عناصِرُ جَيش الامام ألإمام الحسن عليه السلام

«وبعث ألإمام الحسن عليه السلام حجر بن عديّ فأمر العمال - يعني امراء الاطراف - بالمسير، واستنفر الناس للجهاد، فتثاقلوا عنه، ثم خفوا، وخف معه اخلاط من الناس، بعضهم شيعة له ولابيه، وبعضهم محكّمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة،
Sunday, August 31, 2014
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
عناصِرُ جَيش الامام ألإمام الحسن عليه السلام
 عناصِرُ جَيش الامام ألإمام الحسن عليه السلام عليه السلام

 






 

«وبعث ألإمام الحسن عليه السلام حجر بن عديّ فأمر العمال - يعني امراء الاطراف - بالمسير، واستنفر الناس للجهاد، فتثاقلوا عنه، ثم خفوا، وخف معه اخلاط من الناس، بعضهم شيعة له ولابيه، وبعضهم محكّمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم، وبعضهم شكّاك، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين.».(1)
ان جيش ألإمام الحسن عليه السلام تألف من زهاء عشرين الفاً، أو يزيد قليلاً، ولكنا لم نعلم بالتفصيل الطريقة التي اتخذت لتأليف هذا الجيش. والمعتقد انها كانت الطريقة البدائية التي لم تدخلها التحسينات المكتسبة بعد ذلك. وهي - اذ ذاك - الطريقة المتبعة في التجمعات الاسلامية مع القرون الاولى في الاسلام، وهي الطريقة التي لا تشترط لقبول الجندي أو لقبول المجاهد أيّ قابليات شخصية، ولا سناً خاصة، ولا تنزع في مناهج تجنيدها الى الاجبار بمعناه المعروف اليوم. وللمسلم القادر على حمل السلاح وازعه الديني حين يسمع داعي اللّه بالجهاد فاما ان يبعث فيه هذا الوازع، الشعور بالواجب فيتطوع بدمه في سبيل اللّه. واما ان يكون المغلوب على أمره بدوافع الدنيا، فيخمد في نفسه هذا الشعور، ويحرم نصيبه من الاجر ومن الغنيمة اذا قدّر لهذه الحرب الظفر والغنائم.
اما النظم الحديثة المتبعة اليوم في الاجبار على خدمة العلم، ودعوة (مواليد) السنوات المعينة، وفحص القابليات المحدودة، فلم تكن يومئذ ولا هي مما يتفق والتشريع الاسلامي بسعته وسماحته.
وللاسلام اعتداده بصحة حقائقه التي تكفل له بعث الناس الى الطاعة والانقياد. وليس في عناصر هذا الدين إكراه أحد على الطاعة بالقوة. ولكنه دلّهم على السبيلين وأعان على خيرهما بالهدى «والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا» وكان هذا هو شعار الاسلام في جميع ما أمر به أو نهى عنه.
وعلى ذلك جرى رؤساء المسلمين فيما دعوا الناس اليه، وفيما حذّروا الناس منه.
وكان لهم عند اعتزامهم الحرب، دعاواتهم الرائعة، في التحريض على الجهاد، وأساليبهم المؤثرة التي لا تتأخر - غالباً - عن اقناع اكبر عدد من المطلوبين الى حمل السلاح.
فمن ذلك، أنهم كانوا يزيدون في مخصصات أهل العطاء من مقاتلتهم، ويأمرون عمالهم على البلاد فيستنفرون الناس للجهاد، ويبثون السنتهم وخطباءهم وذوي التأثير من رجالهم لبعث الناس الى التطوع في سبيل اللّه عز وجل.
وفعل ألإمام الحسن عليه السلام كل ذلك منذ ولي الخلافة في الكوفة، ومنذ أعلن النفير للحرب. وكان من أوليّاته - كما اشير اليه آنفاً -: انه زاد المقاتلة مائة مائة، وبعث حجر بن عديّ الى عماله يندبهم الى الجهاد، ونهض معه مناطقته الافذاذ من خطباء الناس أمثال عديّ بن حاتم، ومعقل بن قيس الرياحي، وزياد بن صعصعة التيمي، وقيس بن سعد الانصاري. فأنّبوا الناس(2)، ولاموهم على تثاقلهم، وحرضوهم على اجابة داعي اللّه، ثم تسابقوا بأنفسهم الى صفوفهم في المعسكر العام، يغلبون الناس عليه.
ونشرت الوية الجهاد في «أسباع الكوفة» وفي مختلف مرافقها العامة، تدعو الناس الى اللّه عزّ وجل، وتدين بالطاعة لآل محمد عليهم السلام.
وانبعث في الحاضرة المتخاذلة وعي جديد يشبه ان يكون تحسّساً بالواجب، أو استعداداً له.
وكان التثاقل عن الحرب حباً بالعافية أو انصهاراً بدعاوات الشام، قد اخذ حظه من أهل الكوفة وممن حولها.
اما هذا الوعي الجديد الذي يدين لهؤلاء الخطباء المفوَّهين، فلم يلبث أن بعث في كثير من المتثاقلين رغبة، فأثارت الرغبة نشاطاً، فانبثق من النشاط حماس ونجحت دعاوة الشيعة الى حد ما، في اكتساب العدد الاكبر من المتحمسين للحرب، رغم المواقف اللئيمة التي وقفها يومئذ المعارضون في الكوفة «ونشط الناس للخروج الى معسكرهم»(3)
ونجحت - الى حد بعيد - في اكتساب الرأي العام، في الكوفة وأسباعها وقبائلها، وفي الضواحي القريبة التي لا تنقطع بمواصلاتها اليومية، عن اسواق الكوفة، وعن مراكز القضاء والادارة فيها.
وكان من براعة خطباء ألإمام الحسن عليه السلام، انهم أحسنوا استغلال الذهنية المؤاتية في الناس، فبذلوا قصارى امكانياتهم في الدعوة الى أهل البيت تحت ستار الدعوة للجهاد.
وبحّت حناجر الاولياء، فيما يعرضون من مناقب آل محمد ومثالب أعدائهم. ومرّوا على مختلف نوادي الكوفة وأحيائها وأماكنها العامة، ينبهون الناس الى المركز الممتاز الذي ينفرد به سيّدا شباب اهل الجنة اللذان لا يعدل بهما أحد من المسلمين، والى الصلابة الدينية المركزة الموروثة في أهل بيت الوحي، والمزايا التي يستأثر بها هذا الفخذ من هاشم في العلم والطهارة والزهد بالدنيا والتضحية في اللّه والعمل لاصلاح الامة ووجوب المودة على المؤمنين.
ثم ذكروا البيعة وما اللّه سائلهم عنه من طاعة اولي الامر ووجوب الوفاء بالميثاق.
وعرضوا في حماستهم الى الانساب، فاذا هي «مقامة» ظريفة جداً وصادقة جداً ومؤثرة جداً، ملكت الالباب حتى أذهلت وأثارت الاعجاب حتى أدهشت.
ذكروا ألإمام الحسن عليه السلام ومعاوية فقالوا: أين ابن علي من ابن صخر، وابن فاطمة من ابن هند، وأين من جده رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ممن جده حرب، ومن جدته خديجة ممن جدته فتيلة ؟؟.. ولعنوا أخمل الرجلين ذكراً، وألأمهما حسباً، وشرَّهما قديماً وحديثاً، وأقدمهما كفراً ونفاقاً، فعج الناس قائلين آمين آمين. ثم جاءت بعدهم الاجيال، فما استعرض هذه الموازنة الظريفة مسلم من المسلمين، الا سجّل على حسابه (آمين) جديدة.
وعملت هذه الاساليب الحكيمة، والخطب الحماسية البليغة عملها وانتشرت - كما قلنا - القناعة بخذلان الشام والثقة بظفر الكوفة.
وفي الكوفة، وهي الحاضرة الجديدة الجبارة التي طاولت أهم الحواضر الاسلامية الكبرى - يومئذ - أجناس من الجاليات العربية وعير العربية ومن حمراء الناس وصفرائها وممن لم يرضهم الاسلام ولم يُجدهم اعتناقه توجيهاً جديداً، ولا أدباً اسلامياً ظاهراً، الا أن يكونوا قد أنسوا منه وسيلته الى منافعهم العاجلة. فكان هؤلاء لا يفهمون من الجهاد اذا نودي بالجهاد الا دعوته للمنافع ووسيلته الى الغنائم. ورأوا من انتشار القناعة بنجاح هذه الحرب، أن الالتحاق بجيش ألإمام الحسن عليه السلام هو الذريعة المضمونة الى استعجال المنافع والرجوع بالغنائم، فلم لا يكونون من السابقين الاولين الى هذا الجهاد ؟.
ولعلك تتفق معي الآن، على اكتشاف الحوافز التي اندفعت تحت تأثيرها «الاخلاط المختلفة» من رعاع الناس الى الالتحاق بجيش ألإمام الحسن عليه السلام، فاذا باصحاب الفتن، وأصحاب الطمع بالغنائم، وأصحاب العصبيات التي لاترجع الى دين، والشكاك ومن اليهم - جنود متطوعون في هذا الجيش، أبعد ما يكونون في طماحهم وفي طباعهم عن أهدافه وغاياته.
ولم يكن ثمة في نظم التجنيد المتبعة في التجمعات الاسلامية يومئذ - كما بينا آنفاً - ما يحول دون قبول هؤلاء كجنود أو كمجاهدين، لان الكفاءة الاسلامية، والقدرة على حمل السلاح، هي كل شيء في حدود قابليات المجاهد المسلم.
واما الخوارج، فيقول المفيد رحمه اللّه في تعليل التحاقهم بجيش ألإمام الحسن عليه السلام: «انهم كانوا يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة».
ولكنا لا نؤمن بهذا التعليل على اجماله، ولا ننكره على بعض وجوهه وقد يكون ما يقوله المفيد بعض هدفهم، وقد يكون هدفهم شيئاً آخر غير هذا.
وليس فيما نعهده من علاقات «الخوارج» مع ألإمام الحسن عليه السلام وأبي ألإمام الحسن عليه السلام ما يشجعنا على الظن ألإمام الحسن عليه السلام بهم، وان لنا من دراسة أحداث النهروان ما يزيدنا فيهم ريباً على ريب. واذا صح أنهم انما أرادوا قتال معاوية حين تبعوا ألإمام الحسن عليه السلام، وأنهم كانوا لا يقصدون بألإمام الحسن عليه السلام سوءاً، فأين كانوا عن معاوية قبل ذلك، ولِم لم يتألبوا عليه كما كانوا يتألبون على علي عليه السلام في انتفاضاتهم التي حفظها التأريخ ؟..
وكان للخوارج من ذحولهم القريبة العهد، ومن اسلوب دعاوتهم النكراء ما يحفزنا حفزاً الى سوء الظن بما يهدفون اليه في خروجهم مع ألإمام الحسن عليه السلام.
وعلمنا من أحوالهم قبل خروجهم لهذه الحرب، أنهم كانوا يداهنون الناس ويجاملون ألإمام الحسن عليه السلام، بعد وقيعتهم الكافرة بالامام الراحل عليه السلام، يتقون بذلك غوائل الكراهة العامة التي غمرتهم في أعقاب الفاجعة الكبرى.
