريق بين معسكري الامام في المدائن. ومَسكِن
وللامام الحسن خطته من هذين المعسكرين.
اما «المدائن» فكانت رأس الجسر صوب فارس والبلاد المتاخمة لها. وهي بموقعها الجغرافي، النقطة الوحيدة التي تحمي الخطوط الثلاث التي تصل كلاً من الكوفة والبصرة وفارس، بالاخرى. وتقف بقيمتها العسكرية درءاً في وجه الاحداث التي تنذر بها ظروف الحرب.
واما «مسكِن» فقد كانت النقطة الحساسة في تاريخ جهاد الامام الحسن (عليه السلام)لانها الميدان الذي قدّر له ان يقابل العدوّ وجهاً لوجه. وهي اذ ذاك أقصى الحدود الشمالية للعراق الهاشمي، أو المناطق الخاضعة لحكومة الكوفة من هذه الجهة. وكان في اراضي مسكن مواطن معمورة بالمزارع والسكان وقرى كثيرة مشهورة - منها «أوانا» و«عكبرا» ومنها «العلث» وهي آخر(والعلث هو أول العراق من هذه الجهة) قراها الشمالية، وكان بازائها قرية «الجنوبية» وهي التي انحدر اليها معاوية بجيوشه منذ غادر «جسر منبج». والتقى عندها الجمعان.
والمفهوم ان موقع مسكن اليوم لا يعدو هذه السهول الواسعة الواقعة بين قرية «سميكة» وقرية «بلد» دون سامراء.
ولمسكن طبيعتها الغنية بخيراتها الكثيرة ومشارعها القريبة وسهولها الواسعة، فكانت - على هذا - الموقع المفضّل للنزال والحروب، وكانت لاول مرة في تاريخها ميدان الامام الحسن ومعاوية في زحفهما هذا، ثم تبودلت فيها بعد ذلك وقائع كثيرة بين العراق والشام.
ورأى الامام الحسن عليه السلام أن يتخذ من المدائن - بما لموقعها من الاهمية العسكرية - مقراً لقيادته العليا. ليستقبل عندها نجدات جيوشه من الاقطار الثلاث القريبة منه، ثم ليكون من وراء ميدانه الذي ينازل به معاوية وأهل الشام في «مَسكِن». وليس بين المعسكرين الهاشميين في - المدائن ومسكن - أكثر من خسمة عشر فرسخاً.
وكانت الخطة المثلى التي لا بدل عنها للوضع الحربي الراهن. وهكذا انكشف الامام الحسن في رسم خططه الحربية، عن القائد الملهم الذي يحسن فنون الحرب كما كان يصطلح عليها عصره أفضل احسان. ودلّت خطواته المتدرجة في سبيل مقاومته لعدوه سواء في اختيار الوقت أو في اختيار المواقع أو في تسيير الجيوش، على مواهب عسكرية ممتازة، كانت كفاء ما رزق من مواهب في سياسته وفي اخلاصه وفي تضحيته.
ونظر عن يمينه وعن شماله، وتصفّح - ملياً - الوجوه التي كانت تدور حوله من زعماء شيعته ومن سراة أهل بيته، ليختار منهم قائد «مقدمته» التي صمم على ارسالها الى مسكن، فلم ير في بقية السيوف من كرام العشيرة وخلاصة الانصار، أكثر اندفاعاً للنصرة ولا اشدَّ تظاهراً بالاخلاص للموقف من ابن عمه (عبيد اللّه بن عباس بن عبد المطلب) و(قيس بن سعد بن عبادة الانصاري) و(سعيد بن قيس الهمداني) (16) – رئيس اليمانية في الكوفة -. فعهد الى هؤلاء الثلاثة بالقيادة مرتبين.
وكان عبيد اللّه بن عباس احد اولئك المرتجزين للحرب، المستهترين بالحياة، تحفزه الغيرة الدينية، وتلهبه العنعنات القبلية، فاذا هو الفولاذ المصهور في تعصّبه للعرش الهاشمي، وهل هو الا احد سراة الهاشميين، وقديماً قيل: «ليست الثكلى كالمستأجرة». وهو في سوابقه امير الحج سنة 36 (على رواية الاصابة) أو سنة 39 (على رواية الطبري) أو هو امير الحج في السنتين معاً، وهو والي البحرين، وعامل اليمن وتوابعها على عهد امير المؤمنين عليه السلام، والجواد المطعام الذي شهد له الحجيج في مكة، ثم هو أسبق الناس دعوة الى بيعة الامام الحسن يوم بايعه الناس.
