الجمع بين الصلاتين عند السنة

يقول الترمذي بعد ذكر أحاديث الجمع: والعمل على هذا عند أهل العلم: أن لا يجمع بين الصلاتين إلاّ في السفر أو بعرفة.
Sunday, November 23, 2014
الوقت المقدر للدراسة:
موارد بیشتر برای شما
الجمع بين الصلاتين عند السنة
الجمع بين الصلاتين عند السنة

 






 

يقول الترمذي بعد ذكر أحاديث الجمع: والعمل على هذا عند أهل العلم: أن لا يجمع بين الصلاتين إلاّ في السفر أو بعرفة.(1)

وقد ردّ عليه غير واحد من المحقّقين .

أ. يقول النووي: هذه الروايات الثابتة في مسلم كما تراها وللعلماء فيها تأويلات ومذاهب، وقد قال الترمذي في آخر كتابه: ليس في كتابي حديث أجمعت الأُمّة على ترك العمل به إلاّ حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر، وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة.(2)
وهذا الذي قاله الترمذي في حديث شارب الخمر هو كما قاله فهو حديث منسوخ دلّ الإجماع على نسخه، وأمّا حديث ابن عباس فلم يجمعوا على ترك العمل به بل لهم أقوال، ثمّ ذكر بعض التأويلات التي نشير إليها.(3)
ب. وقال الشوكاني رداً على الترمذي: ولا يخفاك انّ الحديث صحيح، وترك الجمهور للعمل به لا يقدح في صحته ولا يوجب سقوط الاستدلال به، وقد أخذ به بعض أهل العلم كما سلف وإن كان ظاهر كلام الترمذي انّه لم يأخذ به ولكن قد أثبت ذلك غيره، والمثبت مقدّم.(4)
ج. وقال الآلوسي: مذهب جماعة من الأئمة جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذ عادة; وهو قول ابن سيرين، وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الإمام الشافعي، وعن أبي إسحاق المروزي وعن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر، ويؤيده ظاهر ما صحّ عن ابن عباس، ورواه مسلم أيضاً، انّه لما قال: جمع رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر: قيل له: لِمَ فعل ذلك؟ فقال: أراد أن لا يحرج أحداً من أُمّته.
وهو من الحرج بمعنى المشقة فلم يعلّله بمرض ولا غيره.
ويعلم ممّا ذكرنا أنّ قول الترمذي في آخر كتابه: ليس في كتابي حديث أجمعت الأُمّة على ترك العمل به إلاّ حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، ناشئ من عدم التتبع، نعم ما قاله في الحديث الثاني صحيح فقد صرحوا بأنّه حديث منسوخ دلّ الإجماع على نسخه.(5)
د. وبهذه النقود ظهر انّه ليس هناك إعراض عن العمل بهذه الأحاديث، ولعلّ عدم إفتاء الجمهور بمضمون هذه الأحاديث هو كون التوقيت والتفريق أحوط.
لكن هذا الاحتياط يخالف مع احتياط آخر، وهو انّ التفريق في أعصارنا هذا أدى بكثير من أهل الأشغال إلى ترك الصلاة ـ كما شاهدناه عياناً ـ بخلاف الجمع فانّه أقرب إلى المحافظة على أدائها، وبهذا ينقلب الاحتياط إلى ضده، ويكون الأحوط للفقهاء أن يفتوا العامة بالجمع وأن ييسّروا ولا يعسّروا ـ (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْر) (6) (وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج) (7) والدليل على جواز الجمع مطلقاً موجود والحمد للّه سنة صحيحة صريحة كما سمعت بل كتاباً محكماً مبيّناً.(8)
قال القاضي شرف الدين الحسين بن محمد المغربي في كتابه «البدر التمام في شرح بلوغ المرام»: إنّ حديث ابن عباس لا يصح الاحتجاج به، لأنّه غير معيِّـن لجمع التقديم والتأخير كما هو ظاهر رواية مسلم وتعيين واحد منها تحكم، فوجب العدول إلى ما هو واجب من البقاء على العموم في حديث الأوقات للمعذور وغيره وتخصيص المسافر بثبوت المخصص.(9)
يلاحظ عليه: أنّ ابن عباس لم ينقل كيفية الجمع لوضوحها فانّ الجمع في الحضر كالجمع في السفر، فكما أنّه يجوز في السفر بكلتا الصورتين جمع التقديم وجمع التأخير كما مرّ التنصيص به فيما سبق.(10) فكذلك في الحضر، وسكوت ابن عباس وعدم سؤال الرواة عن الكيفية يعرب عن أنّهم فهموا من كلامه عدم الخصوصية لواحدة من الصورتين وإلاّ كان عليهم السؤال ثانياً من أنّ النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ جمع على نحو جمع التقديم أو جمع التأخير.
ويؤيد ذلك وحدة التعليل في كلام ابن عباس في الموردين.
أخرج مسلم عن ابن عباس انّ رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قال سعيد: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أُمّته.(11)
ويؤيد الإطلاق وعدم الفرق بين الصورتين هو عموم العلة وهو عدم الإحراج على الأُمّة ورفع الحرج منه، فالإحراج في الالتزام بالتفريق بين الصلاتين ورفعه يحصل بكلّ واحدة من الصورتين، سواء أكانت جمع تقديم أم جمع تفريق.
أضف إلى ذلك انّ ابن عباس عمل بالحديث بصورة جمع التأخير، فقد مرّ انّ ابن عباس خطب يوماً بعد العصر حتّى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة، فجاء رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني ويقول: الصلاة الصلاة،فقال ابن عباس: أتعلّمني بالسنّة لا أُمّ لك إلى آخر ما مرّ من الحديث.
ولعمر القارئ انّ المخالف لمّا وقف أمام هذه الروايات الهائلة الدالة على تجويز الجمع مقابل التفريق ورأى أنّ فقه الجمهور على الخلاف، عمد إلى التشكيك بها، ولذلك أتى بهذه الشبهة وهي أشبه بسؤال بني إسرائيل موسى بن عمران عن سن البقرة ولونها .(12)

