
قد روى غير واحد من المحدّثين فعل النبي في السفر أو في السفر والحضر وأنّه مسح على الخفّين، والغالب عليها هو نقل فعل النبي من دون أن يذكر فيها لفظه وأنّه أمر لفظاً بالمسح على الخفّين، وعلى فرض أنّه أمر بالمسح على الخفين لم تُعيّن ظروف العمل، وقد جمع أبو بكر البيهقي عامّة الروايات في السنن، فنذكر قسماً كبيراً ممّا رواه:
عن سعد بن أبي وقّاص أنّ رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ مسح على الخفّين.
وما ذكر مردود بأنّ في إمكان الرسول أن يبيّن جواز المسح على الخفين بكلامه لا بفعله الذي يعد من صفات غير المبالين بأحكام الشريعة.
قد أخرج ابن ماجة في سننه عن عمر قال: رآني رسول اللّه أبول قائماً، فقال: يا عمر لا تبل قائماً.(1)
عن جعفر بن أُميّة بن الضمري، عن أبيه: رأيت رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ مسح على عمامته وخفّيه، والكلام في هذا الحديث هو نفس الكلام في الحديثين السابقين.
عن كعب بن عجرة قال: حدّثني بلال قال: رأيت رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ توضّأ ومسح على الخفّين والخمار.
عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: رأيت رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ توضّأ مرّة مرّة ومسح على الخفّين، وصلّى الصلوات كلّها بوضوء واحد. فقال له عمر: صنعتَ شيئاً ما كنتَ تصنعه. فقال: عمداً فعلته يا عمر.
أقول: قد قام رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بفعله هذا يوم الفتح قبل نزول سورة المائدة بشهادة رواية بريدة حيث قال: صلّى رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد ومسح على خفّيه. فقال له عمر: إنّي رأيتك صنعتَ شيئاً لم تصنعه، قال: عمداً صنعته.
روى المقدام بن شريح قال: سألت عائشة عن المسح على الخفّين؟ فقالت: إيت علياً فانّه أعلم بذلك منّي، فأتيت عليّاً فسألته عن المسح، فقال: كان رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ يأمرنا أن يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثاً.
ولا يصحّ الاحتجاج به وبنظيره ما لم يثبت ظرف العمل وانّ فعل النبي كان بعد نزول سورة المائدة.(2)
ثمّ إنّ هناك تساؤلات حول هذه المسألة نطرحها على صعيد البحث والدراسة، ولعلّ الفقيه المفتي بجواز المسح على الخفّين في عصرنا هذا يجد لها أجوبة:
1. لا شكّ أنّ الوضوء وإن كان عبادة وشرطاً في صحّة الصلاة ولكنّه في الوقت نفسه تطهير للمتوضّأ يقول سبحانه في ذيل آية الوضوء: (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون).(3)
فإذا كان الوضوء كالغسل والتيمّم سبباً للتطهير فهو فرع مباشرة الرجلين لا الخفّين والنعلين ولا الجوربين، فانّ المسح عليها لا يستتبع طهارة إن لم يؤثر في انفعال اليد بالأوساخ التي على الخفّين أو النعلين أو الجوربين. فتجويزه في الحضر والسفر اختياراً مؤقتاً أو غير مؤقت على خلاف النظافة التي دعا إليها الإسلام في غير واحد من تعاليمه.
2. إنّ المسح على الخفّين مسألة فقهية فرعية اختلف فيها الصحابة والتابعون، وقد اشتهر عن علي و ابن عباس وعائشة وأئمة أهل البيت قاطبة وغيرهم المنعُ عنه، وكان الإمام ـ عليه السَّلام ـ وتلميذه حبر الأُمّة يستدلاّن بأنّ آية الوضوء نسخت هذا، ومع هذا فلا يتجاوز الاختلاف فيه عن الاختلاف في الحكم الفرعي، وما أكثر الخلاف في الأحكام الفرعية; ومع ذلك نرى أنّ شهاب الدّين أحمد بن محمد القسطلاني ينقل في شرحه على صحيح البخاري عن الكرخي أنّه قال: أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفّين، وليس[المسح] بمنسوخ، لحديث مغيرة في غزوة تبوك وهي آخر غزواته ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ والمائدة نزلت قبلها في غزوة المريسيع، فأين النسخ للمسح.(4)
ولا يخفى ما في كلامه من الوهن .