فكان - على ذلك - حرياً بهذه الثقة الغالية التي وضعها فيه ابن عمه الامام عليه السلام.(17)
وحاول بعضهم الارتياب في سوابق عبيد اللّه هذا، بحادثة خروجه من اليمن. ومن الحق ان نعترف بضعف حامية اليمن - يومئذ - عن الصمود لحملة بسر بن ارطأة، وكان من انشقاق بعض اليمانيين على الحكم الهاشمي ومكاتبتهم معاوية واخراجهم اميرهم (سعيد بن نمران) من الجند ومواقفتهم عاملهم (عبيد اللّه) ما يشهد لعبيد اللّه بالبراءة من موجبات الريب. ولو أن عبيد اللّه كان قد حاول مواقفة بسر لكان له من عثمانية اليمن من يكفي بسراً أمره، على ان الرجل لم يفعل بخروجه من اليمن أكثر مما فعله نظراؤه في مكة والمدينة، حيث فر عاملاها من وجه بسر، وأغار عامل معاوية على العواصم الثلاث فقتل فيهن زهاء ثلاثين الفاً من الآمنين. وعلمنا ان عبيد اللّه قصد في خروجه من اليمن الى الكوفة، ولو كان مريباً لما قصد الكوفة وعلمنا ان سعيد بن نمران اعتذر لامير المؤمنين عليه السلام بقوله: «اني دعوت الناس - يعني اهل اليمن - للحرب وأجابني منهم عصابة فقاتلت قتالاً ضعيفاً وتفرق الناس عني وانصرفت». اقول: افلا تكون تجربة ابن نمران تصحيحاً لمعذرة ابن عباس، فالرجل - في سوابقه - لا غمز فيه، ولا غرو اذا رضيه الحسن ثقة بسوابقه.
وانفرد اليعقوبي عنهما بعدم ذكر القائد الثالث من قواد المقدمة، ثم قال: «وأمر الحسن عبيد اللّه بان يعمل بامر قيس بن سعد ورأيه، فسار الى ناحية الجزيرة - يعني بين النهرين - واقبل معاوية لما انتهى اليه الخبر بقتل علي (عليه السلام)فسار الى «الموصل» بعد قتل علي بثمانية عشر يوماً والتقى العسكران..».
اقول: والموصل هذه قرية من قرى «مسكن» دفن بالقرب منها سيدنا (محمد ابن الامام علي الهادي) كما اشار اليه الحموي في معجمه وهي غير مدينة الموصل المعروفة. ولا تنافي بين ما رواه اليعقوبي وما رواه الآخرون من تعيين الموقع الذي نزل فيه جيش معاوية في حربه للحسن عليه السلام، فالموصل والحيوضة والجنوبية كلها من قرى «مسكن» يومئذ ولعل الجيش أشغل هذه القرى كلها فوردت اسماؤها في مختلف الروايات واقتصرت بعضها على اسم دون اسم كما ترى. ونحن انما اخترنا ذكر «الجنوبية» دون غيرها نزولاً على تصريح قيس بن سعد فيما كتب به الى الحسن كما سيأتي في محله.
ودعاه، فعهد اليه عهده الذي لم يروَ لنا بتمامه، وانما حملت بعض المصادر صورة مختزلة منه. قال فيه:
«يا ابن عم ! اني باعث معك اثني عشر الفاً من فرسان العرب وقراء المصر، الرجل منهم يزيد الكتيبة، فسر بهم، وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وافرش لهم جناحك، وأدنهم من مجلسك، فانهم بقية ثقات امير المؤمنين. وسر بهم على شط الفرات، ثم امض، حتى تستقبل بهم معاوية، فان أنت لقيته، فاحتبسه حتى آتيك، فاني على أثرك وشيكاً. وليكن خبرك عندي كل يوم، وشاور هذين - يعني قيس بن سعد وسعيد بن قيس -. واذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك، فان فعل، فقاتله. وإن أُصبت، فقيس بن سعد على الناس، فان اصيب فسعيد بن قيس على الناس».
ولقد ترى أن الامام الحسن عليه السلام، لم يعن في عهده الى عبيد اللّه بشيء، عنايته بأصحابه، فمدحهم، وأطرى بسالتهم، وأضافهم الى أبيه امير المؤمنين عليه السلام. واراد بكل ذلك تغذية معنوياتهم والهاب حماستهم والتأثير على عواطفهم. ثم أمر قائده بأن يلين لهم جانبه ويبسط لهم وجهه ويفرش لهم جناحه ويدنيهم من مجلسه. وحرصت هذه التعاليم على ايثار الثقة المتبادلة بين القائد والجيش. وأحر بهذه الثقة - في حرب تعوزها النظم العسكرية التي نعرفها اليوم - أن تكون أهم عناصر القوّة المرجوّة للايام السود. وجاءت جملاً متعاطفة أربعاً يؤكد بعضها بعضاً، ثم هي لا تعني الا معنى واحداً. ترى فهل لنا أن نستفيد، من هذا القصد العامد الى التأكيد، أنها كانت تحاول بتكرارها «المؤكد»، استئصال خلق خاص في عبيد اللّه [القائد الجديد] ؟. وفي الجيش - معه - أعلام من سراة الناس، ومن ذوي السوابق والذكريات المجيدة، الذين لا يهضمون الخلق المزهوَّ ولا الخشونة الآمرة الناهية في الفتى الهاشمي الذي لا يزيدهم كفاءة، ولا يسبقهم جهاداً، ولا يفضلهم تقوى، ولا يكبرهم سنّاً(كان عبيد اللّه بن عباس يوم قيادته لهذا الجيش في التاسعة والثلاثين من عمره.)