كان الجمع بين الصلاتين جمعاً صورياً

إنّ غير واحد ممّن تعرض لحلّ هذه الأحاديث التجأ إلى أنّ الجمع لم يكن جمعاً حقيقياً كما في الجمع في السفر، بل كان جمعاً صورياً، بمعنى انّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أخّر الظهر إلى حد بقي من وقتها مقدار أربع ركعات فصلّى الظهر، وبإتمامها دخل وقت العصر وصلّى العصر فكان جمعاً بين الصلاتين مع أنّ كلّ واحدة من الصلاتين أُتي بها في وقتها. وهذا هـو الظاهر في غير واحد من شراح الحديث، وإليـك كلماتهم:
1. قال النووي: ومنهم من تأوّله على تأخير الأُولى إلى آخر وقتها فصلاّها فيه فلمّا فرغ منها دخلت الثانية فصلاّها فصارت صلاته صورة جمع.
ثمّ رده وقال: وهذا أيضاً ضعيف أو باطل، لأنّه مخالف للظاهر مخالفة لا تُحتمل، وفعل ابن عباس الـذي ذكرناه حين خطب، واستدلاله بالحديث لتصويب فعلـه وتصـديق أبـي هـريرة لـه وعـدم إنكـاره، صريـح في ردّ هذا التأويل.(13)
وكان على النـووي أن يـرد عليـه بما ذكرنـاه، وهـو انّ الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ جمـع بين الصـلاتين بغـية رفـع الحـرج عن الأُمّة، والجمـع بالنحو المذكور أكثر حرجاً من التفريق.
قال ابن قدامة: إنّ الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكروه لكان أشد ضيقاً وأعظم حرجاً من الإتيان بكلّ صلاة في وقتها، لأنّ الإتيان بكلّ صلاة في وقتها أوسع من مراعاة طرفي الوقتين بحيث لا يبقى من وقت الأُولى إلاّقدر فعلها.
ثمّ لو كان الجمع هكذا، لجاز الجمع بين العصر و المغرب، والعشاء والصبح ولا خلاف بين الأُمّة في تحريم ذلك والعمل بالخبر على الوجه السابق إلى الفهم منه أولى من هذا التكلّف.(14)
كما أنّ المقدسي في الشرح الكبير(15) ردّ على هذا التأويل بنفس ما ذكره ابن قدامة، واللفظ في كلا الكتابين واحد ولذلك اقتصرنا بلفظ ابن قدامة.
نعم انّهما ردّا بما نقلناه عنهما على من فسّر جواز الجمع بين الصلاتين للمسافر بالجمع الصوري، ولمّا كان ملاك الجمع في كلا المقامين (المسافر والحاضر) واحداً، وهو رفع الحرج والمشقة عن الأُمّة، وكان الجمع الصوري مُحرجاً على نحو أشد، أثبتنا كلامهما في المقام أيضاً.
ولأجل ما ذكرنا حمل الخطّابي الجمع في الرواية على الجمع الحقيقي دون الصوري، فقال:
ظاهر اسم «الجمع» عرفاً لا يقع على من أخّر الظهر حتّى صلاّها في آخر وقتها وعجّل العصر فصلاّها في أوّل وقتها، لأنّ هذا قد صلّى كلّ صلاة منهما في وقتها الخاصّ بها.
قال: وإنّما الجمع المعروف بينهما أن تكون الصلاتان معاً في وقت إحداهما، ألا ترى أنّ الجمع بعرفة بينهما ومزدلفة كذلك.(16)

