كيف يستطيع هذا القلم أن يصور جلالة الأبوين، وفضلهما على الأولاد، فهما سبب وجودهم، وعماد حياتهم، وقوام فضلهم، ونجاحهم في الحياة.وقد جهد الوالدان ما استطاعا في رعاية أبنائهما مادياً ومعنوياً، وتحملا في سبيلهم أشد المتاعب والمشاق. فاضطلعت الأم بأعباء الحمل، وعناء الوضع، ومشقة الارضاع، وجهد التربية والمداراة.
واضطلع الأب بأعباء الجهاد، والسعي في توفير وسائل العيش لأبنائه، وتثقيفهم وتأديبهم، وإعدادهم للحياة السعيدة الهانئة.
تحمل الأبوان تلك الجهود الضخمة، فرحين مغتبطين، لا يريدان من أولادهما ثناءاً ولا أجراً.
وناهيك في رأفة الوالدين وحنانهما الجم، أنهما يؤثران تفوق أولادهم عليهم في مجالات الفضل والكمال، ليكونوا مثاراً للاعجاب ومدعاة للفخر والاعتزاز، خلافاً لما طبع عليه الانسان من حب الظهور والتفوق على غيره.
من أجل ذلك كان فضل الوالدين على الولد عظيماً وحقهما جسيماً، سما على كل فضل وحق بعد فضل اللّه عز وجل وحقه.
برّ الوالدين:
وهذا ما يحتم على الأبناء النبلاء أن يقدروا فضل آبائهم وعظيم إحسانهم، فيجازونهم بما يستحقونه من حسن الوفاء، وجميل التوقير والاجلال، ولطف البر والاحسان، وسمو الرعاية والتكريم، أدبياً ومادياً.أنظر كيف يعظم القرآن الكريم شأن الأبوين، ويحض على إجلالها ومصاحبتهما بالبر والمعروف، حيث قال: «ووصينا الانسان بوالديه، حملته أمه وهناً على وهن، وفصاله في عامين، أن اشكر لي ولوالديك. اليّ المصير، وان جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم، فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفاً» (1)
وقال تعالى: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً، إمّا يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما، فلا تقل لها أفٍ، ولا تنهرهما، وقل لهما قولاً كريما. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا»(2)
فقد أعربت هاتان الآيتان عن فضل الوالدين ومقامهما الرفيع، وضرورة مكافأتهما بالشكر الجزيل، والبر والاحسان اللائقين بهما، فأمرت الآية الأولى بشكرهما بعد شكر اللّه تعالى، وقرنت الثانية الاحسان اليهما بعبادته عز وجل، وهذا غاية التعزيز والتكريم.
وعلى هدي القرآن وضوئه تواترت أحاديث أهل البيت عليهم السلام:
قال الباقر عليه السلام: «ثلاث لم يجعل اللّه تعالى فيهن رخصة: أداء الامانة الى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبرّ الوالدين بريّن كانا أو فاجرين»(3)
وقال الصادق عليه السلام: «ان رجلاً أتى النبي صلى اللّه عليه وآله، فقال: يا رسول اللّه أوصني. فقال: لا تشرك باللّه شيئاً، وان حرقت بالنار وعذبت إلا وقلبك مطمئن بالايمان. ووالديك، فأطعهما وبرّهما حيين كانا أو ميتين، وان أمراك ان تخرج من أهلك ومالك فافعل، فان ذلك من الايمان»(4).وعن أبي الحسن عليه السلام قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «كن باراً، واقتصر على الجنة، وان كنت عاقاً فاقتصر على النار»(5)
وعنه عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «نظر الولد الى والديه حباً لهما عبادة»(6)
وقال الصادق عليه السلام: «من أحب أن يخفف اللّه عز وجل عنه سكرات الموت، فليكن لقرابته وصولاً، وبوالديه باراً. فاذا كان كذلك هوّن اللّه عليه سكرات الموت، ولم يصبه في حياته فقر أبداً»(7)
