الامام الهادي علیه السلام والمتوکل

جاء المتوكل عدوّ العلويّين الّلدود - إلى الحكم، فأخذ يجتهد في إيجاد حيلةٍ للإيقاع بالإمام (عليه السلام) والبطش به، فيدفع الله تعالى عنه شرّه.. ويحاول الحطّ من قدره في أعين الناس، فيرفعه سبحانه ويلقي كيد الخليفة في نحره فلا يصل إلى
Sunday, September 7, 2014
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
الامام الهادي علیه السلام والمتوکل
الامام الهادي علیه السلام والمتوکل

 






 

جاء المتوكل(1) - عدوّ العلويّين الّلدود - إلى الحكم، فأخذ يجتهد في إيجاد حيلةٍ للإيقاع بالإمام (عليه السلام) والبطش به، فيدفع الله تعالى عنه شرّه.. ويحاول الحطّ من قدره في أعين الناس، فيرفعه سبحانه ويلقي كيد الخليفة في نحره فلا يصل إلى بغيته ويبقى غلّه في صدره ويعجز عن النّيل من كرامة وليّ الله في أرضه.. فيضطرّ إلى إكرامه وإجلاله وتفدّيه والإحسان إليه صاغراً كلّما حاول أن ينتقص منه أو يهينه، إذ كان الإمام (عليه السلام) يريه من علمه وفضله وآياته ما يبطل مكره ويهلع منه فؤاده ويختبط عقله كما سترى..
وكذلك كان عملاء العرش وأعوان الحاكم الظالم يدّعون على الإمام (عليه السلام) بما ليس فيه، وينمّون ويفترون، ويتّهمونه بأمورٍ لم يفعلها، تزلّفاً لأميرهم وطمعاً في لذائذ دنياه وملء كروشهم التي لا تشبع من ازدراد الحرام، فيبير الله سبحانه مكائدهم ويردّ حقدهم في قلوبهم، ويبقي ذلك شجاً تغصّ به لهواتهم فيعانون مرارتها ويقاسون حرقتها..
فمن ذلك أن بُريحة العباسيّ كتب إلى المتوكل: (إن كان لك في الحرمين حاجة فأخرج عليّ بن محمدٍ منهما، فإنه قد دعا الناس إلى نفسه واتّبعه خلق كثير.. ثم بعث بالكتاب إلى المتوكل، فأنفذ يحيى بن هرثمة وكتب معه إلى أبي الحسن - أي الإمام (عليه السلام) - كتاباً جيّداً يعرّفه أنه قد اشتاق إليه، وسأله القدوم عليه، وأمر يحيى بالمسير إليه، وكتب - كذلك - إلى بريحة يعرّفه الأمر. وكان ذلك سنة ثلاثٍ وأربعين ومائتين للهجرة النبويّة الشريفة(2).
فقدم يحيى المدينة، وبدأ ببريحة وأوصل الكتاب إليه. ثم ركبا جميعاً إلى أبي الحسن (عليه السلام) وأوصلا إليه كتاب المتوكل، فاستأجلهما ثلاثة أيام..
فلمّا كان بعد ثلاثةٍ عادا إلى داره، فوجدا الدوابّ مسرجةٍ، والأثقال مشدودةً قد فرغ منها. فخرج صلوات الله عليه متوجهاً إلى العراق ومعه يحيى بن هرثمة)(3).
ولو سألنا بريحة النمّام الزّنيم - فيما بينه وبين الله - هل كانت كتابته إلى المتوكل غيرةً على الدّين وحفظاً لبيضة الإسلام وبدافع حقّ وعن صدقٍ، وهل سمع الإمام يدعو إلى نفسه في سرّ أو علن، أو في تصريح أو تلميح، أو وقف له على نشاطٍ استعمل فيه رسلاً وبثّ أرصاداً، أو اتّخذ لنفسه أمناء وسعاةً ودعاة؟!. أقول لو سألنا هذا العتلّ عن ذلك وأقسمنا عليه بما يدين به من صنميّة (الوظيفة) لوقف واجماً لا يحير جواباً ولا يردّ على سؤال، ولبرز على حقيقته عارياً لم يفعل ذلك إلاّ خدمةً أمينةً لبطنه وفرجه لا أمانةً لصاحبه.. إذ يا ليته كان يحمل أمانة الكلب لصاحبه الذي يملأ بطنه.
