مناظرات الامام الرضا عليه السلام

روي عن الإمام الرضا عليه السلام أنه ناظر فرقا ومللا مختلفة، كان من بينهم علماء أهل الكتاب اليهود والنصارى، وناظر أيضا المجوس والصابئة والزنادقة، وناظر أصحاب المقالات من فرق المسلمين المختلفة في مسائل الاعتقاد وأصول الإسلام وشتى
Wednesday, September 3, 2014
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
مناظرات الامام الرضا عليه السلام
 مناظرات الامام الرضا عليه السلام

 






 

روي عن الإمام الرضا عليه السلام أنه ناظر فرقا ومللا مختلفة، كان من بينهم علماء أهل الكتاب اليهود والنصارى، وناظر أيضا المجوس والصابئة والزنادقة، وناظر أصحاب المقالات من فرق المسلمين المختلفة في مسائل الاعتقاد وأصول الإسلام وشتى الموارد التي شاع فيها الجدل وكانت متسعا للصراع بين المعتزلة و الأشاعرة وغيرهم من سائر الفرق ومحدثي الأمة وفقهائها، وهي امتداد لما احتج به وناظر جده وأبوه. ومناظرات الإمام الرضا (عليه السلام) وأجوبته وجملة محاوراته تستحق التأمل والتوقف، لأنه (عليه السلام) كان بإزاء المأمون العباسي الذي كان يتبنى مذهب الاعتزال أولا، ثم إنه باعتباره حاكما وخليفة يرى في الإمام (عليه السلام) منافسا لا يجارى في العلم والفضل ومكارم الأخلاق، فأعد مزيدا من مجالس النظر مع سائر الفرق والملل وأصحاب المذاهب المختلفة، وكان يدعو عمالقة الفكر وأفذاذ العلم وزنادقة العصر وأصحاب الجدل وأهل الأديان، لزج الإمام (عليه السلام) في معترك الحوار المعقد مع سائر المناظرين، وكان عصره من أشد العصور انفتاحا بين أهل الكلام والفرق والآراء الشاذة.
قال الشيخ الصدوق (رحمه الله): كان المأمون يجلب على الرضا (عليه السلام) من متكلمي الفرق وأهل الأهواء المضلة كل من سمع به، حرصا على انقطاع الرضا (عليه السلام) عن الحجة مع واحد منهم، وذلك حسدا منه له ولمنزلته من العلم، فكان لا يكلمه أحد إلا أقر له بالفضل والتزم الحجة له عليه، لأن الله تعالى ذكره يأبى إلا أن يعلي كلمته ويتم نوره، وينصر حجته، وهكذا وعد تبارك وتعالى في كتابه المجيد فقال: *( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)*(1) يعني بالذين آمنوا الأئمة الهداة (عليهم السلام) وأتباعهم العارفين والآخذين عنهم، ينصرهم بالحجة على مخالفيهم ما داموا في الدنيا، وكذلك يفعل بهم في الآخرة، وإن الله عز وجل لا يخلف وعده. وروي عن محمد بن يحيى الصولي أنه قال: كان المأمون في باطنه يحب سقطات الرضا (عليه السلام) وأن يعلوه المحتج، وإن أظهر غير ذلك. ولم يتحقق شيء مما أراد المأمون، فقد كان الإمام (عليه السلام) قبسا للهداية، ونورا يستضاء بهديه، تأثر بعلمه واهتدى به الكثيرون بعد أن أفحمهم بقوة حجته، وحضور بديهته، وسرعة إجابته، وطلاقة بيانه. قال أبو الصلت الهروي: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام) أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس وسائر أهل المقالات، فلم يقم أحد إلا وقد ألزمه حجته، كأنه ألقم حجرا (2)... الحديث.
وعن الفضل بن العباس، عن أبي الصلت الهروي أيضا، قال: ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ولا رآه عالم إلا شهد له بمثل شهادته، ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد من علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلمين، فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي أحد منهم إلا أقر له بالفضل، وأقر على نفسه بالقصور (3). وخرج الإمام (عليه السلام) في جميع ما تعرض له من مناظرات ومحاورات منتصرا على خصومه، بما يملكه من إمكانات علمية هائلة، وما يعتمده من الحجة الواضحة في إثبات الحق، والقول الفصل، والبيان المعجز، والأسلوب المنهجي الهادئ، إلى الحد الذي وجد المأمون نفسه مضطرا إلى الثناء على الإمام في نهاية المناظرات وفي أكثر من مرة، وسيأتي في غضون هذا الفصل أنه قال المأمون مرة بعد أن ناظره في عصمة الأنبياء: لقد شفيت صدري - يا بن رسول الله - وأوضحت لي ما كان ملتبسا علي، فجزاك الله عن أنبيائه وعن الإسلام خيرا . وأخذ المأمون بيد محمد بن جعفر، وكان حاضرا المجلس، فقال له المأمون: كيف رأيت ابن أخيك؟ فقال: عالم، ولم نره يختلف إلى أحد من أهل العلم. فقال المأمون: إن ابن أخيك من أهل بيت النبي الذين قال فيهم النبي (صلى الله عليه وآله): ألا إن أبرار عترتي وأطايب أرومتي أحلم الناس صغارا، وأعلم الناس كبارا، لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، لا يخرجونكم من باب هدى، ولا يدخلونكم في باب ضلال . وفي نهاية مناظرة الرضا (عليه السلام) مع المأمون أيضا بحضور أهل الكلام من الفرق المختلفة، قال المأمون: لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن، فوالله ما يوجد العلم الصحيح إلا عند أهل هذا البيت، وإليك انتهت علوم آبائك، فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيرا . وفي مناظرته (عليه السلام) مع سليمان المروزي، قال المأمون: هذا أعلم هاشمي . وفي مناظرته مع يحيى بن الضحاك السمرقندي، قال المأمون: يا أبا الحسن، ما في الأرض من يحسن هذا سواك. ولم يقف المأمون عند حدود الثناء على الإمام وحسب، بل كان يتقرب إلى الإمام (عليه السلام) بشتى الطرق، ويلجأ إلى مختلف الوسائل كالمناظرة في أحقية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بالخلافة وتفضيله على سائر الصحابة. قال إسحاق بن حماد: كان المأمون يعقد مجالس النظر، ويجمع المخالفين لأهل البيت (عليهم السلام)، ويكلمهم في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وتفضيله على جميع الصحابة، تقربا إلى أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وكان الرضا (عليه السلام) يقول لخلص أصحابه الذين يثق بهم: لا تغتروا بقوله، فما يقتلني والله غيره، ولكنه لا بد لي من الصبر حتى يبلغ الكتاب أجله (4). وعندما بدأنا نجمع مسودات هذا الموضوع وجدنا أنفسنا أمام تراث فذ لا يسعنا استقصاؤه جميعا، ومن باب ما لا يدرك كله لا يترك جله سنعرض فيما يلي غيضا من فيض أجوبته ومناظراته ومحاوراته مع بعض متكلمي عصره، تعكس للقارئ صورة عن الأسلوب العلمي الهادئ الرصين الذي كان يتبناه أئمة الهدى (عليهم السلام) في حوارهم ومناظراتهم مع الخصوم والمخالفين.

مع أهل الأديان والزنادقة:

في (الخرائج والجرائح): روي عن محمد بن الفضل الهاشمي - في مناظراته (عليه السلام) مع الجاثليق ورأس الجالوت - قال: ثم إن الرضا (عليه السلام) التفت إلى الجاثليق، فقال: هل دل الإنجيل على نبوة محمد (صلى الله عليه وآله)؟ قال: لو دل الإنجيل على ذلك ما جحدناه. فقال (عليه السلام): أخبرني عن السكتة التي لكم في السفر الثالث. فقال الجاثليق: اسم من أسماء الله تعالى، لا يجوز لنا أن نظهره. فقال الرضا (عليه السلام): فإن قررتك أنه اسم محمد (صلى الله عليه وآله) وذكره، وأقر عيسى به، وأنه بشر بني إسرائيل بمحمد (صلى الله عليه وآله)، أتقر به ولا تنكره؟ قال الجاثليق: إن فعلت أقررت، فإني لا أرد الإنجيل ولا أجحده. قال الرضا (عليه السلام): فخذ علي السفر الثالث الذي فيه ذكر محمد (صلى الله عليه وآله) وبشارة عيسى (عليه السلام) بمحمد (صلى الله عليه وآله). قال الجاثليق: هات. فأقبل الرضا (عليه السلام) يتلو ذلك السفر من الإنجيل، حتى بلغ ذكر محمد (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا جاثليق، من هذا [النبي] الموصوف؟ قال الجاثليق: صفه. قال (عليه السلام): لا أصفه إلا بما وصفه الله، هو صاحب الناقة والعصا والكساء، النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، يهدي إلى الطريق الأقصد، والمنهاج الأعدل، والصراط الأقوم. سألتك - يا جاثليق - بحق عيسى روح الله وكلمته، هل تجدون هذه الصفة في الإنجيل لهذا النبي؟ فأطرق الجاثليق مليا، وعلم أنه إن جحد الإنجيل كفر، فقال: نعم، هذه الصفة في الإنجيل، وقد ذكر عيسى في الإنجيل هذا النبي، ولم يصح عند النصارى أنه صاحبكم. فقال الرضا (عليه السلام): أما إذا لم تكفر بجحود الإنجيل، وأقررت بما فيه من صفة محمد (صلى الله عليه وآله) فخذ علي في السفر الثاني، فإني أوجدك ذكره وذكر وصيه، وذكر ابنته فاطمة وذكر الحسن والحسين (عليهم السلام). فلما سمع الجاثليق ورأس الجالوت ذلك، علما أن الرضا (عليه السلام) عالم بالتوراة والإنجيل، فقالا: والله قد أتى بما لا يمكننا رده ولا دفعه إلا بجحود التوراة والإنجيل والزبور، ولقد بشر به موسى وعيسى (عليهما السلام) جميعا، ولكن لم يتقرر عندنا بالصحة أنه محمد هذا، فأما اسمه محمد فلا يجوز لنا أن نقر لكم بنبوته، ونحن شاكون أنه محمدكم أو غيره. فقال الرضا (عليه السلام): احتججتم بالشك، فهل بعث الله قبل أو بعد من ولد آدم إلى يومنا هذا نبيا اسمه محمد، أو تجدونه في شيء من الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء (عليهم السلام) غير محمد (صلى الله عليه وآله)؟ فأحجموا عن جوابه، وقالوا: لا يجوز لنا أن نقر لكم بأن محمدا هو محمدكم، لأنا إن أقررنا لك بمحمد ووصيه وابنته وابنيها على ما ذكرتم، أدخلتمونا في الإسلام كرها. فقال الرضا (عليه السلام): أنت يا جاثليق، آمن في ذمة الله وذمة رسوله، أنه لا يبدؤك منا شيء تكره مما تخافه وتحذره.