أفلا يقرب الى الذهن، أن يكون من جملة أساليب دهائهم الذي اضطروا اليه تحت ضغط الظروف الموقتة، ان يتظاهروا بالتطوع في الجيش كما لو كانوا جنوداً مناصحين، وان يبطنوا من وراء هذا التظاهر مقاصدهم فاذا هم جنود مبادئهم المعروفة بل مبادئهم المبطنة التي لم تعرف لحد الآن.
وكانت فكرة «الخروج» بذرةً خبيثةً انبثقت عن قضية التحكيم بصفين، ومنها سمّوا «المحكّمة»، ورسخت جذور هذه الفكرة كعقيدة مكينة في نفوس هؤلاء، واستطالت بمرور الزمن، فبسقت عليها أشجار أثمرت للمسلمين الواناً من الخطوب والنكبات.
وكان الخوارج على ظاهرتهم المخشوشنة في الدين، قوماً يحسنون المكر كثيراً.
فلم لا يغتنمون ظروف الحرب القائمة بين عدوين كبيرين من اعدائهم ؟. ولمَ لا يكونون في غمار هذا الجيش الزاحف من الكوفة يقتنصون الفرص المؤاتية، بين تجهيزات المجاهدين، والحركات السوقية، والمعارك المنتظرة التي ستكون في كثير من أيامها سجالاً - والفرص في الحرب السجال أقرب تناولاً، وأيسر حصولاً، وأفظع مفعولاً، اذا حذق المتآمرون استخدامها - ؟.
ولا أريد أن انكر - بهذا - عداوتهم لمعاوية وايثارهم قتاله بكل حيلة كما أفاده شيخنا المفيد (رحمه اللّه). ولكني أرى أَنهم كانوا يرمون من خطتهم الى غرضين... وما من غرض للخوارج في ثوراتهم ومؤامراتهم الا اقتناص الرؤوس العالية في الاسلام ! سواء في العراق أو في مصر أو في الشام. وعشعشت بين ظهراني هؤلاء القوم كوامن الغيلة فغلبت على سائر مناهجهم الاخرى، فمشوا مع ألإمام الحسن عليه السلام ولكن الى الفتنة، وحبوا في طريق الجهاد ولكن الى الفساد. وكانت الطعنة المركزة الجريئة التي «أشوت» ألإمام الحسن عليه السلام عليه السلام في «مظلم ساباط»، هي الحلقة الجهنمية الثانية من سلسلة جرائم هذه العصابة الخطرة في البيت النبوي العظيم.
وكلتا الجريمتين وليدة المؤامرات السرية النشيطة التي حذقها الخوارج الطغام، في مختلف المناسبات.
وشاء اللّه بلطفه أن لا تبلغ طعنة ابن سنان الاسدي من ألإمام الحسن عليه السلام، ما بلغته بالامس القريب ضربة صاحبه ابن ملجم المرادي من أمير المؤمنين أبي ألإمام الحسن عليه السلام.
ومثّلت هذه المؤامرة الدنيئة أفظع قطيعة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من نوعها، بما حاولته من القضاء على الامام الثاني - سبطه الاكبر -. وازدلفت الى معاوية بالخدمة الفريدة التي لا تفضلها خدمة اخرى لاهدافه، من القوم الذين كان يقال عنهم «انهم انما خرجوا مع ألإمام الحسن عليه السلام لانهم يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة» !!
وهكذا ثبت للامام ألإمام الحسن عليه السلام بصورة لا تقبل الشك، نيات المحكّمة معه رغم مجاملاتهم الكاذبة له. وكان هو منذ البداية شديد الحذر منهم ولكنه كان يعاملهم - دائماً - على ضغن مكتوم.
وليس أنكى من عدوّ في ثوب صديق. ذلك هو العدو الذي ينافقك ظاهراً، ويحاربك سراً. وأنكى أقسام هذا العدو عدو يحاربك بذحوله وعصبيته كما حاربت الخوارج ألإمام الحسن عليه السلام بذحولها وعصبيتها.
وهكذا قدّر لجيش ألإمام الحسن عليه السلام، أن يتخم بالكثرة من هؤلاء واولئك جميعاً، وأن يفقد بهذا التلوّن المنتشر في صفوفه، روحية الجيش المؤمل لربح الوقائع. وأن يبتلي بالصريح والدخيل من كيد العدوين الداخل والخارج، وفي المكانين العراق والشام معاً.
وأحر بجيش يتألف من أمثال هذه العناصر، أن يكون مهدداً لدى كل بادرة بالانقسام على نفسه، والانتقاض على رؤسائه.
ولم يكن الجهاد المقدس - يوماً من الايام - وسيلة لطمع مادي، ولا مجالاً للمؤامرات الشائكة، ولا مظهراً للعصبيات الجاهلية الهزيلة، ولا مسرحاً لتجارب الشكاكين.
و«ازدادت بصيرة ألإمام الحسن عليه السلام بخذلان القوم له»(4)، وتراءى له من خلال ظروفه شبح الخيبة الذي ينتظر هذه الحرب في نهاية مطافها، اذ كانت العدة المدخرة لها، هي هذا الجيش الذي لا يرجى استصلاحه بحال.
وأثر عنه كلمات كثيرة في التعبير عن ضعف ثقته بجيشه.
وكان من أبلغ ما أفضى به في هذا الصدد خطابه الذي خاطب به جيشه في المدائن.
وقال فيه:
«وكنتم في مسيركم الى صفين، ودينكم أمام دنياكم. وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم. وأنتم بين قتيلين، قتيل بصفين تبكون عليه، وقتيل بالنهروان تطلبون بثاره. فأما الباقي فخاذل، واما الباكي فثائر..». (5)
وهذه هي خطبته الوحيدة التي تعرض الى تقسيم عناصر الجيش من ناحية نزعاته واهوائه في الحرب.
فيشير بالباكي الثائر الى الكثرة من أصحابه وخاصته، وبالطالب للثأر الى الخوارج الموجودين في معسكره [وما كان ثأرهم الذي يعنيه الا عنده] ويشير بالخاذل الى العناصر الاخرى من اصحاب الفتن واتباع المطامع وعبدة الاهواء.
واستطرد التاريخ بين صفحاته أسطراً قاتمة دامية. بما انقاد اليه الاغرار المفتونون من هذه «العناصر»، وبما صبغوا به ميدان الجهاد المقدس - بعد ذلك - من اساليب الغدر، والخلاف، ونقض العهود، والمؤامرات، ونسيان الدين، وخفر الذمام... حتى قد عادت بقية آثار النبوة - متمثلة بالطيبين من آل محمد وبنيه عليهم السلام - نهباً صيح في حجراتها . وبقي علينا ان نستمع هنا الى ما يدور في خلد كثير من الناس حين يدرسون هذا العرض المؤسف لعناصر جيش ألإمام الحسن عليه السلام، فيسألون: لماذا فسح ألإمام الحسن عليه السلام مجاله لهذه العناصر ؟ ولماذا تأخر بعد ذلك عن تصفية جيشه بسبيل من هذه السبل التي يفزع اليها رؤساء الجيوش في تصفية جيوشهم بقطع العضو الفاسد، أو بادانته، أو باقصائه على الاقل ؟.
ونحن من هذه النقطة بازاء قلب المشكلة وصميمها على الاكثر.
ونقول في الجواب على هذا السؤال:
اولاً: ان الاسلام كما الغى الطبقات فيما شرعه من شؤون الاجتماع، الغاها في الجهاد ايضاً، فكان على اولياء الامور أن لا يفرقوا في قبولهم الجنود بين سائر طبقات المسلمين، ما دام المتطوع للجندية مدّعياً للاسلام وقادراً على حمل السلاح. ولما لم يكن أحد من هؤلاء «الاخلاط» الذين التحقوا بألإمام الحسن عليه السلام، الا مدّعياً للاسلام وقادراً على حمل السلاح، فلا مندوحة للامام - بالنظر الى صميم التشريع الاسلامي - عن قبوله.
وثانياً: ان النبي نفسه صلى اللّه عليه وآله، وأمير المؤمنين ايضاً، منيا في بعض وقائعهما بمثل هذا الجيش، ولا يؤثر عنهما انهما منعا قبول أمثال هؤلاء الجنود في صفوفهما، ولا طردا أحداً منهم بعد قبوله، مع العلم بأن كلاً منهما، جنى بعد ذلك أضرار وجود هذه العناصر في كل من ميدانيهما.
فقالت السير عن واقعة حنين ما لفظه بحرفه: «رأى بعض المسلمين كثرة جيشهم فأعجبتهم كثرتهم، وقالوا سوف لا نغلب من قلة، ولكن جيش المسلمين كان خليطاً، وبينهم الكثيرون ممن جاء للغنيمة..».
وجاء في حوادث اقفال المسلمين من غزوة بني المصطلق ما يشعر بمثل ذلك.
وقالوا عن حروب علي عليه السلام: «كان جند علي في صفين خليطاً من امم وقبائل شتى، وهو جند مشاكس معاكس لا يرضخ لامر ولا يعمل بنصيحة..».
وقال معاوية - فيما يحكيه البيهقي في «المحاسن والمساوئ»: «وكان - يعني علياً عليه السلام - في أخبث جيش وأشدهم خلافاً، وكنت في أطوع جند واقلهم خلافاً».
اقول: وما على ألإمام الحسن عليه السلام الا أن يسير بسنة جده وبسيرة أبيه، ومن الحيف أن يطالب بأكثر مما اتى به جده وأبوه، وكفى بهما اسوة حسنة وقدوة صالحة.
وكان التحرّج في الدين والالتزام بحرفية الاسلام يقيدان ألإمام الحسن عليه السلام في كل حركة وسكون، ولكنهما لا يقيدان خصومه فيما يفعلون أو يتركون، ولولا ذلك لرأيت تاريخ هذه الحقبة من الزمن تكتب على غير ما تقرأه اليوم.
وثالثاً: فان معالجة الوضع بما يرجع اليه رؤساء الجيوش في تنقية جيوشهم بالقتل، أو بالافصاء، أو بالادانة، كان في مثل ظروف ألإمام الحسن عليه السلام تعجلاً للنكبة قبل أوانها - كما ألمحنا اليه في غمار الفصل الرابع - وسبباً مباشراً لاثارة الشقاق واعلان الخلاف ورفع راية العصيان في نصف جيشه على أقل تقدير ومعنى ذلك القصد الى اشعال نار الثورة في صميم الجيش. ومعنى هذا ان ينقلب الجهاد المقدس الى حرب داخلية شعواء، هي أقصى ما كان يتمناه معاوية في موقفه من ألإمام الحسن عليه السلام وأصحابه، وهي أقصى ما يحذره ألإمام الحسن عليه السلام في موقفه من معاوية وأحابيله.
وشيء آخر:
هو أن ألإمام الحسن عليه السلام، لم يكن له من عهده القصير الذي احتوشته فيه النكبات بشتى ألوانها، مجال للعمل على استصلاح هذه الالوان من الناس، وجمعهم على رأي واحد. بل ان ذلك لم يكن - في وقته - من مقدور أحد الا اللّه عزّ وجل، ذلك لان الصلاح في الاخلاق ليس مما يمكن تزريقه في الزمن القليل، وانما هو تهذيب الدين وصقال الدهر الطويل، ولان التيارات المعاكسة التي طلعت على ذلك الجيل بأنواع المغريات، حالت دون امكان الاصلاح وجمع الاهواء، الا من طريق المطامع نفسها، وكان معنى ذلك معالجة الداء بالداء، وكان من دون هذه الاساليب في عرف ألإمام الحسن عليه السلام حاجز من أمر اللّه.