وعن أبي عبد اللّه عليه السلام: «ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أتته أخت له من الرضاعة، فلما نظر اليها سرّ بها وبسط ملحفته لها، فأجلسها عليها، ثم أقبل يحدثها ويضحك في وجهها. ثم قامت فذهبت، وجاء أخوها فلم يصنع به ما صنع بها. فقيل له: يا رسول اللّه صنعت بأخته ما لم تصنع به، وهو رجل! فقال: لأنها كانت أبرّ بوالديها منه»وفي الوقت الذي أوصت الشريعة الاسلامية بر الوالدين والاحسان اليهما، فقد آثرت الأم بالقسط الأوفر من الرعاية والبر، نظراً لما انفردت به من جهود جبّارة واتعاب مضنية في سبيل ابنائها، كالحمل والرضاع، ونحوهما من وظائف الامومة وواجباتها المرهقة.فعن ابي عبد اللّه عليه السلام قال: جاء رجل الى النبي صلى اللّه عليه وآله فقال: يا رسول اللّه، من أبرّ؟ قال: امك. قال: ثم من؟ قال: امك. قال ثم من؟ قال: امك. قال: ثم من؟ قال: أباك(8).وعن ابراهيم بن مهزم قال: خرجت من عند أبي عبد اللّه عليه السلام ليلة ممسياً، فأتيت منزلي في المدينة، وكانت أمي معي. فوقع بيني وبينها كلام، فأغلظت لها. فلما كان من الغد، صليت الغداة، وأتيت أبا عبد اللّه عليه السلام، فلما دخلت عليه، قال لي مبتدئاً: يا أبا مهزم، مالك ولخالدة؟ أغلظت في كلامها البارحة، أما علمت أن بطنها منزل قد سكنته، وأنّ حجرها مهد قد غمزته، وثديها وعاء قد شربته؟ قال قلت: بلى. قال: فلا تغلظ لها(9)
واستمع الى الامام السجاد عليه السلام، وهو يوصي بالأم، معدداً جهودها وفضلها على الأبناء، بأسلوب عاطفي أخّاذ، فيقول عليه السلام:
«وأما حق أمك: أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحداً، ووقتك بجميع جوارحها، ولم تبال ان تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعري وتكسوك، وتضحى وتظلك، وتهجر النوم لأجلك، ووقتك الحرّ والبرد لتكون لها، فإنك لا تطيق شكرها الا بعون اللّه وتوفيقه»(10)
وبرّ الوالدين، وان كان له طيبته ووقعه الجميل في نفس الوالدين، بيد انه يزداد طيبة ووقعاً حسناً عند عجزهما وشدة احتياجهما الى الرعاية والبر، كحالات المرض والشيخوخة، والى هذا أشار القرآن الكريم «إمّا يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما، فلا تقل لهما اُفٍّ ولا تنهرهما، وقل لهما قولاً كريما. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً».
وقد ورد أن رجلاً جاء الى النبي صلى اللّه عليه وآله، فقال:
يا رسول اللّه، ان أبويّ بلغا من الكبر أني ألي منهما ما ولياني في الصغر، فهل قضيتهما حقهما؟ قال: لا، فانهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبّان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وتريد موتهما(11)
وعن ابراهيم بن شعيب قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إن أبي قد كبر جداً وضعف، فنحن نحمله اذا اراد الحاجة. فقال: «ان استطعت ان تلي ذلك منه فافعل، ولقّمه بيدك، فانه جنّة لك غداً» (12)
وليس البر مقصوراً على حياة الوالدين فحسب، بل هو ضروري في حياتهما وبعد وفاتهما، لانقطاعهما عن الدنيا وشدة احتياجهما الى البر والاحسان.
فعن الصادق عليه السلام قال: «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته وهي تجري بعد موته، وسنة هدى سنّها فهي يعمل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له»(13)
من أجل ذلك فقد حرضت وصايا أهل البيت عليهم السلام على برّ الوالدين بعد وفاتهما، وأكدت عليه وذلك بقضاء ديونهما المالية أو العبادية، وإسداء الخيرات والمبرات اليهما، والاستغفار لهما، والترحم عليهما. واعتبرت إهمال ذلك ضرباً من العقوق.