قال: أما إذا قد أمنتني، فإن النبي الذي اسمه محمد، وهذا الوصي الذي اسمه علي، وهذه البنت التي اسمها فاطمة، وهذان السبطان اللذان اسمهما الحسن والحسين في التوراة والإنجيل والزبور. قال الرضا (عليه السلام): فهذا الذي ذكرته في التوراة والإنجيل والزبور من اسمه هذا النبي وهذا الوصي وهذه البنت وهذين السبطين، صدق وعدل، أم كذب وزور؟ فقال: بل صدق وعدل، ما قال الله إلا الحق. فلما أخذ الرضا (عليه السلام) إقرار الجاثليق بذلك، قال لرأس الجالوت: فاستمع الآن - يا رأس الجالوت - السفر الفلاني من زبور داود. قال: هات، بارك الله عليك وعلى من ولدك. فتلا الرضا (عليه السلام) السفر الأول من الزبور، حتى انتهى إلى ذكر محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، فقال: سألتك - يا رأس الجالوت - بحق الله، أهذا في زبور داود؟ ولك من الأمان والذمة والعهد ما قد أعطيته للجاثليق. فقال رأس الجالوت: نعم، هذا بعينه في الزبور بأسمائهم. قال الرضا (عليه السلام): فبحق العشر آيات التي أنزلها الله على موسى بن عمران (عليه السلام) في التوراة منسوبين إلى العدل والفضل؟ قال: نعم، ومن جحدها فهو كافر بربه وأنبيائه. فقال له الرضا (عليه السلام): فخذ الآن في سفر كذا من التوراة. فأقبل الرضا (عليه السلام) يتلو التوراة، ورأس الجالوت يتعجب من تلاوته وبيانه وفصاحته ولسانه، حتى إذا بلغ ذكر محمد (صلى الله عليه وآله)، قال رأس الجالوت: نعم، هذا أحماد، وأليا، وبنت أحماد وشبر وشبير، وتفسيره بالعربية محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، فتلا الرضا (عليه السلام) إلى تمامه.
فقال رأس الجالوت - لما فرغ من تلاوته -: والله يا بن محمد، لولا الرئاسة التي حصلت لي على جميع اليهود لآمنت بأحمد، واتبعت أمرك، فوالله الذي أنزل التوراة على موسى، والزبور على داود، وما رأيت أقرأ للتوراة والإنجيل والزبور منك، ولا رأيت أحدا أحسن تبيانا وتفسيرا وفصاحة لهذه الكتب منك... الحديث (5).
وعن الفضل بن شاذان، قال: سأل رجل من الثنوية أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وأنا حاضر، فقال له: إني أقول: إن صانع العالم اثنان، فما الدليل على أنه واحد؟ فقال (عليه السلام): قولك إنه اثنان، دليل على أنه واحد، لأنك لم تدع الثاني إلا بعد إثباتك الواحد، فالواحد مجمع عليه، وأكثر من واحد مختلف فيه (6).
وروى الكليني بإسناده عن البزنطي، قال: جاء رجل إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) من وراء نهر بلخ، فقال: إني أسألك عن مسألة، فإن أجبتني فيها بما عندي قلت بإمامتك. فقال أبو الحسن (عليه السلام): سل عما شئت. فقال: أخبرني عن ربك متى كان، وكيف كان، وعلى أي شيء كان اعتماده؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى أين الأين بلا أين، وكيف الكيف بلا كيف، وكان اعتماده على قدرته. فقام إليه الرجل، فقبل رأسه، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن عليا وصي رسول الله، والقيم بعده بما قام به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنكم الأئمة الصادقون، وأنك الخلف من بعدهم (7).
وفي كتاب الصفواني، أنه قال الرضا (عليه السلام) لابن قرة النصراني: ما تقول في المسيح؟ قال: يا سيدي إنه من الله. قال: ما تريد بقولك من؟ ومن على أربعة أوجه لا خامس لها، أتريد بقولك من كالبعض من الكل فيكون مبعضا، أو كالخل من الخمر فيكون على سبيل الاستحالة، أو كالولد من الوالد فيكون على سبيل المناكحة، أو كالصنعة من الصانع فيكون على سبيل المخلوق من الخالق، أو عندك وجه آخر فتعرفناه؟ فانقطع (8).
وقال ابن شهرآشوب: وكان الجاثليق يناظر المتكلمين فيقول: نحن نتفق على نبوة عيسى وكتابه، وأنه حي في السماء، ونختلف في بعثة محمد ونتفق في موته، فما الذي يدل على نبوته؟ فيحيرهم. فاحضر عند الرضا والمأمون فقال: ما تقول في نبوة عيسى وكتابه؟ هل تنكر منهما شيئا؟ فقال الرضا (عليه السلام): أنا مقر بنبوة عيسى وكتابه، وما بشر به أمته، وأقر به الحواريون، وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد وكتابه، ولم يبشر به أمته، فانقطع. ثم قال الرضا (عليه السلام): يا نصراني، والله إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد، وما ننقم على عيساكم إلا ضعفه وقلة صيامه وصلاته. فقال: والله ما زال عيسى صائم النهار قائم الليل! قال (عليه السلام): لمن كان يصلي ويصوم؟ فخرس. وقال الجاثليق: ما أحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص مستحق أن يعبد. فقال الرضا (عليه السلام): فإن اليسع صنع ما صنع، مشى على الماء، وأبرأ الأكمه والأبرص، وحزقيل أحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستين سنة، وقوم من بني إسرائيل خرجوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت فأماتهم الله في ساعة واحدة، فأوحى الله إلى نبي مر على عظامهم بعد سنين أن نادهم. فقال: أيتها العظام البالية، قومي بإذن الله، فقاموا. وذكر (عليه السلام) حديث إبراهيم الخليل (عليه السلام) والطير *(فصرهن إليك)*(9) وحديث موسى *(واختار موسى)*(10) لما قالوا: *(لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)*(11)، فاحترقوا فأحياهم الله من بعد قول موسى: *(لو شئت أهلكتهم)*(12)، وسؤال قريش رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يحييهم.
ثم قال: والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، قد نطقت به، فإن كان من أحيا الموتى يتخذ ربا من دون الله، فاتخذوا هؤلاء كلهم أربابا، فأسلم النصراني (13).
وروى الشيخ الصدوق بالإسناد عن محمد بن عبد الله الخراساني خادم الرضا (عليه السلام)، قال: دخل رجل من الزنادقة على الرضا (عليه السلام) وعنده جماعة، فقال له أبو الحسن (عليه السلام): أيها الرجل، أرأيت إن كان القول قولكم، وليس هو كما تقولون، ألسنا وإياكم شرعا سواء، ولا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا، فسكت. فقال أبو الحسن (عليه السلام): وإن يكن القول قولنا وهو كما نقول، ألستم قد هلكتم ونجونا. فقال: رحمك الله، فأوجدني كيف هو، وأين هو؟ قال: ويلك، إن الذي ذهبت إليه غلط، هو أين الأين، وكان ولا أين، وهو كيف الكيف وكان ولا كيف، ولا يعرف بكيفوية ولا بأينونية، ولا يدرك بحاسة، ولا يقاس بشيء. قال الرجل: فإذن إنه لا شيء إذا لم يدرك بحاسة من الحواس. فقال أبو الحسن (عليه السلام): ويلك لما عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته، ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا خلاف الأشياء. قال الرجل: فأخبرني متى كان؟
فقال أبو الحسن (عليه السلام): أخبرني متى لم يكن، فأخبرك متى كان؟ قال الرجل: فما الدليل عليه؟ قال أبو الحسن (عليه السلام): إني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول، ودفع المكاره عنه، وجر المنفعة إليه، علمت أن لهذا البنيان بانيا، فأقررت به، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته، وإنشاء السحاب، وتصريف الرياح، ومجرى الشمس والقمر والنجوم، وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات، علمت أن لهذا مقدرا ومنشأ. قال الرجل: فلم احتجب؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن الاحتجاب عن الخلق لكثرة ذنوبهم، فأما هو فلا يخفى عليه خافية في آناء الليل والنهار. قال: فلم لا تدركه حاسة البصر؟ قال: للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الأبصار منهم ومن غيرهم، ثم هو أجل من أن يدركه بصر أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل. قال: فحده لي. قال: لا حد له. قال: ولم؟ قال: لأن كل محدود متناه إلى حد، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود، ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزئ ولا متوهم. قال الرجل: فأخبرني عن قولكم: إنه لطيف سميع بصير عليم حكيم. أيكون السميع إلا بالأذن، والبصير إلا بالعين، واللطيف إلا بعمل اليدين، والحكيم إلا بالصنعة؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن اللطيف منا على حد اتخاذ الصنعة، أو ما رأيت الرجل منا يتخذ شيئا يلطف في اتخاذه، فيقال: ما ألطف فلانا! فكيف لا يقال للخالق الجليل: لطيف، إذ خلق خلقا لطيفا وجليلا، وركب في الحيوان أرواحا، وخلق كل جنس متباينا عن جنسه في الصورة، لا يشبه بعضه بعضا، فكل له لطف من الخالق اللطيف الخبير في تركيب صورته. ثم نظرنا إلى الأشجار وحملها أطايبها المأكولة منها وغير المأكولة، فقلنا عند ذلك: إن خالقنا لطيف لا كلطف خلقه في صنعتهم. وقلنا: إنه سميع لا يخفى عليه أصوات خلقه ما بين العرش إلى الثرى، من الذرة إلى أكبر منها في برها وبحرها، ولا تشتبه عليه لغاتها، فقلنا عند ذلك إنه سميع لا بأذن. وقلنا: إنه بصير لا ببصر، لأنه يرى أثر الذرة السحماء (السوداء) في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء، ويرى دبيب النمل في الليلة الدجية، ويرى مضارها ومنافعها وأثر سفادها وفراخها ونسلها، فقلنا عند ذلك إنه بصير لا كبصر خلقه. قال: فما برح حتى أسلم، وفيه كلام غير هذا (14).