عبيدُ اللّه بن عبّاس

اما ذلك القائد الملتهب بالحماسة للحرب، والموتور من معاوية بابنيه المقتولين صبراً في اليمن، فقد كان منذ انفصل بجيشه من دير عبد الرحمن، لا ينفك يتسقط أخبار الكوفة، وانه ليعهد في الكوفة دعاوتها الشيعية السائرة على وتيرتها المحببة، والذاهبة صعداً في نشاطها والتي كان ينتظر من تعبئتها النجدات التي يجب أن لا تنقطع عنه.
ونمى اليه، وقد انتهى الى «مسكن» وهي النقطة التي التقى عندها الجيشان المتحاربان، أن الدعاوات النشيطة البارعة في أسباع الكوفة لم تئمر شيئاً جديداً، الا ان تكون بعض الفصائل من مقاتلة الاطراف أو من متطوعة المدائن نفسها، قد التحقت بمعسكرها هناك.
وبلغه أن المناورات العدوة التي كان يقودها بعض الزعماء الكوفيين هي التي أحبطت المساعي الكثيرة لرجالات الشيعة، وهي التي عرقلت النفير العام بنطاقه الواسع الذي كان ينتظر نتيجة لذلك النشاط المحسوس.
ولم يكن عجيباً، ان تغيظ هذه الانباء عبيد اللّه بن العباس فتملأ اهابه ثورة على الوضع وحنقاً على الناس.
وكان عليه كقائد جيش ضعف أمله بالنجدات القريبة التي كان يعلق عليها أروع آماله، أن ينتفع من هذا الدرس الذي أملته عليه ظروف الكوفة، وأن يرجع الى قواته هذه فيوازن بها قوات عدوه التي تنازله وجهاً لوجه، والتي علم أنها لا تقلّ عن ستين الفاً من أجناد الشام المعروفين بالطاعة العمياء لأمرائهم وقوادهم.
ولم يكن التفاوت بالعدد مما يستفزه كثيراً، ولكنه كان شديد العناية بالمزايا المعنوية التي يتحلى بها جنود الفريقين. وكان القائد الحريص على روحية جيشه التي هي كل ما يدخره للقاء عدوه.
ولاح له في سبيل موازنته، اشتراك «الاخلاط» من العناصر المختلفة في جيشه. وانه ليستقبل حرباً لن تجدي فيها غير الكثرة المخلصة من المحاربين الاشداء، فما شأن الجماعات التي لم تفهم الجهاد الا كوسيلة للغنائم.
وتشاءم عبيد اللّه بن عباس، منذ الساعة الاولى التي يمم بها معسكره في «مسكن»، تشاؤماً كان له أثره في المراحل القريبة مما استقبله من خطوات.
وكان أنكى ما يخافه على مقدّرات جيشه، أن تتسرب الى صفوفه أخبار التعبئة الفاشلة في الكوفة، أو أن تحبو اليه أحابيل معاوية بما تحمله من أكاذيب ومواعيد، وهاهم أولاء وقد جمعهم صعيد واحد ومشارع واحدة واظلتهم سماء مسكن جميعاً، وماذا يؤمنه من أن يكون مع جنوده أو من جنوده انفسهم من هو بريد معاوية في الافساد عليه وعلى الامام. وكانت أسلحة معاوية (الباردة) أروع أسلحته في هذا الميدان بل في سائر ميادينه.
وصدق ظن عبيد اللّه.
فاذا بباكورة دسائس معاوية تشق طريقها الى معسكر مسكن، وفي هذا المعسكر من أصحاب ألإمام الحسن عليه السلام مخلصون ومنافقون، وآخرون يؤثرون العافية ويتمنون لو صدقت الشائعة الجديدة، وكانت الشائعة الكاذبة «أن ألإمام الحسن عليه السلام يكاتب معاوية على الصلح، فَلمَ تقتلون انفسكم»(6)
ولم يُجدِ ابن عباس أن يعلم هو وخاصته كذب الشائعة، واصطدامها بالواقع الذي لا يقبل الشك، لان ألإمام الحسن عليه السلام الذي لا يزال يشمّر للحرب في رسله الى الاطراف، وفي رسائله الى معاوية، وفي خطبه بالكوفة، لن يكتب في صلح ولن ينزل عن رأي ارتآه.
ولكنها كانت أحبولة الشيطان الرائعة الصنع.
وارتفعت أصوات المخلصين من الانصار، تدعو الناس الى الهدوء، وتستمهلهم ريثما يصل بريد المدائن، ولكنها كانت صيحات في واد، ونفخات في رماد، واجتاح الموقف ارتباك مؤسف لا يناسب ساحة قتال.
وتخاذل عبيد اللّه للخدعة الخبيثة التي أصابت المحزَّ من موقفه الدقيق.
فخلا بنفسه، وانقبع تحت سماء خيمته البعيدة عن ضوضاء الناس. ورأى ان قيادته هذه ستطوح بمكانته العسكرية الى أبعد الحدود، فثار لسمعته وحديث الناس عنه، وندم على قبولها. وكان من دفعات الحدّة التي طبع عليها، أن لعن الظروف التي عاكسته في رحلته العسكرية هذه والظروف التي خلقت منه قائداً على هذه الجبهة. ثم انطوى على نفسه تحت كابوس من القلق وحب الذات لا يدري ماذا يصنع.
ورأى اخيراً [وكان المخرج الذي بلغته قصارى براعته] أن يتقدم باستقالته، نزولاً على حكم ملكاته الانانية التي كان يستكين لها راغباً عامداً. وما يدرينا، فربما لم يكن له من القابليات الشخصية ما يمكنه من محاسبة نفسه والتفكير في اصلاح ما يمر به من اخطاء أو ما يفجؤه من نكبات.
وكان عليه - وقد صمم على الاستقالة - أن يترك مقر القيادة الى مصيرها الذي لا يعدو رأي الامام، أو يتخلى عنها لخليفته وهو (قيس بن سعد بن عبادة الانصاري).
ولكنه فطن - ولما يغادر فسطاطه المترفع الذي كان يقع على جانب بعيد من مضارب جنوده، والذي شهد وحده ثورة القائد المتخاذل، وسمع كما احتملها ظرف اخيه الحسين، فيما كان قد اصطلح عليه من مضايقات هي في الكثير من ملامحها، صورة طبق الاصل عن ظروف أخيه، وقد خرج منها بالشهادة دون الصلح، وكانت آية خلوده في تاريخ الانسانية الثائرة على الظلم.
اذاً، فلماذا لم يفعل ألإمام الحسن عليه السلام اولاً، ما فعله الحسين اخيراً ؟.
ألِجبُنٍ - واستغفر اللّه - وما كان الحسين بأشجع من ألإمام الحسن عليه السلام جناناً، ولا امضى منه سيفاً، ولا اكثر منه تعرضاً لمهاب الاهوال. وهما الشقيقان بكل مزاياهما العظيمة، خُلُقاً، وديناً، وتضحيةً في الدين، وشجاعة في الميادين، وابنا أشجع العرب، فأين مكان الجبن منه يا ترى ؟.
أم لطمع بالحياة، وحاشا الامام الروحي المعطر التاريخ، أن يؤثر الحياة، على ما ادخره اللّه له من الكرامة والملك العظيم، في الجنان التي هو سيد شبابها الكريم، والطليعة من ملوكها المتوجين، وما حياة متنازل عن عرشه، حتى تكون مطمعاً للنفوس العظيمة التي شبت مع الجهاد، وترعرعت على التضحيات ؟.
أم لانه رضي معاوية لرياسة الاسلام، فسالمه وسلم له، وليس مثل ألإمام الحسن عليه السلام بالذي يرضى مثل معاوية، وهذه كلماته التي أثرت عنه في شأن معاوية، وكلها صريحة في نسبة البغي اليه، وفي وجوب قتاله، وفي عدم الشك في أمره، وفي كفره اخيراً.
فيقول فيما كتبه اليه أيام البيعة في الكوفة: «ودع البغي واحقن دماء المسلمين، فواللّه مالك خير في أن تلقى اللّه من دمائهم بأكثر مما انت لاقيه به»(7)
ويقول وهو يجيب أحد اصحابه العاتبين عليه بالصلح: «واللّه لو وجدت انصاراً لقاتلت معاوية ليلي ونهاري»(8)
ويقول في خطابه التاريخي في المدائن «انا واللّه ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم..».
ويقول لابي سعيد فيما نقلناه عنه آنفاً: «علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول اللّه لبني ضمرة وبني أشجع ولاهل مكة، حين انصرف من الحديبية، اولئك كفار بالتنزيل، ومعاوية وأصحابه «كفار» بالتأويل.
اذاً، فما سالم معاوية رضا به، ولا ترك القتال جبناً عن القتال، ولا تجافى عن الشهادة طمعاً بالحياة، ولكنه صالح حين لم يبق في ظرفه احتمال لغير الصلح، وبذلك ينفرد ألإمام الحسن عليه السلام عن الحسين، نعم، ومن هنا كان مهبّ الرياح التي اجتاحت قضية ألإمام الحسن عليه السلام بين قضايا أهل البيت عليهم السلام، ومن هنا جاءت الشبهات التي نسجت هيكل المشكلة التاريخية التي لغا حولها اللاغون ما شاء لهم اللغو، فزادوا الواقع تعقيداً وابتعاداً به عن فهم الناس.
ثم كان من طبيعة هذا اللغو - أبعد ما يكون عن التغلغل في الصميم من تسلسل الحوادث - أن يرتجل الاحكام، وأن يتناول قبل كل شيء سياسة ألإمام الحسن عليه السلام فينبزها بالضعف، ويتطاول عليها بالنقد غير مكترث ولا مرتاب.
وسنرى بعد البحث، أيّ هاتيك الآراء مما اختاره ألإمام الحسن عليه السلام أو مما افترضه الناقدون، كان أقرب الى الصواب، وانفذ الى صميم السياسة.وما كان ألإمام الحسن عليه السلام في عظمته بالرجل الذي تستثار حوله الشبه، ولا بالزعيم الذي يسهل على ناقده أن يجد المنفذ الى نقده والمأخذ عليه.
واذ قد انتهينا الآن عامدين، الى مواجهة المشكلة في صميمها، وبما حيك حولها من نقدات ونقمات، فمن الخير أن نسبق الكلام على حلها، باستحضار حقائق ثلاث، هنَّ هنا أصابع البحث التي تمتد بتدّرج رقيق الى كشف الغطاء عن السرّ، فاذا الموضوع كله وضوح بعد تعقيد، وعذر بعد نقمة، وتعديل بعد تجريح.
الاولى في بيان معنى الشهادة.
والثانية في رسم صورة مصغرة عن الواقع الذي حاق بألإمام الحسن عليه السلام في لحظاته الاخيرة في «المدائن».
والثالثة في خطة معاوية تجاه أهداف ألإمام الحسن عليه السلام.
وسيجرنا البحث الى التلميح بحقائق تقدم عرضها في أطواء دراستنا السابقة في الكتاب، ولكن الحرص على استيفاء ما يجب أن يقال هنا، هو الذي سوّغ لنا هذا التجاوز فرأيناه جائزاً.