وفي رواية ثانيةٍ نقع على واشٍ ثانٍ كان نصيبه العزل من مركز ولاية أمور أهل المدينة المنوّرة لمجرّد إشارةٍ من الإمام (عليه السلام).
فقد قال في الإرشاد: (وكان سبب شخوص أبي الحسن (عليه السلام) من المدينة إلى سرّ من رأى(4) أن عبد الله بن محمد كان يتولّى الحرب والصّلاة بمدينة الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، فسعى بأبي الحسن (عليه السلام) إلى المتوكل، وكان يقصده بالأذى.
وبلغ أبا الحسن سعايته به، فكتب إلى المتوكل يذكر تحامل عبد الله بن محمد عليه، وكذبه فيما سعى به، فتقدّم المتوكل - أي أمر - بإجابته عن كتابه، ودعائه فيه إلى حضور (العسكر) - سرّ من رأي - على جميلٍ من الفعل والقول، فخرجت نسخة الكتاب التي بعثها مع يحيى بن هرثمة مع ثلاثمائة رجل (وأخذت من يحيى بن هرثمة سنة ثلاث وأربعين ومائتين) وهي:
بسم الله الرّحمن الرّحيم: أمّا بعد: فإنّ أمير المؤمنين عارف بقدرك، وراعٍ لقرابتك موجب لحقّك، مقرّ من الأمور فيك وفي أهل بيتك ما يصلح الله به حالك وحالهم، ويثبّت عزّك وعزّهم، ويدخل اليمن - الأمن - عليك وعليهم، يبتغي بذلك رضى ربّه وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم.
وقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمد عمّا كان يتولاّه من الحرب والصّلاة بمدينة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقّك واستخفافه بقدرك، وعندما قرفك به - أي اتّهمك - ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيّتك في برّك وقولك، وأنك لم تؤهّل نفسك لما قرفت - اتّهمت - بطلبه. وقد ولّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل، وأمره بإكرامك و تبجيلك والانتهاء إلى أمرك ورأيك، والتقرّب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بذلك.
وأمير المؤمنين مشتاق إليك يحبّ إحداث العهد بك والنظر إلى وجهك!. فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما أحببت، شخصت ومن اخترت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلةٍ وطمأنينة، ترحل إذا شئت، وتنزل إذا شئت، وتسير كيف شئت.
وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة، مولى أمير المؤمنين، ومن معه من الجند مشيّعين لك، يرحلون برحيلك، ويسيرون بمسيرك، فالأمر بذلك إليك - وقد تقدّمنا إليه بطاعتك، فاستخر الله حتى توافي أمير المؤمنين، فما من أحدٍ من إخوانه وولده وأهل بيته و خاصّته ألطف منه منزلة، ولا أحمد منه أثرةً، ولا هو لهم أنظر، ولا عليهم أشفق وبهم أبرّ وإليهم أسكن منه إليك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وكتب إبراهيم بن العباس، وصلّى الله على محمد وآله وسلّم، في شهر جمادى الآخرة من سنة ثلاثٍ وأربعين ومائتين.
فلما وصل الكتاب إلى أبي الحسن (عليه السلام)، تجهّز للرحيل. وخرج معه يحيى بن هرثمة حتى وصل إلى سرّ من رأى.
فلمّا وصل إليها تقدّم المتوكل بأن يحجب عنه في يومه، فنزل في خانٍ يعرف بخان الصعاليك، وأقام فيه يومه. ثم تقدّم المتوكل بإفراد دارٍ له فانتقل إليها)(5).