وقوله له - بعد ذلك -: «وشاور هذين» دليل آخر على القصد على تذليل خلق صعب، ربما كان يعهده الامام في ابن عمه، وربما كان يخافه كعائق عن النجاح.
أقول: وليس من وجود الخلق المخشوشن في عبيد اللّه - اذا صدق الظن - ما يعيقه عن استحقاق القيادة، وقد استدعته اليها ظروف كثيرة أخرى، على أن بين الخشونة والحياة العسكرية أواصر رحمٍ متينة الحلقات في القديم والحديث.
وفي هذه المناسبة ما يفسح المجال للتساؤل عن الحيثيات التي آثر بها الامام الحسن عليه السلام عبيد اللّه بن عباس للقيادة على مقدمته، وفي الجيش مثل (قيس بن سعد بن عبادة الانصاري) الرجل المعترف بكفاءاته العسكرية وباخلاصه الصحيح لاهل البيت عليهم السلام وبأمانته.وللجواب على هذا السؤال، وجوه:
أولها
أن الحسن حين أراد عبيد اللّه للقيادة على «المقدمة» فرض عليه استشارة كلٍّ من قيس بن سعد وسعيد بن قيس - كما هو صريح عهده اليه - فخرج بذلك من الايثار الذي يؤخذ عليه، اذا كان في هذا الايثار تبعة يخاف منها على مصلحة الموقف. وأصبحت القيادة - على هذا الاسلوب - شورى بين ثلاثة، هم اليق رجاله لها. اما تقديم قيس على صاحبيه وعلى غيرهما من صحابة وزعماء، وايثاره بالقيادة وحده فقد كان - في حينه - مظنّةً لتنافس الاكفاء الآخرين الذين كان يلفهم جناح هذا الجيش. وفي هؤلاء الشخصيات المعروفة في قيادتها الميادين وفي اخلاصها وجهادها وسوابقها، أمثال أبي أيوب الانصاري وحجر بن عديّ الكندي وعدي بن حاتم الطائي وأضرابهم، ممن مرَّ ذكرهم.لذلك كان تقديم ابن عم الامام، بل ابن عم النبي صلى اللّه عليه وآله، وتعيينه «اسماً» ثم الاستفادة من رأي قيس وصاحبه على الاسلوب الذي ذكرنا، تخلصاً لبقاً، لا ينبغي الخلاف فيه، ولا التنافس عليه.
وثانيها
انه كان من الاحتياطات الرائعة للوضع العام يوم ذاك، أن لا يكون القائد في جبهة الامام الحسن عليه السلام الا هاشمياً.وتفسير ذلك، أن سورة التخاذل التي دارت مع قضية الامام الحسن عليه السلام في الكوفة، كانت لا تزال نذيرة تشاؤم كثير في حساب الحسن عليه السلام وكان عليه أن يتخذ من التدابير الممكنة كل ما يدفع عنه - في حاضره وفي مستقبله - لوم الناس وتخطئتهم ونقدهم. ومن السهل على الناس أن يتسرعوا الى التخطئة والنقد متى وجدوا موضعاً للضعف أو منفذاً الى الفشل والحرمان. وكان من المنتظر ان يقولوا فيما لو فشلت قضية الامام الحسن عليه السلام في مسكن أنه لو كان القائد من أهله لكان أولى من غيره بالصبر على المكاره وتحمل العظائم، ولما آل الامر الى هذا المآل.
فكان الاستعداد لغوائل الوضع الراهن بتعيين القائد الهاشمي، تدبيراً دقيق الملاحظة.
وثالثها
أنه لن يكون انسان آخر غير عبيد اللّه بن عباس - لا قيس ولا ابن قيس ولا غيرهما - أشد حنقاً ولا اعنف تألباً على معاوية منه كأبٍ قتل ولداه (الصبيّان) صبراً، فيما أملته فاجعة بسر بن ارطأة يوم غارته على اليمن .فكان من الاستغلال المناسب جداً، اختيار هذا القائد الحانق لقتال قاتل ولديه.
ورابعها
أن جيش «المقدمة» الذي ولي قيادته عبيد اللّه هذا، كان أكثره من بقايا الجيش الذي أعدّه أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة لحرب أجناد الشام، ثم توفي عنه. وكان قيس بن سعد بن عبادة هو قائد(18) ذلك الجيش في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام)والقائم على مداراته. ولهذه السوابق أثرها في توثيق الروابط الشخصية بين القائد والمقود. وكان من السهل على القائد النافذ في جنوده، أن يجنح - متى شاء - الى حرية التصرف التي لا تعبّر عن اتصال ايجابي بالمركز الاعلى، وهو ما كان يجب التحفظ منه، كأهم عنصر في الموقف.وعلى أننا نحترم سيدنا قيساً كما يجب له الاحترام، ولكننا لا ننكر قابلياته الشخصية التي تجوّز عليه هذا اللون من حرية التصرف.