1- الشهادة في اللّه:

وهي بمعناها الذي يصنع الحياة، تضحية النفس لاحياء معروف او اماتة منكر.
وليس منها التضحية لغاية ليست من سبل اللّه، ولا التضحية في ميدان ليس من ميادين الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فلو قتل كافر مسلماً في ساحة جهاد، كان المسلم شهيداً.
ولو قتل باغ مسلماً في ميدان دفاع كان المسلم شهيداً.
اما لو قتل مسلم مسلماً في نزاع شخصي، أو قتله انتصاراً لمبدأ ديني صحيح، فلا شهادة ولا مجادة، ذلك لان الكرامة التي تواضع عليها تاريخ الانسانية للشهيد، هي أجرة تضحيته بروحه في سبيل المصلحة العامة فلا الحوادث الشخصية، ولا التضحيات التي تناقض المصلحة في خط مستقيم، مما يدخل في معنى الشهادة.
وقتلة اخرى، أضيع دماً، وأبعد عن «الشهادة» معنى واسماً، هي ميتة رئيس يثور به أتباعه وذوو الحق في أمره، فيلقونه ارضاً. والمجموع في كل مجتمع هو مصدر السلطات لكل من يتولى شيئاً من أموره باسمه، وكانت هذه هي القاعدة التي بنيت عليها السلطات الجماعية في الاسلام، وعلى هذه القاعدة قال المسلم الاول لعمر بن الخطاب: «لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا».
وانما كانت هذه القتلة أضيع دماً، وأبعد عن الشهادة اسماً، لان الايدي الصديقة التي اجتمعت على اراقة هذا الدم، كانت في ثورتها لحقها، وتضافرها الناطق ببلاغة حجتها، أولى عند الناس بالعذر.. «ولان الامة التي ولّته هي التي تقيم عليه الحدود» - على حد تعبير القفال الشافعي -.فعثمان - مثلاً - الذي كان ثالث ثلاثة من أكبر الشخصيات التاريخية، التي هزّت الارض بسلطانها المرهوب، مات مقتولاً بسلاح الثائرين من ذوي الحق في أمره. فلم يستطع التاريخ، ولم يوفق اصدقاؤه في التاريخ،أن يسجلوا له «الشهادة» كما تقتضيها كلمة «شهيد».
أما ذلك العبد الاسود الفقير، الذي لم يكن له من الاثر في الحياة، ما يملأ الشعور أو يشغل الذاكرة [جون مولى أبي ذر الغفاري]، فقد أرغم التاريخ على تقديسه، لانه قتل في سبيل اللّه فكان «الشهيد» بكل ما في الكلمة من معنى.
اذاً، فليس من شروط الشهادة ولا من لوازم كرامتها، أن لا تكون الا في العظيم، وليس من شروط العظيم اذا قتل أيّ قتلة كانت، ان يكون شهيداً على كل حال.
ولندع الآن هذا التمهيد لنخطو عنه الى الموضوع الثاني، ثم لنأخذ منه حاجتنا عند اقتضاء البحث.

2- صورة مصغرة عن الوضع الشاذ في المدائن:

أن خيرة أجناد ألإمام الحسن عليه السلام كان في الركب الذي سبقه في مقدمته الى «مسكن»، وأن الفصائل التي عسكر بها ألإمام الحسن عليه السلام في «المدائن» كانت من أضعف الجيوش معنوية، ومن أقربها نزعة الى النفور والقلق والانقسام.
و أنه فوجئ في أيامه الاول من المدائن - ولما يتلقَّ نجداته من معسكراته الاخرى - ببوادر ثلاث، كانت نذر الكارثة على الموقف.
1- أنباء الخيانة الواسعة النطاق في «مسكن»
2- الشائعة الاستفزازية التي ناشدت الناس بأن ينفروا، لان قيس بن سعد - وهو القائد الثاني على جيش مسكن - قد قتل
3- فتنة الوفد الشامي الذي جاء ليعرض كتب الخونة الكوفيين على الامام، ثم خرج وهو يعلن في المعسكر أن ألإمام الحسن عليه السلام اجاب الى الصلح!.
وفي هذا الجيش أصحاب الفتن، وأصحاب الطمع بالغنائم، والخوارج، وغيرهم، ولم يكن لهؤلاء مرتع أخصب من هذه الفتن التي زرعتها هذه البوادر المؤسفة الثلاث.
وجمع ألإمام الحسن عليه السلام الناس فخطبهم وناشدهم سلامة النية وحسن الصبر، وذكرهم بالمحمود من أيامهم في صفين، ثم نعى عليهم اختلافهم في يومه منهم. وكان أروع ما أفاده ألإمام الحسن عليه السلام من خطابه هذا، أنه انتزع من الناس اعترافهم على انفسهم بالنكول عن الحرب صريحاً، واستدرجهم الى هذا الاعتراف بما تظاهر به من استشارتهم فيما عرضه عليه معاوية، فقال في آخر خطابه: «الا وان معاوية دعانا لامر ليس فيه عزّ ولا نَصفة، فان أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه الى اللّه عزّ وجل بظبا السيوف، وان أردتم الحياة قبلناه منه وأخذنا لكم الرضا ؟». فناداه الناس من كل جانب: «البقية البقية وأمض الصلح»
أقول: وليس في تاريخ قضية ألإمام الحسن عليه السلام روايتان كثر رواتهما حتى لقد أصبحت من مسلمات هذا التاريخ، كرواية جواب الناس على هذه الخطبة بطلب البقية وامضاء الصلح، ورواية ثورة الناس في المدائن انكاراً للصلح والحاحاً على الحرب!!. وليت شعري. فأيّ الرأيين كان هدف هؤلاء الناس ؟.
وهل هذه الا بوادر الانقسام الذي أشرنا اليه آنفاً، بل «الفوضى» التي لن يستقيم معها ميدان حرب، والتي لا تمنع ان يكون المنادون بالصلح من كل جانب هم المنادين بالحرب انفسهم.
وما للفوضى ودعوة جهاد وصحبة امام ؟!
وعلى أيٍّ، فقد كان هذا أحد الوان معسكر المدائن وأحد ظواهر التلوّن في عساكره وتحكّم العناصر المختلفة في مقدراته.
ولقد تدل ملامح النداء بالتكفير للحسن عليه السلام من قبل الثائرين عليه من جنوده هناك، أنه كان لسان حال «الخوارج»، وكانت هذه هي لغتهم النابية اذا استشرى غضبهم على أحد من المسلمين أو أئمة المسلمين. وانهم اذ يستغلون هذه اللحظة، أو يبعثونها من مرقدها، فانما كانوا يقصدون التذرّع الى أعظم جريمة في الدم الحرام، وفق مبادئهم الجهنمية التي طعن بها أحدهم الامام ألإمام الحسن عليه السلام في فخذه فشقه حتى بلغ العظم!.
وتدل ملامح النهب والسلب الذي مزّق الستار وتناول حتى رداء ألإمام الحسن عليه السلام ومصلاه، على أنه كان عمل الفريق الآخر الذي سمته المصادر «أصحاب الطمع بالغنائم».
ويدل طغيان الفتنة وسرعة انتشار الاضطرابات في المعسكر على أنه صنيعة «أصحاب الفتن» الذين كان يعج بهم هذا الجيش منذ كان في الكوفة ومنذ انتقل الى المعسكرين تحت لواء الجهاد المقدس !.
وهكذا جمحت الفتنة في المدائن جماحها الذي خرجت به من أعنّة المخلصين والمنظمين، وحال الاكثرون بأحداثهم دون قيام الاقلين بواجبهم، ولم يعد لهذا الجيش من الاستقرار ما يستطيع به الثبات، ولا من الاهداف الا الاهداف الطائشة. فان لم يتسنَّ لهم قتال معاوية فليقتلوا ألإمام الحسن عليه السلام امامهم، وان لم يبلغوا غنائم الحرب من أعدائهم فليتبلغوا بالغنائم من نهب أصدقائهم، وان لم يمكنهم الفرار الى معاوية - كما فعل أمثالهم في المعسكر الثاني - فليكتبوا الى معاوية ليجيء هو اليهم !
وكان هذا هو ما حفظه التاريخ على هذه المجموعة من الناس، أمّا ما نسيه التاريخ أو تناساه أو حيل بينه وبين ذكره، فذلك ما لا يعلمه الا اللّه عزّ وجل.
تُرى، فهل لو وضعنا معاوية مكان ألإمام الحسن عليه السلام من هذه اللحظة أو من هذا الجيش بما لمعاوية من دهاء وسخاء، أكان يستطيع أن يخرج من مأزقه بأحسن مما خرج به ألإمام الحسن عليه السلام مضمون السلامة على مبادئه وخططه ومستقبله؟.