وسنتكلّم حول نزوله في خان الصعاليك قريباً إن شاء الله تعالى وهذا الكتاب المنمّق المليء بالملق والتودّد باللّسان بما ليس في القلب، يشبه زخرف قول (المبصّرين والمشعوذين): اقرأ تفرح، جرّب تحزن!. فإذا أردت أن تفهم فحواه وحقيقة مغزاه، فاقرأه مستعملاً أضداد كلماته لتقف على صريح هدفه ومعناه: فالمتوكل لا يرعى قرابة الإمام ولا يحفظ حقّه، ولا يقدّر له ولا لآله ما يصلح حاله وحالهم، ولا يمنحهم أمناً ولا يبتغي بهم رضى ربّه!. وإذا عزل واليه وأقام غيره وأمره بإكرام الإمام والائتمار بأمره فلم استقدمه من المدينة و(اشتاق) إليه وإلى النظر إلى وجهه قبل أن يستلم الوالي الجديد منصبه؟ ولماذا بعث بثلاثمائة جنديّ لمرافقته؟ سترى آيات برّه والإشفاق عليه، فإنه يجسّد غلّ العباسيّين على العلويّين أعظم تجسيد، ويحمل من الحقد عليهم ما لم يحمله المأمون ولا أبوه من قبل.. وهو: يعطيك من طرف اللّسان حلاوةً ويروغ منك كما يروغ الثّعلب قد فرش الطريق للإمام بالورود، وجعل تحت الزّهور شوك القتاد!. ومدّ في الشارع العامّ بساطاً أحمر.. ليدوس الإمام (عليه السلام) في كلّ خطوةٍ على خنجر!. وأحضر الإمام - كذلك - محاطاً بجندٍ وسلاح!. واقتيد بقوّةٍ إلى ذلك (المشتاق) إليه، الحريص على راحته الذي تعمّد أن يكون دخوله إلى سرّ من رأى بحيث لا يعلم بوصوله أحد!. وأمر جواسيسه أن لا يعلن خبر قدومه.. ثم تقدّم بأن يحجب عنه في يوم وصوله فألجأه إلى النزول في خان الصعاليك!.
فما أكذب شوق هذا (المشتاق)، الواضح النّفاق!. وما أعظم خان الفقراء والصعاليك حين وطأته قدما الإمام، وما أحكم خطّته بنزوله فيه ليرى القاصي والداني أن هذا (المستقدم) قسراً أريدت إهانته.. وأنه لا يطمع في دنيا القوم ولا في الباطل الذي هم فيه وأنّ (الخان الحقير) الذي نزل فيه صار للفور قطب رحى العلم والفضل والحكمة بعد أن كان خاناً للصعاليك!.
إن حقيقة إشخاصه (عليه السلام) إلى سامرّاء هي ما ذكره سبط بن الجوزي الذي قال:
(قال علماء السّير: وإنما أشخصه المتوكل من مدينة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى بغداد، لأن المتوكل كان يبغض علياً وذريّته. فبلغه مقام عليّ بالمدينة وميل النّاس إليه، فخاف منه. فدعا يحيى بن هرثمة وقال: اذهب وانظر في حاله، وأشخصه إلينا.
قال يحيى: فذهبت إلى المدينة، فلمّا دخلتها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله خوفاً على عليّ (عليه السلام) وقامت الدّنيا على ساق لأنه كان محسناً إليهم، ملازماً للمسجد، لم يكن عنده ميل إلى الدّنيا.. فجعلت أسكّنهم وأحلف لهم أنّي لم أؤمر فيه بمكروهٍ وأنّه لا بأس عليه.. ثم فتّشت منزله فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعيةً وكتب العلم، فعظم في عيني وتولّيت خدمته بنفسي وأحسنت عشرته.
فبينا أنا نائم في يوم من الأيام - أثناء المسير إلى العراق - والسماء صاحية والشمس طالعة، إذ ركب وعليه ممطر وقد عقد ذنب دابّته!. فتعجّبت من فعله، فلم يكن من ذلك إلاّ هنيهة حتى جاءت سحابة فأرخت عزاليّها ونالنا من المطر أمر عظيم جداً!. فالتفت إليّ فقال: أنا أعلم أنّك أنكرت ما رأيت وتوهّمت أنّي أعلم ما لم تعلمه، وليس ذلك كما ظننت. ولكنّي نشأت بالبادية، فأنا أعرف الرّياح التي تكون في عقبها المطر، فلمّا أصبحت هبّت ريح لا تخلف، وشممت منها رائحة المطر فتأهّبت لذلك.
فلمّا قدمت به بغداد بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهريّ - وكان والياً على بغداد - فقال لي: يا يحيى، إنّ هذا الرجل قد ولده رسول الله (صلّى الله عليه وآله). والمتوكل من تعلم!. فإن حرّضته عليه قتله وكان رسول الله خصمك يوم القيامة!. فقلت له: والله ما وقفت منه إلاّ على كلّ أمرٍ جميل.
ثم سرت به إلى سرّ من رأى، فبدأت (بوصيف التّركي) فأخبرته بوصوله، فقال: والله لئن سقط منه شعرة لا يطالب بها سواك، ولا يكون المطالب بها غيري!. فتعجّبت كيف وافق قوله قول إسحاق.