وعن صفوان بن يحيى صاحب السابري، قال: سألني أبو قره صاحب الجاثليق أن أوصله إلى الرضا (عليه السلام) فاستأذنته في ذلك. فقال (عليه السلام): أدخله علي، فلما دخل عليه قبل بساطه، وقال: هكذا علينا في ديننا أن نفعل بأشراف أهل زماننا. ثم قال: أصلحك الله، ما تقول في فرقة ادعت دعوى فشهدت لهم فرقة أخرى معدلون؟ قال: الدعوى لهم. قال: فادعت فرقة أخرى دعوى، فلم يجدوا شهودا من غيرهم؟ قال: لا شيء لهم. قال: فإنا نحن ادعينا أن عيسى روح الله وكلمته ألقاها، فوافقنا على ذلك المسلمون، وادعى المسلمون أن محمدا نبي، فلم نتابعهم عليه، وما أجمعنا عليه خير مما افترقنا فيه. فقال له الرضا (عليه السلام): ما اسمك؟ قال: يوحنا. قال: يا يوحنا، إنا آمنا بعيسى بن مريم (عليه السلام) روح الله وكلمته الذي كان يؤمن بمحمد (صلى الله عليه وآله) ويبشر به، ويقر على نفسه أنه عبد مربوب، فإن كان عيسى الذي هو عندك روح الله وكلمته ليس هو الذي آمن بمحمد (صلى الله عليه وآله) وبشر به، ولا هو الذي أقر لله عز وجل بالعبودية والربوبية، فنحن منه براء، فأين اجتمعنا؟ فقام وقال لصفوان بن يحيى: قم، فما كان أغنانا عن هذا المجلس! (15)
وقال ابن شهرآشوب (رحمه الله): ومما أجاب (عليه السلام) بحضرة المأمون لصباح بن نصر الهندي وعمران الصابئ عن مسائلهما. قال عمران: العين نور مركبة، أم الروح تبصر الأشياء من منظرها؟ قال (عليه السلام): العين شحمة، وهو البياض والسواد، والنظر للروح، دليله أنك تنظر فيه فترى صورتك في وسطه، والإنسان لا يرى صورته إلا في ماء أو مرآة وما أشبه ذلك. قال صباح: فإذا عميت العين، كيف صارت الروح قائمة، والنظر ذاهب؟
قال (عليه السلام): كالشمس طالعة يغشاها الظلام. قال: أين تذهب الروح؟ قال (عليه السلام): أين يذهب الضوء الطالع من الكوة إذا سدت الكوة؟ قال: أوضح لي ذلك. قال (عليه السلام): الروح مسكنها في الدماغ، وشعاع منبث في الجسد، بمنزلة الشمس دائرتها في السماء وشعاعها منبسط في الأرض، فإذا غابت الدائرة، فلا شمس، وإذا قطع الرأس فلا روح. قالا: فما بال الرجل يلتحي دون المرأة. قال (عليه السلام): زين الله الرجال باللحى، وجعلها فضلا يستدل بها على الرجال من النساء. قال عمران: ما بال الرجل إذا كان مؤنثا، والمرأة إذا كانت مذكرة؟ قال (عليه السلام): ذلك أن المرأة إذا حملت وصار الغلام منها في الرحم موضع الجارية كان مؤنثا، وإذا صارت الجارية موضع الغلام كانت مذكرة، وذلك أن موضع الغلام في الرحم مما يلي ميامنها، والجارية مما يلي مياسرها، وربما ولدت المرأة ولدين في بطن واحد، فإن عظم ثدياها جميعا تحمل توأمين، وإن عظم أحد ثدييها كان ذلك دليلا على أنه تلد واحدا، إلا أنه إذا كان الثدي الأيمن أعظم كان المولود ذكرا، وإذا كان الأيسر أعظم كان المولود أنثى، وإذا كانت خاملا فضمر ثديها الأيمن فإنها تسقط غلاما، وإذا ضمر ثديها الأيسر فإنها تسقط أنثى، وإذا ضمرا جميعا تسقطهما جميعا. قالا: من أي شيء الطول والقصر في الإنسان؟ فقال (عليه السلام): من قبل النطفة، وإذا خرجت من الذكر فاستدارت جاء القصر، وإن استطالت جاء الطول. قال صباح: ما أصل الماء؟ قال (عليه السلام): أصل الماء خشية الله ، بعضه من السماء ويسلكه في الأرض ينابيع، وبعضه ماء عليه الأرضون، وأصله واحد عذب فرات. قال: فكيف منها عيون نفط وكبريت، ومنها قار وملح وما أشبه ذلك؟ قال (عليه السلام): غيره الجوهر، وانقلبت كانقلاب العصير خمرا، وكما انقلبت الخمر فصارت خلا، وكما يخرج من بين فرث ودم لبنا خالصا. قال: فمن أين أخرجت أنواع الجواهر؟ قال: انقلبت منها كانقلاب النطفة علقة، ثم مضغة، ثم خلقة مجتمعة مبنية على المتضادات الأربع. قال عمران: إذا كانت الأرض خلقت من الماء، والماء البارد رطب، فكيف صارت الأرض باردة يابسة؟ قال (عليه السلام): سلبت النداوة فصارت يابسة. قال: الحر أنفع أم البرد؟
قال: الحر أنفع من البرد، لأن الحر من حر الحياة، والبرد من برد الموت، وكذلك السموم القاتلة الحار منها أسلم وأقل ضررا من السموم الباردة (16).

مع المأمون أو في حضرته:

- روى الشيخ الصدوق، بالإسناد عن علي بن محمد بن الجهم، قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى (عليهما السلام)، فقال له المأمون: يا ابن رسول الله، أليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى. قال: فما معنى قول الله عز وجل: *(فعصى آدم ربه فغوى)*(17). فقال (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى قال لآدم: *(اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة)* وأشار لهما إلى شجرة الحنطة *(فتكونا من الظالمين)*(18) ولم يقل لهما: لا تأكلا من هذه الشجرة ولا مما كان من جنسها. فلم يقربا تلك الشجرة، وإنما أكلا من غيرها، لما أن وسوس الشيطان إليهما وقال: *(ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة)* وإنما نهاكما أن تقربا غيرها ولم ينهكما عن الأكل منها *(إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما من الناصحين)* ولم يكن آدم وحواء شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذبا *(فدلاهما بغرور)*(19) فأكلا منها ثقة بيمينه بالله.وكان ذلك من آدم قبل النبوة، ولم يكن ذلك بذنب كبير استحق به دخول النار، وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم، فلما اجتباه الله تعالى وجعله نبيا، كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة، قال الله عز وجل: *(وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه فهدى)*(20)، وقال عز وجل: *(إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين)*(21). فقال له المأمون: فما معنى قول الله عز وجل: *(فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما)*(22). فقال له الرضا (عليه السلام): إن حواء ولدت لآدم خمسمائة بطن، ذكرا وأنثى، وإن آدم (عليه السلام) وحواء عاهدا الله عز وجل ودعواه، وقالا: *(لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا)*(23) من النسل خلقا سويا بريئا من الزمانة (الآفة أو المرض المزمن الذي يدوم) والعاهة، وكان ما آتاهما صنفين: صنفا ذكرانا، وصنفا إناثا، فجعل الصنفان لله تعالى ذكره شركاء فيما آتاهما، ولم يشكراه كشكر أبويهما له عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: *(فتعالى الله عما يشركون)*(24).
فقال المأمون: أشهد أنك ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حقا، فأخبرني عن قول الله عز وجل في حق إبراهيم (عليه السلام): *(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي)*. فقال الرضا (عليه السلام): إن إبراهيم (عليه السلام) وقع إلى ثلاثة أصناف: صنف يعبد الزهرة، وصنف يعبد القمر، وصنف يعبد الشمس، وذلك حين خرج من السرب (السرب: الكهف، والبيت أو المسلك تحت الأرض) الذي اختفى فيه، فلما جن عليه الليل فرأى الزهرة *(قال هذا ربي)* على الإنكار والاستخبار *(فلما أفل)* الكوكب *(قال لا أحب الآفلين)* لأن الأفول من صفات المحدث لا من صفات القديم *(فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي)* على الإنكار والاستخبار *(فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين)* يقول لو لم يهدني ربي لكنت من القوم الضالين *(فلما)* أصبح و*(رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر)* من الزهرة والقمر على الإنكار والاستخبار، لا على الإخبار والإقرار *(فلما أفلت قال)* للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة والقمر والشمس *(يا قوم إني برئ مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين)*(25). وإنما أراد إبراهيم (عليه السلام) بما قال أن يبين لهم بطلان دينهم، ويثبت عندهم أن العبادة لا تحق لمن كان بصفة الزهرة والقمر والشمس، وإنما تحق العبادة لخالقها وخالق السماوات والأرض، وكان ما احتج به على قومه مما ألهمه الله تعالى وآتاه، كما قال الله عز وجل: *(وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه)*(26).
قال المأمون: بارك الله فيك يا أبا الحسن، فأخبرني عن قول الله عز وجل: *(فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان)*(27). قال الرضا (عليه السلام): إن موسى دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها، وذلك بين المغرب والعشاء، فوجد فيها رجلين يقتتلان، هذا من شيعته، وهذا من عدوه، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه، فقضى موسى على العدو بحكم الله تعالى ذكره، فوكزه فمات، فقال: *(هذا من عمل الشيطان)* يعني الاقتتال الذي كان وقع بين الرجلين، لا ما فعله موسى (عليه السلام) من قتله *(إنه)* يعني الشيطان *(عدو مضل مبين)*. فقال المأمون: فما معنى قول موسى: *(رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي)*؟ قال (عليه السلام): يقول: إني وضعت نفسي غير موضعها بدخولي هذه المدينة *(فاغفر لي)*، أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني، *(فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال)* موسى: *(رب بما أنعمت علي)* من القوة حتى قتلت رجلا بوكزة *(فلن أكون ظهيرا للمجرمين)* بل أجاهد في سبيلك بهذه القوة حتى ترضى *(فأصبح)* موسى (عليه السلام)*(في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه)* على آخر *(قال له موسى إنك لغوي مبين)* قاتلت رجلا بالأمس وتقاتل هذا اليوم لاؤدبنك، وأراد أن يبطش به *(فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما)* وهو من شيعته *(قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين)*(28).