3- خطة معاوية من أهداف ألإمام الحسن عليه السلام

ومات بموت عثمان لقب «الوالي» عن معاوية، ولا نعرف ما كان يجب أن يلقب به بعد ذلك، ولا نوع مسؤوليته في العرف الاسلامي. وقد علمنا أن الخليفتين الشرعيين علياً وابنه ألإمام الحسن (عليهما السلام) لم يوّلياه، فليس هو بالوالي، وعلمنا أن الاسلام لا يتسع في تشريعه لخليفتين في عصر واحد، فليس هو بالخليفة.
اذاً، فما معاوية بعد عثمان ؟.
لا ندري.
نعم، انه شهر السلاح في وجه هذين الخليفتين منذ عزل عن ولاية الشام، ورأينا أن التشريع الاسلامي يثبت للقائم بمثل عمله هذا، لقباً نشك أن يكون معاوية رضي به لنفسه، وهذا اللقب هو «الباغي».
تُرى، فهل كان هو يعرف لنفسه لقباً آخر غير زعامة البغاة ؟.
والمظنون أن معاوية في طموحه العتيد، لم يكن بالذي يزعجه أن يظل مجهول اللقب، أو محكوماً في «الشرع» بلقب الباغي، مادام هو في طريقة الى غزو أكبر الالقاب بالقوة، رضي الشرع أو أبى. فهو الملك - بعد ذلك - على لسان سعد بن أبي وقاص، وهو «الخليفة» و
«أمير المؤمنين» على لسان مسلم بن عقبة والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص، وهو المتنعم الدنيوي الذي «لم يبق شيء يصيبه الناس من الدنيا الا وقد أصابه» - على حد تعبيره عن نفسه -. ولن يضيره بعد اعتراف ابن العاص وابن عقبة وابن شعبة له بالخلافة وامارة المؤمنين، أن يكون التشريع الاسلامي ينكر عليه هذا اللقب، لانه لا يسيغ غزو الالقاب الدينية بالقوة، ولا يسبغ لقب «الخليفة» على أحد، الا عند قرب الشبه بين صاحبه وبين النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)، ويصرفه دائماً عن الرجل الذي يكون بينه وبين النبي كما بين دينين.
ولا ندري على التحقيق مبلغ ما كلفت معاوية هذه الالقاب في دينه، يوم غزاها لنفسه، أو يوم غزاها لابنه يزيد، وانه لاعرف الناس بابنه ؟!.
ولا ندري مبلغ اهتمام الرجل، بمحاسبة نفسه تجاه اللّه، فيما كان يجب أن يحاسبها عليه ؟.
ولكننا علمنا - على ضوء محاولاته الكثيرة في الاخذ والرد -، أنه لم يعن بمحاسبة نفسه قطّ، وعلمنا أن الانانية الطموح كانت تملأ مجاهل نفسه، فتنسيه موقفه الواهن - المفضوح الوهن - الواقف في مهاب الرياح، والمتركز في حقيقته على خيوط العنكبوت، يوم طارت من حواليه الالقاب كلها.
وعلمنا أن قبليته الطاغية الجامحة، كانت تأخذ عليه منافذ تفكيره، فتريه من شهادة ابن العاص له بالخلافة، ومن ترشيح المغيرة بن شعبة ابنه يزيد لامارة المؤمنين، مبرراً يردّ به الصريح من شرائط الاسلام. وهل كانت هذه الشهادة أو ذاك الترشيح، الا نبت المساومات الرخيصة على ولاية مصر وولاية الكوفة، كما هو الثابت تاريخياً؟.
ولا عجب من «ابن أبي سفيان» ان يكون كما كان، وهو الاموي الصريح، أو الاموي اللصيق الذي يعمل جاهداً ليكون أموياً صريحاً.
وللأموية والهاشمية تاريخهما الذي يصعد بهما حتى يلتقيا وينزل معهما كلما نزل الزمان.
وكان من طبيعة «ردّ الفعل» في النفوس التي شبت مع العنعنات القبلية جاهليةً واسلاماً، والتي قبلت الاسلام مرغمة يوم الفتح، ثم لم تهضم الاسلام - كما يريده الاسلام - أن تكون دائماً عند ذحولها من الضغائن الموروثة، والترات القديمة العميقة الجروح.
وكان معاوية - بعد الفتح - وعلى عهد النبوة الطالعة بالنور، الطليق «الحافي القدمين» كما يحدثنا هو عن نفسه. امّا في الدور الذي تململ معه النفوذ الاموي ليسترجع مكانته في المجتمع، وعلى عهد السياسة الجديدة التي رشحت للشورى عضواً أموياً عتيداً، فلِمَ لا يكون ابن عم عثمان والي الشام القوي المرهوب، الذي يصطنع الاعوان والمؤيدين، ويسترضي الاتباع والاجناد والمشاورين، ويتخذ القصور والستور والبوابين، وفي ثروة ولايته ما يسع كل صاحب طمع أو بائع ضمير أو لاحسن قصعة !!.
ولئن كان معاوية في دور النبوة الرعية المخذول العاجز عن الانتصاف لنفسه ولقبيله من القوة التي غلبت على أمره وأمر قبيله، فَلِمَ لا يحاسب تلك القوة حسابها العسير في الدور الذي ملك فيه مقاليد القوة بنفسه أو بقبيله، ولِمَ لا يعود الى طبيعته فيتحسس بذحوله القديمة من الابناء والاخوة والاصحاب، ويأخذ بثاره من المبادئ والاهداف ؟. ولذلك فقد كان من المنتظر المرقوب لمعاوية، أن يشنّ غاراته المسلحة على عليّ وألإمام الحسن (عليهما السلام) في أول فرصة تمكنه من ذلك، وأن يشن معهما حروبه (الباردة) الاخرى، التي كانت أطول الحربين أمداً، وأبعدهما حراً، وأفظعهما نكالاً في الاسلام.
ويستدل من كثير كثير من الاعمال الدبلوماسية التي قام بها معاوية في عهده الطويل الامد، أنه كان قد قرر التوفر على حملة واسعة النطاق لتحطيم المبادئ العلوية، أو قل لتحطيم جوهرية الاسلام متمثلة في دعوة علي وأولاده المطهّرين عليهم السلام.
ويظهر أنه كان ثمة أربعة أهداف تكمن وراء هذه الحملة.
1- شلّ الكتلة الشيعية - وهي الكتلة الحرة - والقضاء تدريجياً على كل منتمٍ الى التشيع وتمزيق جامعتهم.
2- خلق الاضطرابات المقصودة في المناطق المنتمية لأهل البيت والمعروفة بتشيعها لهم، ثمَّ التنكيل بهؤلاء الآمنين بحجة تسبيب الشغب.
3- عزل أهل البيت عن العالم الاسلامي، وفرض نسيانهم على المسلمين الا بالذكر السيئ، والحؤول - بكل الوسائل - دون تيسّر النفوذ لهم، ثم العمل على ابادتهم من طريق الغيلة.
4- تشديد حرب الاعصاب.
ولمعاوية في الميدان الاخير جولات ظالمة سيطول حسابها عند اللّه عزّ وجل كما طال حسابها في التاريخ، وسيجرّنا البحث الى عرض نماذج منها عند الكلام على مخالفاته لشروط الصلح، وهو مكانها من الكتاب.
وكان من أبرز هذه الجولات في سبيل مناوأته لعلي وأولاده ولمبادئهم وأهدافهم، أنه فرض لعنهم في جميع البلدان الخاضعة لنفوذه، بما ينطوي تحت مفاد «اللعن» من انكار حقهم، ومنع رواية الحديث في فضلهم، وأخذ الناس بالبراءة منهم فكان - بهذا - أول من فتح باب اللعن في الصحابة، وهي السابقة التي لا يحسده عليها مسلم يغار على دينه، وتوصّل الى استنزال الرأي العام على ارادته في هذه الاحدوثة المنكرة «بتدابير محبوكة» تبتعد عن مبادئ اللّه عزّ وجل، بمقدار ما تلتحم بمبادئ معاوية.
وان من شذوذ أحوال المجتمع، أنه سريع التأثر بالدعاوات الجارفة القوية - مهما كان لونها - ولا سيما اذا كانت مشفوعة بالدليلين من مطامع المال ومطامع الجاه.
وما يدرينا بِمَ رضي الناس من معاوية، فلعنوا معه علياً وحسناً وحسيناً عليهم السلام ؟ وما يدرينا بماذا نقم الناس على أهل البيت فنالوا منهم كما شاء معاوية أن ينالوا ؟!.
ربما يكون قد أقنعهم بأن علياً وأولاده، هم الذين حاربوا النبي صلى اللّه عليه وآله ابان دعوته، وأنهم هم الذين حرموا ما أحلّ اللّه وأحلّوا ما حرّم اللّه، وهم الذين ألحقوا العهار بالنسب، وهم الذين نقضوا المواثيق وحنثوا بالايمان، وقتلوا كبار المسلمين صبراً، ودفنوا الابرياء أحياء، وصلوا الجمعة يوم الاربعاء(9)
وربما يكون قد أطمعهم دون أن يقنعهم، وربما يكون قد أخافهم دون أن يطمعهم، فكان ما أراد «وارتقى بهم الامر في طاعته الى أن جعلوا لعن علي سنّةً ينشأ عليها الصغير ويهلك الكبير»(10). والمرجّح أن معاوية هو الذي فضّل تسمية هذه البدعة «بالسنّة» فسماها معه المغرورون بزعامته والمأخوذون بطاعته كما أحبَّ، وظلّ الناس بعده على بدعته. الى أن ألغاها عمر بن عبد العزيز - «وأخذ خطيب جامع (حرّان) يخطب ثم ختم خطبته ولم يقل شيئاً من سب أبي تراب كعادته، فتصايح الناس من كل جانب: ويحك ويحك السنة السنة، تركت السنة !(11)
ثم كانت «سنّة معاوية» هي الاصل التاريخي لتكوين هذه الكلمة تكويناً اصطلاحياً آخر، تناسل مع الاجيال، وتنوسيت معه مناسباته السياسية الاولى.
وانتباهة منصفة في تناسق نفسيات الرجل، تغنيك عن استعراض أمثلة كثيرة من أعماله في هذا السبيل..
وبعد هذا، فما ظنك بمعاوية لو قدّر له الظفر في حربه مع ألإمام الحسن عليه السلام، وقدّر للحسن الشهادة في الحرب ؟.
أفكان من سوابق الرجل هذه، ما يدل على أنه سيلزم جانب الاعتدال والقصد، في استغلال انتصاره تجاه فلول الحرب من شيعة ألإمام الحسن عليه السلام والبقية الباقية من الثابتين على العقيدة والايمان ؟ أم أن موجة ابادة ساحقة ستكون هي عنوان علاقاته بهؤلاء، بعد موقفه الصريح من السلالة النبوية نفسها، وبعد أن يكون قد طحن في هذه الحرب أكبر رأس في البيت النبوي العظيم.
ان معاوية سوف لا يتقي بعد ذلك أحداً. وانه سوف لا يتردد سياسياً، ولا يتورع ديناً، من أن يمضي قدماً في تصفية حسابه مع المبدأ الذي أقض مضجعه وأكل قلبه وهزئ بكيانه، منذ ولي عليّ الخلافة، بل منذ طلعت الهاشمية بالنور على الدنيا، بل منذ هزمت المنافرة أمية الى الشام.
وما كان معاوية بالذي يعجز عن وضع «تدابير محبوكة» أخرى لعملية محق الشيعة، بعد مقتل ألإمام الحسن عليه السلام، يحتال بها على المغرورين بزعامته من الجيل الذي شدّ أزره على اصطناع ما أتاه من مخالفات.
وهو صاحب تدابير «لعن أهل البيت» وصاحب تدابير «رمي عليّ بدم عثمان»، فلتكن ثالثة أثافيه تدابيره في «القضاء على التشيع» مادياً ومعنوياً. وانه لرجل الميدان في تعبئة هذه الالوان من التدابير.
وفي جنبات قصوره الشاهقات في الشام، الضمائر المعروضة للبيع والاقلام المفوضة للايجار، فلتضع الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وفق الخطط المرسومة، ولتنتهك المبادئ العلوية انتهاكاً فتمسخها مسخاً وتزدريها ازدراء تنتزع به استحقاقها للبقاء بين الناس، ثم لتخلق منها - وقد خلا الجوّ من آل محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) - ردة اخرى عن الاسلام تتهم بها بناة الاسلام ومهابط تنزيله ومنازل وحيه ومصادر تعاليمه أنفسهم، ثم لتشرّع للناس - مع تمادي الوضع والرفع - اسلاماً آخر، هو قريحة معاوية - لا ما هتفت به الهاشمية من وحي السماء.
وكان هذا هو الذي عناه ألإمام الحسن عليه السلام عليه السلام حين قال: «ما تدرون ما عملت، واللّه للَّذي عملت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس».
وما شيء خيراً مما طلعت عليه الشمس من حفظ العقيدة وتخليد المبدأ.
وكان هو ما عناه - أيضاً - الامام محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (الباقر) عليه السلام، حين سُئِل عن صلح ألإمام الحسن عليه السلام فقال: «انه أعلم بما صنع ولولا ما صنع لكان أمر عظيم».