فلمّا دخلت على المتوكل سألني عنه، فأخبرته بحسن سيرته، وسلامة طريقه، وورعه وزهادته، وأنّي فتّشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم، وأنّ أهل المدينة خافوا عليه. فأكرمه المتوكل وأحسن جائزته وأجزل عطاءه، وأنزله معه سرّ من رأى)(6).
فلو كان هذا (المعتقل) قد سيق إلى (مشتاقٍ) إليه من سلاطين بني عمومته - غير محاط بالجند والرّقباء - لما خاف عليه إسحاق بن إبراهيم، ولا خشي قتله (وصيف) التّركيّ، ولا احتمل ضرره برّ ولا فاجر.. ولكنّه جيء به (محمولاً) بتجلّة السيوف.. وعرف الكلّ أن أسرة السفّاحين السّمّامين غير مأمونةٍ على سلامته. فعبّر عن ذلك إسحاق الطاهريّ.. وأنذر (وصيف) التّركيّ من مغبّة الفتك به.. لأنهما يستطيعان الكلام.. وغيرهما في فمه (طعام) القصر.. أو (لجام) القسر!.
أما ما بين يثرب ودار الخلافة، فقد ظهر من آيات إمامنا (عليه السلام) ومعجزاته، ما بهر حرسته من جند الظّلمة وأثار إعجابهم ودهشتهم.. وتبيّن لهم من سرّ أهل هذا البيت صلوات الله وسلامه عليهم، ما يدع العاقل يتفكّر ويتدبّر.. فيا ليتهم كانوا يعقلون!.
أولاها ما قاله يحيى بن هرثمة في رواية تتناول وصف ذهابه بطلب الإمام (عليه السلام)، وإيابه بإحضاره محاطاً بثلاثمائة رجلٍ.. (مسلّحين) إذ قال:(دعاني المتوكل وقال: اختر ثلاثمائة رجلٍ ممّن تريد، واخرجوا إلى الكوفة فخلّفوا أثقالكم فيها، وأخرجوا على طريق البادية إلى المدينة، فأحضروا عليّ بن محمد (عليه السلام) إلى عندي مكرّماً معظّماً مبجّلاً.. ففعلت، وخرجنا.
وكان في أصحابي قائد من الشّراة - الخوارج - وكان لي كاتب متشيّع، وأنا على مذهب الحشويّة. فكان (الشاري) يناظر الكاتب، وكنت أستريح إلى مناظرتهما لقطع الطريق.
فلمّا صرنا وسط الطريق قال (الشاري) للكاتب: أليس من قول صاحبكم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): ليس من الأرض بقعة إلاّ وهي قبر، أو ستكون قبراَ؟ فانظر إلى هذه البرّية العظيمة أين من يموت فيها حتى يملأها الله قبوراً كما تزعمون؟!.
فقلت للكاتب: أهذا من قولكم؟
قال: نعم.
فقلت: صدق، أين من يموت في هذه البريّة العظيمة حتى تمتلئ قبوراً؟!.
وتضاحكنا ساعةً إذ انخذل الكاتب في أيدينا. وسرنا حتى دخلنا المدينة. فقصدت باب أبي الحسن، فدخلت إليه، وقرأ كتاب المتوكل وقال: انزلوا، فليس من جهتي خلاف..فلمّا صرت إليه من الغد - وكنّا في تمّوز، أشدّ ما يكون من الحرّ، فإذا بين يديه خيّاط وهو يقطع من ثيابٍ غلاظٍ خفاتين له ولغمانه - والخفتان ثوب شتويّ - وقال للخياط: اجمع عليها جماعةً من الخيّاطين، واعمل على الفراغ منها يومك هذا، وبكّر بها إليّ في هذا الوقت. ثم نظر إليّ وقال: يا يحيى، اقضوا وطركم من المدينة في هذا اليوم، واعمل على الرحيل غداً في هذا الوقت.
فخرجت من عنده وأنا أتعجّب منه ومن الخفاتين وأقول في نفسي: نحن في تمّوز وحرّ الحجاز، وبيننا وبين العراق مسيرة عشرة أيام، فما يصنع بهذه الثياب؟!. وقلت في نفسي: هذا رجل لم يسافر، ويقدّر أن كلّ سفرٍ يحتاج إلى هذه الثياب. والعجب من الرّوافض حيث يقولون بإمامة هذا، مع فهمه هذا!.