أدلّة الشوكاني على أنّ الجمع كان صوريّاً

ثمّ إنّ الشوكاني ممّن يؤيّد تفسير الجمع بالجمع الصوري، وأيّده بوجوه ثلاثة:
الأوّل: ما أخرجه مالك في الموطّأ والبخاري وأبو داود والنسائي عن ابن مسعود، قال: ما رأيت رسول اللّهصلَّى اللّه عليه و آله و سلَّمّ صلّى صلاة لغير ميقاتها إلاّ صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة وصلّى الفجر يومئذ قبل ميقاتها.
قال الشوكاني: نفى ابن مسعود مطلقَ الجمع وحصره في جمع المزدلفة، مع أنّه ممّن روى حديث الجمع بالمدينة كما تقدّم، وهو يدلّ على أنّ الجمع الواقع بالمدينة جمع صوري، ولو كان جمعاً حقيقياً لتعارض روايتاه والجمع ما أمكن المسير إليه هو الواجب.(17)
يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه لايحتجّ به ،لأنّه حصر الجمع في المزدلفة مع تضافر الروايات على أنّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ جمع في المزدلفة وعرفة، فالحديث متروك الظاهر لا يعرّج عليه، ولا يصحّ قرينة على المراد من الجمع في روايات المقام.
وثانياً: انّ ابن مسعود نفسه روى جمع الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بين الصلاتين في المدينة وقال: جمع رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فقيل له في ذلك، فقال: صنعت ذلك لئلاّ تحرج أُمّتي.
وقد عرفت أنّ الجمع الصوري أشدّ حرجاً من الجمع الحقيقي، فانّ معرفة أواخر الأوقات وأوائلها على وجه الضبط كان مشكلاً في الأعصار السابقة، فلامحيص من تفسير الجمع بالجمع الحقيقي، وهذا دليل على أنّ رواية الحصر في المزدلفة متروكة لا يحتجّ بها.
الثاني: ما أخرجه ابن جرير عن ابن عمر قال: خرج علينا رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ فكان يؤخّر الظهر ويعجّل العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب ويعجّل العشاء فيجمع بينهما، وهذا هو الجمع الصوري.(18)
يلاحظ عليه: أنّ الحديث وإن كان مشعراً بالجمع الصوري ولكنّه لا يؤخذ به، وذلك لإجمال المراد منه، فإن أراد أنّ النبيّ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ فعل ذلك في السفر، فقد تقدّم أنّ جمع الرسول بين الصلاتين في السفر، كان جمعاً حقيقياً.
روى مسلم عن أنس بن مالك أنّه قال: كان رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر إلى وقت العصر، ثمّ نزل فجمع بينهما. وفي رواية أُخرى عنه: أنّ النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ إذا عجّل عليه السفر يؤخر الظهر إلى أوّل وقت العصر فيجمع بينهما ، ويؤخّر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حتّى يغيب الشفق.(19)
وإن أراد أنّ رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ جمع بين الصلاتين بالجمع الصوري في الحضر، فقد عرفت تضافر الروايات على الجمع الحقيقي، حيث إنّ حديث ابن عباس وغيره صريح فيه وقرينة على حمل سائر الروايات على الحقيقي فلا يمكن أن يطرح حديث حبر الأُمّة وعمله بحديث مجمل لابن عمر.
الثالث:ما أخرجه النسائي عن ابن عباس: صلّيت مع النبي الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً، «أخّر الظهر وعجّل العصر وأخّر المغرب وعجّل العشاء»، وهذا ابن عباس راوي حديث الباب قد صرّح بأنّ ما رواه من الجمع المذكور هو الجمع الصوري.(20)
يلاحظ عليه: بأنّ التفسير ـ أعني قوله: أخّر الظهر وعجّل العصر وأخّر المغرب وعجّل العشاء ـ ليس من ابن عباس، بل من جابر بن زيد، بقرينة ما أخرجه الإمام أحمد عن جابر بن زيد أنّه سمع ابن عباس يقول: صلّيت مع رسول اللّه ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً، قلت له :يا أبا الشعثاء أظنّه أخّر الظهر وعجّل العصر وأخّر المغرب وعجّل العشاء قال: وأنا أظن ذلك.(21)
وهذا دليل واضح على أنّ التفسير من أبي الشعثاء وأضرابه، وما أوّلوه إلاّ لأنّهم اعتادوا على التوقيت والتفريق بين الصلوات، فزعموا أنّ التوقيت فرض لا يُترك، ولمّا وقفوا على هذه الروايات الهائلة تحيّروا في مفاد الرواية واتخذ كلّ منهم مهرباً، وفسّـره أبو الشعثاء بالجمع الصوري.