أمّا أوّلاً: فانّ ما ذكره لا يخلو من المغالاة في القول، إذ أي ملازمة بين عدم تجويز المسح على الخفّين والخروج عن حظيرة الإسلام، وليس في المسألة إلاّ خبر واحد كخبر المغيرة، غير المفيد علماً ولا قطعاً.واتّهام المخالف بالكفر سيئة موبقة، وقد قال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما».(5)
وثانياً: أنّ المائدة نزلت قبل رحيله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بثلاثة أشهر أو أقلّ، وأمّا غزوة المريسيع، فقد كانت في شهر شعبان من العام السادس من الهجرة، وقيل قبله.(6) نعم نزل فيها آية التيمّم وهي قوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاّ عابِري سَبيل حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كانَ عَفُوّاً غَفُوراً).(7)
3. وممّا يشهد على أنّ النزاع بين الصحابة والتابعين في مسألة المسح على الخفّين كان على قدم وساق انّ بعض من يروي المسح على الخفّين عن النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ يعمل بخلافه. روى البيهقي عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه أنّ رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ سئل عن المسح على الخفّين فقال: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهنّ وللمقيم يوم وليلة، وكان أبي (أبو بكرة) ينزع خفّّيه ويغسل رجليه.(8)
ولما كان ذيل الحديث يوجد وهناً فيما يرويه عن النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ حيث إنّ عمله كان على خلاف روايته، حاول غير واحد من المحدّثين تصحيحه .(9)
4.إنّ الظاهر من غير واحد من الروايات التي نقلها البيهقي في سننه أنّه يجوز المسح على الخفّين في السفر والحضر جميعاً، وقد عقد باباً بهذا العنوان: «باب مسح النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ على الخفّين في السفر والحضر»، وقد عرفت رواية حذيفة وأُسامة انّ النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ مسح على الخفّين وهو في المدينة، ومعنى ذلك أنّه يجوز أن يختار المكلّف طيلة عمره المسح على الخفّين، وأنّ غسل الرجلين مختصّ بمن لم يلبس الخفّين، وهذا شيء لا ترتضيه روح الفقه ولا سيرة المتشرّعة ولا حكمة الوضوء.
وإن كنت في شكّ من ذلك، فإليك فتاوى الفقهاء في هذا الصدد:
يرى جمهور الفقهاء الحنفيّة والشافعيّة والحنابلة، توقيت مدّة المسح على الخفّين بيوم وليلة في الحضر وثلاثة أيّام للمسافر، ولكن المالكية تجوّز المسح على الخفّين في الحضر والسفر من غير توقيت بزمان، فلا ينزعهما إلاّ بموجب الغسل ويندب للمكلّف نزعهما في كلّ أُسبوع مرّة يوم الجمعة ولو لم يرد الغسل لها، ونزعهما مرّة في كلّ اسبوع في مثل اليوم الذي لبسهما فيه، فإذا نزعهما لسبب أو لغيره وجب غسل الرجلين.واستدلّوا بما رواه ابن أبي عمارة، قال: قلت: يا رسول اللّه: أمسح على الخفّين؟ قال: نعم، قلت: يوماً؟ قال: و يومين، قلت: وثلاثة؟ قال: نعم وما شئت.(10)
5. انّ الشيء الغريب حقّاً هو انّ الفقهاء لم يجوّزوا المسح بماء الوضوء على الرجلين مباشرة لا في الحضر ولا في السفر، ومع ذلك جوّزوا المسح على الخفّين على الرغم من أنّ الخفين لا صلة لها بالمتوضّي سوى انّهما وعاءان للرِجْلين.
6. ثمّ هناك من يتصوّر انّ الحكمة في جواز المسح على الخفّين، التيسير والتخفيف عن المكلّفين الذين يشق عليهم نزع الخف وغسل الرجلين في أوقات الشتاء والبرد الشديد، وفي السفر وما يصاحبه من الاستعجال ومواصلة السفر.(11)
وما ذكر من الحكمة ـ لو صحت ـ يوجب اختصاص المسح على الخفّين بموارد الحرج والضرورة، وأين هذا من الإفتاء به دون تقييد؟!
7. وأظنّ أنّ الإصرار على بقاء حكم المسح على الخفّين كان لأجل مخالفة الإمام علي ـ عليه السَّلام ـ حيث كان هو وبيته الرفيع يجاهرون بالمنع من المسح على الخفّين، وقد أعطى المجوّزون المسألة أكثر ممّا تستحقّ، قال أبو بكر بن المنذر: روينا عن الحسن البصري، حدثني سبعون من أصحاب رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أنّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ كان يمسح على الخفّين ، قال: وروينا عن ابن المبارك قال: ليس في المسح على الخفّين اختلاف. هو جائز قال جماعات من السلف نحو هذا.(12)
كما ذكر البيهقي أسماء حوالي عشرين صحابياً جوّزوا المسح على الخفّين منهم: عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وعبد اللّه بن مسعود و حذيفة بن اليمان وأبو أيوب الأنصاري وأبو موسى الأشعري وعمّـار بن ياسر و جابر بن عبداللّه وعمرو بن العاص وأنس بن مالك وسهل بن سعد وأبي مسعود الأنصاري والمغيرة بن شعبة والبراء بن عازب وأبي سعيد الخدري وجابر بن سمرة وأبو أمامة الباهلي وعبد اللّه بن الحارث بن جزر و أبو زيد الأنصاري.(13)
والعجب انّهم عطفوا عليّاً ـ عليه السَّلام ـ وابن عباس على هؤلاء لمزيد كسب الثقة بالجواز.