قال الباقر عليه السلام: «إن العبد ليكون باراً بوالديه في حياتهما، ثم يموتان فلا يقضي عنهما دينهما ولا يستغفر لهما، فيكتبه اللّه عاقاً. وانه ليكون عاقاً لهما في حياتهما غير بار بهما، فاذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما، فيكتبه اللّه تعالى باراً»(14)
وعن الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «سيد الأبرار يوم القيامة، رجل برّ والديه بعد موتهما»(15)
عقوق الوالدين
من الواضح ان نكران الجميل ومكافأة الإحسان بالإساءة، أمران يستنكرهما العقل والشرع، ويستهجنهما الضمير والوجدان. وكلما عظم الجميل والاحسان كان جحودها أشد نكراً وأفظع جريرة واثماً.وبهذا المقياس ندرك بشاعة عقوق الوالدين وفظاعة جرمه، حتى عدّ من الكبائر الموجبة لدخول النار. ولا غرابة فالعقوق - فضلاً عن مخالفته المبادئ الانسانية، وقوانين العقل والشرع - دال على موت الضمير، وضعف الايمان، وتلاشي القيم الانسانية في العاق.
فقد بذل الأبوان طاقات ضخمة وجهوداً جبّارة، في تربية الأبناء وتوفير ما يبعث على إسعادهم وازدهار حياتهم مادّيا وأدبياً، ما يعجز الأولاد عن تثمينه وتقديره.
فكيف يسوغ للأبناء تناسي تلك العواطف والألطاف ومكافأتها بالاساءة والعقوق؟
من أجل ذلك حذّرت الشريعة الاسلامية من عقوق الوالدين أشدّ التحذير، وأوعدت عليه بالعقاب العاجل والآجل.
فعن ابي الحسن عليه السلام قال، «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: كن باراً، واقتصر على الجنة. وان كنت عاقاً، فاقتصر على النار»(16)
وقال الصادق عليه السلام: «لو علم اللّه شيئاً هو ادنى من أف، لنهى عنه، وهو من أدنى العقوق، ومن العقوق ان ينظر الرجل الى والديه، فيحدّ النظر اليهما»(17)
وقال الباقر عليه السلام: «ان أبي نظر الى رجل ومعه ابنه يمشي، والابن متكئ على ذراع الأب، قال: فما كلّمه أبي عليه السلام مقتاً له حتى فارق الدنيا»(18)
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «ثلاثة من الذنوب، تعجل عقوبتها ولا تؤخر الى الآخرة: عقوق
الوالدين، والبغي على الناس، وكفر الاحسان»(19)
مساويء العقوق:
وللعقوق مساوئ خطيرة، وآثار سيئة تنذر العاق وتتوعده بالشقاء الدنيوي والأخروي.فمن آثاره أن العاقّ يعقّه ابنه... جزاءاً وفاقاً على عقوقه لأبيه. وقد شهد الناس صوراً وأدواراً من هذه المكافأة على مسرح الحياة.
من ذلك ما حكاه الأصمعي قال: حدثني رجل من الأعراب قال: خرجت من الحي أطلب أعق الناس وأبرّ الناس. فكنت أطوف بالأحياء، حتى انتهيت الى شيخ في عنقه حبل، يستقي بدلو لا تطيقه الابل في الهاجر والحرّ الشديد، وخلفه شاب في يده رشاء من قدّ ملوي، يضربه به، قد شق ظهره بذلك الحبل.
فقلت له: أما تتقي اللّه في هذا الشيخ الضعيف، أما يكفيه ما هو فيه من هذا الحبل حتى تضربه؟
قال: انه مع هذا أبي.
قلت: فلا جزاك اللّه خيراً.
قال: اسكت، فهكذا كان يصنع هو بأبيه، وكذا كان يصنع أبوه بجده.
