
كان النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) يتنبأ دبيب البدعة في دينه بعد رحيله، ويعلم أنّ سماسرة الأهواء سيبثّون بذور البدع في المجتمع الإسلامي. ولما كان الدين أعزّ شيء عند الرسول (صلى الله عليه وآله)، وقد ضحى بالنفس والنفيس لأجله، وتحمّل عبئاً عظيماً في طريق دعوته، لذا اتّخذ عدّة اجراءات لتحصينه من البدعة، نذكر منها ما يلي:
الأُولى: التحذير من البدع والمبتدعين
إنّ الخط الدفاعي الأوّل الذي وضعه رسول الله لحصانة دينه تمثل في ذمّ البدع والمبتدعين، وتحذير المجتمع الإسلامي منهما، منخلال خطبه وبياناته البليغة، وقد تعرّفت على قسم منها في التقديم وبعده، واليك بعضها:
قال رسول الله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".وقال: "إيّاكم والبدع فانّ كلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة تسير إلى النار". وقال: "أصحاب البدع كلاب النار".وقال: "أهل البدع شرّ الخلق والخليقة".وقال: "يجيء قوم يميتون السنّة ويوغلون في الدين، فعلى أُولئك لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين".وقال: "من وقّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام".وقال: "إذا رأيتم صاحب بدعة فاكفهّروا في وجهه"(1).
إلى غير ذلك من البيانات البليغة التي تحذّر المجتمع الإسلامي من البدعة والمبتدعين الذين سيظهرون بعد رحيله، وبذلك أعطى بصيرة لمن خلفه لكي لا يغترّوا بكلام المبتدعين ويفتتنوا به.
الثانية: الإشارة إلى وجود الكذابة على لسانه
وقف النبي الأكرم على أنّ هناك أُناساً في حياته أو بعد رحيله يكذبون أو سيكذبون على لسانه، فيبدلون دينه، وقال في حديث يرشد المسلمين إلى وجود الكذابين ليأخذوا حذرهم:"من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار".أو "من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار".أو "من يقل عليّ ما لم أَقُل فليتبوّأ مقعده من النار"(2).إنّ التاريخ يشهد بأنّ الأُمّة الإسلامية ـ في عصر الخلفاء ـ يوم اتسعت رقعة البلاد الإسلامية واستوعبت شعوباً كثيرة، شهدت دخول جماعات عديدة من أحبار اليهود وعلماء النصارى في الإسلام، مثل كعب الأحبار، وتميم الداري ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام، الذين تسلّلوا إلى صفوف المسلمين، وراحوا يدسّون الأحاديث الإسرائيلية، والخرافات والأساطير النصرانية في أحاديث المسلمين وكتبهم وأذهانهم.
وقد ظلّت هذه الأحاديث المختلقة، تُخيِّم على أفكار المسلمين ردْحاً طويلا من الزمن، وتؤثّر في حياتهم العمليّة، وتوجهها الوجهة المخالفة لروح الإسلام الحنيف، في غفلة من المسلمين وغَفْوتهم، ولم ينتبه إلى هذا الأمر الخطير، إلاّ من عصمه الله، كعليّ(عليه السلام)، الذي راح يحذّر المسلمين عن الأخذ بمثل هذه الأحاديث المختلقة فقال: "فلو علم الناس أنّه منافق كاذب، لم يقبلوا منه ولم يصدَّقوا، ولكنّهم قالوا: صاحب رسول الله رآه وسمع منه ولقف عنه"(3).
نماذج وأرقام عن الأحاديث الموضوعة:
وحسبك لمعرفة ما أصاب المسلمين وما تعرّضت له الأحاديث، ولمعرفة الذين لعبوا هذا الدور الخبيث في غفلة من الأُمّة ما كُتب في هذا الصدد مثل كتاب:
ميزان الاعتدال للذهبي.
وتهذيب التهذيب للعسقلاني.
ولسان الميزان للعسقلاني.
ونظائرها من الكتب التي صنّفت في هذا المجال.
ولعلّ فيما قاله البخاري صاحب "الصحيح" المعروف، إشارة إلى طرف من هذه الحقيقة المرّة، حيث قال ابن حجر في مقدّمة فتح الباري:
إنّ أبا عليّ الغساني روى عنه قال: خرّجت الصحيح من 006 ألف حديث.
وروى عنه الإسماعيلي أنّه قال:أحفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح(4).
ويعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمة الحديث أخبار تآليفهم (الصحاح والمسانيد) من أحاديث كثيرة هائلة، والصفح عن غيرها، وقد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديثاً وقال: انتخبته من خمسمائة ألف حديث(5).
ويحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرار على ألفي حديث وسبعمائة وواحد وستين حديثاً اختاره من زهاء ستمائة ألف حديث(6).
وفي صحيح مسلم أربعة آلاف حديث أصول دون المكرّرات، صنّفه من ثلاثمائة ألف(7).
وذكر أحمد في مسنده ثلاثين ألف حديث، وقد انتخبه من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف حديث، وكان يحفظ ألف ألف حديث(8).
وقد قام الباحث الكبير المجاهد العلامة الأميني في موسوعته (الغدير) ـ الجزء الخامس ـ باستخراج أسماء الكذّابين والوضّاعين للحديث على حسب الحروف الهجائية فبلغ عددهم 700، وما قام به رحمه الله، وإن كان عملا كبيراً يشكر عليه، غير أنّه لو قامت بهذا الأمر لجنة من الباحثين لعثروا على أضعاف ما ذكره ذلك الباحث الكبير.
وكان تحذير النبي الأكرم عن الدجّالين الكذّابين وشيوع الكذب على لسانه سبباً لقيام العلماء بوضع علم الرجال وبيان مقاييس يُميّز به الصحيح عن السقيم.
وقال: وقد تنبّأ الرسول بما سيصيب سنّته الشريفة ويصيب المسلمين فيما بعد على أيدي الكذّابين ووضّاعي الحديث وأعداء الإسلام، وفي الوقت نفسه أخبر عمّن يقف في وجه هذا الخطر العظيم إذ قال: "يحمل هذا الدين في كلّ قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحوير الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد"(9).
روى السيوطي أنّ عثمان بن عفان لمّا أراد أن يكتب المصاحف، أراد أن يحذف الواو التي في سورة البراءة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِنَّ كَثِيراً مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَالَّذِينَ يَكْنُزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَاب أَلِيم} (10).
قال أُبيّ بن كعب لتلحقنها أو لأضعنّ سيفي على عاتقي(11).
فانّ الخليفة كان يريد أن يقرأ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنُزُونَ} بدون واو العطف، لتكون هذه الجملة وصفاً للأحبار واليهود. وهذا مضافاً إلى كونه خلاف التنزيل وتغييراً في ما نزل به الوحي كما تلاه الرسول وقرأه على مسامع القوم، فإنّ حذف الواو كان يعني أنّ آية حرمة الكنز سوف لا تشمل المسلمين بل ستبقى صفة للأحبار والرهبان. وكان يقصد من هذه اضفاء طابع الشرعية على اكتناز الأموال الطائلة.
وهذا يكشف عن مدى حفظ الأُمّة لنصّ الكتاب بهذه الصورة الدقيقة الأمينة، بيد أنّ حفظ الأُمّة كان محدوداً لا يتجاوز هذا الحد، إذ كان غير شامل لجوانب أُخرى من الشريعة وأُصولها ومصادرها وينابيعها.
الثالثة: محاولة كتابة الصحيفة
هذا هو الخطّ الدفاعي الثالث الذي حاول الرسول وضعه لمكافحة دبيب البدعة، وهنا نقتبس ما ذكره الإمام الشاطبي حرفياً، يقول:لقد كان عليه الصلاة والسلام حريصاً على أُلفتِنا وهدايتنا، حتى ثبت من حديث ابن عباس (رضي الله عنه) أنه قال: لمّا حضر النبيّ (صلى الله عليه وآله)قال: وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهم ـ فقال: "هلمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده" فقال عمر: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله)غلبه الوجع، وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لن تضلّوا بعده، وفيهم من يقول كما قال عمر، فلمّا كثر اللغط والاختلاف عند النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "قوموا عنّي" فكان ابن عباس يقول: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب اختلافهم ولغطهم(12).
الرابعة: التعريف بالثقلين
إنّ النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) نبّه الأُمّة وبيّن لها المرجع والملاذ بعد رحيله بقوله: "يا أيّها الناس، انّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي"(13).وقال (صلى الله عليه وآله): "إنّي تركت ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما"(14).
وقال (صلى الله عليه وآله): "إنّي تارك فيكم خليفتين: كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وانّهما لن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض"(15).