فعدت إليه في الغد في ذلك الوقت، فإذا الثياب قد أحضرت، وقال لغلمانه: ادخلوا وخذوا لنا معكم لبابيد وبرانس - ما يلبس على الرأس والبدن من الثياب الغليظة - ثم قال: ارحل يا يحيى.
فقلت في نفسي: وهذا أعجب من الأول!. يخاف أن يلحقنا الشتاء في الطريق حتى أخذ معه اللّبابيد والبرانس!. فخرجت وأنا أستصغر فهمه..
فسرنا حتى إذا وصلنا إلى الموضع الذي وقعت فيه المناظرة في القبور، ارتفعت سحابة. واسودّت، وأرعدت وأبرقت، حتى إذا صارت على رؤوسنا أرسلت علينا برداً مثل الصّخور، وقد شدّ على نفسه (عليه السلام)، وعلي غلمانه، الخفاتين، ولبسوا اللّبابيد والبرانس، وقال لغلمانه: ادفعوا إلى يحيى لبّادةً، وإلي الكاتب برنساً.. وتجمّعنا والبرد يأخذنا حتى قتل من أصحابي ثمانين رجلاً!.
وزالت، وعاد الحرّ كما كان.. فقال لي: يا يحيى، أنزل من بقي من أصحابك فادفن من مات منهم، فكهذا يملأ الله هذه البرّية قبوراً.
قال: فرميت نفسي عن دابّتي، وعدوت إليه فقبّلت رجله وركابه وقلت: أنا أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً (صلّى الله عليه وآله) عبده ورسوله، وأنّكم خلفاء الله في أرضه. فقد كنت كافراً، وقد أسلمت الآن على يديك يا مولاي.. وتشيّعت، ولزمت خدمته إلى أن مضى)(7).
فعن هذه الآية الإلهية استنطق أولئك الأموات - الّذين ملأ الله تعالى البرّية بقبورهم - يجيبوك بالحقّ وهم رفات!. لأن موتهم كان آية بيّنةً من آيات الله تعالى أمدّ بها الإمام (عليه السلام) في ساعة الهزء من مولاه (الكاتب) الشيعيّ!. وإنّ تلك الرّفات التي صرع أصحابها البرد لتنطق بما عانته من عاقبة العناد، وبما ذاقته من الموت زؤاماً حين سخرت بقول أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين سلام الله عليه!.
والثانية أنه قيل: (وجّه المتوكل عتّاب بن أبي عتّاب إلى المدينة يحمل عليّ بن محمد (عليهما السلام) إلى سرّ من رأى، وكان الشيعة يتحدّثون أنه يعلم الغيب، وكان في نفس عتّاب من هذا شيء - أي كان يستهزئ بهذا القول. ومن المؤكّد أن هذا الرجل كان مع زمرة القصر التي كانت برئاسة يحيى بن هرثمة - فلمّا فصل من المدينة رآه وقد لبس لبّادةً والسماء صاحية!. فما كان بأسرع من أن تغيّمت وأمطرت!. فقال عتّاب: هذا واحد.
ثم لمّا وافى شطّ القاطول على دجلة رآه مقلق القلب فقال - أي الإمام (عليه السلام) - له: ما لك يا أبا أحمد؟
فقال: قلبي مقلق بحوائج التمستها من أمير المؤمنين.
فقال: إنّ حوائجك قد قضيت.
فما أسرع من أن جاءته البشارات بقضاء حوائجه، فقال: إنّ الناس يقولون إنك تعلم الغيب، وقد تبيّنت ذلك من خلّتين(8).
فسلام الله وتحياته وبركاته على أعلام التّقى الّذين جعلهم الله سبحانه وتعالى جلاء العمى في الناس، ونبراس الهدى، والحجّة العظمى على أهل الدّنيا لمن كان له أذن واعية وعقل رشيد، فإنهم جديرون بالمراتب التي رتّبهم الله عزّ اسمه فيها، ونحن من أبخل البخلاء حين ننكر عليهم ما أنعم به عليهم غيرنا، مع أنّ الاعتراف بنعمة الله عليهم لا يكلّفنا عبوديةً لهم، ولا يحمّلنا صرفاً ولا غرماً.. بل يكسبنا فضلاً عظيماً وغنماً جزيلاً..