كان الجمع لعذر المطر

هذا هو التأويل الثالث الذي لجأ إليه من لم يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر اختياراً.
قال النووي: منهم من تأوّله على أنّه جمع بعذر المطر، وهذا مشهور عن جماعة من الكبار المتقدّمين، ثمّ رد عليه بأنّه ضعيف بالرواية الأُخرى من غير خوف ولا مطر.(22)
إنّ السبب لهذا النوع من التأويل هو تطبيق الرواية على فتوى الجمهور وإلاّ فالروايات صريحة في أنّ هذا الجمع كان بلا عذر ولو استقرأت نصوص الروايات التي نقلناها عن ابن عباس وغيره لوقفت على أنّ الجمع لم يكن لعذر بل كان لأجل رفع الحرج عن الأُمة.
فالناظر في هذه الروايات يذعن بأنّ الجمع لم يكن لعذر المطر والسفر والخوف ولا لعلة أُخرى وانّ الصادع بالحق جمع بين الصلاتين في المدينة ـ بلا أيّ عذر ـ بأمر من اللّه سبحانه ليتسع الأمر على أُمّته ولئلا يتوهم متوهم ان التوقيت فرض لا يمكن التخلّف عنه بل هو فضيلة لا تنكر، ومع ذلك لكلّ واحد من آحاد الأُمّة الجمع بين الصلاتين بلا توقيت.