قال المأمون: جزاك الله عن أنبيائه خيرا يا أبا الحسن، فما معنى قول موسى لفرعون: *(فعلتها إذا وأنا من الضالين)*؟ قال الرضا (عليه السلام): إن فرعون قال لموسى لما أتاه: *(فعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين * قال)* موسى: *(فعلتها إذا وأنا من الضالين)* عن الطريق بوقوعي إلى مدينة من مدائنك *(ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين)*(29). وقد قال الله عز وجل لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله): *(ألم يجدك يتيما فآوى)* يقول: ألم يجدك وحيدا فآوى إليك الناس *(ووجدك ضالا)* يعني عند قومك *(فهدى)* أي هداهم إلى معرفتك *(ووجدك عائلا فأغنى)*(30) يقول أغناك بأن جعل دعاءك مستجابا. قال المأمون: بارك الله فيك يا ابن رسول الله، فما معنى قول الله عز وجل: *(فلما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن)*(31) الآية، كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) لا يعلم أن الله تعالى ذكره لا يجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال؟ فقال الرضا (عليه السلام): إن كليم الله موسى بن عمران علم أن الله تعالى غني عن أن يرى بالأبصار، ولكنه لما كلمه الله عز وجل وقربه نجيا، رجع إلى قومه فأخبرهم أن الله عز وجل كلمه وقربه وناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت، وكان القوم سبعمائة ألف رجل، فاختار منهم سبعين ألفا، ثم اختار سبعة آلاف، ثم اختار منهم سبعمائة، ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربهم، فخرج بهم إلى الطور، وسأل الله تعالى أن يكلمه ويسمعهم كلامه، فكلمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام، لأن الله عز وجل أحدثه في الشجرة الزيتونة، وجعله منبعثا منها حتى سمعوه من جميع الوجوه، فقالوا: لن نؤمن لك بأن هذا الذي سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة، فلما قالوا هذا القول العظيم، واستكبروا وعتوا، بعث الله عز وجل عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا. فقال موسى: يا رب، ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم، وقالوا: إنك ذهبت بهم فقتلتهم لأنك لم تكن صادقا فيما ادعيت من مناجاة الله تعالى إياك، فأحياهم الله وبعثهم معه. فقالوا: إنك لو سألت الله أن يريك تنظر إليه لأجابك، وكنت تخبرنا كيف هو، فنعرفه حق معرفته. فقال موسى: يا قوم، إن الله تعالى لا يرى بالأبصار، ولا كيفية له، وإنما يعرف بآياته، ويعلم بأعلامه. فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله. فقال موسى: يا رب، إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل، وأنت أعلم بصلاحهم. فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى، سلني ما سألوك، فلن أؤاخذك بجهلهم. فعند ذلك قال موسى: *(رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه)* وهو يهوي *(فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل)* بآية من آياته (جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك)* يقول رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي *(وأنا أول المؤمنين)* منهم بأنك لا ترى. فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن، فأخبرني عن قول الله عز وجل *(ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)*(32). فقال الرضا (عليه السلام): لقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها كما همت به، لكنه كان معصوما، والمعصوم يهم بذنب ولا يأتيه، ولقد حدثني أبي، عن أبيه 29: الصادق (عليه السلام) أنه قال: همت بأن تفعل، وهم بأن لا يفعل. فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن، فأخبرني عن قول الله عز وجل: *(وذا النون إذ ذهب مغاضبا)* الآية. فقال الرضا (عليه السلام): ذاك يونس بن متى (عليه السلام) ذهب مغاضبا لقومه *(فظن)* بمعنى استيقن *(أن لن نقدر عليه)* أي لن نضيق عليه رزقه، ومنه قوله عز وجل: *(وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه)*(33) أي ضيق وقتر *(فنادى في الظلمات)* أي ظلمة الليل وظلمة بطن الحوت *(أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)*(34) بتركي مثل هذه العبادة التي قد فرغتني لها في بطن الحوت. فاستجاب الله تعالى له، وقال عز وجل: *(فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون)*(35).
فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن، فأخبرني عن قول الله عز وجل: *(حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا)*(36). قال الرضا (عليه السلام): يقول الله عز وجل: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا، جاء الرسل نصرنا. فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن، فأخبرني عن قول الله عز وجل: *(ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)*(37). قال الرضا (عليه السلام): لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنبا من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنما، فلما جاءهم (صلى الله عليه وآله) بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا: *(أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب * وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد * ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق)*(38). فلما فتح الله عز وجل على نبيه (صلى الله عليه وآله) مكة قال له: يا محمد *(إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)*(39) عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدم وما تأخر، لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفورا بظهوره عليهم.
فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن، فأخبرني عن قول الله عز وجل: *(عفا الله عنك لم أذنت لهم)*(40). قال الرضا (عليه السلام): هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة، خاطب الله عز وجل بذلك نبيه، وأراد به أمته، وكذلك قوله تعالى: *(لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين)*(41)، وقوله عز وجل: *(ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا)*(42). قال: صدقت يا ابن رسول الله، فأخبرني عن قول الله عز وجل: *(إذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه)*(43). قال الرضا (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قصد دار زيد بن حارثة الكلبي في أمر أراده، فرأى امرأته تغتسل، فقال لها: سبحان الذي خلقك، وإنما أراد بذلك تنزيه الله تبارك وتعالى عن قول من زعم أن الملائكة بنات الله. فقال الله عز وجل: *(أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما)*(44) فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لما رآها تغتسل: سبحان الذي خلقك أن يتخذ ولدا يحتاج إلى هذا التطهير والاغتسال. فلما عاد زيد إلى منزله، أخبرته امرأته بمجيئ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقوله لها: سبحان الذي خلقك، فلم يعلم زيد ما أراد بذلك، وظن أنه قال ذلك لما أعجبه من حسنها، فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له: يا رسول الله، إن امرأتي في خلقها سوء وإني أريد طلاقها. فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): *(أمسك عليك زوجك واتق الله)* وقد كان الله عز وجل عرفه عدد أزواجه، وأن تلك المرأة منهن، فأخفى ذلك في نفسه ولم يبده لزيد، وخشي الناس أن يقولوا: إن محمدا يقول لمولاه: إن امرأتك ستكون لي زوجة، فيعيبونه بذلك، فأنزل الله عز وجل: *(وإذ تقول للذي أنعم الله عليه)* يعني بالإسلام *(وأنعمت عليه)* يعني بالعتق: *(أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه)*. ثم إن زيد بن حارثة طلقها، واعتدت منه، فزوجها الله عز وجل من نبيه محمد (صلى الله عليه وآله)، وأنزل بذلك قرآنا، فقال عز وجل: *(فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا)*(45). ثم علم عز وجل أن المنافقين سيعيبونه بتزويجها فأنزل: *(ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له)*(46). فقال المأمون: لقد شفيت صدري يا بن رسول الله، وأوضحت لي ما كان ملتبسا علي، فجزاك الله عن أنبيائه وعن الإسلام خيرا. قال علي بن محمد بن الجهم: فقام المأمون إلى الصلاة، وأخذ بيد محمد بن جعفر بن محمد، وكان حاضر المجلس، وتبعتهما. فقال له المأمون: كيف رأيت ابن أخيك؟ فقال: عالم، ولم نره يختلف إلى أحد من أهل العلم. فقال المأمون: إن ابن أخيك من أهل بيت النبي الذين قال (صلى الله عليه وآله) فيهم: ألا إن أبرار عترتي وأطايب أرومتي (الأرومة: الأصل) أحلم الناس صغارا، وأعلم الناس كبارا، لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، لا يخرجونكم من باب هدى، ولا يدخلونكم في باب ضلال . وانصرف الرضا (عليه السلام) إلى منزله، فلما كان من الغد، غدوت عليه، وأعلمته ما كان من قول المأمون وجواب عمه محمد بن جعفر له، فضحك (عليه السلام)، ثم قال: يا بن الجهم، لا يغرنك ما سمعته منه، فإنه سيغتالني، والله ينتقم لي منه (47).
وجرت له (عليه السلام) مناظرة أخرى في هذا المعنى مع اختلاف في ألفاظها وسياقها مع علي بن محمد بن الجهم، وبمحضر المأمون. فعن أبي الصلت الهروي، قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام) أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات، فلم يقم أحد إلا وقد ألزمه حجته كأنه قد ألقم حجرا. فقام إليه علي بن محمد بن الجهم، فقال: يا بن رسول الله، أتقول بعصمة الأنبياء؟ قال: بلى. قال: فما تعمل في قوله الله عز وجل: *(وعصى آدم ربه فغوى)*(48)، وقوله عز وجل: *(وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه)*(49)، وقوله في يوسف: *(ولقد همت به وهم بها)*(50)، وقوله عز وجل في داود: *(وظن داود أنما فتناه)*(51)، وقوله في نبيه محمد (صلى الله عليه وآله): *(وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه)*(52). فقال مولانا الرضا (عليه السلام): ويحك يا علي! اتق الله، ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش، ولا تتأول كتاب الله عز وجل برأيك، فإن الله عز وجل يقول: *(وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)*(53). أما قوله عز وجل في آدم (عليه السلام): *(وعصى آدم ربه فغوى)* فإن الله عز وجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده لم يخلقه للجنة، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض لتتم مقادير أمر الله عز وجل، فلما هبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة، عصم بقوله عز وجل *(إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين)*(54). وأما قوله عز وجل: *(وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه)* إنما ظن أن الله عز وجل لا يضيق عليه رزقه، ألا تسمع قول الله عز وجل: *(وأما إذا ما ابتلاه ربه فقدر عليه رزقه)*(55)؟ أي ضيق عليه، ولو ظن أن الله لا يقدر عليه لكان قد كفر. وأما قوله عز وجل في يوسف: *(ولقد همت به وهم بها)* فإنها همت بالمعصية، وهم يوسف بقتلها إن أجبرته لعظم ما داخله، فصرف الله عنه قتلها والفاحشة، وهو قوله: *(وكذلك لنصرف عنه السوء)* يعني القتل *(والفحشاء)* يعني الزنا. فأما داود، فما يقول من قبلكم فيه؟ فقال علي بن الجهم: يقولون: إن داود كان في محرابه يصلي، إذ تصور له إبليس على صورة طير، أحسن ما يكون من الطيور، فقطع صلاته، وقام ليأخذ الطير، فخرج الطير إلى الدار، فخرج في أثره، فطار الطير إلى السطح، فصعد في طلبه، فسقط الطير في دار أوريا بن حنان، فاطلع داود في أثر الطير، فإذا بامرأة أوريا تغتسل، فلما نظر إليها هويها، وكان أوريا قد أخرجه في بعض غزواته، فكتب إلى صاحبه: أن أقدم أوريا أمام الحرب، فقدم فظفر أوريا بالمشركين، فصعب ذلك على داود، فكتب الثانية أن قدمه أمام التابوت، فقتل أوريا (رحمه الله)، وتزوج داود بامرأته! قال: فضرب الرضا (عليه السلام) بيده على جبهته، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! لقد نسبتم نبيا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتى خرج في أثر الطير، ثم بالفاحشة ثم بالقتل!
فقال: يا بن رسول الله، فما كانت خطيئته؟ فقال (عليه السلام): ويحك، إن داود إنما ظن أن ما خلق الله عز وجل خلقا هو أعلم منه، فبعث الله عز وجل إليه الملكين فتسورا المحراب، فقالا: *(خصمين بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب)*، فعجل داود (عليه السلام) على المدعى عليه، فقال: *(لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه)*(56)، ولم يسأل المدعي البينة على ذلك، ولم يقبل على المدعى عليه فيقول ما يقول. فكان هذا خطيئة حكمه لا ما ذهبتم إليه، ألا تسمع قول الله عز وجل يقول: *(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق)*(57) إلى آخر الآية. فقلت: يا بن رسول الله، فما قصته مع أوريا؟ فقال الرضا (عليه السلام): إن المرأة في أيام داود إذا مات بعلها أو قتل، لا تتزوج بعده أبدا، وأول من أباح الله عز وجل له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود (عليه السلام) فذلك الذي شق على أوريا. أما محمد نبيه (صلى الله عليه وآله) وقول الله عز وجل له: *(وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه)*(58) فإن الله عز وجل عرف نبيه (صلى الله عليه وآله) أسماء أزواجه في دار الدنيا، وأسماء أزواجه في الآخرة، وأنهن أمهات المؤمنين، وأحد من سمى له زينب بنت جحش، وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة، فأخفى (صلى الله عليه وآله) اسمها في نفسه، ولم يبده له، لكيلا يقول أحد من المنافقين: إنه قال في امرأة في بيت رجل، إنها واحدة من أزواجه من أمهات المؤمنين، وخشي قول المنافقين، قال الله عز وجل: *(والله أحق أن تخشاه)* في نفسك، وإن الله عز وجل ما تولى تزويج أحد من خلقه إلا تزويج حواء من آدم، وزينب من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفاطمة من علي (عليه السلام). قال: فبكى علي بن الجهم، وقال: يا بن رسول الله، أنا تائب إلى الله عز وجل أن أنطق في أنبياء الله بعد يومي هذا إلا بما ذكرته (59).