ولا ننسى أنه وقف بين صفوفه - يوم رجعت له قيادة هذا الجيش في مسكن - يخيّرهم بين الالتحاق بالامام على الصلح، وبين الاستمرار على حرب معاوية بلا امام !!..
فأي احتياط كان أحسن من جعل القيادة في غير هذا الرجل وجعله - مع ذلك - المستشار العسكري للاستفادة من كفاءاته ودهائه، وهو ما فعله الامام الحسن تنفيذاً لافضل الرأيين.
ولا يضير هذه السياسة، تعيين قيس للخلافة على القيادة بعد عبيد اللّه بن عباس، لانه لن يكون بعد مقتل سلفه في ميادين مَسكِن - كما كان هو المفروض في نصوص العهد - الا رهن التصميم الذي سار عليه سلفه، والذي لا تسمح بتغييره ظروف الحرب القائمة بين الفريقين، ولعله لن يكون - يومئذ - الا رهن توجيه الامام (القائد الاعلى) مباشرة، وقد علمنا - مما سبق - أن الامام وعدَ مقدمته بالالتحاق بها وشيكاً.وأيّ محذور - بعد هذا - من تعيينه للخلالة على القيادة ما دام مقيداً بتصميم خاص، أو مرتهناً بتسيير الامام واشرافه المباشر.
عدد الجَيش
كان في الكوفة من الجيش العامل في أواسط القرن الاول أربعون الفاً، يغزو كلَّ عام منهم عشرة آلاف (وهو ما تنص على ذكره المصادر الموثوقة).وعلمنا ان أمير المؤمنين علياً عليه السلام كان قد أعدّ للكرّة على جنود الشام أربعين الفاً أو خمسين الفاً - على اختلاف الروايتين - ثم استشهد قبل الزحف بها. والمظنون أن الحصة المدورة من الجيش العامل، كانت بعض هذه العدة التي كان أمير المؤمنين قد أعدّها لحرب معاوية.
ثم انقطع بنا العلم عن موقف هذا الجيش أو ذاك من الحسن بن علي عليهما السلام، ابان دعوته الى الجهاد. وعلمنا من أكثر من مصدر أن المقدمة التي بعث بها الامام الحسن عليه السلام الى لقاء معاوية في «مسكن» كانت تعدّ اثني عشر الفاً، والمرجّح أنها فلول الجيش الذي مات عنه أمير المؤمنين عليه السلام فأجاب الامام الحسن عليه السلام منهم من أجاب وتخلّف الباقي.
ثم علمنا من مصدر آخر أن الكوفة جاشت في صميم تثاقلها يوم الامام الحسن عليه فجنّدت أربعة آلاف اخرى(19).
فهذه ستة عشر الفاً، قام على اثباتها النص الذي لا يقبل النقاش.
وهناك أرقام اخرى لعدد الجيش، مرّ عليها المؤرخون وتضمنّتها بعض التصريحات ذات الشأن. ولكنها خاضعة في ثبوتها للتمحيص والمناقشة.
وفيما يلي نصوص المصادر التي تشير الى تلك الارقام على اختلافها نعرضها اولاً بحرفها، ثم نعود أخيراً الى تدقيقها كما يجب.
«ثم وجه (يعني الحسن) اليه (يعني الى معاوية) قائداً في اربعة آلاف، وكان من كندة، وأمره أن يعسكر بالانبار) مدينة كانت على الفرات (غربي بغداد) تبعد عنها عشرة فراسخ سميت بذلك لانها كانت تجمع بها انابير الحنطة والشعير منذ أيام الفرس، وأقام بها أبو العباس السفاح العباسي الى أن مات، وجدد بها قصوراً وأبنية، ثم اندثرت عمارتها.)