النتائج:

وأغلب الظن أن خطوات هذه المراحل الثلاث، بلغت بالقارئ الكريم هدفنا المقصود من البحث، قبل ان نعلن عنه صريحاً، وكشفت له بتدرّجها الرفيق كثيراً من الغموض الذي هيأ جواً للنقد الموروث.
ونقول الآن تدليلاً على ما ادعيناه أولاً من انغلاق طريق الشهادة عن ألإمام الحسن عليه السلام ، الذي كان معناه امتناعها هي منه، دون امتناعه هو منها:
ان ألإمام الحسن عليه السلام لو حاول أن يجيب على حدّة مأزقه التي اصطلحت عليه في لحظته الاخيرة في المدائن، باراقة دمه الطاهر في سبيل اللّه عزّ وجل انكاراً على البغي الذي صارحه به ستون ألفاً من أجناد الشام، وايثاراً للشهادة ومقامها الكريم - لحيل بينه وبين ما يريد، ولكان - بلا ريب - ذلك المقتول الضائع الدم الذي لن يستطيع أصدقاؤه في التاريخ أن يسجلوا له الشهادة كما تقتضيها كلمة «شهيد».
ذلك لان الظرف المؤسف الذي انتهى اليه طالع المدائن بما عبرت عنه الفوضى الرعناء في صيحاتها الكافرة وفي سلاحها - أيضاً -، وبما كشفت عنه كتب الخونة الكوفيين في مواثيقهم لمعاوية على الفتك بألإمام الحسن عليه السلام - وهو ما وقف عليه ألإمام الحسن عليه السلام نفسه في رسائلهم -، كل ذلك يفرض علينا الاستسلام للاعتقاد بأن فكرةً قوية الانصار من رجالات المعسكر، كانت قد قررت التورط في أعظم جريمة من أمر الامام عليه السلام، وأنهم كانوا يتحينون الفرص لاقتراف هذه البائقة الكبرى.
ووجدوا من تلاشي النظام في المعسكر، بما انتاشه من الفزع وبما انتابه من الفتن، وبما بلغه من أخبار مسكن، ومن الفوضى «المصطنعة» التي اطلعت رأسها بين جماهيره الهوج - ظرفاً مناسباً لانزال الضربة الحاسمة التي كانت هدف الخوارج فيما أرادوه من جهادهم مع ألإمام الحسن عليه السلام وكانت غاية «الحزب الاموي» فيما تم عليه الاتفاق بينه وبين معاوية. ولا ننسى أن معاوية نفسه كان قد لوّح للحسن عليه السلام في رسائله الاولى اليه، بما يشعره التهديد بهذه الخطة العدوة - من أول الامر -. والا فما معنى قوله هناك: «فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس !!.».
وبلغ من دقة الموقف وتوتر الوضع، في لحظات المدائن الاخيرة، أن أيَّ حركة من الامام عليه السلام سواء في سبيل الحرب أو في سبيل الصلح، وفي سبيل الانضمام الى الجبهة في مسكن أو في سبيل العودة الى الكوفة - مثلاً -، لابد أن تنقلب الى خلاف حادّ، فتمرد واسع، فثورة مسلحة هوجاء، هي كل ما يتمناه معاوية، ويُصوِّب له ذهبه وخزائنه.
ولن يطفئ النائرة يومئذ لو اتقدت جذوتها الا دم ألإمام الحسن عليه السلام الزكي.
وللثورات الجامحة أحكامها القاسية وتجنياتها التي لا تبالي في سبيل الوصول الى أهدافها بالاشخاص مهما عظمت مكانتهم في النفوس.
أَوَليست طعنة ألإمام الحسن عليه السلام في ساباط المدائن دليلاً على ما نقول ؟. وهل كانت الا الطعنة التي تطوعت الى قتله عن ارادة وعمد ؟ وكان قد خرج اذ ذاك من فسطاطه يؤم مقصورة عامله على «المدائن» ليتجنب ضوضاء الناس، وليكون هناك أقدر على اتخاذ ما يحتمله الظرف من تدبير.
وهنا يقول المؤرخون ما لفظه: «وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته، ومنعوا عنه من أراده». وفي نص آخر: «فأطافوا به ودفعوا الناس عنه» أقول: فمِمَّ كانوا يدفعون الناس عنه ؟ ومِمَّ منعوا من أراده ؟.. أوَليس هذا كله صريحاً بأنه أصبح مهدداً على حياته، وأن الذين خرجوا معه كمجاهدين يدافعون عنه انكشفوا - بعد قليل - عن أعداءٍ يتدافعون عليه ؟؟.
وهل كان انكفاؤه الى مقصورة سعد بن مسعود، الا ليبتعد عن المحيط المفتون الذي أصبح يستعد لثورة لا يُدرى مدى اندفاعها بالموبقات ؟. ورأى بأم رأسه انسياح فصائله أنفسهم في مضاربه نهباً، وفي مقامه المقدس تكفيراً وسباً، ورأى تحاملهم المقصود على ايذائه وتدافعهم العامد على العظيم من أمره، فعلم أنهم أصبحوا لا يطيقون رؤيته، وأن ظهوره بشخصه بينهم هو مثار تمردهم الخبيث، فانتقل غير بعيد، وكانت انتقالته نفسها احدى وسائله لعلاج الموقف، لو أنه وجد للعلاج سبيلاً.
وبديهيّ أنه لم يكن أحد آخر في الدنيا كلها، أحرص من ألإمام الحسن عليه السلام نفسه على الفوز في قضيته، ولا أكثر عملاً، ولا أشد اهتماماً، ولا أنشط حيوية، ولا أسرع تضحية فيما تستدعيه من تضحيات.
وبديهيّ أيضاً، أنه لم يكن ليفوته ما لا يفوتنا من رأي، ولا يخطئه ما لا يخطئنا من تدبير. ولقد برهنت سائر مراحله على أنه الرجل الحصيف الذي غالب مشاكله كلها ثم اختار لها أفضل الحلول في حربه وسلمه ومع مراحل جهاده ومعاهدات صلحه، وفي عاصمة ملكه «الكوفة» وعاصمة امامته «المدينة».
ترى، أفكان من جنون هذه اللحظات في المدائن، مجال للموت الذي يصنع الحياة ؟ أم هو المجال الذي لا يصنع الا الموت في الموت أبدياً، وهو ما يجب أن تربأ عنه النفوس الكريمة التي لا تموت الا لتحيي بعدها سنة أو تنقذ أمة.
فأين امكان الشهادة للحسن يا ترى ؟..
ولقد يحز في النفس حتى ليضيق محب ألإمام الحسن عليه السلام ذرعاً بما يترسمه في ذهنه من معالم الخطوب السود، التي كانت تتدفق بطوفانها الرهيب على هذا الامام الممتحن في أحرج ساعاته وأدق لحظاته.
ربما كان للذهن قابلية التصور أو قابلية الهضم للحوادث التي ترجع الى مصادرها الاعتيادية في الناس، من العداء الشخصي، أو النزاع القبلي، أو الخلاف النظري - كعداء معاوية للحسن، أو خصومة بني أمية للهاشميين، أو خلاف الخوارج على عليّ وأولاده عليهم السلام -. أما الحوادث التي لا مرجع لها الا الطمع الدنيء فانه من آلم ما يتصوره الانسان من شذوذ الناس.
أفتظن ان من الممكن لشيعي يعتقد امامة ألإمام الحسن عليه السلام كما يعتقد نبوة النبي، ويعيش في نعمة ألإمام الحسن عليه السلام كما يعيش في نعمة أبيه، ثم تحدثه نفسه بالخيانة العظمى في أحرج اللحظات التي تمر بامامه وولي نعمته، وأحوجها الى الاخلاص الصحيح من شيعته ؟.
أجل، انها للمؤامرة الدنيئة التي كانت من صميم الواقع الذي دارحول ألإمام الحسن عليه السلام، في ابان وجوده في المقصورة البيضاء بالمدائن !!..
فانظر الى أيّ حد كان قد بلغ التفسخ الخلقي في الجيل الذي قدّر للحسن أن يتخذ منه أجناده الى جهاد عدوه.
قد يكون الفرد بذاته من ذوي الحسب، وقد يكون على انفراده من ذوي السكينة، ولكنه اذا انساح بضعفه المتأصل في نفسه مع العاصفة الطارئة، واحتضنته الجماهير المتحمسة من حوله، كان جديراً بان تغلب عليه روح الجماعة فلا يشعر الا بشعورها، ولا يفكر الا بفكرها، ولا يعمل الا بعملها - ويخالف - عندئذٍ - مشاعره الفطرية مخالفة لا تنفك في أكثر الاحيان عن الندم الجارح عند سكون العاصفة وتبدّل الاحوال.
وهكذا كان من السورة الجامحة في ضوضاء المدائن يومئذ ما أخضع لتياره حتى الشيعيّ الضعيف، فنسي تشيعه ونسي عنعناته، ونسي حتى المعنويات العربية الساذجة التي تتحلل من الدين على اختلاف نزعاته !!..
فانه ان لم يكن امامك فولي نعمتك، وان لم يكن ولي نعمتك فالكريم الجريح.
وهذا مثلٌ واحد - حفظه التاريخ - عن شيعيهم، ظنك بخارجيهم وأمويهم وشكاكهم وأحمرهم ؟.
ومثلٌ واحد حفظه التاريخ، يدل على أمثال كثيرة نسيها التاريخ أو تناساها.