فروع المسألة ثمّ إنّ القائلين بجواز المسح على الخفّين اختلفوا فيما يرجع إليه من فروع اختلافاً شديداً فاختلفوا في المواضع التالية:
1. تحديد المحل: فاختلفوا فيه فقال قوم: إنّ الواجب من ذلك مسح أعلى الخف وإنّ مسح الباطن ـ أعني: أسفل الخف ـ مستحب، ومالك أحد من رأى هذا، والشافعي; ومنهم من أوجب مسح ظهورهما وبطونهما ،وهو مذهب ابن نافع من أصحاب مالك.
ومنهم من أوجب مسح الظهور فقط ولم يستحب مسح البطون، وهو مذهب أبي حنيفة وداود و سفيان وجماعة; وشذّ أشهب: فقال: إنّ الواجب مسح الباطن أو الأعلى، أيّهما مسح، وسبب اختلافهم تعارض الآثار الواردة في ذلك وتشبيه المسح بالغسل.
2. نوع محل المسح فانّ القائلين به اتّفقوا على جواز المسح على الخفّين واختلفوا في المسح على الجوربين، فأجاز ذلك قوم ومنعه قوم، وممّن منع ذلك: مالك والشافعي وأبو حنيفة، وممّن أجاز ذلك: أبو يوسف و محمد صاحبا أبي حنيفة وسفيان الثوري، وسبب اختلافهم في صحّة الآثار الواردة عنه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، انّه مسح على الجوربين والنعلين، واختلافهم أيضاً في هل يقاس على الخف غيره، أم هي عبادة لا يقاس عليها ولا يتعدّى بها محلّها؟
3. صفة الخفّ فانّهم اتّفقوا على جواز المسح على الخفّ الصحيح واختلفوا في المخْرَق، فقال مالك وأصحابه: يمسح عليه إذا كان الخرق يسيراً، وحدّد أبو حنيفة بما يكره الظاهر منه أقلّ من ثلاثة أصابع، وقال قوم بجواز المسح على الخفّ المنخرق مادام يسمّى خفّاً، وإن تفاحش خرقه، وممّن روي عنه ذلك الثوري، ومنع الشافعي أن يكون في مقدّم الخف خرق يظهر منه القدم، ولو يسيراً في أحد القولين عنه. ثمّ ذكر سبب اختلافهم.
4.التوقيت فانّ الفقهاء اختلفوا فيه، فرأى مالك انّ ذلك غير مؤقت وإنّ لابس الخفّين يمسح عليها مالم ينزعهما أو تصيبه جنابة، وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنّ ذلك مؤقت. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك.
5. شرط المسح على الخفين هو أن تكون الرِّجْلان طاهرتين بطُهر الوضوء وذلك شيء مجمع عليه إلاّخلافاً شاذاً. وقد روي عن ابن القاسم عن مالك، ذكره ابن لبابة في المنتخب، وإنّما قال به الأكثر لثبوته في حديث المغيرة وغيره إذا أراد أن ينزع الخف عنه فقال ـ عليه السَّلام ـ : دعهما فإنّي ادخلتهما وهما طاهرتان،والمخالف حمل هذه الطهارة على الطهارة اللغوية.
6. الاختلاف في نواقض هذه الطهارة فانّهم أجمعوا على أنّها نواقض الوضوء بعينها واختلفوا هل نزع الخف ناقض لهذه الطهارة أم لا؟ فقال قوم : إن نَزَعه وغسل قدميه فطهارته باقية، وإن لم يغسلهما وصلّى أعاد الصلاة بعد غسل قدميه، وممّن قال بذلك مالك وأصحابه والشافعي وأبو حنيفة ـ إلى أن قال ـ وقال قوم: طهارته باقية حتى يحدث حدثاً ينقض الوضوء وليس عليه غسل، وممّن قال بهذا القول داود و ابن أبي ليلى وقال الحسن بن حي: إذا نزع خفّيه فقد بطلت طهارته.(14)
وهذه الاختلافات في الفروع مبنية على القول بجواز المسح على اختيار، فإذا بطل الأصل يكون الكلام في الفروع أمراً لغواً لاطائل تحته وإن أطنب القائلون بالجواز الكلام فيها.
المصادر :
1- سنن ابن ماجة: 1/112، برقم 309
2- السنن الكبرى للبيهقي:1/270ـ277.
3- المائدة:6.
4- في المصدر مكان أين: فأمن. راجع: إرشاد الساري:1/278.
5- صحيح مسلم:1/56، كتاب الإيمان، باب من قال لأخيه يا كافر.
6- السيرة النبوية:2/289.
7- النساء:43.
8- السنن الكبرى:1/276.
9- الشرح الصغير:1/152، 153، 158; جواهر الإكليل:1/24، ولاحظ الموسوعة الفقهية الكويتية، ج37، مادة «مسح».
10- كتاب المجموع شرح المهذّب للنووي:1/505.
11- الموسوعة الفقهية:37/262.
12- المجموع :1/501.
13- سنن البيهقي:1/272.
14- بداية المجتهد:1/18ـ23 بتلخيص.
/ج