ولا يحدث شيئاً حتى يأتيه أمره. فلما توجه الى الانبار، ونزل بها، وعلم معاوية بذلك، بعث اليه رسلاً، وكتب اليه معهم: انك ان أقبلت اليَّ، اُولّيك بعض كور الشام والجزيرة، غير منفس عليك. وأرسل اليه بخمسمائة الف درهم. فقبض الكندي المال، وقلب على الامام الحسن عليه السلام ، وصار الى معاوية في مائتي رجل من خاصته وأهل بيته. فبلغ ذلك الامام الحسن عليه السلام فقام خطيباً وقال: هذا الكندي توجه الى معاوية، وغدر بي وبكم، وقد أخبرتكم مرة بعد مرة، انه لا وفاء لكم، أنتم عبيد الدنيا، وأنا موجّه رجلاً آخر مكانه، واني أعلم انه سيفعل بي وبكم، ما فعل صاحبكم، ولا يراقب اللّه فيّ ولا فيكم. فبعث اليه رجلاً من مراد في أربعة آلاف. وتقدم اليه بمشهد من الناس وتوكد عليه، وأخبره أنه سيغدر كما غدر الكندي. فحلف له بالايمان التي لا تقوم لها الجبال انه لا يفعل. فقال الامام الحسن عليه السلام: انه سيغدر. فلما توجه الى الأنبار، ارسل اليه معاوية رسلاً وكتب اليه بمثل ما كتب الى صاحبه وبعث اليه بخمسة آلاف (ولعله يريد خمسمائة الف) درهم، ومنّاه أيّ ولاية أحب من كور الشام والجزيرة، فقلب على الامام الحسن عليه السلام ، وأخذ طريقه الى معاوية، ولم يحفظ ما اخذ عليه من عهود..».(20)
ثم ذكر بعد هذا العرض، اتخاذ الامام الحسن عليه السلام النخيلة معسكراً له، ثم خروجه اليها.
«وخرج الناس، فعسكروا ونشطوا للخروج، وخرج الامام الحسن عليه السلام الى المعسكر، واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب وأمره باستحثاث الناس واشخاصهم اليه. فجعل يستحثهم ويخرجهم حتى يلتئم المعسكر. وسار الامام الحسن عليه السلام في عسكر عظيم وعدة حسنة، حتى نزل دير عبد الرحمن، فأقام به ثلاثاً حتى اجتمع الناس. ثم دعا عبيد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، فقال له: يا ابن عم اني باعث معك اثني عشر الفاً من فرسان العرب وقراء المصر..».(21)
روى الزهري فيما ينقله عنه ابن جرير الطبري )ج 6 ص 94) قال:
«فخلص معاوية حين فرغ من عبيد اللّه بن عباس والحسن عليه السلام الى مكايدة رجل هو أهم الناس عنده مكايدة، ومعه أربعون الفاً. وقد نزل معاوية بهم وعمرو وأهل الشام».
وجاء في كلام المسيب بن نجية فيما عاتب به الامام الحسن على صلحه مع معاوية (على رواية غير واحد من المؤرخين) - والنص للمدائني(هو ابو الحسن بن محمد بن عبد اللّه بن أبي سيف البصري الاصل. سكن المدائن ثم انتقل الى بغداد وتوفي بها سنة 215 وهو الذي يكثر ابن ابي الحديد النقل عنه في شرح النهج. وله ما يقرب من مائتي كتاب في مختلف الموضوعات رحمه اللّه.) كما يحدثنا عنه في شرح النهج (ج 4 ص 6) - قال:
«فقال المسيب بن نجية للحسن عليه السلام: ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون الفاً !. أو قال: «بايعت» على اختلاف النقول.»
«كان أمير المؤمنين عليّعليه السلام قد بايعه اربعون الفاً من عسكره على الموت، لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام. فبينما هو يتجهز للمسير قتل عليه السلام واذا أراد اللّه أمراً فلا مردّ له. فلما قتل وبايع الناس ولده الامام الحسن عليه السلام بلغه مسير معاوية في أهل الشام اليه، فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا علياً، وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية - وكان قد نزل مسكن - فوصل الامام الحسن عليه السلام الى المدائن، وجعل قيس بن عبادة الانصاري على مقدمته في اثني عشر الفاً، وقيل بل كان الحسن قد جعل على مقدمته عبد اللّه(هو عبيد اللّه لا عبد اللّه ولا قيس كما ذكرنا آنفاً ونبهنا على بواعث الخطأ في ذكر كل منهما.) بن عباس، فجعل عبد اللّه بن عباس على مقدمته في الطلائع قيس بن سعد بن عبادة..».(22)
اقول: وجرى على مثل هذا الحديث «ابن كثير» والظاهر انه اخذه من الكامل حرفياً.
كلمة الامام الحسن عليه السلام فيما يرويه عنه المدائني في جواب الرجل الذي قال له: «لقد كنت على النصف فما فعلت ؟»، فقال: «أجل ولكني خشيت أن تأتي يوم القيامة سبعون الفاً أو ثمانون الفاً تشخب أوداجهم، كلهم يستعدي اللّه، فيم هريق دمه».(23)
ما رواه ابن قتيبة الدينوري في الامامة والسياسة (ص 151) قال:
وذكروا انه لما تمت البيعة لمعاوية، وانصرف راجعاً الى الشام أتاه - يعني أتى الامام الحسن - سليمان بن صرد، وكان غائباً عن الكوفة، وكان سيد اهل العراق ورأسهم، فدخل على الامام الحسن عليه السلام فقال: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين ! فقال الامام الحسن عليه السلام: وعليك السلام، اجلس للّه ابوك. قال: فجلس سليمان وقال: أما بعد فان تعجّبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية، ومعك مائة الف مقاتل من أهل العراق، وكلهم يأخذ العطاء، مع مثلهم من أبنائهم ومواليهم، سوى شيعتك من اهل البصرة واهل الحجاز !!.