ومثل قضيّة عتّاب كانت قضية زميله أبي العباس الذي كان في جملة الثلاثمائة رجلٍ من جند الخليفة، وحدثت معه القصة الثالثة التي رواها أبو محمدٍ البصريّ عن أبي العباس، عن شبلٍ، كاتب إبراهيم بن محمد، قائلاً:
(كنّا أجرينا ذكر أبي الحسن (عليه السلام) فقال لي: يا أبا محمد، لم أكن في شيءٍ من هذا الأمر - أي لم يكن إمامياً معترفاً بالولاية - وكنت أعيب على أخي وعلى أهل هذا القول عيباً شديداً بالذمّ والشتم، إلى أن كنت في الوفد الذي أوفد المتوكل إلى المدينة لإحضار أبي الحسن (عليه السلام)، فخرجنا إلى المدينة.
فلمّا خرج وصرنا في بعض الطريق، وطوينا المنزل، وكان منزلاً صائفاً شديد الحرّ، فسألناه أن ينزل فقال: لا.
فخرجنا ولم نطعم، ولم نشرب..
فلمّا اشتدّ الحرّ والجوع والعطش، وبينما نحن كذلك في أرض ملساء لا نرى شيئاً ولا ظلاًّ ولا ماءً نستريح إليه. فجعلنا نشخص بأبصارنا نحوه، قال: وما لكم؟ أحسبكم جياعاً، وقد عطشتم.
فقلنا: إي والله يا سيّدنا، قد عيينا.
قال: عرّسوا، وكلوا، واشربوا.
فتعجّبت من قوله ونحن في صحراء ملساء لا نرى فيها شيئاً لنستريح إليه، ولا نرى ماءً ولا ظلاّ!.
فقال: ما لكم؟! عرّسوا.
فابتدرت إلى القطار - القافلة - لأنيخ، ثم التفتّ وإذا أنا بشجرتين عظيمتين يستظلّ تحتهما عالم من الناس، وإنّي لأعرف موضعهما أنّه أرض براح قفراء!. وإذا بعينٍ تسيح على وجه الأرض أعذب ماءً وأبرده!. فنزلنا، وأكلنا وشربنا، واسترحنا. وإنّ فينا من سلك ذلك الطريق مراراً.
فوقع في قلبي ذلك الوقت أعاجيب، وجعلت أحدّ النظر إليه وأتأمّله طويلاً، وإذا نظرت إليه تبسّم وزوى وجهه عنّي!.
فقلت في نفسي لأعرفنّ هذا، كيف هو؟!. فأتيت وراء الشجرة فدفنت سيفي ووضعت عليه حجرين، وتغوّطت في ذلك الموضع وتهيّأت للصلاة.
فقال أبو الحسن (عليه السلام): استرحتم؟!.
قلنا له: نعم.
قال: فارتحلوا على اسم الله. فارتحلنا.
فلمّا أن سرنا ساعةً رجعت على الأثر، فأتيت الموضع فوجدت الأثر والسيف كما وضعت والعلامة، وكأن الله لم يخلق ثمّ شجرةً ولا ماءً، ولا ظلاّ ولا بللاً!. فتعجّبت من ذلك ورفعت يديّ إلى السماء فسألت الله الثبات على المحبّة والإيمان به، والمعرفة منه.. وأخذت الأثر ولحقت القوم..
فالتفت إليّ أبو الحسن (عليه السلام) وقال لي: يا أبا العباس، فعلتها؟!.
قلت: نعم يا سيّدي، لقد كنت شاكاً، وأصبحت أنا عند نفسي من أغنى الناس في الدّنيا والآخرة.
فقال: هو كذلك. هم معدودون معلومون - أي الشيعة - لا يزيد رجل ولا ينقص(9).
والأسئلة التي تفرض نفسها علينا، هي: لماذا تعمّد الإمام (عليه السلام) أن يعرّس هذا العدد الهائل من الجند في صحراء ملساء حرّها لاهب؟!. ولِم أنبت الله تعالى هاتين الشجرتين، وفجّر قربهما الماء العذب البارد؟!.
ولماذا أجرى الله تبارك وتعالى على يدي الإمام هذه المعجزة في ذلك المكان، وذاك الزمان؟!. أليتشيّع أبو العباس، وأو عتّاب، أو هرثمة ورجاله؟!.