فقلت: هذا أعق الناس.
ثم جلت أيضاً حتى انتهيت الى شاب في عنقه زبيل، فيه شيخ كأنه فرخ، فيضعه بين يديه في كل ساعة، فيزقه كما يزق الفرخ.
فقلت له: ما هذا؟
فقال: أبي، وقد خرف، فأنا أكفله.
قلت: فهذا أبرّ العرب. فرجعت وقد رأيت أعقّهم وأبرهم(20)
ومن آثار العقوق:
أنه موجب لشقاء العاق، وعدم ارتياحه في الحياة، لسخط الوالدين ودعائهما عليه.وقد جاء في الحديث النبوي: «إياكم ودعوة الوالد، فانها أحدّ من السيف».
ومن آثار العقوق:
ان العاق يشاهد أهوالاً مريعة عند الوفاة، ويعاني شدائد النزع وسكرات الموت.فعن أبي عبد اللّه عليه السلام: «ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله حضر شاباً عند وفاته، فقال له: قل لا إله الا اللّه. قال: فاعتقل لسانه مراراً.
فقال لامرأة عند رأسه: هل لهذا أم؟
قالت: نعم، انا أم
قال: أفساخطة أنت عليه؟قالت: نعم، ما كلمته منذ ست حجج.
قال لها: ارض عنه. قالت: رضي اللّه عنه برضاك يا رسول اللّه.
فقال له رسول اللّه: قل لا إله الا اللّه. قال: فقالها.
فقال النبي صلى اللّه عليه وآله: ما ترى؟
فقال أرى رجلاً أسوداً قبيح المنظر، وسخ الثياب، منتن الريح، قد وليني الساعة فأخذ بكظمي.
فقال له النبي: قل «يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير، إقبل مني السير واعف عن الكثير، انك انت الغفور الرحيم». فقالها الشاب.
فقال النبي صلى اللّه عليه وآله: أنظر، ماذا ترى؟
قال: أرى رجلاً أبيض اللون، حسن الوجه، طيّب الريح، حسن الثياب قد وليني، وأرى الأسود قد تولى عني.
قال: أعد. فأعاد.
قال: ما ترى؟ قال: لست أرى الأسود، وأرى الأبيض قد وليني ثم طغى على تلك الحال»(21)
ومن آثار العقوق:
انه من الذنوب الكبائر التي توعد اللّه عليها بالنار، كما صرحت بذلك الأخبار.والجدير بالذكر، أنه كما يجب على الأبناء طاعة آبائهم وبرهم والاحسان اليهم، كذلك يجدر بالآباء أن يسوسوا أبناءهم بالحكمة، ولطف المداراة، ولا يخرقوا بهم ويضطروهم الى العقوق والعصيان.
فعن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «يلزم الوالدين من العقوق لولدهما اذا كان الولد صالحاً ما يلزم الولد لهما»(22)
وقال صلى اللّه عليه وآله: «لعن اللّه والدين حملا ولدهما على عقوقهما، ورحم اللّه والدين حملا ولدهما على برهما»(23)
حقوق الأولاد:
الأولاد الصلحاء هم زينة الحياة، وربيع البيت، وأقمار الأسرة، وأعز آمالها وأمانيها، وأجل الذخائر وأنفسها. لذلك أثنى عليهم أهل البيت وغيرهم من الحكماء والأدباء.عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «الولد الصالح ريحانة من رياحين الجنة»(24).وفي حديث آخر، قال صلى اللّه عليه وآله: «من سعادة الرجل الولد الصالح»(25)
وقال أبو الحسن عليه السلام: «إن اللّه تعالى اذا أراد بعبد خيراً لم يمته حتى يريه الخلف»(26)
وقال حكيم في ميت: «إن كان له ولد فهو حي، وإن لم يكن له ولد فهو ميت».
وفضل الولد الصالح ونفعه لوالديه لا يقتصر على حياتهما فحسب، بل يسري حتى بعد وفاتهما وانقطاع أملهما من الحياة.
عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر الا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته وهي تجري بعد موته، وسنّة هدي سنّها فهي يعمل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له»(27)
وعن ابي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: مرّ عيسى بن مريم بقبر يعذّب صاحبه، ثم مرّ به من قابل فاذا هو لا يعذّب. فقال: يا ربّ، مررت بهذا القبر عام أول وكان يعذب!. فأوحى اللّه اليه. انه ادرك له ولد صالح فأصلح طريقاً، وآوى يتيماً، فلهذا غفرت له بما فعل ابنه. ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: ميراث اللّه من عبده المومن ولد يعبده من بعده. ثم تلا أبو عبد اللّه عليه السلام آية زكريا على نبينا وآله وعليه السلام: «فهب لي من لدنك وليّاً يرثني ويرث من آل يعقوب، واجعله ربيّ رضيا» (28)
ومن الواضح أن صلاح الأبناء واستقامتهم لا يتسنيان عفواً وجزافاً، وانما يستلزمان رعاية فائقة واهتماماً بالغاً في إعدادهم وتوجيههم وجهة الخير والصلاح.
من أجل ذلك وجب على الآباء تأديب أولادهم وتنشئتهم على الاستقامة والصلاح، ليجدوا ما يأملون فيهم من قرة عين، وحسن هدى وسلوك.
قال الامام السجاد عليه السلام: «وأما حق ولدك: فان تعلم انه منك، ومضاف اليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وانك مسؤول عمّا وليته من حسن الأدب، والدلالة له على ربه عز وجل، والمعونة له على طاعته. فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الاحسان اليه، معاقب على الاساءة اليه»(29)
فالآباء مسؤولون عن تهذيب أبنائهم وإعدادهم إعداداً صالحاً، فان أغفلوا ذلك أساؤا الى اولادهم، وعرضوهم لأخطار التخلف والتسيب الديني والاجتماعي.
ويحسن بالآباء أن يبادروا ابناءهم بالتهذيب والتوجيه، منذ حداثتهم ونعومة أظفارهم، لسرعة استجابتهم الى ذلك قبل تقدمهم في السن، وروسوخ العادات السيئة والاخلاق الذميمه فيهم، فيغدون آن ذاك اشد استعصاءاً على التأديب والاصلاح.
حكمة التأديب:
وهكذا يجدر بالآباء ان يتحروا القصد، والاعتدال في سلطتهم، وأساليب تأديب أبنائهم، فلا يسوسونهم بالقسوة والعنف مما يعقّدهم نفسياً، ويبعثهم على النفرة والعقوق. ولا يتهاونوا في مؤاخذتهم على الاساءة والتقصير، فيستخفون بهم ويتمردون عليهم، فان «من أمن العقوبة أساء الأدب».وخير الأساليب في ذلك هو التدرج في تأديب الأبناء وتقويمهم، وذلك بتشجيعهم على الاحسان، بالمدح والثناء وحسن المكافأة، وبنصحهم على الاساءة. فان لم يجدهم ذلك، فبالتقريع والتأنيب، والا فبالعقوبة الرادعة، والتأنيب الزاجر.
المدرسة الأولى للطفل:
والبيت هو المدرسة الأولى للطفل، يترعرع في ظلاله، وتتكامل فيه شخصيته، وتنمو فيه سجاياه، متأثراً بأخلاق أبويه وسلوكهما. فعليهما أن يكونا قدوة حسنة، ومثلاً رفيعاً، لتنعكس في نفسه مزاياهم وفضائلهم.منهاج التأديب:
1- وأول ما يبدأ به في تهذيب الطفل، تعليمه آداب الأكل والشرب: كغسل اليدين قبل الطعام وبعده، والأكل بيمينه، وإجادة المضغ، وترك النظر في وجوه الآكلين، والرضا والقنوع بالمقسوم من الرزق. ونحو ذلك من الآداب.