كان الجمع للغيم في السماء

ومنهم من تأوّله على أنّه كان غيم فصلى الظهر ثمّ انكشف الغيم وبان انّ وقت العصر دخل فصلاها.
وهذا الاحتمال من الوهن بمكان وكفى في وهنه ما ذكره النووي حيث قال: إنّه و إن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر ولكن لا احتمال فيه في المغرب والعشاء مع أنّ الجمع لم يكن مختصاً بالظهرين بل جمع بين المغرب والعشاء حتّى انّ ابن عباس أخّر المغرب إلى وقت العشاء.(23)
أضف إلى ذلك انّه لو كان الجمع في هذه الحالة كان على الرواة التصريح بذلك أفيحتمل انّ حبر الأُمة غفل عن القيد أو تذكر ولم ينقل وهكذا غيره نظراء أبي هريرة وعبد اللّه بن عمر و عبد اللّه بن مسعود؟!

كان الجمع لمرض

وقد أوّله بعض من لا يروقه الجمع بين الصلاتين وقال بأنّ الرواية محمولة على الجمع بعذر المرض أو نحوه، نقله النووي عن أحمد بن حنبل والقاضي حسين من الشافعية واختاره الخطابي والتولي والروياني من الشافعية. واختاره النووي
وقال: وهو المختار في تأويله لظاهر الحديث ولفعل ابن عباس وموافقة أبي هريرة، ولأنّ المشقة فيه أشدّ من المطر.(24)
يلاحظ عليه: بأنّه أيضاً كسائر التأويلات في الوهن والسقوط، وقد ورد في بعض الروايات من غير خوف ولا علة، وفي البعض الآخر من غير مرض ولا علّة.
والذي يبطل ذلك هو انّ ابن عباس جمع بين المغرب والعشاء ولم يكن هناك مرض ولا مريض، بل كان يخطب الناس وطال كلامه حتى مضى وقت الفضيلة للمغرب فصلّى المغرب مع العشاء في وقت واحد.
على أنّه لو كان التأخير للمرض، فيجوز لخصوص المريض لا لمن لم يكن مريضاً مع أنّ النبي جمع بين الصلاتين مع عامة أصحابه، واحتمال انّ المرض عمّ الجميع بعيد غاية البعد.(25)
وبما ذكرنا صرّح الحافظ ابن حجر العسقلاني فقال: لو كان جمعه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بين الصلاتين لعارض المرض لما صلّى معه إلاّ من به نحو ذلك العذر، والظاهر أنّه صلّى بأصحابه، وقد صرّح بذلك ابن عباس في روايته.(26)
وهذا هو الخطابي يحكي في معالمه عن ابن المنذر انّه قال: ولا معنى لحمل الأمر فيه على عذر من الأعذار، لأنّ ابن عباس قد أخبر بالعلة فيه وهو قـوله: «أراد أن لا تحـرج أُمّتُه» وحـكي عن ابـن سيرين انّه كان لا يرى بأسـاً أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو شـيء مـا لم يتّخذه عادة.(27)
وقال المحقّق لسنن الترمذي بعد نقل كلام الخطابي: وهذا هو الصحيح الذي يؤخذ من الحديث، وأمّا التأوّل بالمرض أو العذر أو غيره فانّه تكلّف لا دليل عليه، وفي الأخذ بهذا رفع كثير من الحرج عن أُناس قد تضطرهم أعمالهم أو ظروف قاهرة إلى الجمع بين الصلاتين ويتأثّمون من ذلك ويتحرّجون وفي هذا ترفيه لهم وإعانة على الطاعة ما لم يتّخذه عادة كما قال ابن سيرين.(28)
وما ذكره هو الحقّ ولكنّه تضييق أيضاً لما وسّعه النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، فحصر الجمع بمن له حاجة مع أنّ النبي بإذن من اللّه وسّع على وجه الإطلاق سواء أكانت هناك علة أو لا.
نعم لا شكّ انّ التوقيت أفضل ومن أتى بكلّ صلاة في وقتها (وقت الفضيلة) أفضل من إتيانها في الوقت المشترك، ومع ذلك فمجال الإتيان في الشريعة أوسع.