وروى كل من المرتضى في «تنزيه الانبياء»، وابن شهراشوب في «مناقبه» والمجلسي في «البحار» النص الكامل لما دار بين سليمان بن صرد ورفاقه، وبين الامام الحسن عليه السلام. ولم يروِ أحد منهم عن سليمان أو اصحابه فيما عرضوا له من عدد الجيش، أكثر من اربعين الفاً.
فابن قتيبة ينفرد برواية المائة الف عن سليمان، كما ينفرد بالتعبير عن الصلح بلفظ «البيعة» !.
التصريح الذي فاه به زياد ابن أبيه، يوم كان لا يزال عاملاً للحسن بن علي على فارس، وذلك فيما أجاب به على تهديد معاوية اياه، قال:
«ان ابن آكلة الاكباد، وكهف النفاق، وبقية الاحزاب، كتب يتوعدني ويتهددني، وبيني وبينه، ابنا رسول اللّه في تسعين الفاً (وعلى رواية في سبعين الفاً) واضعي قبائع سيوفهم تحت أذقانهم، لا يلتفت أحدهم حتى يموت. أما واللّه لئن وصل اليَّ ليجدني أحمز ضراباً بالسيف(24)
وهكذا توفرت هذه النصوص بمختلف صيغها، على أرقام فرضتها في موضوع عدد الجيش، وتدرّج العدد الكبير فيها من أربعين الفاً الى ثمانين الفاً فمائة الف. والواقع أن المراتب الثلاث بجملتها، معرضة للشك وخاضعة للتمحيص، وحتى أدناها. واليك البيان:
اما اولاً: فالعدد الاعلى (وهو مائة الف أو اكثر، أو تسعون الفاً) فيما يشير اليه زياد ابن أبيه (على رواية اليعقوبي)، أو فيما ينسب الى سليمان بن صرد (برواية ينفرد بها الدينوري خلافاً لمؤرخين كثيرين) مشكوك فيه من جهات:
أهمها أن كلاً من هذين الزعيمين - سليمان وزياد - كانا غائبين عن بيعة الحسن وجهاد الحسن وكوفة الحسن عليه السلام ، طيلة خلافته في الكوفة وكانا قد غادرا مواطنهما في العراق منذ سنتين. وأيّ قيمة لتصريح غائبٍ لم يشهد الوضع السائد في الكوفة، بما كان يجتاح هذه الحاضرة من تحزّب قويّ وتثاقل لئيم فيما واجهت به امامها وصاحب بيعتها.
وان زياداً وسليمان اذ يفرضان هذه الاعداد من الجيش فانما يقيسان حاضر الكوفة على ماضيها، ويظنان أنها جنّدت مع الحسن ما كانت تجنده مع أبيه امير المؤمنين سنة 37 و38 يوم كان كل منهما لا يزال في الكوفة يساهم بنصيبه من تلك الصفوف. هذا اولاً. واما ثانياً، فقد كان من موقف الرجلين كليهما في اللحظة العاطفية التي اندفعا بها الى هذا التصريح، ما يبرر لهما الجنوح الى اسلوب المبالغات، وكانت المبالغة في عدد الجيش تهويلاً قريب التناول من جموح العاطفة الناقمة في سليمان، وهو ينكر على الامام الحسن عليه السلام الرضا بالصلح، وقريب التناول - كذلك - من سياق التهديد والوعيد في زياد وهو يرد في خطابه على تهديد معاوية.
وبعد هذا كله، فليس في هذين التصريحين ما يصح الركون اليه من احصاء أو تعيين أعداد.
وعلمنا ان سليمان هذا، كان صديق المسيب بن نجية وصاحبه الذي تربطه به وشائج أخرى هي أبعد اثراً من الصداقات الشخصية. وقد مرَّ عليك قول المسيّب للحسن عليه السلام في معرض العتاب على الصلح: «ومعك اربعون الفاً». ومن المقطوع عليه أن مثل هذين الصديقين لا يختلفان في قضايا أهل البيت (عليه السلام)اختلافهما في هذا التقدير.
اذاً، فما من سبب لشذوذ كلمة ابن صرد، الا كون راويها الدينوري الذي انفرد في قضية الحسن بعدة روايات لم يهضمها التمحيص الصحيح !.
وشاءت المقادير أن لا يفارق الزعيمان الصديقان الدنيا، حتى يأخذا جوابهما - عمليَّاً - عن عتابهما الطائش الذي قابلا به امامهما أبا محمد عليه السلام، فيما أنكرا عليه من الصلح.