2- ويراض الطفل على أدب الحديث، والكلام المهذب، والقول الحسن. ومنعه عن الفحش، والبذاء، والاغتياب، والثرثرة. وما الى ذلك من مساوئ اللسان وأن يحسن الاصغاء، كما يحسن الحديث، فلا يقاطع متحدثاً حتى ينتهي من حديثه.
3- وأهم ما يعني به في توجيه الأولاد، غرس المفاهيم الدينية فيهم، وتنشئتهم على العقيدة والايمان، بتعليمهم أصول الدين وفروعه بأسلوب يلائم مستواهم الفكري، ليكونوا على بصيرة من عقيدتهم وشريعتهم، محصنين ضدّ الشبه المضللة من أعداء الاسلام «يا أيها الذين امنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد، لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون مايؤمرون»(30)
4- وعلى الآباء ان يروّضوا أبناءهم على التخلق بالأخلاق الكريمة والسجايا النبيلة: كالصدق، والأمانة، والصبر، والاعتماد على النفس. وتحريضهم على حسن معاشرة الناس: كتوقير الكبير، والعطف على االصغير، وشكر المحسن، والتجاوز ما وسعهم عن المسيء، والتحنّن على البؤساء والمعوزين.
5- ومن المهم جداً منع الأبناء من معاشرة القرناء المنحرفين الأشرار، وتحبيذ مصاحبة الأخدان الصلحاء لهم، لسرعة تأثرهم بالأصدقاء، واكتسابهم من أخلاقهم وطباعهم، كما قال النبي صلى اللّه عليه وآله: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل».
وهكذا يحسن بالآباء أن يستطلعوا مواهب أبنائهم وكفاءاتهم، ليوجهوهم، في ميادين الحياة وطرائق المعاش، حسب استعدادهم ومؤهلاتهم الفكرية والجسمية: من طلب العلم، أو ممارسة الصناعة، أو التجارة. ليستطيعوا الاضطلاع بأعباء الحياة، ويعيشوا عيشاً كريماً.
المصادر :
1- لقمان: 14 – 15
2- الاسراء: 23 - 24
3- الوافي ج 3 ص 93، عن الكافي
4- الوافي ج 3 ص 91 - 92، عن الكافي
5- الوافي ج 3 ص 155، عن الكافي
6- البحار م 16 ج 4 ص 24، عن كشف الغمة الأربلي
7- البحار م 16 ج 4 ص 21، عن أمالي الشيخ الصدوق، وأمالي ابن الشيخ الطوسي
8- الوافي ج3 ص92 ، عن الكافي
9- البحار م 16 ج 4ص 23، عن بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار
10- رسالة الحقوق للامام السجاد عليه السلام
11- عن شرح الصحيفة السجادية للسيد علي خان
12- الوافي ج 3 ص 92، عن الكافي
13- الوافي ج 13 ص 90 عن الكافي والتهذيب
14- الوافي ج 3 ص 93، عن الكافي
15- البحار م 16 ج 4 ص 26، عن كتاب الامامة والتبصرة لعلي بن بابويه
16- الوافي ج 3 ص 155، عن الكافي
17- الوافي ج 3 ص 155، عن الكافي
18- الوافي ج 3 ص 155، عن الكافي
19- البحار م 16 ج 4 ص 23، عن أمالي أبي علي ابن الشيخ الطوسي
20- المحاسن والمساوئ، للبيهقي ج 2 ص 193
21- البحار م16 ج4 ص 23، عن امالي ابي علي ابن الشيخ الطوسي
22- البحار م 16 ج 4 ص 22، عن خصال الصدوق
23- الوافي ج 14 ص 50، عن الفقيه
24- الوافي ج 12 ص 196، عن الكافي
25- الوافي ج 12 ص 196، عن الفقيه
26- الوافي ج 12 ص 197، عن الفقيه
27- الوافي ج 13 ص 90، عن الكافي
28- الوافي ج 12 ص 197، عن الكافي/(مريم: 5 - 6)
29- رسالة الحقوق، للامام علي بن الحسين عليه السلام
30- التحريم: 6
/ج