كان الجمع لأحد الأعذار المبهمة

لما كان تعيين العذر المسوِّغ للجمع، أمراً مشكلاً سلك بعضهم مسلك الإبهام والإجمال وانّ الجمع كان لأحد الأعذار المسوِّغة، من دون تعيين.
وممّن عرّج على هذا الاحتمال مفتي السعودية السابق عبد العزيز بن باز في تعليقة مختصرة له على «فتح الباري بشرح صحيح البخاري» فهو لمّا ضعّف مختار ابن حجر في تفسير الجمع (الجمع الصوري) بقوله هذا الجمع ضعيف، قال:
الصواب حمل الحديث المذكور على أنّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ جمع بين الصلوات المذكورة لمشقّة عارضة ذلك اليوم من مرض غالب أو برد شديد أو وحل ونحو ذلك، ويدلّ على ذلك قول ابن عباس، لمّا سئل عن علّة هذا الجمع، قال: لئلاّ يحرج أُمّته
ثمّ استحسن هذا الجمع وقال: وهو جواب عظيم سديد شاف.(29)
يلاحظ عليه: أنّ هذا الجمع كالجمع الذي ضعّفه في الضعف والوهن سواء، وذلك لأنّه يخالف رواية ابـن عباس وعمله، فانّـه جمـع بيـن الصلاتـين فـي البصرة مـن دون أن يكون هناك مرض غالب أو برد شديد أو وحـل.
أضف إلى ذلك إطلاق التعليل، أعني: رفع الحرج عن الأُمّة، فانّ الحرج لا يختصّ بصور الأعذار، بل يعمّ إلزام الناس بالتفريق بين الصلوات على وجه الإيجاب عبر الحياة.
إنّ لابن الصدّيق في تأليفه المنيف المسمّى بـ «إزالة الحظر عمّن جمع بين الصلاتين في الحضر» هنا كلاماً لابأس بإيراده هنا:
قال: إنّ النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ صرّح بأنّه فعل ذلك ليرفع الحرج عن أُمّته وبيّن لهم جواز الجمع إذا احتاجوا إليه. فحمله على المطر بعد هذا التصريح من النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ والصحابة الذين رووه، تعسف ظاهر، بل تكذيب للرواة ومعارضة للّه والرسول، لأنّه لو فعل ذلك للمطر لما صرّح النبيّ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بخلافه، ولما عدل الرواة عن التعليل به، إلى التعليل بنفي الحرج، كما رووا عنه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أنّه كان يأمر المنادي أن ينادي في الليلة المطيرة: «ألا صلّوا في الرحال» ولم يذكروا ذلك في الجمع فكيف وقد صرّحوا بنفي المطر؟!
وأضاف أيضاً وقال: إنّ ابن عباس الراوي لهذا الحديث أخّر الصلاة وجمع لأجل انشغاله بالخطبة، ثمّ احتجّ بجمع النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ولا يجوز أن يحتجّ بجمع النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ للمطر ـ و هو عذر بيّن ظاهر ـ على الجمع لمجرّد الخطبة أو الدرس الذي في إمكانه أن يقطعه للصلاة ثمّ يعود إليه أو ينتهي منه عند وقت الصلاة ولا يلحقه فيه ضرر ولا مشقة كما يلحق الإنسان في الخروج في حالة المطر والوحل.(30)
حصيلة الكلام: انّ هذا التشريع من الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بأمر من اللّه سبحانه أضفى للشريعة مرونة قابلة للتطبيق على مرّ العصور وعلى كافة أصعدة الحياة المتطورة مهما تطورت.
فمن ألقى نظرة فاحصة على الحياة المتطورة في الغرب الصناعي يقف على أنّ التفريق بين الصلاتين ـ خصوصاً الظهر والعصر ـ أمر شاق على المسلمين خاصة العمال والموظفين بنحو ينتهي الأمر، إمّا إلى تحمل المشقة الكبيرة، أو ترك الصلاة من رأس، وربما ينجر الأمر إلى الإعراض عن الفريضة.
إنّ لفقهاء السنّة الواعين أن يأخذوا بنظر الاعتبار السماحةَ التي نادى بها الإسلام في اجتهاداتهم، والسعة التي جاءت بها الأخبار في حساباتهم، وأن يعلنوا للملأ بصراحة انّ الجمع بين الظهرين والعشائين أمر مسموح به موافق للشريعة وإن كان التوقيت أفضل، فمن فرّق فله فضل التوقيت، ومن جمع فقد أدّى الفريضة وأخذ بالسعة والسماحة.
ثمّ إنّ من لم يجوّز الجمع بين الصلاتين، اعترض على الاحتجاج برواية ابن عباس وغيره بوجوه نذكرها مع تحليلها.