وقال (صلى الله عليه وآله): "إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وأهل بيتي، وانّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض"(16).
وقال (صلى الله عليه وآله): "إنّي أوشك أن أُدعى فأُجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله عزوجل، وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض وعترتي أهل بيتي، وانّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروني بم تخلفوني فيهما"(17).
وقال (صلى الله عليه وآله) في منصرفه من حجة الوداع ونزوله غدير خم: "كأنّي قد دُعيت فأجبت، إنّي تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض"(18).
وللكاتب الإسلامي منشي المنار كلام ذكره في تعليقته على كتاب الاعتصام للشاطبي قال: رواه ابن أبي شيبة والخطيب في المتّفق والمفترق عنه وهو "تركت فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به، كتاب الله وعترتي أهل بيتي: ورواه الترمذي والنسائي عنه بلفظ "يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي" والحديث مرويّ بلفظ العترة بدل السنّة عن كثير من الصحابة، منهم: زيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وأبو سعيد الخدري، وروي عن أبي هريرة بلفظ "السنّة" بدل العترة، وفي كلا السياقين بلفظ "لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض" والجمع بينهما في المعنى أنّ عترته أهل بيته يحافظون على سنّته، أي لا يخلو الزمان عن قدوة منهم يقيمون سنّته لا يُثنِيهم عنها التقليد ولا الابتداع ولا الفتن(19).
الخامسة: التعريف بسفينة النجاة
إنّ النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) شبّه أهل بيته بسفينة نوح فقال: "ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق"(20).وفي حديث آخر يقول (صلى الله عليه وآله): إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق. وإنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني اسرائيل من دخله غفر له"(21).
وفي حديث ثالث: "النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف، فاذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس"(22).
ومن المعلوم أنّ المراد ليس جميع أهل بيته على سبيل الاستغراق، لأنّ هذه المنزلة ليست إلاّ لحجج الله، وهم ثلّة منتخبة مصطفاة من أهل بيته، وقد فهمه ابن حجر فقال: يحتمل أنّ المراد بأهل البيت الذين هم أمان، علماؤهم، لأنّهم الذين يهتدى بهم كالنجوم، والذين إذا فُقِدوا جاء أهل الأرض من آيات ما يوعدون.
وقال في مقام آخر: إنّه قيل لرسول الله: ما بقاء الناس بعدهم؟ قال: "بقاء الحمار إذا كسر صلبه"(23).
والمراد من تشبيههم (عليهم السلام) بسفينة نوح أنّ من لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه وأُصوله عنهم نجا من عذاب الله، ومن تخلّف عنهم كان كمن أوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر الله فما أفاده شيئاً فغرق وهلك.
والوجه في تشبيههم بباب حطة هو أنّ الله تعالى جعل ذلك الباب مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله والبخوع لحكمه، وبهذا كان سبباً للمغفرة، وقد جعل انقياد هذه الأُمّة لأهل بيت نبيّها وأتباعهم أيضاً مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله والبخوع لحكمه، وبهذا كان سبباً للمغفرة.
وقد أوضح ابن حجر حقيقة التشبيه في الحديث الشريف فقال:
"ووجه تشبيههم بالسفينة أنّ من أحبّهم وعظّمهم شكراً لنعمة مشرفهم وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم، وهلك في مفاوز الطغيان ـ إلى أن قال: ـ وبباب حطة ـ يعني ووجه تشبيههم بباب حطة ـ أنّ الله جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب أريحاء أو بيت المقدس مع التواضع والاستغفار سبباً للمغفرة، وجعل لهذه الأُمّة مودّة أهل البيت سبباً لها"(24).
دور أئمة أهل البيت في مكافحة البدع
إنّ لأئمة أهل البيت دوراً بارزاً في مكافحة البدع، والردّ على الأفكار الدخيلة على الشريعة عن طريق أهل الكتاب، الذين تظاهروا بالاسلام، وتزيّوا بزيّ المسلمين، نظراء كعب الأحبار، وتميم الداري، ووهب بن منبه ومن كان على شاكلتهم.