لا، طبعاً.. لا من أجل ذلك، ولا من أجل ما يدور في فكرك لأول وهلة.. بل من أجل أن تخلد هذه الآية على المدى البعيد فتصلني وتصلك فنؤمن بالله وبكتبه وملائكته ورسله وأوليائه الأصفياء.. ثم من أجل أن يشحن يومئذ ثلاثمائة قوّة - مدمّرةٍ يلقيها من حول عرش الظّلم، ومن أجل أن يشاع ذلك ويذاع في جيش كان عدد أفراده تسعين ألفاً يحدقون بصر ذلك الحاكم المتحكم برقاب الناس من غير أن ينصّبه عليهم ربّ ولا انتخاب.. ولينتشر أمر الإمام الحقّ ويشتهر.. في كل مكان، وكل زمان.
وإن الإنسان ليقف حائراً أمام كثير من أفعال الإمام (عليه السلام) وأقواله التي تتناول الغيب وتأتي بالخوارق.. ومتفكّراً في تحليلها تحليلاً يتقبّله ذهنه، وفي فلسفتها فلسفةً يتهضّمها عقله.. فيعجز لدى التفكير والتحليل، ولا يرى إلاّ الإذعان لأفعال الخالق الجليل عزّ وعلا، والإيمان بانتجاب هذا الإمام العظيم الذي يدلّ الناس على عظمة الخالق من خلال عظمة مخلوقه، وعلى قدرته سبحانه وما اختصّ به أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، ممّا لم يختصّ به أحداً من خلقه حتى الأنبياء السابقين وأوصياءهم، لأنهم - هم وحدهم - ورثة النبيّين والوصيّين جميعاً، وعندهم ما كان عندهم، مضافاً إليه ما كان عند جدّهم الأعظم (صلّى الله عليه وآله)..
وأرجو أن لا يكون قارئي الكريم قد نسي ذكر خان الصعاليك الذي نزل فيه الإمام (عليه السلام) ليلة وروده سرّ من رأى، لئلاّ يفوته ذكر واحدةٍ من آيات الإمام - في ذلك الخان - تبيّن له كيف تكون سفارة السماء.. على الأرض!. فإن سفير الله تعالى في عباده، ليس هذا منزله في الدّنيا يا أيّها (المتوكل) الذي احتجب عنه بكبرياء (السلطان) والطغيان.. ولا يمكن أن يكون منزله كذلك ولو رأيناه في العيان!.
أجل، قال صالح بن سعيد: (دخلت على أبي الحسن يوم وروده - إلى سرّ من رأى - فقلت له: جعلت فداك، في كلّ الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك، حتى أنزلوك في هذا الخان الأشنع، خان الصعاليك!.
فقال: هاهنا أنت يا بن سعيد!. - أي: أنت في هذه المرتبة من معرفتنا، وتظنّ أن هذه الأمور تنقص من قدرنا؟ ثم أومأ بيده وقال: انظر..
فنظرت، فإذا أنا بروضاتٍ أنيقاتٍ، وأنهارٍ جارياتٍ، وأطيارٍ وظباءٍ، وجنّاتٍ فيها خيرات عطرات، وولدانٍ كأنّهم اللّؤلؤ المكنون!. فحار بصري، وحسرت عيني، وكثر تعجّبي!.
فقال لي: حيث كنّا فهذا لنا عتيد يا بن سعيد!. لسنا في خان الصعاليك(10).