الأوّل: الجمع وحديث«حنش»

أخبار الجمع يعارضها ما أخرجه الترمذي عن حنش، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، قال: من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر.(31)
أقول: كفى في ضعفه انّ في سنده حَنَش، وهو لقب حسين بن قيس الرحبي الواسطي وهو ضعيف للغاية.
قال أحمد: متروك، وقال البخاري: أحاديثه منكرة ولا يكتب حديثه.
وقال أبو زرعة وابن معين: ضعيف، وقال النسائي: ليس بثقة.
وقال مرة: متروك. وقال السعدي: أحاديثه منكرة جداً، وقال الدارقطني: متروك وعدّ الذهبي من مناكيره هذا الحديث.(32)
وقال العقيلي في حديثه: «من جمع بين صلاتين فقد أتى باباً من الكبائر» لا يُتابع عليه ولا يعرف إلاّ به، ولا أصل له، وقد صحّ عن ابن عباس انّ النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ جمع بين الظهر والعصر.(33)
أضف إلى ذلك انّ في سنده أيضاً عِكْرمة، وهوضعيف لا يحتج بحديثه.

الثاني: الجمع وحديث ليلة التعريس

وربّما تتوهّم المعارضة بين ما دلّ على جواز الجمع بين الصلاتين جمعاً حقيقياً وما رواه مسلم من حديث ليلة التعريس نقله الآلوسي في تفسيره عن ابن الهمام بقوله: قال ابن الهمام: إنّ حديث ابن عباس معارض بما في مسلم في حديث ليلة التعريس أنّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ قال: ليس في النوم تفريط وإنّما التفريط في اليقظة أن يؤخّر الصلاة حتّى يدخل وقت صلاة أُخرى».
قال الآلوسي بعد نقل كلام ابن الهمام: وللبحث في ذلك مجالٌ.(34)
وفي الاستدلال ـ كما ذكره الآلوسي ـ مجال للبحث بل للرّدّ.
أوّلاً: إنّ حديث التعريس لا يشمل جمع التقديم، بل يختصّ بجمع التأخير حيث قال: «يؤخّر الصلاة حتّى يدخل وقت صلاة أُخرى».
ثانياً: إنّ فعل ابن عباس (رضي اللّه عنه) حاك عن أنّ جمع النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بين الصلاتين كان جمع تأخير على ما رواه مسلم كما مرّ، وفيه: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتّى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة، قال: فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني: الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس: أتعلّمني بالسنة لا أُمّ لك، ثمّ قال: رأيت رسول اللّه جمع الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فقال عبد اللّه بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة، فسألته فصدّق مقالته».(35)
فأي الحديثين أولى بالأخذ؟
والحديث محمول على تأخير صلاة العشاء حتّى يدخل وقت صلاة الفجر لا تأخيره إلى نهاية الوقت ويؤيّده ورود الرواية في ليلة التعريس الّتي ينشغل فيها الإنسان بأُمور حتى يدخل وقت صلاة الفجر.