إنّ كتب الحديث، من غير فرق بين الصحاح وغيرها، مشحونة بأخبار التجسيم والتشبيه والجبر ونفي الاستطاعة المكتسبة ونسبة الكذب والعصيان إلى الأنبياء والرسل، وقد تأثّر بها المحدّثون السُّذَّج وحسبوا أنّها حقائق راهنة فنقلوها إلى الأجيال اللاّحقة، وقد حيكت العقائد على منوال هذه الأحاديث، ولم يتجرّأ أحد من المفكّرين الإسلاميين القدامى والجدد على نقدها إلاّ من شذّ.
وفي مقابل هذه البدع نرى أنّ أئمة أهل البيت يكافحون التجسيم والتشبيه والجبر وغيرهما بخطبهم ورسائلهم ومناظراتهم أمام حشد عظيم. وفي وسع القارئ الكريم مراجعة نهج البلاغة للإمام عليّ (عليه السلام)وكتاب التوحيد للشيخ الصدوق (630 ـ 381)، وكتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي (ت/055)، إلى غير ذلك من الكتب المؤلّفة في هذا المضمار، وما أحلى المناظرات التي أجراها الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) في عاصمة الخلافة الإسلامية (مرو) يوم ذاك مع الماديين والملحدين. وأحبار اليهود وقساوسة النصارى، بل ومع المتزمّتين المغترّين بتلك الأحاديث.
لقد كان لفكرة الإرجاء التي تدعو إلى التسامح الديني في العمل، واجهة بديعة عند السذج من المسلمين ولا سيّما الشباب منهم، فقام الإمام الصادق بردّها والتنديد بها، وقد أصدر بياناً فيها حيث قال: "بادروا أولادكم بالحديث قبل أن تسبقكم إليهم المرجئة"(25).
هذا هو الامام الثامن عليّ بن موسى الرضا يكافح فكرة رؤية الله تبارك وتعالى بالعين.
ويرد الفكرة المستوردة من اليهود والتي اغترّ بها بعض المحدّثين، واليك ما جرى بينه وبين أحدهم باسم أبي قرّة.
قال أبو قرّة: إنّا روينا أنّ الله عزوجل قسم الرؤية والكلام بين اثنين، فقسم لموسى (عليه السلام) الكلام ولمحمد (صلى الله عليه وآله) الرؤية.
فقال الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) فمن المبلّغ عن الله عزوجل الى الثقلين الجنّ والإنس {لاَ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارُ} (الأنعام/103) و {لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه/110) و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى/11) أليس محمّداً (صلى الله عليه وآله)؟
قال: بلى.
قال الإمام: فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند الله وأنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول: {لاَ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارُ} و {لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . ثمّ يقول أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً وهو على صورة البشر. أما تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي عن الله بشيء ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر(26).
هذا نموذج من نماذج كثيرة أوردناه حتى يكون أُسوة لنماذج أُخرى.
وإن أردت أن تقف على مدى مكافحة الأئمة الاثني عشر للبدع المحدثة فعليك مقارنة كتابين قد أُلّفا في عصر واحد بيد محدّثين في موضوع واحد، وهما:
1 ـ التوحيد لابن خزيمة (ت/311).
2 ـ التوحيد للشيخ الصدوق (630 ـ 381).
قارن بينهما، تجد الأوّل مشحوناً بأخبار التجسيم والتشبيه والجبر، وما زال المتسمون بالسلفية ينشرونه عاماً بعد عام، كأنّ ضالّتهم فيه.
وأمّا الثاني ففيه الدعوة إلى التوحيد وتنزيه الحقّ ومعرفته بين التشبيه والتعطيل وتبيين الآيات التي اغترّ بعضهم بظواهرها من دون التدبّر بالقرائن الحافّة بها.
وبذلك تبيّن أنّ النبيّ الأكرم قد جعل من الأئمّة واجهة دفاعية لصدّ البدع وأفكار المبتدعين ولا تتبيّن تلك الحقيقة إلاّ بعد معرفتهم ومراجعة كلماتهم.