فبايعهما على الاخذ بثأر الحسين عليه السلام سنة 65 هجري ثمانية عشر الفاً من أهل الكوفة، ثم لم يكن معهما حين جدّ الجد في ساحة «عين الوردة» غير ثلاثة آلاف ومائة. ومنيا من خذلان الناس بما ذكّرهما بالصميم من قضايا أهل البيت عليهم السلام.
ثم استشهد سليمان والمسيب وهما زعيما حركة التوّابين في عين الوردة، واستشهد معهما - يوم ذاك - أكثر من كان قد انضوى اليها.
واما ثانياً: فالعدد ثمانون الفاً أو سبعون الفاً، وهو ما تضمنه كلام الحسن في جواب الرجل الذي قال له: «لقد كنت على النصف فما فعلت ؟».
وكلام الحسن - في حقيقته - لا يدل على أكثر من عشرين الفاً على أكبر تقدير، وذلك لان الامام الحسن عليه السلام حين يذكر الذين «تشخب أوداجهم يوم القيامة» ثم يتردد في تعيين عددهم بين السبعين والثمانين الفاً، لا يعني جنوده خاصة، وانما يشير بذلك الى الجيشين المتحاربين جميعاً. وعلمنا ان عدد أهل الشام في زحفهم على الحسن، كان ستين الفاً، فيكون الباقي عدد جيشه الخاص.
وكان تردده في تعيين العدد صريحاً بما أفدناه، لانه لو عنى جيشه دون غيره، لذكره برقمه الذي لا تردّد فيه، وهو أعلم الناس بعدده.
واما ثالثاً: فالعدد أربعون الفاً، وهو الذي سبق الى ذكره غير واحد من المؤرخين، وذكره المسيب بن نجية، فيما رويناه عنه في النص الرابع من النصوص الثمانية. ولا كلام لنا على هذا العدد الا من وجهين.
(أحدهما) أنه لا يتفق وكلمة الحسن نفسه التي أشار بها الى عدد الجيش، وقد عرفت أن كلمته لم تعن أكثر من عشرين الفاً على أكبر تقدير، ولا يتفق وكلمته الاخرى التي وصف بها موقف الناس منه [بالنكول عن القتال]. ومن كان معه أربعون الفاً لم ينكل الناس معه عن القتال، فالعدد اذاً لا يزال معرضاً للشك. (25)
(وثانيهما) أنه عدد أملاه الظن على القائلين به، فرأوا ان امير المؤمنين (عليه السلام)كان قد جهَّز لحملته الاخيرة على الشام أربعين الفاً، ثم اخترمت حياته الكريمة ولمّا يزحف بهذا الجيش، فظنوا - اجتهاداً - أن جنود الاب انضافت الى الابن، وفاتهم أن يقدّروا حيال هذا الظن قيمة التخاذل الذي جوبه به الخليفة الجديد في الكوفة. وبعد، فأي قيمة للاحصاء مبتنياً على هذه الاخطاء. وكانت أغرب روايات الموضوع، رواية الزهري التي تشير الى وجود اربعين الفاً من جيش الحسن، مع قيس بن سعد بن عبادة الانصاري، بعد أن رجعت اليه قيادة المقدمة في «مسكن» بفرار عبيد اللّه ومن معه. ومعنى ذلك ان مقدمة الحسن وحدها كانت قبل حوادث الفرار ثمانية واربعين الف مقاتل !!وهذا ما لا يصح في التاريخ.فلم تكن المقدمة الا اثني عشر الفاً، منذ كان عليها عبيد اللّه بن عباس كما هو صريح الفقرة التي تخص العدد فيما عهد به الحسن الى قائده، حين سرّحه على رأس هذه المقدمة، وصريح نصوص كثيرة للمؤرخين لا يتخللها شك.
وروايات الزهري في قضايا أهل البيت أضعف الروايات، وأشدها ارباكاً لموضوعاتها. وسمه صاحب «دراسات في الاسلام» (ص 16) بانه كان «عاملاً مأجوراً للامويين» وكفى.
على اننا اذا حاولنا التصرف في رواية الزهري هذه وأردنا علاج ارباكها المقصود، فأرجعنا الضمير في قوله «وقد نزل معاوية بهم وعمرو واهل الشام» الى جيش معاوية دون جيش قيس، يكون المعدود حينئذ جنود معاوية التي نزل بها على قيس، وليكن المقصود منهم «اهل العطاء خاصة» وليكن المقصود من «اهل الشام» المتطوعين غير أهل العطاء، ليتم بذلك التوفيق بين روايته هذه، والروايات الاخرى التي تعدّ مقدمة الحسن، والتي تعدّ جنود معاوية.
واما رابعاً: فالعسكر العظيم، وهو تصريح ابن ابي الحديد فيما وصف به مسير الحسن من النخيلة صوب دير عبد الرحمن في طريقه الى معسكراته. والكلمة كما ترى، مجملة لا تأبى الانطباق على العدد الذي ذكرناه آنفاً، فان ستة عشر الفاً «عسكر عظيم»، وان أبيت فعشرين الفاً.