فصالح بن سعيدٍ الغيور على كرامة إمامه، قد اقتصر نظره وعلمه على المظاهر الزائلة من مباهج الحياة، وقصر - حينها - عن إدراك اللّذة الرّوحانيّة العلويّة، فعظم عليه أن يرى إمامه في منزلٍ معدّ لعامّة الفقراء والمساكين، وظنّ أنّ ذلك يحطّ من منزلته، فأراه الإمام (عليه السلام) أنّ مثل هذه الحالة يضاعف من علوّ منزلته عند ربّه.. ثم كشف له عمّا هيّأه سبحانه له من كريم المقام وحسن المنزل أينما أقام.. وأظهر له بعض آياته ليشتهر إعجازه بين النّاس فتقوم الحجّة على الخصوم، وتتثبّت قلوب شيعته فلا يلج إليها نفث الشيطان.. وعلى هذا الأساس استفتح أولى لياليه في سرّ من رأى بهذه الآية.. ليسمع الناس ويروا.. ولنسمع ونرى عبر الدّوران عناية الخالق بعباده المنتجبين الّذين جعلهم خيرة الخلق أجمعين..أفكان للناس عجباً أن يكون للإمام مثل ذلك وأكثر أينما حلّ أو ارتحل؟!. لا، بل هو في كنف بارئه حجة منذ برأه، وفي عين خالقه ممتاز عن الآخرين، مميّز عن العالمين، منذ صوّره وخلقه.. قد جعل له مثل ذلك وأكثر أينما حلّ أو ارتحل، ولكننا لا نراه.. ويراه؛ لأن حواسّ أولياء الله وخلفائه في أرضه تختلف قدراتها عن قدرات حواسّنا بحسب ما خلقها الله تعالى عليه؛ فإنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان يرى جبرائيل الأمين (عليه السلام) وكثيرين من الملائكة، ويسمع كلامهم ويخاطبهم - وكذلك سائر الأنبياء - ولا يكذّب بذلك إلاّ الكافرون - في حين أن صحابة النبيّ لم يروه ملكاً ولا سمعوا كلامه!. فأهل البيت (عليهم السلام) مجهّزون بما أهّلهم لخلافة النبيّ وخلافة الله عزّ اسمه بدون أدني شك.. والسفير عن العرش السماويّ أولى من السفير عن أيّ عرشٍ أرضيّ بأن تكون لديه إمكانات تفوق حدّ المعقول لأنه يمثّل العزيز الجبّار الذي (والأرض جميعا قبضته يوم القيمة والسماوات مطويّات بيمينه)(11).
فلا جرم أن يسخّر لسفيره المنتدب لأمره سائر مخلوقاته، ليكون جديراً بتمثيل القدرة الإلهيّة التي تقول للشيء: كن، فيكون.. وإذا لم يكن ذلك كذلك، تبطل آيات الأنبياء والرّسل، وتذهب ثمّة حجج الأوصياء والأولياء والأصفياء أدراج الرياح.
فلا غرابة في أن نرى عبده الصالح - الذي يحمل أمره ودعوته - يستريح في مثل تلك الجنّة الوارفة الظلاّل بعد وعثاء السفر الذي حمله عليه عبد جائر يريد أن يبارز الله تعالى في ملكه ويحجب عن الناس حجّته البالغة.. حتى ولو رأيناه - ظاهراً - في خان الصعاليك الذي أزرى ساعتئذ بقصر الخليفة، وأناف على داره ومقرّ قراره.. لأنه كان النافذة المطلّة من السماء على الأرض تنشر منها الرحمة والخير والبركة على قلب كلّ عبدٍ منيب!.
المصادر :
1- تأمّر المتوكل سنة 232 بعد وفاة الواثق الذي كان ابنه صغيراً وقصيراً
2- الصواعق المحرقة: ص 207.
3- بحار الأنوار: ج 50 ص 209 وأنظر حلية الأبرار: ج 2 ص 463.
4- الإرشاد: ص 313 - 314 والكافي: م 1 ص 501 والأنوار البهية: ص 259 وحلية الأبرار: ج 2 ص 463.
5- الإرشاد: ص 313 - 314 وكشف الغمة: ج 3 ص 172 - 173 وهو في إعلام الورى: ص 347 - 348
6- تذكرة الخواص: ص 373 - 374 وبحار الأنوار: ج 5 - ص 201 في الهامش، وص 207 وص 208
7- كشفة الغمة: ج 3 ص 181 - 182 وبحار الأنوار: ج 50 ص 143 - 144 نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح: ص 209 وهو في مدينة المعاجز: ص 547 - 548.
8- بحار الأنوار: ج 50 ص 173 ومناقب آل أبي طالب: ج1 ص 413 ومدينة المعاجز: ص 554.
9- بحار الأنوار: ج 50 ص 156 - 157 عن مختار الخرائج والجرائح: ص 212، / مدينة المعاجز: ص 551 و ص 552.
10- الكافي: م 1 ص 498 والأنوار البهية: ص 261 والإرشاد: ص 314 وكشف الغمة: ج 3 ص 173 وإعلام الورى: ص 348 ومناقب آل أبي طالب: ج 1 ص 411
11- الزمر: 67.



 

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.