السادسة: دعم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر
إذا كانت البدعة من أعظم الكبائر والمنكرات، فعلى السلطة التنفيذية للحكومات الإسلامية، دعم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، للقيام بمواجهة المبتدعين وردعهم عن أعمالهم، فإنّ البدعة أوّل يومها بذرة في الأذهان، ثمّ يستفحل عودها عبْر الزمن حتى تصير شجرة خبيثة، ولذلك دعا الذكر الحكيم إلى القيام بهذا الأمر وقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ اِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (27) وفي آية أُخرى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (28).والأُمَّة عبارة عن جماعة تجمعهم رابطة العقيدة ووحدة الفكر، غير أنّ الواجب على الجميع غير الواجب على جماعة خاصة، فيجب على كلّ مسلم ردع المنكر بقلبه ولسانه، وأمّا القيام بأكثر من ذلك فهو على القويّ المطاع العالم بالمعروف، وبذلك يجمع بين الآيتين، حيث
إنّ الثانية ترى الأمر بالمعروف فريضة على الجميع، والأُولى تراه فريضة على أُمّة خاصة، فالمراتب النازلة فريضة على الكل، والمراتب العالية وظيفة الأقوياء من أبناء الأُمّة.
ويكفي في أهمية تلك الفريضة قوله سبحانه: {الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ} (29).
وهذا الإمام أمير المؤمنين يعلّل قيامه ونضاله، بردع البدع ويقول: "اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا، منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردَّ المعالم من دينك، وتظهر الإصلاح في بلادك"(30).
وردّ المعالم من دينه كناية عن رفض البدع التي كانت قد ظهرت على الساحة الإسلامية.
وقال الامام الباقر (عليه السلام): "إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة، بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر"(31).
وقد كان في العصور الماضية نشاط للآمرين بالمعروف في خصوص متابعة المساجد والمؤذنين والوعّاط والقرّاء، حتى لايخرجوا عن حدود الشريعة. يقول ابن إخوة: "ومن وظائف المحتسِب مراقبة المساجد والمؤذنين والوعاظ والقراء وعدم السماح لتصدّي هذه المشاغل إلاّ لمن اشتهر بين الناس بالدين والخير والفضيلة ويكون عالماً بالأُمور والعلوم الشرعية، إلى آخر ما ذكره(32).
فهذه هي الخطوط الدفاعية التي وضعها الإسلام أمام المبتدعين، وهناك أُمور أُخرى للقضاء على البدعة والحدّ من نشاط المبتدعين، نؤخر بيانها إلى آونة أُخرى.
المصادر :
1- علاء الدين الهندي، كنز العمال ج 1 الحديث 1101، 1113، 1094، 1095، 1124، 1102، 1676
2- البخاري، الصحيح 1: 27 ـ السنن لابن ماجة 1: 13 ـ الصحيح لمسلم بشرح النووي: 661 ـ والترمذي رقم 2796
3- نهج البلاغة: الخطبة 210
4- من الهدى الساري مقدمة فتح الباري: 4
5- طبقات الحفاظ للذهبي 2: 154 ـ تاريخ بغداد 9: 57
6- ارشاد الساري 1: 208 ـ صفوة الصفوة 4: 143
7- طبقات الحفاظ للذهبي 2: 151، 157 ـ شرح صحيح مسلم للنووي 1: 32
8- طبقات الذهبي 9: 17.
9- الكشي، الرجال: 5.
10- التوبة/34
11- السيوطي، الدر المنثور 3: 232.
12- الشاطبي 2: 171 ـ 172 ولاحظ صحيح البخاري.
13- كنز العمال 1: 44، أخرجه الترمذي والنسائي عن جابر.
14- كنز العمال 1: 44، أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم.
15- مسند أحمد 5: 282 ـ 189.
16- المستدرك للحاكم 3: 148.
17- مسند أحمد 3: 17 و 26، أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري.
18- مستدرك الحاكم 3: 109، أخرجه عن حديث زيد بن أرقم.
19- الشاطبي، الاعتصام 2: 156، قسم التعليقة.
20- رواه الحاكم في مستدركه بسنده عن أبي ذر 3: 151.
21- الأربعون حديثاً للنبهاني: 216 نقله عن الطبراني في الأوسط.
22- رواه الحاكم في مستدركه بسنده عن ابن عباس 3: 149.
23- الصواعق لابن حجر (الباب الحادي عشر): 91، 142.
24- الصواعق (الباب الحادي عشر): 153.
25- الكليني، الكافي 6: 47 ح 5 ـ ولاحظ البحار 68: 297.
26- الصدوق، التوحيد، باب ما جاء في الرؤية: 111.
27- آل عمران/104
28- آل عمران/110
29- الحج/41
30- نهج البلاغة: الخطبة 127
31- الحرّ العاملي، الوسائل 11: 395
32- ابن إخوة القرشي، معالم القربة في أحكام الحسبة: 179
/ج