ووجه آخر

هو ما أشار اليه ألإمام الحسن عليه السلام نفسه في أجوبته لشيعته الذين نقموا عليه الصلح. قال: «ما أردت بمصالحتي معاوية الا أن ادفع عنكم القتل»(12)
وأثر عنه بهذا المعنى كلمات كثيرة. وللتوفر على فهم هذه الحقيقة بشيء من التفصيل الذي يخرج بنا الى القناعة بما أجمله الامام بهذا القول، نقول:
لم يكن النزاع بين ألإمام الحسن عليه السلام ومعاوية في حقيقته، نزاعاً بين شخصين يتسابقان الى عرش، وانما كان صراعاً بين مبدأين يتنازعان البقاء والخلود. وكان معنى الانتصار في هذا النزاع، خلود المبدأ الذي ينتصر له أحد الخصمين المتنازعين. وكذلك هي حرب المبادئ التي لا تسجل انتصاراتها من طريق السلاح، ولكن من طريق الظفر بثبات العقيدة وخلود المبدأ. وربما ظفر المبدأ بالخلود ولكن تحت ظل اللواء المغلوب ظاهراً.
وانقسم المسلمون يومئذ، على اختلاف رأيهم في المبدأين، الى معسكرين يحمي كل منهما مبدأه، ويتفادى له بكل ما أوتي من حول وقوة.
فكانت العلوية والاموية، وكانت الكوفة والشام.
ونخلت الادوار الاستفزازية التي لعبها معاوية، باسم الثأر لعثمان، معسكر الشام من شيعة عليّ وأولاده عليهم السلام. فكان لابد لهؤلاء أن ينضووا الى معسكرهم في الكوفة، وفي البلاد التي ترجع بأمرها الى الكوفة، غير مروعين ولا مطاردين.
واجتمع - على ذلك - في الكوفة والبصرة والمدائن والحجاز واليمن عامة القائلين بالتشيّع لأهل البيت عليهم السلام.
وخلص الى عاصمة الامام في العراق من الامصار كلها، الثقل الاكبر من أعلام المسلمين، وبقايا السيوف من المهاجرين والانصار. فكانت كوفة علي على عهد الخلافة الهاشمية، مباءة الاسلام، والمركز الذي احتفظ بتراث الرسالة بأمانة وصبر وايمان.
وكان طبيعياً ان يستجيب لدعوة ألإمام الحسن عليه السلام، في زحفه للموقعة الفاصلة بين المبدأين، عامة هذه النخبة المختارة المتبقية في الكوفة بعد وفاة أبيه عليه السلام، من شيعته وشيعة أبيه وصحابة جده صلى اللّه عليه وآله، فاذا هم جميعاً عند مواقعهم من صفوف وحداتهم، في الجيش الذي يستعدّ في «النخيلة».
ولم يكن في الدنيا كلها، قابلية أخرى لصيانة التراث الاسلامي على وجهه الصحيح، كالقابليات التي لفّها جناح هذا الجيش، بانضواء هذه الكتل الكريمة اليه، وفيها أفراد الاسرة المطهرة من الهاشميين.
واحتضنت وحدات النخيلة مع هؤلاء، أجناساً كثيرة من الناس، أتينا - فيما سبق - على عرض واسع لمختلف عناصرهم وشتى منازعهم ونتائج أعمالهم.
وكان المضيّ في الزحف ضرورة اقتضاها الظرف الطارئ كما أشير اليه آنفاً.
وما هي الا أيام لم تبلغ عدد الاصابع، حتى انتظم المعسكران في «المدائن» و«مسكن» أقسام الجيش كلها، فكان في كل منهما جماعة من الطبقة الممتازة في مسلكها ومعنوياتها واخلاصها، وجماعات أخرى من طبقات مختلفة منوّعة.
وجاءت هزيمة عبيد اللّه بن عباس ومن معه الى معاوية، أشبه بعملية تصفية قد تكون نافعة، لو لم تعزّزها نكبات أخرى من نوعها ومن غير نوعها، ذلك لانها نخلت معسكر مسكن، وهو المعسكر الذي نازل العدو وجهاً لوجه، من الاخلاط التي كانت العضو الفاسد في هذا الجيش.
أما في المدائن فقد كان ألإمام الحسن عليه السلام وخاصته في سواد من أشباه المهزومين لا يتسنى لهم الوصول الى معاوية فيفرون، ولا يستفزّهم الواجب فيرضخون. وكانوا في المستقبل القريب، أداة الكارثة التاريخية، بما حالوا بين ألإمام الحسن عليه السلام وبين أهدافه من هذه الحرب، وبما أغلقوا عليه من طريق الشهادة الكريمة، وبما أفسدوا عليه كل شيء من أمره، ولنفترض الآن أن شيئاً واحداً كان لا يزال تحت متناول ألإمام الحسن عليه السلام في سبيل الاستمرار على الحرب، أو في سبيل الامتناع على الصلح.
ذلك هو أن يصدر أوامره من حصاره في «المدائن» الى انصاره في «مسكن» بمباشرة الحرب، تحت قيادة القائد الجديد «قيس بن سعد بن عبادة الانصاري»، الرجل العظيم الذي نعرف من دراسة ميوله الشخصية، أنه كان يؤثر الحرب حتى ولو صالح الامام(13). واذا كانت ثورة المشاكسين في المدائن، قد حالت دون تكتيب هذا الجيش للقتال، فما كانت لتحول دون ارسال الاوامر الى المخلصين الاوفياء في جيش مسكن بالحرب، ان سراً وان علناً.
ومن المحتمل أن كثيراً من المغلوبين على أمرهم من مجاهدة المدائن المخلصين، كانوا يستطيعون التسلل الى «مسكن» لانجاد القوات المحاربة هناك، فيما لو وجدوا من جانب ألإمام الحسن عليه السلام استعداداً لهذه الفكرة او تشجيعاً عليها.
ولعل من المحتمل ايضاً ان الامام نفسه كان يستطيع هو ايضاً وبعد تريث غير طويل، ينتظر به خفوت الزوابع الدائرة حوله في المدائن، أن يخفّ الى مسكن حيث النصر الحاسم، أو الشهادة بكل معانيها الكريمة في اللّه وفي التاريخ.
فلماذا ينزل الى الصلح، وله من هذا التدبير مندوحة عنه ؟.
نقول:
ربما كان في مستطاع ألإمام الحسن عليه السلام اصدار هذه الاوامر في لحظاته الاخيرة في المدائن، وربما لم يكن.
وعلى كل من التقديرين، فما كل مندوحة لوحت بنجاح، يجوز الاخذ بها، ورب تدبير في ظرف هو نفسه مفتاح مآزق صعابٍ لظرفٍ آخر. وهذه هي القاعدة التي يجب الالتفات اليها عند الاخذ بأيّ اقتراح في أيّ من المآزق.
وهنا ايضاً، فهل فكَّر مقترح هذا التدبير، في المدة التي كان يمكن أن تستوعبها حرب أربعة آلاف - هم جيش ألإمام الحسن عليه السلام في مسكن - لستين الفاً هم جيش معاوية أو ثمانية وستين الفاً ؟ واستغفر اللّه، بل حرب مجموعة من جيش تنازل مجموعة من جيش تزيدها خمسة واربعين ضعفاً !
وهل فكَّر مقترح هذه المندوحة، فيما عسى ان يكون موقف ألإمام الحسن عليه السلام عند انتهاء اللحظات القصيرة من عمر هذه الحرب، وعندما يتفانى المساعير من أنصاره في مسكن.
انه ولا شك الموقف الذي سيضطره - لو بقي حياً - الى التسليم بدون قيد ولا شرط.
وانه ولا شك الطالع الجديد الذي كان ينتظره معاوية للاجراءات الحاسمة بين الكوفة والشام، الاجراءات التي لا تعدو الاحتلال العسكري المظفر بويلاته ونقماته التي لا حدَّ لفظاعتها في أهل البيت وشيعتهم، وأخلق باحتلال كهذا أن يطوّح بكل أماني البلاد، وبشعائرها الممتازة، ومبادئها التي قامت على جماجم عشرات الالوف من صفوة الشهداء المجاهدين في اللّه.
ولا اخال أنّ أحداً يفطن الى هذه النتائج المحتمة، ثم لا يحكم بفشل هذه المندوحة المنتقضة على نفسها، وانّ من أبرز اخطائها انها تنقل ألإمام الحسن عليه السلام - في أقصر زمان - من خصم مرهوب يملي الشروط على عدوه، الى محارب مغلوبٍ لا مفرّ له من التسليم بدون قيد ولا شرط.
وهذا فيما لو انكشفت الحرب وألإمام الحسن عليه السلام حيّ يحال بينه وبين الاشتراك فيها.