واما خامساً: فرواية البحار، وهي أولى النصوص التي أوردناها في سبيل استيعاب ما روي في الموضوع، وان لهذه الرواية من التناسق في حوادثها المتكرّرة ما يفرض الشك بها فرضاً.وهي تغفل عند عرضها الحوادث المتشابهة تسمية كل من القائدين - الكندي والمرادي - اللذين تفرض أنهما سبقا عبيد اللّه بن عباس الى لقاء معاوية وسبقاه الى الخيانة ايضاً. ولا يعهد في تاريخ قضية من هذا الوزن، اغفال تسمية قائدين في حادثتين من أبشع حوادث الانسان في التاريخ. ولعل الاغرب من ذلك، ان رواية البحار هذه تشير الى اصرار الامام على اتهام القائدين قبل بعثهما، ثم تصرّ على ان الامام بعثهما - مع ذلك - الى لقاء معاوية عالماً بما سيصيران اليه من غدر !!.
وبعض هذا يكفينا عن الاستمرار في نقاش هذه الرواية التي يجب أن نتركها لتعلن هي عن نفسها.
ولم نحصل - بعد هذا كله - على محصل في الموضوع الذي أردناه تحت عنوان «عدد الجيش» ولتكن هذه النصوص - على كثرتها - أحد أمثلتنا التي نقدّمها للقارئ عما نكبت به قضية الحسن في التاريخ، من اختلاف كثير واختلاق صريح، ولا بدع في تقرير هذه الحقيقة وتكرارها وتعظيم خطرها وانكارها والتنبيه الى تبعاتها. فهذه ثمانية نصوص، ليس فيها ما يصبر على النقاش، ولا ما يصح الاعتماد عليه كسند تاريخي. ولم يبق لدينا الا عدد جيش المقدمة، وهو اثنا عشر الفاً، وعدد المتطوعين بعد ذلك في الكوفة، وهو اربعة آلاف، ثم الفصائل التي تواردت على الحسن في دير عبد الرحمن حين اقام بأزائه ثلاثاً - كما اشير اليه آنفاً - فهذه قرابة عشرين الفاً، هي جيش الحسن عند زحفه الى معسكريه في مسكن والمدائن.
اما مقاتلة المدائن نفسها، فقد عرفنا انها لم تتخلف - فيما سبق – عن ميادين علي عليه السلام، ومن البعيد جداً ان يعسكر ابنه الحسن بين ظهرانيهم ثم لا يلتحق به القادرون منهم على حمل السلاح.
وهذا ما يؤكد الظن ببلوغ عدد الجيش في كلا المعسكرين العشرين الفاً او يزيد قليلاً.
وهو «العسكر العظيم» الذي عناه ابن ابي الحديد، وهو - ايضاً - العدد الذي يلتقي بتصريح الحسن عليه السلام - الانف الذكر - ولا أحسن من تصريح الحسن دليلاً فيما يخص قضاياه.
ثم لا نعلم ان الامام الحسن عليه السلام، تلقى بعد وجوده في المدائن أيّ نجدة من أيّ جهة.
المصادر :
1- ابن ابي الحديد( ج 4 ص12)
2- الفخري (ص 74).
3- شرح النهج (4 – 13)
4- شرح النهج (ج 4 ص 13 و10)
5- المسعودي هامش ابن الاثير (ج 6 ص 119)
6- ابن كثير (ج 8 ص 36 – 37)
7- ابن ابي الحديد ج 4: ص 13)
8- ابن ابي الحديد ج 2: ص 191)
9- ابن أبي الحديد (ج 4 ص 13)
10- كلمة الحسن نفسه فيما وصف به أهل الكوفة كما يرويها ابن الاثير (ج 3: ص 62)
11- شرح النهج (ج 4: ص 14)
12- يرجع الى اليعقوبي (ج 2: ص 94)، والى الامامة والسياسة (ص 151)
13- شرح النهج (ج 4 ص 14)
14- اليعقوبي (ج 2 ص 171)
15- الخرايج والجرايح (ص 228 - طبع ايران)
16- الارشاد للشيخ المفيد (ص 170)، وابن ابي الحديد (ج 4 ص 14) واليعقوبي (ج 2 ص 191)
17- السوقية ابن ابي الحديد (ج 4 ص 14) والارشاد (ص 168 - 169) واليعقوبي (ج 2 ص 191)
18- تاريخ ابن كثير (ج 8 ص 14)
19- الخرايج والجرايح للراوندي (ص 228)
20- البحار (ج 10 ص 110)
21- ابن أبي الحديد (ج 4 ص 14)
22- ابن الاثير في كامله (ج 3 ص 61)
23- شرح النهج (ج 4 ص 7)، وابن كثير (ج 8 ص 42)
24- اليعقوبي (ج 2 ص 194)، وابن الاثير (ج 3 ص 166)
25- البحار (ج 10 ص 113)
/ج