وفي (المناقب): قال ابن سنان: كان المأمون يجلس في ديوان المظالم يوم الاثنين ويوم الخميس، ويقعد الرضا (عليه السلام) على يمينه، فرفع إليه أن صوفيا من أهل الكوفة سرق، فأمر بإحضاره، فرأى عليه سيماء الخير، فقال: سوأة لهذه الآثار الجميلة بهذا الفعل القبيح! فقال الرجل: فعلت ذلك اضطرارا لا اختيارا، وقال الله تعالى: *(فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فلا إثم عليه)*(60)، وقد منعت من الخمس والغنائم. فقال: وما حقك منها؟ فقال: قال الله تعالى: *(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)*(61) فمنعتني حقي وأنا مسكين وابن السبيل، وأنا من حملة القرآن، وقد منعت كل سنة مني مائتي دينار بقول النبي (عليه السلام). فقال المأمون: لا أعطل حدا من حدود الله وحكما من أحكامه في السارق من أجل أساطيرك هذه. قال: فابدأ أولا بنفسك فطهرها، ثم طهر غيرك، وأقم حدود الله عليها، ثم على غيرك. قال: فالتفت المأمون إلى الرضا (عليه السلام)، فقال: ما يقول؟ قال: يقول: إنه سرقت فسرق. قال: فغضب المأمون، ثم قال: والله لأقطعنك. قال: أتقطعني وأنت عبدي! فقال: ويلك أيش تقول؟ قال: أليست أمك اشتريت من مال الفيئ؟ فأنت عبد لمن في المشرق والمغرب من المسلمين حتى يعتقوك، وأنا منهم وما أعتقتك، والأخرى أن النجس لا يطهر نجسا، إنما يطهره طاهر، ومن في جنبه حد لا يقيم الحدود على غيره حتى يبدأ بنفسه، أما سمعت الله تعالى يقول: *(أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون)*(62). فالتفت المأمون إلى الرضا (عليه السلام) فقال: ما تقول؟ قال: إن الله عز وجل قال لنبيه (عليه السلام): *(قل فلله الحجة البالغة)*(63) وهي التي تبلغ الجاهل فيعلمها على جهله كما يعلمها العالم بعلمه، والدنيا والآخرة قائمتان بالحجة، وقد احتج الرجل. قال: فأمر بإطلاق الرجل الصوفي، وغضب على الرضا (عليه السلام) في السر (64). ورواه الصدوق في (العيون) بسنده عن محمد بن سنان، نحوه (65).
وعن أبي الصلت الهروي، قال: قال المأمون يوما للرضا (عليه السلام): يا أبا الحسن، أخبرني عن جدك علي بن أبي طالب بأي وجه هو قسيم الجنة والنار؟ فقال (عليه السلام): يا أمير المؤمنين، ألم ترو عن أبيك، عن آبائه، عن عبد الله بن عباس، أنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: حب علي إيمان، وبغضه كفر؟ فقال: بلى. قال الرضا (عليه السلام): فقسمة الجنة والنار إليه. فقال المأمون: لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن، أشهد أنك وارث علم رسول الله (صلى الله عليه وآله). قال أبو الصلت الهروي: فلما رجع الرضا إلى منزله أتيته، فقلت: يا بن رسول الله، ما أحسن ما أجبت به أمير المؤمنين!
فقال: يا أبا الصلت، أنا كلمته من حيث هو، ولقد سمعت أبي يحدث عن آبائه، عن علي (عليهم السلام)، قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي، أنت قسيم الجنة والنار يوم القيامة، تقول للنار هذا لي، وهذا لك (66).
وفي (الفصول المختارة) للسيد المرتضى، قال: قال المأمون يوما للرضا (عليه السلام): أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين يدل عليها القرآن؟ قال: فقال له الرضا (عليه السلام): فضيلته في المباهلة، قال الله جل جلاله: *(فمن حاجك فيه)* الآية، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسن والحسين (عليهما السلام) فكانا ابنيه، ودعا فاطمة (عليها السلام) فكانت في هذا الموضع نساءه، ودعا أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان نفسه بحكم الله عز وجل، فثبت أنه ليس أحد من خلق الله سبحانه وتعالى أجل من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأفضل، فوجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحكم الله عز وجل. قال: فقال له المأمون: أليس قد ذكر الله تعالى الأبناء بلفظ الجمع، وإنما دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ابنيه خاصة، وذكر النساء بلفظ الجمع، وإنما دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ابنته وحدها، فألا جاز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره، فلا يكون لأمير المؤمنين (عليه السلام) ما ذكرت من الفضل؟ قال: فقال له الرضا (عليه السلام): ليس يصح ما ذكرت يا أمير المؤمنين، وذلك أن الداعي إنما يكون داعيا لغيره، كما أن الآمر آمر لغيره، ولا يصح أن يكون داعيا لنفسه في الحقيقة، كما لا يكون آمرا لها في الحقيقة، وإذا لم يدع رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجلا في المباهلة إلا أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد ثبت أنه نفسه التي عنى الله تعالى في كتابه، وجعل حكمه ذلك في تنزيله. قال: فقال المأمون: إذا ورد الجواب سقط السؤال (67).
وعنه أيضا، قال: روي أنه لما سار المأمون إلى خراسان، وكان معه الرضا علي بن موسى (عليه السلام)، فبينا هما يسيران إذا قال له المأمون: يا أبا الحسن، إني فكرت في شيء، فنتج لي الفكر الصواب فيه، فكرت في أمرنا وأمركم، ونسبنا ونسبكم، فوجدت الفضيلة فيه واحدة، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك محمولا على الهوى والعصبية. فقال له أبو الحسن الرضا (عليه السلام): إن لهذا الكلام جوابا، إن شئت ذكرته لك، وإن شئت أمسكت. فقال له المأمون: إني لم أقله إلا لأعلم ما عندك فيه. قال له الرضا (عليه السلام): أنشدك الله يا أمير المؤمنين، لو أن الله تعالى بعث نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله) فخرج علينا من وراء أكمة (الأكمة: التل) من هذه الآكام يخطب إليك ابنتك، أكنت مزوجه إياها؟ فقال: يا سبحان الله، وهل أحد يرغب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقال له الرضا (عليه السلام): أفتراه يحل له أن يخطب إلي؟ قال: فسكت المأمون هنيئة. ثم قال: أنتم والله أمس برسول الله (صلى الله عليه وآله) رحما (68).
وله (عليه السلام) مناظرة في الاصطفاء مع المأمون، رواها ابن شعبة الحراني في (تحف العقول)، والشيخ الصدوق في (العيون) عن الريان بن الصلت، قال: لما حضر علي بن موسى (عليه السلام) مجلس المأمون، وقد اجتمع فيه جماعة علماء أهل العراق وخراسان، فقال المأمون: أخبروني عن معنى هذه الآية: *(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا: فقالت العلماء: أراد الله الأمة كلها. فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال الرضا (عليه السلام): لا أقول كما قالوا، ولكن أقول: أراد الله تبارك وتعالى بذلك العترة الطاهرة (عليهم السلام). فقال المأمون: وكيف عنى العترة دون الأمة؟ فقال الرضا (عليه السلام): لو أراد الأمة لكانت بأجمعها في الجنة، لقول الله: *(فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير)*(69)، ثم جعلهم كلهم في الجنة، فقال عز وجل: *(جنات عدن يدخلونها)*(70) فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم.قال الرضا (عليه السلام): هم الذين وصفهم الله في كتابه فقال: *(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)*(71)، وهم الذين قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، انظروا كيف تخلفوني فيهما. يا أيها الناس، لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم . قالت العلماء: أخبرنا يا أبا الحسن عن العترة، هم الآل أو غير الآل؟ فقال الرضا (عليه السلام): هم الآل. فقالت العلماء: فهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يؤثر عنه أنه قال: أمتي آلي وهؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المستفيض الذي لا يمكن دفعه: آل محمد أمته . فقال الرضا (عليه السلام): أخبروني هل تحرم الصدقة على آل محمد؟ قالوا: نعم. قال (عليه السلام): فتحرم على الأمة؟ قالوا: لا. قال (عليه السلام): هذا فرق بين الآل وبين الأمة، ويحكم أين يذهب بكم، أصرفتم عن الذكر صفحا أم أنتم قوم مسرفون (72)، أما علمتم أنما وقعت الرواية في الظاهر على المصطفين المهتدين دون سائرهم؟ قالوا: من أين قلت، يا أبا الحسن؟ قال (عليه السلام): من قول الله: *(لقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون)*(73)، فصارت وراثة النبوة والكتاب في المهتدين دون الفاسقين، أما علمتم أن نوحا سأل ربه فقال: *(رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق...)*(74)، وذلك أن الله وعده أن ينجيه وأهله، فقال له ربه تبارك وتعالى: *(إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين)*(75). فقال المأمون: فهل فضل الله العترة على سائر الناس؟ فقال الرضا (عليه السلام): إن الله العزيز الجبار فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه. فقال المأمون: أين ذلك من كتاب الله؟ فقال الرضا (عليه السلام): في قوله تعالى: *(إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض)*(76)، وقال الله في موضع آخر: *(أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما)*(77)، ثم رد المخاطبة في أثر هذا إلى سائر المؤمنين فقال: *(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)*(78) يعني الذين أورثهم الكتاب والحكمة وحسدوا عليهما بقوله: *(أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما)*، يعني الطاعة للمصطفين الطاهرين والملك ها هنا الطاعة لهم. قالت العلماء: هل فسر الله تعالى الاصطفاء في الكتاب؟ فقال الرضا (عليه السلام): فسر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موضعا: فأول ذلك: قول الله: *(وأنذر عشيرتك الأقربين)*(79) ورهطك المخلصين، هكذا في قراءة أبي بن كعب، وهي ثابتة في مصحف عبد الله بن مسعود، وهذه منزلة رفيعة وشرف عال حين عنى الله عز وجل بذلك الآل، فهذه واحدة. والآية الثانية: في الاصطفاء قول الله: *(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)*(80)، وهذا الفضل الذي لا يجحده معاند لأنه فضل بين. والآية الثالثة: حين ميز الله الطاهرين من خلقه أمر نبيه في آية الابتهال، فقال: *(قل)* يا محمد *(تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين)*(81)، فأبرز النبي (صلى الله عليه وآله) عليا والحسن والحسين وفاطمة (عليهم السلام) فقرن أنفسهم بنفسه، فهل تدرون ما معنى قوله: *(وأنفسنا وأنفسكم)*؟ قالت العلماء: عنى به نفسه. قال أبو الحسن (عليه السلام): غلطتم، إنما عنى به عليا (عليه السلام)، ومما يدل على ذلك قول النبي (صلى الله عليه وآله) حين قال: لينتهن بنو وكيعة (حي من كندة) أو لأبعثن إليه رجلا كنفسي ، يعني عليا (عليه السلام)، فهذه خصوصية لا يتقدمها أحد، وفضل لا يختلف فيه بشر، وشرف لا يسبقه إليه خلق، إذ جعل نفس علي (عليه السلام) كنفسه، فهذه الثالثة. وأما الرابعة: فإخراجه الناس من مسجده ما خلا العترة حين تكلم الناس في ذلك وتكلم العباس، فقال: يا رسول الله، تركت عليا وأخرجتنا! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما أنا تركته وأخرجتكم، ولكن الله تركه وأخرجكم . وفي هذا بيان قوله لعلي (عليه السلام): أنت مني بمنزلة هارون من موسى . قالت العلماء: فأين هذا من القرآن؟ قال أبو الحسن (عليه السلام): أوجدكم في ذلك قرآنا أقرؤه عليكم. قالوا: هات. قال (عليه السلام): قول الله عز وجل: *(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة)*(82)، ففي هذه الآية منزلة هارون من موسى، وفيها أيضا منزلة علي (عليه السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومع هذا دليل ظاهر في قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين قال: إن هذا المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض إلا لمحمد وآل محمد . فقالت العلماء: هذا الشرح وهذا البيان لا يوجد إلا عندكم معشر أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله). قال أبو الحسن (عليه السلام): ومن ينكر لنا ذلك ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد مدينة العلم فليأتها من بابها ، ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتقدمة والاصطفاء والطهارة ما لا ينكره إلا معاند، ولله عز وجل الحمد على ذلك، فهذه الرابعة. وأما الخامسة: فقول الله عز وجل: *(وآت ذا القربى حقه)*(83) خصوصية خصهم الله العزيز الجبار بها، واصطفاهم على الأمة، فلما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ادعوا لي فاطمة فدعوها له فقال: يا فاطمة. قالت: لبيك، يا رسول الله. فقال: إن فدك لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وهي لي خاصة دون المسلمين، وقد جعلتها لك لما أمرني الله به، فخذيها لك ولولدك، فهذه الخامسة. وأما السادسة: فقول الله عز وجل: *(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)*(84) فهذه خصوصية للنبي (صلى الله عليه وآله) دون الأنبياء، وخصوصية للآل دون غيرهم، وذلك أن الله حكى عن الأنبياء في ذكر نوح (عليه السلام): *(يا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون)*(85)، وحكى عن هود (عليه السلام) قال: *(لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون)*(86).وقال لنبيه (صلى الله عليه وآله): *(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)*(87)، ولم يفرض الله مودتهم إلا وقد علم أنهم لا يرتدون عن الدين أبدا، ولا يرجعون إلى ضلالة أبدا، وأخرى أن يكون الرجل وادا للرجل، فيكون بعض أهل بيته عدوا له، فلا يسلم له قلب الرجل، فأحب الله أن لا يكون في قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) على المؤمنين شيء، إذ فرض عليهم مودة ذي القربى، فمن أخذ بها وأحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأحب أهل بيته (عليهم السلام)، لم يستطع رسول الله أن يبغضه، ومن تركها ولم يأخذ بها وأبغض أهل بيت نبيه، فعلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يبغضه، لأنه قد ترك فريضة من فرائض الله، وأي فضيلة وأي شرف يتقدم هذا؟ ولما أنزل الله هذه الآية على رسوله (صلى الله عليه وآله): *(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)* قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس، إن الله قد فرض عليكم فرضا، فهل أنتم مؤدوه؟ فلم يجبه أحد، فقام فيهم يوما ثانيا، فقال مثل ذلك، فلم يجبه أحد، فقام فيهم يوم الثالث، فقال: أيها الناس، إن الله قد فرض عليكم فرضا، فهل أنتم مؤدوه؟ فلم يجبه أحد، فقال: أيها الناس، إنه ليس ذهبا ولا فضة، ولا مأكولا ولا مشروبا . قالوا: فهات إذن. فتلا عليهم هذه الآية. فقالوا: أما هذه فنعم، فما وفى به أكثرهم. ثم قال أبو الحسن (عليه السلام): حدثني أبي، عن جدي، عن آبائه، عن الحسين بن علي (عليهم السلام)، قال: اجتمع المهاجرون والأنصار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: إن لك يا رسول الله مؤونة في نفقتك، وفيمن يأتيك من الوفود، وهذه أموالنا مع دمائنا، فاحكم فيها بارا مأجورا، أعط ما شئت وأمسك ما شئت من غير حرج، فأنزل الله عز وجل الروح الأمين فقال: يا محمد، *(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)* لا تؤذوا قرابتي من بعدي، فخرجوا. فقال أناس منهم: ما حمل رسول الله على ترك ما عرضنا عليه إلا ليحثنا على قرابته من بعده، إن هو إلا شيء افتراه في مجلسه، وكان ذلك من قولهم عظيما، فأنزل الله هذه الآية: *(أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم)*(88). فبعث إليهم النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: هل من حدث؟ فقالوا: إي والله يا رسول الله، لقد تكلم بعضنا كلاما عظيما فكرهناه، فتلا عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبكوا، واشتد بكاؤهم، فأنزل الله تعالى: *(وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون)*(89)، فهذه السادسة. وأما السابعة: فيقول الله: *(إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)*(90) وقد علم المعاندون منهم أنه لما نزلت هذه الآية قيل: يا رسول الله، قد عرفنا التسليم عليك، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: تقولون: اللهم صل على محمد وآل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد ، وهل بينكم - معاشر الناس - في هذا اختلاف؟ قالوا: لا. فقال المأمون: هذا ما لا اختلاف فيه أصلا، وعليه الإجماع، فهل عندك في الآل شيء أوضح من هذا في القرآن؟
قال أبو الحسن (عليه السلام): أخبروني عن قول الله: *(يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم)*(91) فمن عنى بقوله: *(يس)*؟ قال العلماء: يس محمد (صلى الله عليه وآله) ليس فيه شك. قال أبو الحسن (عليه السلام): أعطى الله محمدا وآل محمد من ذلك فضلا لم يبلغ أحد كنه وصفه لمن عقله، وذلك أن الله لم يسلم على أحد إلا على الأنبياء صلوات الله عليهم، فقال تبارك وتعالى: *(سلام على نوح في العالمين)* ، وقال: *(سلام على إبراهيم)* ، وقال: *(سلام على موسى وهارون)* ، ولم يقل سلام على آل نوح، ولم يقل: سلام على آل إبراهيم، ولا قال: سلام على آل موسى وهارون، وقال عز وجل: *(سلام على آل يس)* يعني آل محمد (عليهم السلام). فقال المأمون: لقد علمت أن في معدن النبوة شرح هذا وبيانه، فهذه السابعة. وأما الثامنة: فقول الله عز وجل: *(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى)* ، فقرن سهم ذي القربى مع سهمه وسهم رسوله (صلى الله عليه وآله)، فهذا فصل بين الآل والأمة، لأن الله جعلهم في حيز، وجعل الناس كلهم في حيز دون ذلك، ورضي لهم ما رضي لنفسه، واصطفاهم فيه، وابتدأ بنفسه، ثم ثنى برسوله، ثم بذي القربى في كل ما كان من الفيئ والغنيمة وغير ذلك مما رضيه عز وجل لنفسه ورضيه لهم، فقال وقوله الحق: *(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى)* فهذا توكيد مؤكد، وأمر دائم لهم إلى يوم القيامة في كتاب الله الناطق *(الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)*(92). وأما قوله: *(واليتامى والمساكين)* ، فإن اليتيم إذا انقطع يتمه، خرج من المغانم، ولم يكن له نصيب، وكذلك المسكين إذا انقطعت مسكنته، لم يكن له نصيب في المغنم، ولا يحل له أخذه، وسهم ذوي القربى إلى يوم القيامة قائم فيهم للغني والفقير، لأنه لا أحد أغنى من الله ولا من رسوله (صلى الله عليه وآله)، فجعل لنفسه منها سهما، ولرسوله (صلى الله عليه وآله) سهما، فما رضي لنفسه ولرسوله رضيه لهم. وكذلك الفيئ ما رضيه لنفسه ولنبيه (صلى الله عليه وآله) رضيه لذي القربى، كما جاز لهم في الغنيمة، فبدأ بنفسه، ثم برسوله (صلى الله عليه وآله)، ثم بهم، وقرن سهمهم بسهم الله وسهم رسوله (صلى الله عليه وآله). وكذلك في الطاعة، قال عز وجل: *(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)* فبدأ بنفسه ثم برسوله (صلى الله عليه وآله) ثم بأهل بيته، وكذلك آية الولاية *(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا)* فجعل ولايتهم مع طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) مقرونة بطاعته، كما جعل سهمه مع سهم الرسول (صلى الله عليه وآله) مقرونا بأسهمهم في الغنيمة والفئ، فتبارك الله ما أعظم نعمته على أهل هذا البيت! فلما جاءت الصدقة نزه نفسه عز ذكره ونزه رسوله (صلى الله عليه وآله) ونزه أهل بيته عنها، فقال: *(إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله)*(93) فهل تجد في شيء من ذلك أنه جعل لنفسه سهما، أو لرسوله (صلى الله عليه وآله) أو لذي القربى، لأنه لما نزههم عن الصدقة نزه نفسه ونزه رسوله (صلى الله عليه وآله) ونزه أهل بيته، لا بل حرم عليهم، لأن الصدقة محرمة على محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، وهي أوساخ الناس لا تحل لهم، لأنهم طهروا من كل دنس ووسخ، فلما طهرهم واصطفاهم، رضي لهم ما رضي لنفسه، وكره لهم ما كره لنفسه. وأما التاسعة: فنحن أهل الذكر الذين قال الله في محكم كتابه: *(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)*. فقال العلماء: إنما عنى بذلك اليهود والنصارى. قال أبو الحسن (عليه السلام): وهل يجوز ذلك؟ إذن يدعونا إلى دينهم، ويقولون: إنه أفضل من دين الإسلام! فقال المأمون: فهل عندك في ذلك شرح يخالف ما قالوا يا أبا الحسن؟ قال (عليه السلام): نعم، الذكر: رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونحن أهل بيته، وذلك بين في كتاب الله بقوله في سورة الطلاق: *(فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا * رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات)*(94) فالذكر رسول الله ونحن أهله، فهذه التاسعة. أما العاشرة: فقول الله عز وجل في آية التحريم: *(حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم)* إلى آخرها، أخبروني هل تصلح ابنتي أو ابنة ابني أو ما تناسل من صلبي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يتزوجها لو كان حيا؟ قالوا: لا. قال (عليه السلام): فأخبروني هل كانت ابنة أحدكم تصلح له أن يتزوجها لو كان حيا؟ قالوا: نعم. قال: فقال (عليه السلام): ففي هذا بيان أنا من آله ولستم من آله، ولو كنتم من آله لحرمت عليه بناتكم، كما حرمت عليه بناتي، لأني من آله وأنتم من أمته، وهذا فرق بين الآل والأمة، لأن الآل منه، والأمة إذا لم تكن من الآل فليست منه، فهذه العاشرة. وأما الحادية عشرة: فقوله في سورة المؤمن حكاية عن قول رجل: *(وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم)*(95) الآية، وكان ابن خال فرعون، فنسبه إلى فرعون: بنسبه، ولم يضفه إليه بدينه، وكذلك خصصنا نحن إذ كنا من آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بولادتنا منه، وعممنا الناس بدينه، فهذا فرق ما بين الآل والأمة، فهذه الحادية عشرة.وأما الثانية عشرة: فقوله: *(وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها)* فخصنا بهذه الخصوصية إذ أمرنا مع أمره، ثم خصنا دون الأمة، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجئ إلى باب علي وفاطمة (عليهما السلام) بعد نزول هذه الآية تسعة أشهر في كل يوم عند حضور كل صلاة خمس مرات فيقول: الصلاة يرحمكم الله وما أكرم أحدا من ذراري الأنبياء بهذه الكرامة التي أكرمنا الله بها وخصنا من جميع أهل بيته، فهذا فرق ما بين الآل والأمة. فقال المأمون والعلماء: جزاكم الله أهل بيت نبيكم عن الأمة خيرا، فما نجد الشرح والبيان فيما اشتبه علينا إلا عندكم (96). أقول: وهل اعتبر المعتبرون؟
وعن الحسن بن الجهم، قال: حضرت مجلس المأمون يوما، وعنده علي ابن موسى الرضا (عليه السلام)، وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة، فسأله بعضهم، فقال له: يا بن رسول الله، بأي شيء تصح الإمامة لمدعيها؟ قال (عليه السلام): بالنص والدليل. قال له: فدلالة الإمام، فيما هي؟ قال (عليه السلام): في العلم واستجابة الدعوة. قال: فما وجه إخباركم بما يكون.قال (عليه السلام): ذلك بعهد معهود إلينا من رسول الله (صلى الله عليه وآله). قال: فما وجه إخباركم بما في قلوب الناس؟ قال (عليه السلام) له: أما بلغك قول الرسول (صلى الله عليه وآله): اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله ؟ قال: بلى. قال (عليه السلام): وما من مؤمن إلا وله فراسة ينظر بنور الله على قدر إيمانه، ومبلغ استبصاره وعلمه، وقد جمع الله للأئمة منا ما فرقه في جميع المؤمنين. وقال عز وجل في محكم كتابه: *(إن في ذلك لآيات للمتوسمين)* ، فأول المتوسمين رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم أمير المؤمنين (عليه السلام) من بعده، ثم الحسن والحسين والأئمة من ولد الحسين إلى يوم القيامة. قال: فنظر إليه المأمون، فقال له: يا أبا الحسن، زدنا مما جعل الله لكم أهل البيت. قال الرضا (عليه السلام): إن الله عز وجل قد أيدنا بروح منه مقدسة مطهرة، ليست بملك، لم تكن مع أحد ممن مضى إلا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهي مع الأئمة منا تسددهم وتوفقهم، وهي عمود من نور بيننا وبين الله عز وجل. قال له المأمون: يا أبا الحسن، بلغني أن قوما يغلون فيكم، ويتجاوزون فيكم الحد؟ فقال الرضا (عليه السلام): حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي: ابن أبي طالب (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا ترفعوني فوق حقي، فإن الله تبارك وتعالى اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا، قال الله تبارك وتعالى: *(ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون)*. قال علي (عليه السلام): يهلك في اثنان ولا ذنب لي: محب مفرط، ومبغض مفرط ، وأنا أبرأ إلى الله تعالى ممن يغلو فينا، ويرفعنا فوق حدنا كبراءة عيسى بن مريم (عليهما السلام) من النصارى، قال الله تعالى: *(وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد)*. وقال عز وجل: *(لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون)*. وقال عز وجل: *(ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام)* ، ومعناه أنهما كانا يتغوطان، فمن ادعى للأنبياء ربوبية وادعى للأئمة ربوبية أو نبوة، أو لغير الأئمة إمامة، فنحن منه براء في الدنيا والآخرة. فقال المأمون: يا أبا الحسن، فما تقول في الرجعة؟ فقال الرضا (عليه السلام): إنها لحق، قد كانت في الأمم السالفة ونطق به القرآن، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يكون في هذه الأمة ما كان في الأمم السالفة، حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة . قال (عليه السلام): إذا خرج المهدي من ولدي نزل عيسى بن مريم (عليه السلام) فصلى خلفه . وقال (عليه السلام): إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء . قيل: يا رسول الله، ثم يكون ماذا؟ قال: ثم يرجع الحق إلى أهله . فقال المأمون: يا أبا الحسن، فما تقول في القائلين بالتناسخ؟ فقال الرضا (عليه السلام): من قال بالتناسخ فهو كافر بالله العظيم، مكذب بالجنة والنار. قال المأمون: ما تقول في المنسوخ؟ قال الرضا (عليه السلام): أولئك قوم غضب الله عليهم فمسخهم فعاشوا ثلاثة أيام ثم ماتوا، ولم يتناسلوا، فما يوجد في الدنيا من القردة والخنازير وغير ذلك مما وقع عليهم اسم المسوخية فهو مثل ما لا يحل أكلها والانتفاع بها. قال المأمون: لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن، فوالله ما يوجد العلم الصحيح إلا عند أهل هذا البيت، وإليك انتهت علوم آبائك، فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيرا. قال الحسن بن الجهم: فلما قام الرضا (عليه السلام) تبعته، فانصرف إلى منزله، فدخلت عليه وقلت له: يا بن رسول الله، الحمد لله الذي وهب لك من جميل رأي أمير المؤمنين ما حمله على ما رأى من إكرامه لك وقبوله لقولك. فقال (عليه السلام): يا بن الجهم، لا يغرنك ما ألفيته عليه من إكرامي والاستماع مني، فإنه سيقتلني بالسم وهو ظالم إلي، إني أعرف ذلك بعهد معهود إلي من آبائي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاكتم هذا ما دمت حيا. قال الحسن بن الجهم: فما حدثت أحدا بهذا الحديث إلى أن مضى (عليه السلام) بطوس مقتولا بالسم، ودفن في دار حميد بن قحطبة الطائي في القبة التي فيها قبر هارون الرشيد إلى جانبه (97).
وعن محمد بن يحيى الصولي، قال: كان المأمون في باطنه يحب سقطات الرضا (عليه السلام)، وأن يعلوه المحتج، وإن أظهر غير ذلك، فاجتمع عنده الفقهاء: والمتكلمون، فدسوا إليهم أن ناظروه في الإمامة. فقال لهم الرضا (عليه السلام): اقتصروا على واحد منكم يلزمكم ما يلزمه، فرضوا برجل يعرف بيحيى بن الضحاك السمرقندي، ولم يكن بخراسان مثله. فقال له الرضا (عليه السلام): يا يحيى، سل عما شئت. فقال: نتكلم في الإمامة، كيف ادعيت لمن لم يؤم وتركت من أم ووقع الرضا به؟ فقال (عليه السلام) له: يا يحيى أخبرني عمن صدق كاذبا على نفسه، أو كذب صادقا على نفسه، أيكون محقا مصيبا، أو مبطلا مخطئا؟ فسكت يحيى، فقال له المأمون: أجبه. فقال: يعفيني أمير المؤمنين من جوابه. فقال المأمون: يا أبا الحسن، عرفنا الغرض من هذه المسألة. فقال (عليه السلام): لا بد ليحيى من أن يخبر عن أئمته أنهم كذبوا على أنفسهم أو صدقوا؟ فإن زعم أنهم كذبوا فلا أمانة لكذاب، وإن زعم أنهم صدقوا فقد قال أولهم: وليتكم وليس بخيركم ، وقال تاليه: كانت بيعته فلتة، فمن عاد لمثلها فاقتلوه ، فوالله ما رضي لمن فعل مثل فعلهم إلا بالقتل، فمن لم يكن بخير الناس، والخيرية لا تقع إلا بنعوت، منها: العلم، ومنها الجهاد، ومنها سائر الفضائل، وليست فيه، ومن كانت بيعته فلتة يجب القتل على من فعل مثلها، كيف يقبل عهده إلى غيره وهذه صورته؟! ثم يقول على المنبر: إن لي شيطانا يعتريني، فإذا مال بي فقوموني، وإذا أخطأت فارشدوني فليسوا أئمة بقولهم إن صدقوا أو كذبوا، فما عند يحيى في هذا جواب؟ فعجب المأمون من كلامه، وقال: يا أبا الحسن، ما في الأرض من يحسن هذا سواك (98)!: أجوبته (عليه السلام) في العقائد عن إبراهيم بن محمود، قال: قلت للرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله، ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا ؟ فقال (عليه السلام): لعن الله المحرفين للكلم عن مواضعه، والله ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) كذلك، إنما قال (صلى الله عليه وآله): إن الله تعالى ينزل ملكا إلى السماء الدنيا كل ليلة في الثلث الأخير، وليلة الجمعة في أول الليل، فيأمره فينادي: هل من سائل فاعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ يا طالب الخير أقبل، يا طالب الشر أقصر، فلا يزال ينادي بذلك حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر عاد إلى محله من ملكوت السماء ، حدثني بذلك أبي، عن جدي، عن آبائه، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله). وعن الحسن بن علي الوشاء، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: سألته فقلت: الله فوض الأمر إلى عباده؟ قال: الله أعز من ذلك. قلت: فأجبرهم على المعاصي؟ قال: الله أعدل وأحكم من ذلك. ثم قال: قال الله عز وجل: يا بن آدم، أنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني، عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك . وعن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: من قال بالجبر فلا تعطوه من الزكاة شيئا، ولا تقبلوا له شهادة، فإن الله تبارك وتعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولا يحملها فوق طاقتها، ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى (99). وقال (عليه السلام)، وقد ذكر عنده الجبر والتفويض، فقال: ألا أعطيكم في هذه أصلا لا تختلفون فيه، ولا يخاصمكم عليه أحد إلا كسرتموه؟ قلنا: إن رأيت ذلك.فقال (عليه السلام): إن الله عز وجل لم يطع بإكراه، ولم يعص بغلبة، ولم يهمل العباد في ملكه، وهو المالك لما ملكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بالطاعة لم يكن الله عنها صادا، ولا منها مانعا، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، فإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيها. ثم قال (عليه السلام): من يضبط حدود هذا الكلام، فقد خصم من خالفه . وعن يزيد بن عمير الشامي، أنه قال: دخلت على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بمرو، فقلت له: يا بن رسول الله، روي لنا عن الصادق جعفر بن محمد، أنه قال: لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين ، ما معنى ذلك؟ فقال: من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر، ومن زعم أن الله فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك. فقلت: يا ابن رسول الله، فما أمر بين الأمرين؟ فقال: وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به، وترك ما نهوا عنه. فقلت: وهل لله مشيئة وإرادة في ذلك؟ فقال: أما الطاعات فإرادة الله ومشيئته فيها الأمر بها والعون عليها، وإرادته ومشيئته في المعاصي النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها. قلت: فلله عز وجل فيها القضاء؟ قال: نعم، ما من فعل يفعله العباد من خير أو شر إلا ولله فيه قضاء.قلت: ما معنى هذا القضاء؟ قال: الحكم عليهم بما يستحقونه من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة . وعن كتاب (نثر الدر): سأل الفضل بن سهل علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) في مجلس المأمون، فقال: يا أبا الحسن، الناس مجبرون؟ فقال: الله أعدل من أن يجبر ثم يعذب. قال: فمطلقون؟ قال: الله أحكم من أن يهمل عبده ويكله إلى نفسه . وفي (تهذيب التهذيب): قال المبرد عن أبي عثمان المازني: سئل علي بن موسى الرضا (عليه السلام): يكلف الله العباد ما لا يطيقون؟ قال: هو أعدل من ذلك. قال: يستطيعون أن يفعلوا ما يريدون؟ قال: هم أعجز من ذلك . وعن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، قال: قلت له: يا ابن رسول الله، إن الناس ينسبوننا إلى القول بالتشبيه والجبر لما روي من الأخبار في ذلك عن آبائك الأئمة (عليهم السلام). فقال له: يا بن خالد، أخبرني عن الأخبار التي رويت عن آبائي في الجبر والتشبيه أكثر أم الأخبار التي رويت عن النبي (صلى الله عليه وآله) في ذلك. فقلت: بل ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) في ذلك أكثر. قال: فليقولوا: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول بالتشبيه والجبر إذن. قلت له: إنهم يقولون إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يقل شيئا من ذلك، وإنما روي عليه. قال (عليه السلام): فليقولوا في آبائي الأئمة: إنهم لم يقولوا شيئا من ذلك، وإنما روي عليهم. ثم قال: من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر ومشرك، ونحن براء منه في الدنيا والآخرة. يا بن خالد، إنما وضع الأخبار عنا في الجبر والتشبيه الغلاة الذين صغروا عظمة الله، فمن أحبهم فقد أبغضنا، ومن أبغضهم فقد أحبنا، ومن والاهم فقد عادانا، ومن عاداهم فقد والانا، ومن وصلهم فقد قطعنا، ومن جفاهم فقد برنا، ومن أهانهم فقد أكرمنا، ومن قبلهم فقد ردنا، ومن ردهم فقد قبلنا، ومن أحسن إليهم فقد أساء إلينا، ومن أساء إليهم فقد أحسن إلينا، ومن صدقهم فقد كذبنا، ومن كذبهم فقد صدقنا، ومن أعطاهم فقد حرمنا، ومن حرمهم فقد أعطانا. يا بن خالد، من كان من شيعتنا، فلا يتخذ منهم وليا ولا نصيرا وعن الحسين بن خالد أيضا، أنه قال للرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله، إن الناس يروون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن الله خلق آدم على صورته ؟ فقال: قاتلهم الله، لقد حذفوا أول الحديث، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مر برجلين يتسابان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبح الله وجهك ووجه من يشبهك. فقال له: يا عبد الله، لا تقل هذا لأخيك، فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته في أجوبة شتى: 1 - سأله رجل وهو في الطواف، أخبرني عن الجواد؟ فقال: إن لكلامك وجهين، فإن كنت تسأل عن المخلوق فإن الجواد هو الذي يؤدي ما افترض الله عليه، وإن تكن تعني الخالق فهو الجواد إن أعطى، وهو الجواد إن منع، إن أعطى عبدا أعطاه ما ليس له، وإن منع منع ما ليس له. 2 - وفي (المناقب): سئل الرضا (عليه السلام) عن طعم الخبز والماء. فقال (عليه السلام): طعم الماء طعم الحياة، وطعم الخبز طعم العيش. 3 - وفيه، عن أبي إسحاق الموصلي، قال: إن قوما من ما وراء النهر سألوا الرضا (عليه السلام) عن الحور العين، مم خلقن؟ وعن أهل الجنة إذا دخلوها أول ما يأكلون؟ وعن معتمد رب العالمين، أين كان؟ وكيف كان إذ لا أرض ولا سماء ولا شيء؟ فقال (عليه السلام): أما الحور العين فإنهن خلقن من الزعفران والتراب لا يفنين.
وأما أول ما يأكل أهل الجنة، فإنهم يأكلون أول ما يدخلونها من كبد الحوت التي عليها الأرض، وأما معتمد الرب عز وجل، فإنه أين الأين، وكيف الكيف، وإن ربي بلا أين ولا كيف، وكان معتمده على قدرته سبحانه وتعالى. 4 - وفيه عن الأشعث بن حاتم، قال: سئل الرضا (عليه السلام) بمرو على مائدة عليها المأمون والفضل: النهار خلق قبل أم الليل؟ قال (عليه السلام): أمن القرآن، أم من الحساب؟ فقال الفضل: من كليهما. فقال (عليه السلام): قد علمت أن طالع الدنيا السرطان، والكواكب في موضع شرفها، فزحل في الميزان، والمشتري في السرطان، والشمس في الحمل، والقمر في الثور، فذلك يدل على كينونة الشمس في الحمل في العاشرة في وسط السماء، ويوجب ذلك أن النهار خلق قبل الليل. وأما دليل ذلك من القرآن فقوله تعالى: *(لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار)*. وروى ابن شعبة في (تحف العقول) نحوه. 5 - وعن أحمد بن محمد بن إسحاق الطالقاني، قال: حدثني أبي قال: حلف رجل بخراسان بالطلاق أن معاوية ليس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيام كان الرضا (عليه السلام) بها، فأفتى الفقهاء بطلاقها. فسئل الرضا (عليه السلام)، فأفتى أنها لا تطلق. فكتب الفقهاء رقعة وأنفذوها إليه، وقالوا له: من أين قلت يا بن رسول الله أنها لا تطلق؟ فوقع (عليه السلام) في رقعتهم: قلت هذا من روايتكم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لمسلمة يوم الفتح وقد كثروا عليه: أنتم خير، وأصحابي خير، ولا هجرة بعد الفتح . فأمطل الهجرة، ولم يجعل هؤلاء أصحابا له، قال: فرجعوا إلى قوله (100). هذا ملخص ما نقلنا من مناظرات الإمام (عليه السلام) واحتجاجاته، حينما وصل خراسان.
المصادر :
1- غافر: 51
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 179و192/ عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 231
3- إعلام الورى: 328
4- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 184 - 185، بحار الأنوار 49: 189 / 1
5- الخرائج والجرائح 1: 341 - 351 / 6، بحار الأنوار 49: 73 / 1
6- التوحيد: 270 / 6
7- الكافي 1: 88 / 2، بحار الأنوار 49: 104 / 31
8- مناقب ابن شهرآشوب 4: 351
9- البقرة: 260
10- الأعراف: 155
11- البقرة: 55
12- الأعراف: 155
13- مناقب ابن شهرآشوب 4: 352
14- التوحيد: 250 / 3
15- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 230 / 1
16- المناقب 4: 353 - 354، بحار الأنوار 6: 111 / 6
17- طه: 121
18- البقرة: 35
19- الأعراف: 20 - 22
20- طه: 121 - 122
21- آل عمران: 33
22- الأعراف: 190
23- الأعراف: 189
24- الأعراف: 190
25- الأنعام: 76 - 79
26- الأنعام: 83
27- القصص: 15
28- القصص: 16 - 19
29- الشعراء: 19 - 21
30- الضحى: 6 - 8
31- الأعراف: 143
32- يوسف: 24
33- الفجر: 16
34- الأنبياء: 87
35- الصافات: 143 و144
36- يوسف: 110
37- الفتح: 2
38- ص: 5 - 7
39- الفتح: 1 و2
40- التوبة: 43
41- الزمر: 65
42- الإسراء: 74
43- الأحزاب: 37
44- الإسراء: 40
45- الأحزاب: 37
46- الأحزاب: 38
47- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 195 - 204، بحار الأنوار 11: 78 / 8، و49: 179 / 15
48- طه: 121
49- الأنبياء: 87
50- يوسف: 24
51- ص: 24
52- الأحزاب: 37
53- آل عمران: 7
54- آل عمران: 33
55- الفجر: 16
56- ص: 23
57- ص: 26
58- الأحزاب: 37
59- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 191 - 195 / 1، بحار الأنوار 11: 72 / 1، و49: 179 / 14
60- المائدة: 3
61- الأنفال: 41
62- البقرة: 44
63- الأنعام: 149
64- المناقب 4: 368
65- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 237 / 1، علل الشرائع 1: 240 / 2، بحار الأنوار 49: 288 / 1
66- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 86 / 30، بحار الأنوار 49: 172 / 10
67- الفصول المختارة: 17، بحار الأنوار 10: 350 / 10، و49: 188 / 20
68- الفصول المختارة: 16، بحار الأنوار 10: 349 / 9، و49: 187 / 19
69- فاطر: 32
70- فاطر: 33
71- الأحزاب: 33
72- اقتباس من سورة الزخرف، الآية 5
73- الحديد: 26
74- هود: 45
75- هود: 46
76- آل عمران: 33 و34
77- النساء: 54
78- النساء: 59
79- الشعراء: 214
80- الأحزاب: 33
81- آل عمران: 61
82- يونس: 87
83- الإسراء: 26
84- الشورى: 23
85- هود: 29
86- هود: 51
87- الشورى: 23
88- الأحقاف: 8
89- الشورى: 25
90- الأحزاب: 56
91- يس: 1 - 4
92- فصلت: 42
93- التوبة: 60
94- الطلاق: 10 و11
95- المؤمن: 28
96- تحف العقول: 425 - 436، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 228 - 240، بحار الأنوار 25: 220 / 20
97- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 200 / 1
98- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 231 / 1، مناقب ابن شهرآشوب 4: 351
99- كشف الغمة 3: 79و75
100- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 87 / 34



 

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.