وأما لو قدر لهذه الحرب القصيرة العمر، أن تجتاح في طاحونتها حتى ألإمام الحسن عليه السلام لينال الشهادة، وافترضنا أنه كان قد استطاع التسلل الى مسكن والاشتراك في القتال - الامر الذي لا ينسجم وسير الحوادث هناك كما عرفت قريباً - فالجواب هو أن الشهادة التي يكون ثمنها امحاء المبدأ امحاءً أبدياً، لا يمكن ان تكون وسيلة نجاح في اللّه ولا في التاريخ.
وان التاريخ الذي سيناط به ذكر هذه الحرب، بعد شهادة ألإمام الحسن عليه السلام وذيولها المؤسفة، سيروي للاجيال من شؤون ألإمام الحسن عليه السلام وحروبه، ما لا يخرج بمفهومه عن معنى «الخروج». وذلك هو ما أردنا التلميح اليه في كلامنا على «خطة معاوية تجاه أهداف ألإمام الحسن عليه السلام».
ولكي نزيد هذا الاجمال توضيحاً نقول:
علمنا مما تقدم، أن الصفوة من حملة الكتاب، والبقية من الصحابة الابرار، والنخبة المختارة من الشيعة الاوفياء، كانوا قد اجتمعوا للحسن عليه السلام فيمن دلف به الى معاوية في زحفه هذا. ولا نعرف أن احداً من هذا الطراز تخلَّف مختاراً عن تلبية ألإمام الحسن عليه السلام فيما دعا اليه من الجهاد.
فكان الموقف في هذه اللحظة المبدئية الدقيقة بين ألإمام الحسن عليه السلام ومعاوية، أشبه بالموقف الآنف بين أبويهما رسول اللّه (صلی الله عليه وآله وسلم) وأبي سفيان بن حرب يوم كان يبرز الايمان كله للشرك كله.
وعلمنا مما تقدم ايضاً أنه لم يكن في الدنيا كلها مجموعة اخرى تؤتمن على الثقل الاكبر من نواميس الاسلام، والمبادئ المثالية الصحيحة على وجهها الصحيح، مثل هذه المجموعة التي اجتمعت للحسن في هذا الزحف.
فكان معنى تنفيذ فكرة الحرب، والتورّط بهذه الزمرة في القتال المستميت الذي لن ينكشف منهم على نافخ ضرمة قط، هو التفريط بالثقل الاكبر الذي يحملونه ولا يحمله في الدنيا أحد غيرهم.
وكان معنى التفريط به، انقطاع الصلة بين عليّ واولاده الائمة الميامين، وبين الاجيال الآتية الى يوم الدين.
ثم لتعودن قضية ألإمام الحسن عليه السلام - بعد ذلك - أشبه بقضايا الاشراف العلويين، الذين نهضوا في ظروف مختلفة من أيام الحكم الاسلامي، يهتفون بالاصلاح، ويحتجون بالرحم الماسة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ثم غلبوا على امرهم، فلم يبق من دعوتهم الا اسماؤهم في أطواء التاريخ أو في كتب الانساب.
وما يدرينا، فيما لو صُفّي الحساب مع آل محمد تصفيته الاموية الاخيرة، فقتل ألإمام الحسن عليه السلام، وقتل معه جميع أهل بيته، وقتل معهم الصفوة المختارة من عباد اللّه المخلصين، وانقلب الاسلام أموياً، ماذا سيكون من ذكريات محمد (صلى اللّه عليه وآله) في التاريخ ؟. وماذا سيكون من شأن المثاليات التي نفخ الاسلام روحها في الصفوة من رجالاته ؟. وهل رجالاته المصطفون الا هذه الاشلاء التي طحنتها سيوف الشام في هذه الحروب ؟.
وعلمنا - مما تقدم - مبلغ ما تهتز به أوتار معاوية بن أبي سفيان من العنعنات القبلية والانانيات والترات. فهل لنا - وقد أيسنا من ذكر عليّ وأولاده في أعقاب هذه التصفية الا بالسوء، أن نطمئن الى ذكر محمد صلى اللّه عليه وآله وذكر تعاليمه ومبادئه الصحيحة بخير ؟.
والعدوّ المنتصر هو معاوية بن أبي سفيان، الذي ضاق بذكر الناس لاخي هاشم (النبي صلی الله عليه وآله وسلم) في كل يوم خمس مرات كما تقتضيه السنة الاسلامية في «الاذان»، حتى قال للمغيرة بن شعبة: «فأي عملٍ يبقى بعد هذا لا أُمَّ لك، الا دفنا دفناً»(14)
ورجاله المنتصرون هم: أخوه [الشرعي ؟!] «زياد ابن ابيه»، والصحابي المسنّ «عمرو بن العاص»، والداهية [النزيه ؟!] «المغيرة بن شعبة»، وفاتح الحرمين !! «مسلم بن عقبة»، وامثال هذه النماذج من الغيارى على روحيات الاسلام !!..
وفي مجازر (زياد) في الكوفة، وفتن (عمرو) في صفين ودومة الجندل، ومساعي أول مرتشٍ في الاسلام (المغيرة بن شعبة) لتنصيب يزيد للخلافة ولالحاق زياد للاخوة، ومواقف (ابن عقبة) من المدينة والكعبة، كفاية للاطمئنان على الرقم القياسي الذي صعدت اليه غيرة كلٍّ من هؤلاء، على التراث الاسلامي، وعلى مقدسات الاسلام، وعلى مصالح المسلمين.
انهم عملوا ما عملوا، وهم اذ ذاك على مسمع ومشهد، من آل محمد والصفوة الباقية من تلامذة محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ومن أشياعهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والواقفين لهم بالمرصاد.
فكيف بهم، وماذا كانوا يعملون، لو أصفرت الدنيا من آل محمد وعباد اللّه الصالحين ؟؟.
ان النتائج الواضحة المستقيمة التي لا عوج في تأويلها، هي أن ألإمام الحسن عليه السلام لو سخا بنفسه وبشيعته، وفرضنا أنه كان قد استطاع حضور ميدانه في «مسكن»، لحكم على نفسه بالموت حتى لا يبقى اسمه الا في كتب الانساب، وعلى مبدئه المقدس بالاعدام حتى لا يبقى منه أيّ أثر بين سمع الارض وبصرها، ولرأيت تاريخه المجيد وتاريخ بيته العتيد، أسطورة مشوهة من أبشع الاساطير، يمليها معاوية كما يشتهي، ويشرحها بعده مروان وآل مروان كما يشاؤون.
وكان معنى ذلك نهاية تاريخ الروحية الاسلامية، وبداية تاريخ اموي له طابعه المعروف وخصائصه الغنية عن البيان.
وفي الحديث الشريف: «لو لم يبق من بني أمية الا عجوز درداء لبغت دين اللّه عوجاً»(15)
ترى، فهل كان في امكان ألإمام الحسن عليه السلام غير ما كان ؟.
وان أقل استقراء وتدبر، يثبتان أنها كانت افضل طريقة للتخفيف من عرامة الاجراءات المتوقعة، بل كانت الطريقة الوحيدة التي لا ثانية لها.
وحفظ ألإمام الحسن عليه السلام بها - حين استيقن هذه النتائج كحقائق واقعة - خطوط اتصاله بالاجيال، بل خطوط اتصال أبيه وجده عليهما الصلاة والسلام، من طريق الابقاء على شيعته، وأنقذ بذلك مبدأه من الابادة المحققة، وصان تاريخه من التشويه والتزوير والمسخ والازدراء. وانتزع من الخذلان الذي حاق به في دنياه، الانتصار اللامع لروحيته وعقيدته واخراه.
وهكذا ترك الدنيا ليحفظ الدين. وذلك هو طابع الامامة في هذه الزمرة المباركة من آل اللّه.
المصادر :
1- وروى هذا النص الاربلي في كشف الغمة (ص 161) والبحار (ج 10 ص 110)
2- ابن ابي الحديد (ج 4 ص 14)
3- نص عبارة ابن ابي الحديد في الموضوع (ج 4 ص 14)
4- نص عبارة المفيد في الارشاد (ص 170)
5- وبرواية ابن طاووس في كتاب «الملاحم والفتن» (ص 142 طبع النجف سنة 1368)
6- شرح النهج (ج 4: ص 15)
7- شرح النهج (ج 4 ص 12)
8- احتجاج الطبرسي (151)
9- مروج الذهب (ج 2 ص 72).
10- مروج الذهب (ج 2 ص 72)
11- الاسلام بين السنة والشيعة (ص 25)
12- الدينوري (ص 303)
13- ابن الاثير (ج 3 ص 162)
14- مروج الذهب (ج 2 ص 343)، وابن أبي الحديد (ج 2 ص 357)
15- الخرائج والجرائح لسعيد بن هبة اللّه الراوندي المتوفى سنة 573 (ص 228).

 



 

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.