الثالث:حديث حبيب بن أبي ثابت لا يحتجّ به

إنّ الرواية الثالثة التي أخرجها مسلم، ورد في سندها حبيب بن أبي ثابت قال في حقّه الخطابي في معالم السّنن: هذا حديث لا يقول به أكثر الفقهاء، واسناده جيّد إلاّ ما تكلّموا من أمر حبيب.(36)
يلاحظ عليه: بأنّ ما ذكره من أنّ الحديث لا يقول بـه أكثر الفقهاء حق، ولكن يقول به كثير من الفقهاء ومـن يؤخذ عنه الفتوى وقد مرّت أسماؤهم، وأمّا عدم أخذ الأكثر به فقد عرفت أنّ الوجه في عدم الأخذ إمّا لكون التفريق موافقاً للاحتياط أو كونه مخالفاً لما استمرّ عليه النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ .
أمّا الاحتياط فقد مرّ أنّ الإفتاء بلزوم التفريق في ظروفنا هذه على خلاف الاحتياط، لأنّه ربما ينتهي الأمر بسببه إلى ترك الصلاة رأساً.
وأمّا فعل النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ فقد عرفت أنّه جمع أيضاً، ليفهم الأُمّة على أنّ استمراره على التفريق سنّة مؤكّدة وليست بفرض.
وأمّا ما ذكر من أنّهم تكلّموا في حبيب بن أبي ثابت، فهو يخالف ما ذكره الذهبي في «ميزان الاعتدال»، حيث قال: احتجّ به كلّ من أفراد الصحاح بلا تردّد وقال: وثّقه يحيى بن معين وجماعة.(37)
على أنّ الرواية في أحد الصحيحين اللّذين اتّفق الجمهور على صحّة أحاديثهما والعمل بما ورد فيهما.
وفي الختام نأتي بحديث الرسول الأكرم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ الذي نقله الفريقان قال ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «إنّ هذا الدِّين متين فأوغل فيه برِفْق ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربّك، فانّ المنبتّ لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع».(38)
المصادر :
1- سنن الترمذي:1/354.
2- لاحظ العلل:2/331 و 4/384.
3- شرح صحيح مسلم للنووي:5/224.
4- نيل الأوطار :3/218 تحت باب جمع المقيم في مطر أو غيره.
5- روح المعاني:15/133ـ 134
6- البقرة:185.
7- الحج:78.
8- مسائل فقهية:9.
9- حكاه السيد محمد بن إسماعيل الصنعاني المعروف بالأمير في كتابه سبل السلام:2/43.
10- لاحظ الرواية 3و4 في فصل الجمع بين الصلاتين في السفر من الصنف الثاني،ص279.
11- شرح صحيح مسلم للنووي:5/224، باب الجمع بين الصلاتين، ح51.
12- سورة البقرة:67ـ71.
13- شرح صحيح مسلم:5/225.
14- المغني:2/113ـ 114.
15- الشرح الكبير في ذيل المغني:2/115.
16- معالم السنن:2/52، ح1163; عون المعبود:1/468.
17- نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار:3/217. وفي المصدر«المصير» مكان «المسير».
18- نيل الأوطار:3/217.
19- شرح صحيح مسلم، ج5، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، برقم46 و 48.
20- نيل الأوطار:3/216.
21- مسند أحمد:1/221.
22- شرح صحيح مسلم للنووي:5/225.
23- شرح صحيح مسلم:5/225.
24- شرح صحيح مسلم للنووي:5/226.
25- لاحظ نيل الأوطار للشوكاني:3/216.
26- فتح الباري:2/24.
27- معالم السنن:1/265.
28- سنن الترمذي:1/358، قسم التعليقة بقلم أحمد محمد شاكر.
29- فتح الباري بشرح صحيح البخاري:2/24، بتعاليق عبد العزيز بن باز
30- إزالة الحظر عمّن جمع بين الصلاتين في الحضر:116ـ 120.
31- سنن الترمذي:1/356.
32- ميزان الاعتدال:1/546، الترجمة رقم 2043.
33- تهذيب التهذيب:1/538.
34- روح المعـاني:15/134في تفسير آية (أَقِمِ الصَّلاة لِدُلُوكِ الشَّمس)
35- لاحظ الرواية برقم6.
36- معالم السنن:2/55، رقم 1167.
37- ميزان الاعتدال:1/451برقم1690
38- الكافي:2/87، الحديث6، باب الاقتصاد في العبادة; السنن الكبرى:3/18; مسند أحمد:3/199.



 

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.